|
الحلُّ التفاوضي للنزاعات في المدارس بالوساطة
هيلين روسييه: للوهلة الأولى، أشعر بشيء من التهيب أمامكم. فهذه من المرات النادرة التي أتكلم فيها أمام جمهور. لست أبدًا، مثل زوجي، معتادةً على إلقاء المحاضرات. أود فقط أن أقدم شهادة على تجربة عشتُها في مدرسة collège de Neuville-aux-Bois الإعدادية حول التعامل مع موضوع العنف بين تلاميذ المدرسة. العمل الذي نقوم له هو عمل جديد في فرنسا، يقوم له ناشطون طوعيون بالكامل، وهم يُدرِجون التربية اللاعنفية في المدارس منذ مدة قصيرة. وهذا العمل لا تعترف به، حتى الآن، وزارةُ التربية الفرنسية. أود أن أقدم لكم، في بضعة عبارات، السياق العام الحالي للمدرسة في فرنسا. فقدتِ المدرسةُ الكثيرَ من سلطتها وهيبتها في نفوس الفرنسيين مؤخرًا، وممارسة نقد المدارس والتعليم صار اليوم من أكثر الرياضات شعبية! عند كل واحد فكرته الخاصة حول هذا الموضوع، ولا يوجد إجماع على شيء. وهذا ينجم عنه فقدان المعنى عند الأطفال، وفقدان سلطة المعلِّمين؛ وهذا يجاري أيضًا فقدانًا عامًّا لسلطة الأهل. هناك أزمة حقيقية في مفهوم السلطة في فرنسا. المدرسة الإعدادية هي الطريق الذي لا بدَّ للولد من عبوره، مهما يكن توجُّهه، من عمر الحادية عشرة حتى الرابعة عشر والخامسة عشر. لدينا، إذن، في المدرسة الإعدادية جميع الفئات العمرية ضمن هذين الحدين.
لم تستطع المدرسة الإعدادية أن تنسجم مع دَمْقرطة démocratisation التعليم والمدارس في فرنسا، مع وجود كل هذا التنوع الهائل في الجمهور. التعليم نفسه يقدَّم للجميع. وهكذا نجد، مثلاً، في صف الـ6ème [يقابل الصف الأول الإعدادي في سورية]، أن الأولاد يدخلون المدرسة، فيجتمع في الصف نفسه ولدٌ لا يستطيع أن يفك الخط، أي أنه ضعيف في القراءة، وولدٌ لديه مخزون تعليمي ولغوي ومعرفي لا يُستهان به، مما يؤدي إلى إحباط كبير لدى بعضهم وإلى إخفاقات في التعلم – وهذه كلها مصدر لعنف شديد. هناك عامل آخر، هو انهيار بنية الأسرة، الشائع جدًّا، في فرنسا. فهناك جميع المشكلات المتعلِّقة بالأسرة، مثل الطلاق، الأمهات العازبات، الأُسَر المفككة المُعاد تكوينها familles recomposées – طلاق يتبعه زواج جديد –، كل المشكلات المتعلقة بالكحول وتعنيف الأطفال إلخ. جميع المشكلات التي نتصورها في الأسرة تنعكس على الأطفال في المدرسة فيما بعد. فالطفل الذي يأتي صباحًا إلى المدرسة يحمل على كاهله عبئًا ثقيلاً، ويجد صعوبة في التكيف مع تعليم جديد، وفي التكيف أيضًا مع رفاقه في الصف. وإذ ذاك فإنه كثيرًا ما يصبح ضحية رفاقه الآخرين، أو يصبح رفاقُه محلَّ صبِّ جام غضبه أو عنفه. هناك صعوبة إضافية في المدرسة في فرنسا اليوم، وهي صعوبة دمج أطفال المهاجرين. في باحة المدرسة الإعدادية، حيث كنت أعمل، يتجمع الأطفال الذين هم من أصل تركي مع نظرائهم، والأطفال