اللاَّعنف: المبادئ الفلسفيَّة 1

 

جان ماري مولِّر

 

ديمتري أڤييرينوس: في العام 1967، طالَبَ ضابطٌ احتياطيٌّ فرنسيٌّ شابٌّ بحقِّه في ممارسة "اعتراض الضمير" objection de conscience على خدمة الجيش بعد اطِّلاعه على فكر غاندي. وبعدما رفضت اللجنة القضائية المختصة منحَه ذلك الحق، ردَّ دفتره العسكري إلى وزارة الدفاع، مُظهِرًا بذلك عزمَه على تحمُّل مسؤولياته المدنية في إطار الدفاع المدني اللاعنفي. وفي 8 كانون الثاني 1969، مَثُلَ الشاب أمام محكمة أورليان التأديبية التي حكمت عليه بالحبس ثلاث سنين مع وقف التنفيذ، بغرامة مقدارها ألف فرنك، وبحرمانه من حقوقه المدنية. لذا فإن من العجب أن يشارك هذا الشاب نفسه، في العام 1982، في اللجنة الاستشارية التي شكَّلها رئيسُ الوزراء الفرنسي بهدف التشاور حول ملف التصويت على قانون خاص باعتراض الضمير. وكان من نتائج هذا الإصلاح أنْ صار في إمكان الاحتياطيين أن ينالوا قانونيًّا منزلة "معترض ضمير" objecteur de conscience. هذا الشاب – لقد حزرتُم مَن هو: جان ماري مولِّر، المولود في ڤيزول في العام 1939.

في حزيران 1970، قام جان ماري، مع جان ديبوا، بإضراب عن الطعام طوال أسبوعين احتجاجًا على بيع الحكومة الفرنسية طائرات Mirage لحكومة الجنرالات البرازيليين. وقد كان لهذا العمل وَقْعٌ ملحوظ على الرأي العام وتلقَّى تأييد العديد من الحركات والشخصيات.

في العام 1972، أقام جان ماري مطولاً في الولايات المتحدة، حيث قابل العديد من المسؤولين عن الحركات اللاعنفية الأمريكية، المنخرطة آنذاك في مقاومة حرب ڤييتنام. كما قابل أيضًا عددًا من قادة الحركة السوداء، وكذلك سيزار تشاڤيز، زعيم كفاح عمال المزارع ومؤسِّس أول نقابة فلاحية في الولايات المتحدة.

في العام 1973، شارك في عمل "فيلق السلام" Bataillon de la Paix في المحيط الهادي احتجاجًا على التجارب النووية الفرنسية. ولقد كان، في صحبة جاك دُه لابولرديير وجان تولا وبريس لالوند، على متن الـFRI، سفينة منظمة Peace Media، حين طوَّقتْها قوات البحرية داخل المنطقة المحظورة. وحين انفجرت القنبلة احتُجِزَ في سجن قاعدة "هاوْ" العسكرية. لكن تلك كانت آخر مرة تقوم فيها الحكومة الفرنسية بتجارب نووية في الجو.

من اليسار إلى اليمين: جان ماري مولِّر، لانزا دِلْ ڤاستو، والجنرال دُه لابولرديير
في اعتصام قعودًا على هضبة اللارزاك إبان النضال ضد توسيع معسكر للجيش.

في العام 1974، شارك جان ماري في تأسيس "الحركة من أجل بديل لاعنفي" MAN بهدف "التفكر في فلسفة العمل اللاعنفي وإستراتيجيته"[1].

22-28 شباط 1974: شارك في كولومبيا في "المؤتمر من أجل الإستراتيجية اللاعنفية للتحرير في أمريكا اللاتينية"، ثم أدار ورشة تأهيل على العمل اللاعنفي في الإكوادور، بدعوة من أسقف الهنود پروانو.

في العام 1977، زار الهند مدة شهرين "على خُطى غاندي".

في العام 1983، كلَّفه وزيرُ الدفاع – وهذا كان بمثابة اعتراف رسمي بتماسك نظرياته التطبيقية فيما يخص الإستراتيجيات المدنية اللاعنفية في الدفاع والأمن – إجراءَ دراسة حول الدفاع المدني اللاعنفي؛ وهذه الدراسة، التي أنجزها بالتعاون مع كريستيان مولون وجاك سِملِن، صدرتْ في العام 1985 عن "مؤسسة دراسات الدفاع الوطني" بعنوان الردع المدني[2].

في العام 1985، شارك جان ماري في تأسيس "معهد البحوث حول الحل اللاعنفي للنزاعات" IRNC، وهو حاليًّا مدير الدراسات فيه[3]. ومنذ العام 1985، ما فتئ المعهد يشارك في اجتماعات عمل مع ممثلين عن "الأمانة العامة للدفاع الوطني" SGDN.

في العام 1987، أقام جان ماري مولِّر مدة أسبوعين في پولونيا (كان كتابه إستراتيجية العمل اللاعنفي قد نُشِرَ بالپولونية سرًّا قبلئذٍ بعامين)، حيث قابل القادة الرئيسين لنقابة "التضامن" ولحركة "حرية وسلام"، فأسَرَهم بحماسته وقوة حجته، حيث قال:

لقد تبين أنه إذا كان السلطان التوتاليتاري مسلحًا تمامًا لكسر أية انتفاضة عنيفة فهو يجد نفسه لا محالة شديد الحيرة في مواجهة المقاومة اللاعنفية لشعب بأسره تحرَّر من الخوف.

في أيلول 1990، مكث جان ماري مولِّر في لبنان مدة ثلاثة أسابيع بدعوة من "جمعية العمل الاجتماعي الثقافي"، حيث شارك في "الورشة الأولى لإعداد المربين الاجتماعيين في لبنان". وتكررت زياراتُه للبنان (1991، 1993، 1997)، حيث قامت "حركة حقوق الناس" ("الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية" حاليًّا) بترجمة عدد من كتبه إلى العربية.

وتتوالى في التسعينيات وبدايات الألفية الثالثة أسفارُه وزياراتُه: كولومبيا، البرازيل، كندا، الكامرون، العراق، الأردن... منذ أكثر من ثلاثين سنة، إذن، وجان ماري مولِّر يذرع الكوكب طولاً وعرضًا للحديث عن اللاعنف وتأهيل وتدريب المفكرين والناشطين اللاعنفيين من جميع أنحاء العالم. وإنه لَيشرِّفنا أن يكون بيننا، للمرة الأولى، في سوريا.

عمل جان ماري مدرسًا للفلسفة حتى العام 1970، حين ترك التدريس لينذر نفسه ووقته للبحث في اللاعنف وتطبيقاته على مستويات الإعلام والتأهيل والعمل. وهو، منذ العام 1974، ينهض لهذه المهمة على ارتباط وثيق بـ"الحركة من أجل بديل لاعنفي"، كونه من أعضائها المؤسِّسين ومحرِّكيها. كما كُلِّف التدريس في "معهد الدراسات السياسية" بجامعة ليون، حيث درَّس إستراتيجية العمل اللاعنفي (1985-1992).

لكن جان ماري مولِّر ليس معلِّمًا لفلسفة اللاعنف ومنظِّرًا للعمل السياسي المدني وحسب، بل هو فيلسوف حقيقي، عملي بالدرجة الأولى. وهو، إلى ذلك، فيلسوف أصيل. لا شكَّ أنه اتكأ، في البداية، على مرجعية الفكر الغاندي وعلى التجارب اللاعنفية الأخرى في العالم، لكنه، برأيي الشخصي، قد أضاف على فلسفة اللاعنف ومنهجيات العمل اللاعنفي المدني الكثير من أصالة تفكيره وخبرته الشخصية، وذلك في سبيل "العبور من ثقافة العنف إلى ثقافة اللاعنف"، على حدِّ قوله. إنه مصر على كنس الأحكام المسبقة على اللاعنف، مؤكدًا أن قضية المظلوم، مهما تكن عادلة، لا تبرر أبدًا لجوءه إلى العنف الذي هو، بتعريفه، "نفي لإنسانية الإنسان". اللاعنف، في نظره، عبارة عن التزام كلِّي، شعورًا وفكرًا وسلوكًا، "مخاطرة خلاقة تَحول دون الخصم وتبرير عنفه"، وهو البديل الأوحد عن الطرق العقيمة السائدة حاليًّا في سبيل الوصول إلى السلام الحقيقي. إنه، عمليًّا، يوصي، بديلاً من المقاومة المسلحة، بالدفاع المدني الذي ينهض له طوعًا نساءٌ ورجالٌ مؤهلون للمهمة الموكولة إليهم: المراقبة، التوسط، الوساطة، إلخ.

من كتبه العديدة في فلسفة اللاعنف وإستراتيجياته أذكر: إستراتيجية العمل اللاعنفي[4]، غاندي، حكمة اللاعنف[5]، سيمون ڤايل، اقتضاء اللاعنف[6]، مبدأ اللاعنف: مسار فلسفي[7]، غاندي العاصي: ملحمة مسيرة الملح[8]، اللاعنف في التربية[9] (صادر عن اليونسكو وقيد النشر بالعربية)، وأخيرًا وليس آخرًا، قاموس اللاعنف الذي يسرنا أن نضعه بين أيديكم في طبعته العربية[10].

لكن تأثير جان ماري مولِّر وحضوره الإنساني الآسر، المتَّسم بحرارة الصدق، لا يعود إلى قناعته العميقة ولا إلى قوة عارضته وحسب، بل وإلى الحكمة الرصينة/المرحة التي تشع من شخصه وكلماته في تزاوُج فريد. جان ماري يستمد طاقته من محبته للإنسانية جمعاء. فهو يؤكد أن "إنسانًا مؤمنًا، لكنه لا يتجمل بالحكمة، إنسان خطر [...] يتخذ سلفًا منطق اللاتسامح والإقصاء والعنف".

للأسباب السابقة مجتمعة، يشرِّفني أن أقدِّمه لكم متكلمًا على المبادئ الفلسفية للاَّعنف.

جان ماري مولِّر: طبعًا لم أفقه شيئًا يُذكَر من تقديم ديمتري! أرجو ألا يكون قد قال عني الكثير من السوء، كما أرجو ألا يكون قد قال الكثير من الخير أيضًا! – لكني، على كلِّ حال، أثق به تمامًا.

لا شكَّ أن المرجعية الأساسية في اللاعنف هي المهاتما غاندي. هنا أود أن أضع غاندي بوصفه الوسيط الكبير بين الثقافات المختلفة؛ ولنقل إنه، في ورشتنا هذه، الوسيط الكبير بين الشرق والغرب. فلأن انتماءه ليس حكرًا على الشرق ولا على الغرب، فهو في وضع أمثل ليكون الوسيط الكبير بينهما. إنه ليس مسيحيًّا وليس مسلمًا؛ وبهذه المثابة، يستطيع أن يكون وسيطًا عظيمًا بين المسيحية والإسلام. كان غاندي متجذِّرًا في تراثه الهندوسي، لكنه كان قادرًا أيضًا على اتخاذ مسافة بينه وبين هذا التراث. فالبهگڤدگيتا – وهي من النصوص الدينية الأساسية في الهندوسية – ليس كتيبًا مرجعيًّا في اللاعنف. يقدم لنا الكتاب أرجونا، بطل الگيتا، بوصفه بطلاً محاربًا على وشك أن يُقدِم على قتال أبناء عمومته، لكنْ ليس لديه دافع كافٍ لشن الحرب، فيلقي بسلاحه على الأرض؛ لكن كرِشْنا – وهو تجسد الله – يقول له: "هيا عُدْ فاحمل سلاحك وشُنَّ الحرب." ويتابع كرِشْنا قائلاً: "حسبك أن تتحرر من الرغبة؛ فإذا تحررت من الرغبة في القتل فلا جناح عليك." إذًا في التفسير "السُّني" orthodoxe للهندوسية، إذا صح التعبير، فكرةُ الحرب فكرةٌ مقبولة. لكن غاندي قطع تمامًا مع تراث الهندوسية فيما يتعلق بهذه النقطة، وقال إن الذي يتحرر فعلاً من كلِّ رغبة لا بدَّ أن يرفض القتل! وبذا قام بقراءة جديدة للنص الهندوسي المقدس، قراءة هي مديح رفيع للاَّعنف. وهنا يجب أن نميِّز تمييزًا دقيقًا، عندما نتكلم على اللاعنف، بين اللاعنف كـمبدأ فلسفي، بين اللاَّعنف بوصفه مبدأ فلسفيًّا، مقتضًى أخلاقيًّا ومعنويًّا وروحيًّا، وبينه كـإستراتيجية عمل.