الذين من أصل أفريقي مع الأفارقة، وهكذا. قد تنعقد صداقات طارئة فيما بين هذه الفئات، لكنها لا تختلط. في أغلب الأحيان، يتصرف هؤلاء الأولاد بشكل عنيف لكي يثبتوا وجودهم. إنه ليس عنفًا شريرًا، لكنه مخيف بعض الشيء. ابني الذي دخل هذه المدرسة آنذاك سرعان ما احتمى بفتى مغربي كان قد تعرف إليه في العطلة الصيفية عندما قضينا عطلتنا في المغرب؛ أي أنه فهم قواعد اللعبة في المدرسة. إن هذا ليثير قلقًا شديدًا لدى المدرسين لأن العنف يستشري اليوم في المدارس الإعدادية في فرنسا. ومؤخرًا حدثت حوادث قتل بين الأطفال. في المدرسة التي كنت أعمل فيها شاهدت حالات عنف مجاني تمامًا، للتسلية وحسب. هناك لعبة يسميها الأطفال "البندورة" [الطماطم] la tomate، وفيها يقرر جميع الأولاد أنهم سيهاجمون ولدًا بعينه! ونجد جميع الأطفال، بعد إشارة متفق عليها، يتكالبون على طفل واحد ويعتدون عليه، حتى نضطر إلى استدعاء فوج الإطفاء! وقد حدث هذا أكثر من مرة. الشباب في حاجة إلى انفعالات شديدة، يحبون أن يروا رفاقهم يقتتلون، ويمكن لحادثة تافهة متعلقة بالصديقة، أو "زورة" [نظرة شزر]، أو حوادث بسيطة جدًّا، أن يؤجِّجها بقية الأطفال من أجل تصعيد العنف. الراشدون أيضًا، على ما يبدو، يحبون رؤية أفلام يقتتل فيها الناس، بدليل نوعية الأفلام التي نشاهدها على التلفزيون! وهذا ما كان يجري تمامًا في السيرك الروماني. في كلِّ الأحوال، عندما يتدخل الراشدون يكون الأوان قد فات.
المهم، إذن، أن يوجد ضمن المجموعات شباب يستطيعون تهدئة النفوس. أشد عنف أثَّر فيَّ كثيرًا هو العنف الذي يقع على طفل يكون بمثابة "كبش فداء" bouc-émissaire. في كلِّ صف هناك طفل هو كبش فداء، والمجموعة تتشكل حول هذا الطفل. ولما كنت قد عملت أمينة مكتبة في المدرسة، كنت أستقبل الأولاد في فترات الغداء ظهرًا وفترات الاستراحة بين الصفوف، فكنت أرى الأولاد عينهم يترددون على المكتبة، لا للقراءة، بل كملاذ من "جلاديهم" في باحة المدرسة. قال لي أحد الأولاد مرة: "سيدتي، يجب أن نفعل شيئًا، وإلا سأنفجر وأقتلهم." وكراشدين، أنا وزملائي، شعرنا بعجز كامل حيال هذه الظاهرة. الوعظ "من فوق" لا يجدي نفعًا. يمكن لنا أن نعظ ونخاطبهم، لكن الأمر يتوقف دقائق، ثم يعاودون الكرة في اليوم التالي. أما العقاب فهو صعب جدًّا لأنه عقاب جماعي. ففي أغلب الحالات تكون المجموعة كاملة مسؤولة عن العنف؛ وهناك تنامٍ لحالات الانتقام من الأطفال "الواشين"، ولهذا فهم عمومًا لا يتكلمون. بعض زملائي يقولون لي: "يجب أن نترك الأمور تأخذ مجراها، فهذا جزء من بناء الشخصية عند الأطفال، والعنف كان دائمًا موجودًا في المدارس." برأيي، على العكس، هذا لا "يبني" الشخصية، بل يفكِّكها! ويمكن لهؤلاء الأطفال، عندما يكبرون، أن يصيروا عنيفين جدًّا أو ضحايا. كنت كثيرًا ما أستقبل هؤلاء