قد يكون بعضنا صاحب قناعة دينية طبعًا؛ وكل منَّا سيجابه، إذ كان منتميًا إلى تراث ديني، تراثَه في لحظة ما. لكن ما يهم، فيما يخص الحوار العالمي، هو أن يحتفظ كلٌّ منَّا بقناعته الدينية الشخصية وأن يستطيع، مع الآخرين، ابتكار لغة مشتركة. وهنا فإن اللغة الفلسفية، المؤسَّسة على وعي العقل الإنساني، على المعقولية الإنسانية، هي ما يتيح لنا أن نبتكر لغةً يشترك فيها الناس كافة. ولعل أكبر تحدٍّ للقرن الواحد والعشرين هو معرفة ما إذا كان في إمكان البشر أن يبتكروا لغة عالمية.

حتى اليوم، حاول البشر أن يتوصلوا إلى "العالمي" universel عبر الغزو أو الفتح. كثيرًا ما أرادت الأديان أن "تهدي" العالم كافة؛ لكن الإيديولوجيات السياسية أرادت أن تفتح العالم أيضًا، وهذا يصح بالأخص على الإيديولوجيا الشيوعية. قد يحدث أيضًا أن تريد الأمم فرض ثقافتها؛ وهذا يصح اليوم، بالأخص، على الدولة الأمريكية: فالسيد جورج بوش يريد أن يفرض تصوُّره عن الديموقراطية على العالم أجمع! إذًا، جميع محاولات فتح العالم قامت على كيفية العنف. ويجب علينا اليوم أن نعترف بالإخفاق الذريع لاستعمال العنف من أجل فتح العالم أو غزوه. التحدي الماثل أمامنا هو أن نبتكر العالمي حصرًا من خلال اللاعنف. فاللاَّعنف هو حجر الزاوية من الثقافة العالمية. والحال، إن فلسفة يشترك فيها الجميع – فالفلسفة، في النهاية، هي التفتيش عن معنى وجودنا الشخصي وعن معنى تاريخنا الجماعي المشترك – لا مناص من أن يكون اللاعنف أساسها.

أما اللاعنف، بوصفه إستراتيجية، فهو التفتيش عن الفعالية في العمل. أظن أن خصوصية عبقرية غاندي تكمن في استطاعته التوفيق بين الاقتضاء الروحي والعمل السياسي. وإخفاق حضاراتنا هو في أنها كرست انفصالاً أو طلاقًا باتًّا بين الاقتضاء الروحي والعمل السياسي. سوف آتي على ذكر نصٍّ لغاندي، مقتطف من خطاب ألقاه أمام "مؤتمر عموم الهند" في العام 1942؛ وهو نص هام، كونه يبرِّر استعمال اللاعنف بوصفه منهج عمل سياسي للفوز باستقلال الهند. يقول غاندي:

اللاعنف هو عقيدتي، نَفَسُ حياتي. لكنني لم أطرحه على الهند، ولا على أيِّ أحد، عقيدةً – اللهم إلا في أحاديث شخصية. طرحتُه على "المؤتمر" بوصفه منهجًا سياسيًّا غايته حل مشكلات سياسية. قد يكون منهجًا جديدًا، لكن هذا لا يُفقِدُه سِمَتَه السياسية. وبوصفه منهجًا سياسيًّا يمكن له أن يُغيَّر، أن يُعدَّل ويُطوَّع، بل حتى أن يُتخلَّى عنه لصالح منهج آخر. إذا قلت لكم إنه لا ينبغي لنا أن نتخلَّى عن سياستنا اليوم فأنا أكلِّمكم بلغة الحنكة السياسية. لقد خدمنا هذا المنهج في السابق، وأجاز لنا أن نقطع أشواطًا عديدة باتجاه الاستقلال. وأقول لكم، كرجل سياسية، إنه من الغلط أن ننظر في التخلِّي عنه اليوم. ولئن جذبت ورائي "المؤتمر" طوال هذه السنين فقد فعلت ذلك بوصفي رجل سياسة، ولا يجوز أبدًا أن يوصف منهجي بأنه "ديني" لمجرد أنه جديد.

نص غاندي هذا هام للغاية. فاللاَّعنف، في نظر غاندي، "عقيدة"، إيمان، خيار وجودي يضفي معنًى على حياته. لكنه هنا يقترح منهجًا في العمل اللاعنفي لجميع الهنود – حتى للهنود الذين ليس اللاعنف عقيدة في نظرهم؛ ولهذا السبب بالذات يطالبهم باختيار اللاعنف كمنهج عمل سياسي، لأنه عارف ومقتنع أن اللاعنف هو السياسة الأكثر فاعلية.

غاندي مع نهرو في أحد اجتماعات "المؤتمر" (1942).

غاندي مع عضو "المؤتمر" الخان عبد الغفار خان.

مؤلَّفات غاندي تضم 90 مجلدًا بالإنكليزية، كل منها يضم ألف صفحة. وأعترف لكم هنا أني لم أُنْهِ قراءتها بعد (ولعله لن تكفيني حياة واحدة لإنهاء هذه القراءة! فهل سيتاح لي في حيوات أخرى، في المستقبل، أن أنهيها؟! لست أدري.) غاندي قال عن نفسه إنه ليس مبتكر اللاعنف، وقال إن اللاعنف "قديم قِدَمَ الجبال"، ورجع إلى تراث الحكماء الكبار، بالأخص البوذا ويسوع، وكذلك الجَينية. مع ذلك، فهناك "ما قبل" غاندي و"ما بعد" غاندي، ما في ذلك ريب؛ إذ إنه اختبر اللاعنف بطريقة جديدة تمامًا.

م.ك. غاندي (1869-1948) محاميًا في جنوب أفريقيا (1906).

بدأ غاندي عمله الأول في المقاومة في جنوب أفريقيا. كان قد عاد لتوِّه إلى الهند بعد أن أنهى دراسته الحقوقَ في لندن، وبُعِثَ إلى أفريقيا لحلِّ مشكلة في إحدى الشركات، وكان المفترض أن يبقى هناك بضعة أسابيع ليس أكثر. فلتتخيلوا غاندي آنذاك، لا "فقيرًا نصف عارٍ" half-naked fakir، كما وصفه تشرشل، بل لابسٌ بذلةً رسميةً وعاقدٌ ربطةَ عنق! عندما استقل القطار، صعد إلى عربة درجة أولى بما أنه محامٍ؛ إذ يبدو أنه لم يكن قد فهم بعدُ بأن عربات الدرجة الأولى محظورة على "الملونين"! طلب منه موظف سكة الحديد أن يغادر عربة الدرجة الأولى إلى عربة أخرى، فرفض مغادرة العربة، فأُلقيَ به إلى الخارج مع أمتعته، وأمضى الليل في قاعة انتظار محطة القطار! إذ ذاك قال غاندي، في نفسه: إما أن أذعن لهذا الإذلال الذي أتكبده أنا وجميع إخواني الهنود والملونين في جنوب أفريقيا، وإما أن أرفض الإذعان وأقرر المقاومة. ويبدو أنه قرَّر أن يقاوم، وقال إنه في تلك الليلة صار لاعنفيًّا، وصرف أعوامًا عدة حتى حصل على الاعتراف بحقوق هنود الترانسڤال.

أولاً، لكي نفسر المقاومة التي نظَّمها غاندي، سنشرح كيف توصل إلى مصطلح اللاعنف. استعمل غاندي، في البداية، المصطلح الإنكليزي "المقاومة السلبية" passive resistance؛ ثم سرعان ما تبين له أن هذا المصطلح ينطوي على تناقُض: هناك تناقص ما بين "السلبية" و"المقاومة"! إذ ذاك حاول أن يبتكر مصطلحًا جديدًا، فنظَّم مسابقة بين هنود جنوب أفريقيا، والكلمة التي أجمعوا عليها كانت ستياگراها satyāgraha، وهي كلمة سنسكريتية. اشتقاقيًّا، كلمة سَت sat تعني "الوجود"، كما يمكن لها أن تُترجَم أيضًا بـ"الحقيقة" أو "المحبة" (ففي الحكمة الشرقية الوجود هو، في آنٍ معًا، حقيقة ومحبة)، وكلمة أگراها agraha تعني "الاعتناق". مصطلح ساتياگراها يعني، إذن، "اعتناق الحقيقة" أو الاستمساك بالحق. وكان غاندي قد استعمل تعبير "قوة الحقيقة"، وقال أحيانًا "قوة المحبة"؛ لكن هذه التعبيرات كلها إشكالي، لأن الواقع أن "قوة المحبة" أو "قوة الحقيقة" يمكن لها أن تزعم بأنها تواجه مواجهة فعالة "قوة الظلم". ولكن يجب علينا أن نقرَّ بأنه، في كثير من الأحيان، تعجز قوة المحبة وقوة الحقيقة عن مواجهة قوة الظلم. بالطبع، هناك قوة للحقيقة وقوة للمحبة، لكنهما قوتا إقناع؛ وفي كثير من الأحيان، لا يمكن لنا "إقناع" convaincre الخصم، بل يجب "إكراهه" contraindre. قال غاندي بأن المهم هو "هداية" convertir الخصم؛ لكن، في الواقع، كان لا بدَّ، في كثير من الأحيان، من "إكراه" البريطانيين. بالطبع، يجب علينا دومًا أن نقول الحقيقة ونحارب الكذب (فالعنف متحالف دومًا مع الكذب)؛ ولكن لا يكفي أن نقول الحق، لا يكفي أن نشهد للحق، بل يجب أن نعمل أيضًا، أن نعمل بالحق؛ أي أن ما يجب أن نتفكر فيه هو العمل الحق. الحقيقة في العمل هي العمل الحق، العمل العَدْل، العمل اللاعنفي.

وإن لمن العجب أن غاندي لم يستعمل كلمة أهمسا ahimsā إلا في العام 1920، وهي كلمة سنسكريتية هي الأخرى. البادئة a- فيها للنفي، وكلمة himsā، الاسم، كلمة نقع عليها في النصوص البوذية والجَيْنية وبعض النصوص الهندوسية، وهي تشير في هذه النصوص إلى رغبة التعنيف الموجودة في نفس كلِّ إنسان حيال الإنسان الآخر. يجب علينا أن نعترف أن في كلٍّ منَّا رغبةً في تعنيف الآخر. والسؤال الكبير المطروح هنا هو: هل الإنسان خيِّر بالفطرة أم شرير؟ وعليه نجيب: ربما جاز أن نقول بأن الإنسان، في آنٍ معًا، خيِّر بالفطرة وعنيف بالفطرة؛ الإنسان خيِّر بالفطرة 100% وشرير بالفطرة 100%! الإنسان، في آنٍ معًا، ميال إلى العنف وفيه استعداد للطيبة. ويجب أن نعي تمام الوعي هذه الإمكانية المزدوجة في الإنسان؛ فهي ما يصنع حريته: فلو لم يكن الإنسان حرًّا في ارتكاب الشر لما كان حرًّا أيضًا في صنع الخير. إذًا همسا هو الجانب الذي يكون فيه الإنسان نَزوعًا إلى العنف؛ وكلمة أهمسا هي وعي هذا النزوع إلى العنف، واستئناس هذه الرغبة، ليس بكبتها، بل بضغطها وتقنينها، ومن ثم تحويلها. ترجم غاندي أهمسا بمصطلح "لاعنف" nonviolence؛ وجميع اللغات، تقريبًا، اعتبارًا من مستهل العشرينيات، أدرجت هذا المصطلح في قاموسها. لدينا بالفرنسية non-violence، "لاعنف" بالعربية، إلخ. (وحدهم الألمان لم يستعملوا مصطلح nicht-gewalt، بل مصطلح die Gewaltlosigkeit الذي يشير عندهم إلى مفهوم "التحرر من العنف".)

سأورد لكم الآن أفضل تعريف للاَّعنف جاء به غاندي. ولكن بما أني لم أُنْهِ بعدُ قراءتي لغاندي فلعلي، إنْ فعلت، واجدٌ تعريفًا أفضل (ولعلكم أيضًا، إذا تفكرتم في الموضوع، قد تتوصلون إلى تعريف أفضل من تعريف غاندي، وحينذاك أرجو أن توافوني به). التعريف الذي يقترحه غاندي هو تعريف على مرحلتين. في المرحلة الأولى قال: "اللاعنف الكامل هو غياب لكلِّ سوء نية حيال كلِّ حي." التعريف هنا تعريف سلبي: الغياب التام لسوء النية؛ وهذا يشير إلى أن ردَّ فعلنا الأول، في أغلب الأحيان، هو رد فعل "سوء نية" malveillance. وألفت النظر هنا إلى أنه لم يقل سوء النية حيال الإنسان وحسب، بل حيال كل حي؛ وهذا ينطوي على احترام الحياة ككل.