الأطفال وأستمع إليهم. لكن في أغلب الأحيان، لم يكن هذا يرمِّم الكرامة المعطوبة لدى الطفل، سواء في نظرته إلى نفسه أو في نظرة رفاقه إليه. ثم اتفق لي أن التقيت مع أفراد من حركة اسمها "جيل الوسطاء" Génération Médiateurs، وهي منظمة قامت للأسباب نفسها التي أرويها لكم، وقد أسَّستْها سيدتان بناءً على خبرات كندية. البرنامج الذي نتَّبعه الآن وُضِعَ موضع التطبيق في أكثر من 120 مدرسة إعدادية في فرنسا، حيث يتم تأهيل المعلِّمين على أساسه. وهو يبدأ بالتعامل مع الأطفال ابتداءً من سن التاسعة –مع أن هناك جهودًا لمعالجة العنف حتى ابتداءً من الروضة – وهناك أدوات نحاول أن نطوِّرها للتعامل مع العنف في المدارس الثانوية. تطلَّب مني الأمر حوالى ثلاث سنوات لكي أقنع مدير المدرسة وزملائي المدرسين بتلقي تدريب ضمن برنامج هذه المنظمة. فالعنف هو موضوع تابو tabou، أي محرَّم الكلام عنه: لا يريد القائمون على المدارس أن يعلَن للخارج أن هناك عنفًا في المدارس. أما اللاعنف فهو مريب! نحن عَلمانيون جدًّا في مدارسنا، ولذلك توضع إشارة استفهام: هل هو مذهب جديد؟ هل هو دين جديد أو ملَّة جديدة تحاول أن تبثَّ أفكارها؟ هل له خلفية سياسية؟ لكني نجحت عندما غيرت الاسم إلى "التربية على المُواطَنة" Éducation à la citoyenneté؛ أي أننا بتنا نعمل على تربية الأطفال على المُواطَنة وعلى حلِّ النزاعات. وبهذا تلقى خمسة عشر مدرسًا تأهيلاً خاصًّا مكثفًا لمدة ثلاثة أيام – وجميعهم بصفة طوعية – واستطاعوا، بدورهم، أن يتيحوا هذا التأهيل للأولاد، بصفة طوعية أيضًا، أي جاء الأولاد طوعًا وطلبوا هذا التأهيل. ونحن في هذا التأهيل لا نقدم تعليمًا نظريًّا ولا مواعظ، بل ننطلق عن طريق اللعب، عن طريق التفكر والتدبر، ووضع الأطفال في مواقف عملية جدًّا وعيانية. والتأهيل يُعتبَر عملاً يتطوع له المدرسون. يقال لنا: "ليس من المعقول أن ندفع أجورًا للمدرسين على عمل ضئيل إلى هذا الحد" – وهذا رأي الحكومة طبعًا! سأحاول أن أفصِّل لكم قليلاً في البرنامج كما نقدمه. هناك ثلاثة مَحاور أساسية في هذا التأهيل: المحور الأول يتناول كل ما يتعلق بتأكيد الشخص لشخصيته؛ المحور الثاني حول تحليل حالات نزاع وسلوكنا في حالات النزاع؛ والمحور الثالث حول العلاقة مع الآخر والاختلاف عن الآخر. وإذا كانت هناك رغبة في التطوع أكثر، فسنؤهلهم للوساطة médiation بحصر المعنى. (لا أعرف إلى أي حدٍّ يمكن لي أن أفصِّل؛ أشعر بأن بعض الناس يحتاجون إلى أشياء ملموسة وأكثر واقعية.) مجمل التأهيل عبارة عن 18 جلسة، مدة كل منها ساعة، ويصعب علينا أن نضم أكثر من 15 تلميذًا في آنٍ واحد. نبدأ بمعرفة النفس والتأكيد الإيجابي عليها، ثم نقوم بألعاب، يشدَّد فيها على الإيجابي، بأن نقول ما هي الأشياء الإيجابية الخيِّرة الموجودة فينا، وأن نشكل مجموعات