لن أتوسع في هذه النقطة هنا. في مجتمعاتنا – ليس في الغرب وحسب، بل في المجتمعات كلِّها – كثيرًا ما ابتُذِلَ قتلُ الحيوانات. لذا يجب علينا الإصغاء إلى حكمة الهند التي تطالبنا باحترام الحيوانات – فلعل قتل الحيوان هو بداية استعدادنا لقتل الإنسان فيما بعد. نحن كثيرًا ما نَسِمُ عدوَّنا بأنه لا يسلك سلوك البشر، بل "يسلك سلوك الحيوان": سوف "نُحَيْوِنُ" animaliser عدوَّنا، وباعتباره "حيوانًا"، أجيز لنفسي قتله، بما أن لي الحقَّ أصلاً في قتل الحيوانات! أظن أن من طبيعة الإنسان العنيف أنه أكثر المفترسين وحشية في العالم. قد تقولون لي إن الحيوان ليس كائنًا مفكرًا – لا ندري! جميع الدراسات التي تظهر اليوم تبيِّن لنا مدى تعقيد حياة الحيوان. قطعًا ليس المقصود هنا "أنسنة" humaniser الحيوانات، بل الاعتراف بأن الحيوان كائن يتألم. ولعلنا يجب أن نقول إنه ليس من الإنسانية في شيء أن نعذب الحيوان. (ولعل من الجيد، كما فهمت، أننا لن نتناول في هذه الورشة إلا وجبات نباتية، وبهذا – لثلاثة أيام – لن نكون على تناقُض مع هذا المبدأ!)

إذًا، تعريف غاندي الأول للاَّعنف هو الغياب التام لسوء النية. أما التعريف الثاني، في صورته الإيجابية، فهو: "اللاعنف هو إرادة حُسن النية حيال كلِّ حي." هناك، إذن، هذا التعريف المزدوج: غياب سوء النية وإرادة "حُسن النية" bienveillance، العبور من سوء النية إلى حسن النية – هذا هو برنامج حياتنا بأسره، هذا برنامج كلِّ يوم من أيامنا، برنامج كلِّ لحظة من لحظات حياتنا. بالفرنسية، هو العبور من "العداوة" hostilité إلى "الحفاوة" hospitalité: العداوة هي نبذ الآخر، والحفاوة هي الترحيب بالآخر، استضافته. عندما يطرق أحدٌ ما، غيرَ مدعوٍّ، بابي، قد يكون رد فعلي أن أطرده – هذه عداوة. يجب أن أتغلب على هذا الإحساس بالعداوة كي أتحلَّى بالشجاعة على استضافة الآخر والترحيب به في منزلي.

المشكلة الأساسية هنا هي أن كلمة "لاعنف" كلمة سلبية؛ وهذا في الأصل من كثير من الالتباسات. فالفهم الأول لهذه الكلمة هو أن الـ"لا" في لا–عنف هي أن نقول "لا" للعنف. لكن ما هو العنف؟ للعنف في لغاتنا معانٍ كثيرة. لذا يجب أن نتفق على معنى العنف الذي سندقق فيه الآن. لنقل إنه، في تراثنا إجمالاً، أيًّا كان، هناك عنف "جيد" وعنف "سيء". فإذا جاز لنا أن نستعمل الكلمة نفسها للإشارة إلى ما هو خيِّر وإلى ما هو شرير في آنٍ معًا فنحن، في الغالب، سنقع في التباسات كثيرة. ولهذا أقترح هنا تقديم توضيح مفهوميٍّ: فلنميِّز بين مفاهيم "النزاع" conflit، "العدوانية" agressivité، "النضال" lutte، "القوة" force، و"العنف" violence بحصر المعنى – وبهذا سيتاح لنا أن نحصر معنى "اللاعنف" ونفهمه.

"في البدء كان النزاع"

الإنسان كائن علاقة: إنه لا يبني شخصيته أصلاً إلا ببناء علاقة مع الآخر. الإنسان لا يستطيع أن يوجد وحده؛ فوجوده، في حدِّ ذاته، "حضور للآخر" présence à lʼautre، وجوده هو علاقة مع الآخر. رسالة الإنسان هي أن يبني علاقة مع الآخر في احترام متبادل. لكننا نعرف بالتجربة أنه غالبًا – وليس دومًا – يكون لقاؤنا الأول بالآخر لقاءًا نزاعيًّا. كثيرًا ما تكون العلاقة الأولى علاقة تنافسية مع الآخر. لا أدري إنْ كان اسم رونيه جيرار René Girard يعني لكم شيئًا. هو مفكِّر فرنسي، كتب كتابًا بعنوان العنف والمقدس. يقول رونيه جيرار ما مُفاده: يتنازع البشر دومًا – وأنا أقول: "في غالب الأحيان" – كلما رغبوا، في اللحظة نفسها، في امتلاك الغرض نفسه. ويقول جيرار: "تنتابني دومًا رغبةُ محاكاة رغبة الآخر." عندما أرى يدًا تقبض على شيء ما، تنتابني رغبةُ حيازة هذا الشيء بعينه. كلنا اختبر هذه الطبيعة في الإنسان. ضعوا طفلين في الغرفة نفسها مع عشر لُعَب. يحوز الطفل الأول على إحدى اللعب، فما الذي تتوقعون أن الطفل الثاني سيرغب فيه؟ إذا كان حسابي صحيحًا فهناك تسع لُعَب لطيفة أخرى؛ لكن الطفل الثاني – الذي لم يقرأ الأعمال الكاملة لرونيه جيرار! – سيستبطن في ذات نفسه الرغبة: فبما أن الطفل الأول قد رغب في تلك اللعبة فإنها هي المرغوبة أكثر؛ وبالتالي، سيحاول انتزاع اللعبة من الطفل الآخر، وبهذا تصير علاقتهما إلى تنافُس محض، ويتحول هذا التنافس إلى عنف محض، ولعلهما سيزهدان في اللعبة ويهتمان بالشجار، بل إن كلاًّ منهما سيحرص على تكسيرها حتى لا يستمتع الآخر بها!

تبتسمون وكأنها خبرة لم تعد تخصكم! لكني لن أستدعي خيالكم، بل خبرتكم؛ فربما اختبرتم وأنت راشدون هذا اللون من النزاع. الكثير من النزاعات لا يدور حول غرض بعينه؛ ولكن في النزاعات التي تدور حول غرض بعينه يتركز النزاع على الغرض الموجود، وليس على الخصم. لهذا يجب أن نجد تسوية في خصوص الغرض، يجب أن نبتكر تسوية مع خصمنا. بالطبع، ستكون هناك إمكانات كثيرة بحسب طبيعة الغرض: قد نستطيع أن نقتسم الغرض، ولعلنا واجدون غرضًا آخرًا مكافئًا. هذا التحليل نفسه يمكن لنا أن نطبِّقه على شعبين يرغبان في الأرض نفسها. فلسطين، مثلاً، "أرض موعودة" مَثْنى: فلعل حل النزاع قد يكون باقتسام الأرض؛ وهذا يفترض وجود اتفاق حول كيفية التقسيم، وهذا صعب للغاية. في الوقت نفسه، إذا رغبتُ في غرض ما رغبةَ الآخر في الغرض نفسه، فقد تكون رغبتي مشروعة؛ ولعل رغبة الآخر أيضًا مشروعة، ولعلها ليست كذلك. فإذا كانت رغبتي مشروعة يجب ألا أتخلَّى عنها، يجب أن أقبل النزاع ولا أهرب منه.

كثيرًا ما نجد أنفسنا أمام إغراء الهرب من النزاع. ولعلنا يجب أن نعترف بأننا كثيرًا ما نخشى النزاع، نخشى خصمنا، وإذًا فنحن كائنات خوف. يجب أن نعترف لأنفسنا وللآخرين بمخاوفنا. فالخوف ليس مدعاةً للخجل، الخوف بشري. المخجل هو أن نترك أنفسنا فريسةً له بدلاً من أن نسيطر عليه. يمكن للخوف أن يوقظ فطنتنا حيال خطر ما. ولكن، كما يقول المثل الفرنسي، "الخوف ناصح سيء" La peur est mauvaise conseillère، وقد يشير علينا بالهرب – وهو ليس بحلٍّ؛ قد يشير علينا بالإذعان والخنوع – وهو ليس بحلٍّ؛ وقد يشير علينا بالعنف – وهو، أغلب الظن، ليس بحل. يجب، إذن، أن أعيش النزاع؛ وفي التربية يجب أن نعلِّم الأطفال كيف يعيشون النزاع. ولكي أعيش النزاع يجب أن أُعْمِل "عدوانيتي".

كثيرًا ما تلتبس العدوانية بالعنف. فتعريف العدوانية، في معظم القواميس الفرنسية، هو أنها "موقف عنف"، وهذا غير دقيق. أصل فعل "العدوان" agresser من كلمة aggredi اللاتينية، المشتقة بدورها من كلمة ad-gradi التي تعني "مشى نحو" أو "تقدَّم نحو"؛ وإذن، ليس المقصود بها "موقف عنف"، بل الموقف الذي يسمح لي ألا أهرب من خصمي، ألا أتقهقر من أمامه، بل أن "أتقدم نحوه"، أن أواجهه، أن أجابهه.

فلآخذ مثالاً مثال العبد والسيد: مادام العبد خانعًا لسيده، لا نزاع ثمة – وهذا ما يسمَّى بالسلام الاجتماعي، السلم الأهلي، النظام القائم. لا يوجد نزاع إلا بعدما ينتفض العبد و"يتقدم نحو" سيده لكي يطالب بحريته. في الستينيات، كان عمل مارتن لوثر كنغ الأساسي هو إيقاظ "عدوانية" إخوانه وأخواته السود. ففي الخمسينيات، كان السود خانعين لقوانين التمييز العرقي التي وضعها البيض، وما ظل السود خانعين لم يكن هناك نزاع. كانت جميع القوانين الموسومة بقوانين الفصل العنصري سارية في الأماكن العامة، بما فيها وسائل النقل: كانت فيها أماكن مخصصة للبيض، محظورة على السود! ذات مساء، صعدت سيدة سوداء إلى الباص، وجلست على مقعد مخصص للبيض؛ وعند الموقف التالي، صعد رجل أبيض وطلب منها أن تُخلي له المكان فأبت أن تفعل! جاء سائق الباص وطلب منها، بدوره، أن تُخلي مكانها فأبت! ثم جُيء برجال الشرطة الذين أمروها بإخلاء المعقد فأبت! فاقتيدت إلى مركز الشرطة. لعلكم سمعتم باسمها: روزا پاركس Rosa Parks. ولعلكم تعرفون بأن مجرد فعل رفض الإذعان والبقاء جالسةً ومواجهة البيض الذين أمروها بإخلاء مكانها لم يكن موقفًا سلبيًّا، وكان لا بدَّ لها من قوة خارقة لكي ترفض الانصياع للأمر، كان لا بدَّ من إظهار "عدوانية" كبيرة لمجابهة الخصم. وجميع السود الذين سمعوا بالحدث اجتمعوا وقرروا أن يفعلوا.

صورة روزا پاركس (1913-2005)
الملتقَطة في مخفر الشرطة بُعيد اعتقالها
(شباط 1956).

رفض السود ترك البيض يذلونهم كلَّ يوم، وقرروا التمرد والمقاومة، فكانت بداية تلك الحركة الرائعة في الستينيات، "حركة الحقوق المدنية" Civil Rights Movement. قرر السود مقاطعة الباصات، وطلبوا من القس الشاب الأسود الذي وصل لتوِّه أن يكون ناطقًا باسم الجالية السوداء، وكان ذلك الشاب هو مارتن لوثر كنغ. روزا پاركس كانت، إذن، الشرارة التي أوقدت المقاومة اللاعنفية للسود. السيدة رايس قالت إن كونها في منصبها اليوم يعود الفضل فيه إلى روزا پاركس. لا أدري إنْ كانت السيدة رايس راضية عن سياسة أمريكا، ولكن الصحيح أنه إذا كانت قد حظيت بهذا المنصب، مستفيدةً من إلغاء قوانين الفصل العنصري، فالفضل في هذا يعود إلى روزا پاركس!