صغيرة ونفتش عن النقاط المشتركة، ونطلب من الولد أن يقدم الصفات الإيجابية فيه. عمومًا، لا يجد الولد في نفسه أية صفات إيجابية! وهذا يبين إلى أي حدٍّ يشعر الولد أنه منتقَص القيمة. لدينا ألعاب لكي نعزِّز ثقتهم بأنفسهم، ونعزِّز ثقتهم في الآخر. لا أستطيع أن أفصِّل في شرح الألعاب، وليست لدي العناصر اللازمة لذلك. سؤال: هل من الممكن تفصيل لعبة واحدة على الأقل؟ هيلين روسييه: كان من الممكن أن نمثل إحدى الألعاب الآن، إلا أن هذا يتطلب وقتًا طويلاً. لدينا الأدوات اللازمة لهذا التأهيل، وهي أدوات يجب دومًا إعادة تكييفها مع الظرف المحلِّي. سؤال: هل هذه الأدوات موجودة على الإنترنت؟ هيلين روسييه: لا، لأن الجمعية التي وضعت هذا البرنامج التأهيلي تصر على أن لا يُستعمَل إلا بالمعنى الإيجابي؛ أي أنها ضنينة به، فلم تنشره على الإنترنت. ولكن بعد التأهيل يمكن أن تقدِّمه للمتخرجين لكي يستعملوه بمسؤولية. فمن الممكن أن تُستعمَل هذه التمارين، إذا أُعطيت خارج السياق، كيفما اتفق، بحيث إنها لا تؤدي دورها الإيجابي. سؤال: ألا يوجد أي توجُّه للحوار مع الأطفال العنيفين، أي المعتدين؟ هيلين روسييه: لا، في الأحوال العادية لا نتوجه إليهم. ولكن أدهشنا، في بعض الأحيان، أن طالبي هذا التأهيل، المتطوعين من الأولاد، كانوا من الأولاد العدوانيين، ولكن ليس دائمًا. سؤال: أفهم من هذا أن برنامجكم يقتصر على الأطفال المتطوعين؛ أي أنه لا يختار الأطفال الذي يجب إشراكهم فيه. هيلين روسييه: الأطفال هم الذين يختارون طوعًا المشاركة في البرنامج. نصر فيه على القدرة على تأكيد الذات ضمن المجموعة، العمل على مفهوم القيم: ما هو مهم بنظري؟ ونقدم لهم قائمة بالكثير من الكلمات؛ وهذا يضطرنا إلى شرح المفردات لأنه ليس من الضرورة أن يعرف الأطفال معاني هذه المفردات. وقد أدهشني جدًّا أن الأطفال في عمر 11 سنة قد وضعوا دائرة حول مفردات من نحو: "احترام" respect، "استقامة" rectitude، "لاعنف" non-violence، ولم أكن خلال التأهيل قد تفوهت أصلاً بهذه الكلمات. قلما يجري الكلام في المدارس مع الأطفال حول القيم، ونفعل وكأن هذه الأمور تحصيل حاصل، وكأن هذه القيم يعلنها الراشدون. لذا فمن المهم أن يتفكر الأطفال حولها لكي يتمثَّلوها. أساس الوساطة، إذن، هو العبور من حالة الغرض objet إلى الاعتراف بالإنسان كشخص personne. وهذا يتم بالشغل على الشعور وتنمية الإصغاء والحوار. وفي أغلب الأحيان، حالما يشعر الولد بأنه يعامَل كشخص، فيستطيع التعبير عن احتقانه الداخلي، فإن المشكلة تزول من تلقاء ذاتها. بكل أسف، لم يعد هناك وسطاء في المدرسة التي كنت أعمل فيها لأن المدرسين المؤهلين كانوا يعملون في البداية على أساس طوعي، ثم أرادوا لاحقًا نوعًا من الاعتراف بجهودهم. مرمريتا، 21 حزيران، الجلسة المسائية *** *** ***
|
|
|