مارتن لوثر كنغ (1929-1968) يقود مسيرةً لأنصار
الحقوق المدنية من سِلمى إلى مونتغومري
(ألاباما).

يجب، إذن، خلق النزاع. غاندي هو الآخر خلق النزاع بين الإنكليز والهنود، كنغ أوجد النزاع بين السود والبيض. من الجلي أنك حين تخلخل "النظام" ordre القائم عبر المقاومة فإنك تخلق حالة "لانظام" dés-ordre، حالة فوضى – وكثيرون اتهموا مارتن لوثر كنغ بإحداث بلبلة في النظام الأمريكي. هناك رسالة كتبها مارتن لوثر كنغ، "رسالة برمنغهام"، وهي نص بديع كتبه من سجن برمنغهام. كان كنغ قد جاء إلى برمنغهام من أجل فضح القوانين العنصرية في تلك المدينة التي كان فيها البيض يكرهون السود كرهًا شديدًا – حين نتحدث عن "الحلم الأمريكي" American dream يجب أن نقرَّ بأنه كان للسود "كابوسًا"! – وكان كل مَن ينظِّم مظاهرات يودَع السجن فورًا. الكثير من المسؤولين الأمنيين – كاثوليك وپروتستانت ويهودًا – أخذوا على مارتن أنه جاء وأحدث بلبلة، فأجابهم برسالة رائعة من عشرين صفحة (لا بدَّ من ترجمتها إلى العربية ونشرها على موقع معابر)، وقال لهم: "حيثما تكون القوانين جائرة يجب عصيانها."

نحن متفقون أن الـ"لا" في لا–عنف لا تتعارض مع النزاع، لا تتعارض مع العدوانية، ولا تتعارض مع الصراع. هناك تمييز قاطع، في الفرنسية على الأقل، بين الصراع، الكفاح، النضال، من جهة، وبين العنف، من جهة أخرى. النضال هو لحظة ضرورية لإحقاق الحق أو لنيل العدل. ففي فرنسا كان لا بدَّ للعمال من أن ينخرطوا في الصراع، في النضال، لكي يحصلوا على حقوقهم. يجب ألا نختزل اللاعنف إلى الحوار. كثيرًا ما نقول للمختصمين: "كفاكم عنفًا وتحاوروا!" لكن التحاور يتطلب وجود طرفين؛ وما يتسم به الجور أو الظلم، تحديدًا، هو تعذر الحوار بين المسؤولين عن الظلم وبين ضحاياه. عندما وجد مارتن لوثر كنغ نفسه حيال الظلم في وسائل النقل العام ظن في البداية أنه كان يستطيع أن يتحاور والبيض؛ ثم سرعان ما تبين له أن الحوار متعذر، وكان لا بدَّ من مضي عام كامل من المقاطعة boycott حتى أُلغِيَ الفصلُ العنصري من وسائل النقل العام. إن وظيفة النزاع أو النضال هي أن تجعل الحوار ممكنًا، أن تخلق شروط الحوار. وهنا لا يكفي أن نحب خصمنا؛ يجب، من خلال الصراع أو النضال، أن نوجد توازن قوى جديدًا.

المفهوم الرابع هو مفهوم القوة. فلنميز تمييزًا أساسيًّا بين القوة والعنف. سيمون ڤايل، الفيلسوفة الفرنسية العظيمة، قالت إن "الظلم هو اختلال في توازن القوى". في الظلم، قوة القامعين تسيطر على المقموعين؛ وإذن، فإن العمل يجب أن يعيد توازن القوى إلى نصابه. ووظيفة النضال هنا هي إيجاد قوة تتصدى لقوة الظلم. مارتن لوثر كنغ سرعان ما قبل مفهوم "القوة السوداء" Black Power، بناء قدرة السود على التصدي لقدرة البيض؛ وهذه القوة ستكون قوة إقناع بمقدار ما يكون هذا ممكنًا، ولكن العنف سوف يستهلك إمكانات الحوار.

سيمون ڤايل (1909-1943) صبيةً في الثالثة عشرة.

الإنسان حيوان ناطق. قلتُ قبل قليل إن الإنسان "كائن علاقة"؛ والعلاقة بين إنسان وإنسان هي تبادُل للكلام. كل إنسان مسكون بهاجس العدل؛ وإذن، فليس من العبث أن نستنهض ضميره. طوال مدة العمل اللاعنفي يجب أن نطرح الحوار على الخصم. كل صراع بين خصمين لا بدَّ أن ينتهي إلى حوار بينهما؛ وهذا يصح أيضًا على الحرب التي تنتهي إلى تفاوُض. لكنكم على وعي أن العنف سوف يجعل الحوار صعبًا! من هنا أهمية قدرة الكلام ومركزيته في العمل اللاعنفي. أول عمل نقوم به ضد الظلم هو أن نقف في الساحة العامة ونتكلم لفضح الظلم وإدانته؛ وإذا نُظِّمَتْ مظاهرةٌ في الشارع فهذا تكلم جماعي. الكلام يصير عملاً، والعمل يظل كلامًا. لكن من الأهمية بمكان أن يظل هذا الكلام كلامًا مسالمًا، كلام سلام. (فهناك عنف لفظي: الشتائم والسباب مثلاً؛ ونحن بهذا ببساطة خارج اللاعنف.) المطلب الأساسي، عندما نخاطب خصمنا، هو أن نخاطبه باحترام. فمن الوهم أن نظن بأننا أقوى في مواجهة خصمنا إذا لم نحترمه. ولنكن واضحين: إن احترام خصمنا لا يجوز له بأية حال من الأحوال أن يحدَّ من مطالبتنا بالعدل. في الإنذار الذي وجَّهه غاندي إلى نائب الملك قبل أن يباشر "مسيرة الملح" (وهذه الرسالة بديعة أيضًا، ويجب ترجمتها سريعًا ونشرها على موقع معابر)، قرر غاندي أن ينظم عصيان القانون على الملح – والهدف هو استقلال الهند – وكتب رسالة مسهبة إلى نائب الملك توجَّه إليه فيها بعبارة "صديقي العزيز". استصعب رفاق غاندي كثيرًا قبول أن يعتبر غاندي "صديقًا" ممثلَ الاستعمار البريطاني؛ ولعلهم كانوا يفضلون أن يقول له، على الأقل، "عدوي العزيز"! لكننا عندما نقرأ الرسالة يتبين لنا سريعًا أنه في تلك الرسالة يقوم بنقد جذري للاستعمار البريطاني، ويقول في النهاية: ينبغي وضع حدٍّ للاستعمار. إنه يحترم الإنكليز في شخصهم، لكنه لا يحترم أبدًا الاستعمار البريطاني؛ وكونه يحترم الإنكليز يسمح له أن يكون أكثر جذرية في نقده الاستعمار.

حتى الآن، لم نصادف العنف بعد. لا يدخل العنف في النزاع إلا عندما يقوم أحد المختصمين باستبعاد خصمه ومحاولة القضاء عليه. وهنا يجب أن نكون واضحين حول تعريف العنف. هنا أعرِّف بالعنف بوصفه انتهاكًا لإنسانية الإنسان، بوصفه اغتصابًا لكرامة الإنسان. أحب كثيرًا تعريف كانط: "الإنسانية كرامة." العنف هو ما ينفي عن الإنسان كرامته. وهنا يجب أن نقول إن العنف لا يدمِّر إنسانية متكبد العنف فحسب، بل يدمِّر، أولاً، إنسانية ممارِسه. الفيلسوفة نفسها، سيمون ڤايل، كانت تتخذ السيف رمزًا للعنف، فتقول: "برودة الفولاذ لا تقل قتلاً في المقبض عنها في النصل."

الجنرال جاك پاريس دُه لابولرديير (1907-1986).

بكلِّ أسف، قد تصل الوحشية بالإنسان إلى تعذيب الإنسان. ففي الجزائر، مثلاً، استعمل الجيش الفرنسي تعذيب الوطنيين الجزائريين استعمالاً مُمَنهَجًا، لكن ضابطًا رفض استعمال التعذيب، وكان أكثر جنرالات الجيش الفرنسي حيازة للأوسمة. أدان الجنرال جاك دُه لابولَّرديير Jacques de la Bollardière التعذيب علنًا وغادر الجزائر عائدًا إلى فرنسا. وقرر مجلس الوزراء أن يضع هذا القائد العسكري الفذ رهن الاعتقال مدة شهرين. وهكذا فإن فرنسا التي هي – زعمًا – "بلد حقوق الإنسان" لا تضع في السجن الجنرالات الذين يعذِّبون، بل الجنرالات الذين يرفضون التعذيب! والمذهل هنا أن هذا الجنرال صار مناضلاً لاعنفيًّا، ومعه أسستُ الحركة اللاعنفية الفرنسية. وقد قال لي ذات مرة: "إذا كنت قد رفضتُ التعذيب في الجزائر فذلك احترامًا لإنسانية الجزائريين؛ ولكن ذلك كان، قبل كلِّ شيء، احترامًا لكرامتي أنا."

يجب هنا أن نقول إن إنسانية الجلاد منفية أكثر من إنسانية الضحية. لقد قُيِّضَ لي أن ألتقي أناسًا تعرضوا للتعذيب. أفكر في أدولفو ماريا پيريز إسكيڤيل Adolfo-María Pérez Esquivel الذي عذَّبه الجنرالات الأرجنتينيون؛ وهو حائز على جائزة نوبل للسلام [1980]. المعذَّبون متكتمون جدًّا على التعذيب الذي تكبَّدوه، قلما يتحدثون عنه؛ ولكن عندما تجيز الصداقةُ الكلام على ذلك، يتبيَّن لنا أن كرامتهم لم يمسَسْها شيء. التقينا في عمان بأشخاص عُذِّبوا في سجن أبو غريب، وقد ازداد إعجابي بهؤلاء الرجال الذين لم يمسَسْ كرامتهم شيء.

أدولفو پيريز إسكيڤيل (1931- )، المعماري والنحات
والمناضل اللاعنفي، يقود مظاهرة في بوينُس آيرس
(1981).

ينبغي لي أن أتوقف هنا، وسأخلص إلى نقطة أساسية. بدأنا الآن نحيط بمغزى اللاعنف. إذا كان العنف ما يدمِّر كرامة الإنسان، يجب أن نبدأ، أولاً، برفض كلِّ ما يبرِّر العنف. إن ما تتسم به ثقافة العنف هو، حصرًا، تبريرها العنف، شَرعَنَتها العنف légitimer la violence. بل إن إيديولوجيا العنف تقدم لنا التسويغات لعنفنا نحن، وترفع العنيف بيننا إلى مقام "البطل": كي نذود عن وطننا، عن أمتنا، عن ديننا، إلخ. اعتبارًا من اللحظة التي يصير فيها العنف حقًّا من حقوق الإنسان، ما ثمة كابح لتفشِّي العنف: سيتحول العنف إلى آلية عمياء لا نهاية لها. الـ"لا" في لا–عنف تعني نزع الشرعية عن العنف délégitimer la violence. العنف ليس، أبدًا، حقًّا من حقوق الإنسان، بل هو جريمة في حق الإنسانية.

فلنرتحْ قليلاً الآن، لنلتقي مرة أخرى في الرابعة. لم أقل إلا بداية مقدمتي! وإذا تحليتم بشيء من الصبر ففي جلسة المساء سوف أنهي هذه المحاضرة. شكرًا.

مرمريتا، 20 حزيران، الجلسة الصباحية

* * *


 

horizontal rule

[2] Jean-Marie Muller (en collaboration avec Christian Mellon et Jacques Semelin), La dissuasion civile, Fondation pour les études de Défense nationale, 1985.

[4] جان ماري–مولِّر، إستراتيجية العمل اللاعنفي، بترجمة ماري طوق ومراجعة أنطوان طوق ووليد صليبي، حركة حقوق الناس، بيروت، 1999.

[5] Gandhi, la sagesse de la non-violence, Desclée de Brouwer, 1994.

[6] Simone Weil, lʼexigence de non-violence, Desclée de Brouwer, 1995.

[7] Le principe de non-violence : parcours philosophique, Desclée de Brouwer, 1995.

[8] Gandhi lʼinsurgé : lʼépopée de la marche de sel, Albin Michel, 1997.

[9] De la non-violence en éducation, Préface de Koïchiro Matsuura, UNESCO, Paris, 2002.

[10] جان ماري مولِّر، قاموس اللاعنف، بترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر للنشر، دمشق/الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية، بيروت، 2007.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود