إستراتيجيَّة العمل اللاَّعنفي
مراحلها وآليَّاتها: محاضرة ونقاش 1

 

جان ماري مولِّر

 

ديمتري أڤييرينوس: تتميز هذه المحاضرة عن سابقتها بإمكانية تدخل الحاضرين في أثناء المحاضرة. في المحاضرة السابقة دار النقاش من خلال المجموعات، وربما شعر بعضكم أنه لم يأخذ حقَّه في الحوار على نحوٍ كامل. إذًا مَن يرغب في توضيح ما، أو في تعميق نقطة معينة، يمكن له أن يشارك مباشرة هذه المرة. نطلب من الراغبين في السؤال أو التعليق اختصار أسئلتهم وتعليقاتهم قدر الإمكان بما يفسح في المجال للآخرين أيضًا. شكرًا.

جان ماري مولِّر: سنحاول الآن أن نتكلم في سياق فكري آخر، وهو سياق إستراتيجية العمل اللاعنفي. سأحاول فيما يلي أن أقدم مجموعة الأشواط أو المراحل التي تمر بها إستراتيجية عمل لاعنفية، أي كيف تندرج في تتالي الزمن. هناك نوع من تصاعُد العمل. حاولت أن أستخلص تقديم هذه الأشواط عبر استقراء حملات العمل اللاعنفي التي اطلعتُ عليها كافة. وبالطبع، هذه ليست وصفة طبخ! ففي وصفة الطبخ، آخذ الكتيب وأتقيد بالوصفة بحذافيرها؛ وهذا طبعًا أمر غير وارد هنا. المبدأ الأساسي في الإستراتيجية، كما يقول العسكر، هو التكيف مع أرض الواقع. من هنا سأقدم مجموعة مبادئ عامة قابلة للتطبيق بحسب خصوصية الموقف.

تتألف إستراتيجية العمل اللاعنفي، كما أقدِّمها، من خمس عشرة مرحلة. عادةً أستعمل لوحًا لكي أكتب عليه حتى تتبين هيكلية العمل؛ وعادةً أكتب بالفرنسية والمترجم يترجم النص كتابةً. ليس لدينا لوح أو ورق كبير، صحيح، لكن لدينا جدار أبيض رائع! أقترح على منى وأكرم، كنوع من التخليد لهذه اللحظات، أن نكتب على الجدار، وبالتأكيد سيكون هذا عملاً فنيًّا رائعًا! إذًا:

النقطة الأولى: تحليل الموقف:

ينطلق هذا التحليل من موقف ظلم مخصوص. والظلم قد لا يكون جديدًا، لكنه في لحظة بعينها يتبدى لنا بالغًا أوج قسوته، وينتابنا شعور بأن هذا الظلم لا يطاق، لا يُسكَت عنه، وبالتالي، لا يجوز أن يستمر. سنقرر أن نعمل بمقتضى ذلك وأن نقاوم، سنقرر الدخول في المقاومة. لذا يجب أن يكون هذا القرار مبنيًّا على معرفة دقيقة جدًّا بتفاصيل الوضع القائم؛ ولهذا يجب تقديم ملف يفصِّل عناصر هذا الوضع. نحن نعرف أنه ليس هناك مجال نستطيع فيه أن نتحلَّى بموضوعية تامة، ولكن أهم ما في الأمر هو أن نجتهد في أن نكون موضوعيين قدر المستطاع. قد يغرينا أن نبالغ في وصف الواقع، لكننا نخطئ إذا ظننَّا أن هذا سيعزِّز قضيتنا. كذلك يجب ألا نمسخ وضع الخصم: فمهم أن نتعرف في وضوح إلى خصمنا، وأن نحلِّل قبل اتخاذ قرارنا: من هم صانعو القرار؟ ما هي توازنات القوى بين مختلف الأطراف المرتبطة بالموقف؟ يجب أن نعرف القوى الاجتماعية/السياسية/الاقتصادية المنضوية ضمن هذا الوضع: ما هي مواقف مختلف الأطراف؟ ما هي المبرِّرات المُعطاة؟ كذلك يجب أن نحيط علمًا بالقانون، بما ينص عليه القانون (ولهذا يجب على الأغلب استشارة محامين، والأفضل هو أن نجد محامين متطوعين مشهود لهم بالكفاءة).

يجب علينا في الموقف المعني – الذي هو دائمًا على شيء كبير من التعقيد، حيث لا يوجد خصمان اثنان فقط، بل خصوم عدة – التعرف إلى خصومنا نحن، ومَن هم حلفاؤنا الذين نستطيع أن نعتمد على تضامنهم. فلكي نقاوم خصومنا أو نكافحهم يجب أن نبدأ بمعرفتهم أولاً. على مستوى تحليل الموقف، اللاعنف لن يقدم لنا ضوءًا خاصًّا. فالظلم هو انتهاك لحقوق الإنسان؛ وهنا يجب أن نقوم بعمل سوسيولوجي (اجتماعي) طويل.

هڤال يوسف: هل يتم تحليل الموقف قبل بدء العمل أم في أثناءه؟

جان ماري مولِّر: الأفضل أن يتم قبل انطلاق العمل، لأنه بمقتضى هذا التحليل سنتمكن من بناء إستراتيجيتنا. بالطبع دينامية العمل، فيما بعد، ستجيز لنا أن نأتي بتصويبات وبتعديلات على رؤيتنا الأولى. الهمُّ الأساسي هنا هو أن نتكيف مع أرض الواقع. فنحن لسنا في المطلق، بل في النسبي. لا توجد هنا حقيقة مطلقة. في الفلسفة لا توجد حقيقة مطلقة، فكيف بالحري هنا؟! كذا فإن الموقف سوف يتعدَّل إبان الصراع. لذا يجب أن نكون دومًا منتبهين لمعرفة الواقع.

النقطة الثانية: اختيار الهدف:

هذه نقطة على غاية من الأهمية. فاختيار الهدف يمكن أن ينجم عنه إخفاق الصراع أو نجاحه. لذا فمن الأهمية بمكان أن نختار هدفًا محددًا، دقيقًا، واضحًا، ممكنًا. ولذلك ينبغي أن نميز تمييزًا دقيقًا بين ما يدخل في باب التمني وما يدخل في باب الإمكان. نحن نحكم على أنفسنا سلفًا بالفشل إذا اخترنا هدفًا أبعد من مدى إمكاناتنا، هدفًا لا يتناسب مع القوى التي نستطيع استنفارها. يجب أن نختار هدفًا بعينه يتيح لنا النصر. كما يجب أن نتجنب منطق "اطلب مئة لكي تحصل على خمسين": من حيث المبدأ، إذا طالبنا بمئة يجب أن نحصل على مئة. أحيانًا قد نقبل تسوية تسعين أو ثمانين في المئة [تنازُل بمقدار 10 إلى 20%]، لكننا هنا لسنا في معرض إشكالية الاحتجاج أو التوعية. يجب أن نفوز بالنصر، يجب الانتصار! لكنْ، بالطبع، بقدر ما يكون الهدف محدودًا يكون النصر محدودًا أيضًا. ولكن النصر – حتى المحدود منه – سيسمح بإطلاق دينامية تجيز لنا عندئذٍ أن نبحث عن أهداف أكثر طموحًا. بالطبع، ما نريد تغييره هو مجمل النظام السياسي؛ ولكن من الضرورة الإستراتيجية بمكان أن نختار نقطة حساسة في النظام تسمح لنا بأن نمسكه من اليد التي توجعه...

پريهان قمق: في هذا السياق، أفهم مما تقول أنني سأقدم احتجاجًا لاعنفيًّا ضمن إطار نظام سياسي. أنا الآن في عولمة، ويمكن لي أن أحتج على سلوكيات معينة. ليس عندي مطلب محدد، بل أريد فقط أن أقول موقفي، أن أعبِّر عنه، تجاه أشياء لاإنسانية تحدث في العالم. هل يدخل هذا في نطاق ما تشرحه؟

جان ماري مولِّر: طبعًا. ناضلنا في فرنسا، مثلاً، ضمن سياق العولمة الذي ذكرتِه، من أجل ألا تستعمل الشركات أطفالاً في مصانعها (في الهند مثلاً). هدفنا المحدد كان أن نحوْل دون أن تستخدم شركة بعينها أطفالاً في إنتاج السلع، وهذا كان في حالة شركات تنتج منتجات رياضية. انطلقنا من فكرة المقاطعة التامة لهذه الشركة بعينها التي تستخدم الأطفال في مصانعها في الهند، وبعض الأعمال كان فعالاً جدًّا: بعض الشركات كفَّت تمامًا عن استخدام الأطفال في الإنتاج، حتى إن إحدى الشركات بنت مدرسة لهؤلاء الأطفال! بعد قليل، سندرس كيف تتم المقاطعة boycott. بالطبع هذا نصر جزئي، ولن ينجم عنه ضرب أسُس الرأسمالية كلها!

هناك مثال على ذلك، لعلكم تعرفونه: في العام 1930، طلب "مؤتمر عموم الهند"، الذي كان الهيئة المناضلة من أجل الاستقلال، من غاندي إيجاد حملة عمل لاعنفي من أجل نيل الاستقلال. الهدف البعيد المدى كان استقلال الهند، لكن غاندي اختار هدفًا ممكنًا قصير المدى؛ هو لم يطلق عصيانًا مدنيًّا على قوانين الاستعمار كلِّها، على الرغم من أن جميع هذه القوانين ظالم، بل جلس وتفكَّر طوال عدة أسابيع، ثم طلب ذات يوم من الهنود أن يعصوا "قانون الملح". (تعرفون أن شبه القارة الهندية محاطة بالماء المالح، وأن الهنود لم ينتظروا مجيء الإنكليز لكي يخترعوا الملح! ولكن الإنكليز ظنوا أن من الفطنة أن يفرضوا على الهنود دفع ضريبة عندما يشترون الملح.) عندما علم رفاق غاندي أنه اختار "قانون الملح" خاب أملهم كثيرًا! فقد بدا لهم هذا الهدف تافهًا بإزاء مطمحهم إلى استقلال الهند: التسلِّي بغلي الماء المالح في قِدْر صغيرة! وكانت ردة فعل نائب الملك مشابهة: إذا حلا لغاندي أن يغلي الماء المالح في قِدْر فهذا لن يزعزع الإمبراطورية البريطانية!

لكن دالَّة غاندي على رفاقه كانت من القوة بحيث إنهم قبلوا هذا الهدف الجزئي. وقال نائب الملك: فلندعه يفعل ما يشاء. كان معتزَل ashram غاندي في أحمد آباد، شمال غرب الهند؛ وقد نظَّم مسيرة مسافتها عدة مئات من الكيلومترات حتى المحيط، وخطر بباله أنه كان من الممكن أن يُعتقَل سريعًا، لكنه في النهاية وصل إلى البحر. ولما وصل إلى المحيط، أخذ حفنة من الملح نسيتْها المياه على الشاطئ، وقال: "القبضة القابضة على هذا الملح يمكن أن تُحطَّم، لكن الملح لن يُسلَّم"، ثم أعطى الهنديات والهنود أمر العصيان المدني، ونُظِّم نوع من السوق السوداء المشروعة للملح في عموم الهند. عبقرية غاندي في اختياره الملح تكمن في أنه اختار ظلمًا مخصوصًا يميِّز الاستعمار البريطاني تمامًا، واختار نشاطًا يمكن لأبعد وأنأى وأفقر الهنود أن يطبِّقوه، وتستطيع أن تطبِّقه أيضًا السيدات من أشراف البرجوازية الهندية في البلاد.

غاندي لحظة أوج "مسيرة الملح" (1930) يلتقط حفنة الملح الشهيرة.

ليس الوقت متاحًا لكي أقص عليكم القصة كاملة. ولكن بعد أن أودِع غاندي السجن أُطلِقَ سراحُه، وقَبِلَ نائب الملك أن يفاوضه. فإذا تذهنَّا تلك اللحظة التي استطاع فيها غاندي، زعيم الثوار، أن يلاقي نائب الملك، ممثل الإمبراطورية البريطانية في الهند، لقاء الند للند، علمنا أن استقلال الهند دخل التاريخ منذ تلك اللحظة. لذا فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه في مواجهة كلِّ موقف ظلم هو: "أين الملح؟" في لقاء مع أصدقائنا العراقيين في الأردن كان السؤال أيضًا: أين الملح؟ وقمنا بتمارين عملية. في إحدى المجموعات قالوا: يجب أن نناضل من أجل إخلاء العراق من الأمريكيين! لكنهم سرعان ما أدركوا أن هذا الهدف لم يكن هدفًا محددًا، دقيقًا، واضحًا، ممكنًا. وفي النهاية، اختاروا كهدفٍ إخلاء قرية بعينها من الجيش الأمريكي، حيث كان وجود الأمريكيين في تلك القرية قد أرغم السكان على المغادرة، وبدءوا ببناء إستراتيجية موافقة لهذا الهدف، وقالوا: وجدنا الملح!

النقطة الثالثة: اختيار اللاعنف:

لعلكم تقولون الآن إن هذا من قبيل التحصيل الحاصل! لكن الأمر، في الواقع، أعقد بكثير. اختيار اللاعنف خيارًا إستراتيجيًّا يقضي بأن يكون جميع الأعمال لاعنفيًّا حصرًا، أن يكون جميع العاملين ضمن هذه الإستراتيجية على وعي تام بأهمية التزام اللاعنف التزامًا تامًّا. يجب أن نلوِّح باللاعنف، أن نبرزه، أن نرفعه، لأن الخصم أيضًا يجب أن يقتنع بأن العمل الذي سيُجابَه به هو عمل لاعنفي حصرًا، ولأن الرأي العام – المحلِّي والوطني والعالمي – يجب أن يكون على علم تام بذلك ومقتنعًا أن الأمر عبارة عن عمل لاعنفي حصرًا...

پريهان قمق: قلتَ إنه يجب أن يكون اللاعنف اختيارًا كاملاً؛ يجب أن يعرف الخصم أننا جميعًا لاعنفيون. السؤال هو: هل قمع اللاعنفي أصعب على الخصم من قمع العنفي؟

جان ماري مولِّر: جوابي هو نعم، لكن السؤال سابق لأوانه قليلاً. الأفضل، ربما، أن نعيد طرح السؤال عندما تتكون عندنا نظرة إجمالية عن الإستراتيجية، إذ قد يكون الجواب موجودًا لاحقًا.

هذه مسألة يجب أن تكون واضحة تمامًا: دينامية النضال اللاعنفي تقتضي بالضبط عدم وجود أيِّ عمل عنفي يرافق النضال. في العمل العنفي، يمكن لنا أن نقوم بأعمال لاعنفية موازية قد تعزز من "فعاليته". (في بعض أشكال النضال العنفي كانت هناك، مثلاً، إضرابات؛ والإضراب، في حدِّ ذاته، هو عمل لاعنفي.) في منطق العنف يمكن أن ننظر أحيانًا في وضع المناهج العنفية واللاَّعنفية جنبًا إلى جنب، لكن هذا لا يصح البتة على دينامية النضال اللاعنفي. فكل عمل عنفي سيأتي ليعاكس فعالية العمل اللاعنفي. نضالٌ فيه 90% من الأعمال اللاعنفية و10% من الأعمال العنفية لن يكون نضالاً لاعنفيًّا فيه 10% من الأعمال العنفية، بل نضال عنفي فيه 90% من الأعمال اللاعنفية. هل ترون الفارق؟

على سبيل المثال، في جِنوة (إيطاليا)، قامت مظاهرة كبيرة ضد العولمة، مطالِبةً بـ"عولمة بديلة" alter-mondialisme، والتوصية العامة كانت اللاعنف. كان هناك عشرات الألوف من المتظاهرين اللاعنفيين، واتفق أن وُجِدَ بضع عشرات من الأشخاص رموا رجال الشرطة بالحجارة وكسروا واجهات المحلات. فماذا كانت النتيجة؟ وُسِمَ العمل برمَّته بأنه عنفي، وقُمِعَ بوصفه عملاً عنفيًّا، وكان القمع شديد الوحشية على غالبية المتظاهرين الذين كانوا يريدون، في معظمهم، أن يكونوا لاعنفيين. (فلتتخيلوا موقفًا آخر جرى فيه استعمال الحجارة، ويمكن لنا أن نناقش ذلك فيما بعد.)

من هنا يجب أن نرفض تنوع التكتيكات وتعددها. وهذا كان محور نقاش في حركة العولمة البديلة: بعضهم قال إننا جميعًا نطلب الهدف نفسه؛ وبالتالي، فالعنف واللاعنف متكاملان. إنهما متكاملان في منطق العنف، لكنهما متناقضان في منطق اللاعنف. في إمكاننا دومًا أن نختار أعمالاً عنفية، لكنا يجب أن نعرف أننا، بخيارنا هذا، نخرج نهائيًّا من إستراتيجية العمل اللاعنفي، حتى إذا كانت الأعمال لاعنفية في غالبيتها. وهذه ليست مسألة أخلاقية وحسب، بل مسألةُ واقعية سياسية أيضًا، وهذا لكي نصل بفعالية العمل اللاعنفي إلى أوجها.

في 28 آذار 1968، قاد مارتن لوثر كنغ ورالف أبرنتي مسيرة بالنيابة عن العمال المضربين، سرعان ما دبَّت فيها الفوضى. وقد قال شهود عيان إن حوالى 200 شابًّا شرعوا في تحطيم نوافذ البلدة والنهب بعد حوالى 20 دقيقة من بدء المسيرة. وقد تدخلت شرطة مكافحة الشغب لقمعها باستعمال الغاز المسيل للدموع والهراوات. وبعد يومين، اتهمت إحدى الصحف كنغ بالتحريض على العنف: "... لقد أساء إلى سمعته كزعيم حين لاذ بالفرار لدى وقوع العنف، بدلاً من أن يحاول استعمال نفوذه المقنِع لوقفه."

في تاريخ النضالات اللاعنفية، في كثير من الحالات كانت الدولة هي الخصم، وأرسلت الدولة عناصر شغب أو عناصر تحريض لتندس بين المتظاهرين، لأنهم كانوا يتمنون وجود عناصر عنف بينهم، لأن العنف كان بالضبط ما يسوِّغ القمع. في بورما، مثلاً، بحسب ما فهمت، كان هناك جنود تنكروا في زي رهبان وحطموا واجهات المحلات (وجدت على الإنترنت صورة كان فيها الجنود يستلمون زي الرهبان!). في فرنسا أيضًا، في السبعينيات، تعاملنا أيضًا مع مسألة عناصر الشغب المدسوسة بيننا. ومن هنا ضرورة تحييد أولئك الذين يريدون استعمال العنف. بالطبع، يجب لهذا أن يتم إعداد المناضلين للعمل اللاعنفي. وهنا أطرح...

النقطة الرابعة: اختيار التنظيم:

يراهن العمل اللاعنفي على المسؤولية الشخصية لكلِّ مشارك، رجلاً كان أم امرأة. ولكن حتى يكون العمل فعالاً يجب أن يكون جماعيًّا ومنظمًا. (لا توجد أعمال "تلقائية" للجماهير، كما يقال أحيانًا.) ويجب على التنظيم نفسه أن يكون في حدِّ ذاته لاعنفيًّا، يجب ألا يكون التنظيم قابلاً لمقارنته بالتنظيم العسكري. تنظيم لاعنفي يعني أن يكون ديموقراطيًّا كأفضل ما يكون، بحيث يستطيع من خلاله جميع العاملين المشاركة في صنع القرار. يجب أن يكون التنظيم اللاعنفي صورة حية عن المجتمع الذي يسعى في تحقيقه. وفي الوقت نفسه، يجب التحلِّي بالواقعية: في حملة عمل لاعنفي يجتمع آلاف الناس؛ وهذا لا يتيح، لدى اتخاذ قرار ما، ما نسمِّيه بـ"الديموقراطية المباشرة". أحيانًا تتطلب ضرورةُ العمل اتخاذَ قرار سريع. ومن هنا ضرورة انتخاب مسئولين يحوزون على ثقة المناضلين، ما يسمى بـ"لجنة تنسيق" أو "لجنة قيادة" (شخصيًّا أفضل تسمية "لجنة تنسيق" comité de coordination) تكون مخوَّلة اتخاذ القرار.

هنا تنطرح مشكلة القائد أو الزعيم. بالطبع، جميع العاملين في الحملة متساوون، لكن من طبيعة العمل الجماعي، في الآن نفسه، أن يوجد في المجموعة ناطق باسمها في النضال. صعب جدًّا فهمُ كيف يصير المرء قائدًا. في أغلب الأحيان لا يقرر المرء أنه سيصير قائدًا، كما يصعب أيضًا في كثير من الأحيان انتخاب قائد. يصير المرء قائدًا من خلال سيرورة معقدة نوعًا ما. يتحلَّى القائد بشخصية قوية، كما يجب على مجموع أفراد الجماعة أن يقروا بحكمته. ودور القائد هو المحافظة على تماسُك الجماعة. لكن من الخطر أن يصير كاريزما القائد مبالغًا فيه، وألا تقوم قوة الجماعة إلا على كاريزما القائد، لأنه إذا مات القائد أو سُجِنَ أو قُتِلَ ستصير الجماعة يتيمة، ويمكن لها عندئذٍ أن تتعرض للتفكك. فلكي نتجنب أن يحتل القائد الموقع الحاسم يجب أن تكون الجماعة أكثر ما يمكن ديموقراطية. في أغلب الأحيان، يوجد عدة قادة، ولكن يوجد دومًا زعيم هو "قائد أكثر من غيره"! فإذا درسنا "حركة الحقوق المدنية"، رأينا أن شخصية مارتن لوثر كنغ ودوره كقائد كانا من القوة بحيث إنه ما إن اغتيل سرعان ما تفككت الحركة. رالف أبرنتي Ralph Abernathy صار بعد وفاة كنغ القائد بشكل طبيعي، لكنه لم يكن يتمتع بهيبة كنغ، ولم يتمكن من المحافظة على تماسُك الحركة السوداء.

القس رالف ديڤيد أبرنتي (1926-1990)
مؤبنًا مارتن لوثر كنغ بُعيد اغتياله
(1968).

والتنظيم قد يكون موجودًا أصلاً قبل اتخاذ القرار ببدء حملة العمل اللاعنفي: نقابة، حزبًا سياسيًّا، حركة شعبية؛ وقد يكون نوعًا من تحالف بين مجموعة من الحركات؛ وأحيانًا لا بدَّ من إيجاد تنظيم مخصوص من أجل القيام بالعمل. إحدى مهمات التنظيم هي تأهيل الكادر الذي ستنهض عليه الحركة اللاعنفية وإعدادُه. وهنا يجب تقدير المدة الزمنية الكافية لهذا التأهيل والإعداد. في حركة تعدادها آلاف الناس قد لا يستطيع الجميع المشاركة في التأهيل، لكن يجب أن يشارك فيه عددٌ كافٍ بحيث يستطيعون الإشراف على عمل الآخرين وتنظيمه. ويجب على الأفراد المؤهلين أن يحافظوا على التزام الخيار اللاعنفي؛ وعلى القائد، أولاً بأول، أن يتخذ القرارات بمباشرة هذا العمل أو ذاك.

من مهمات التنظيم أيضًا ترتيب البعد الإعلامي في الحركة. وإنها لمهمة هامة جدًّا أن تستطيع الحركة التعريف بأهدافها وعملها للرأي العام. فسنرى أن استنهاض الرأي العام عامل حاسم في غالبية الحملات اللاعنفية.

النقطة الخامسة: التفاوض الأول:

من مبادئ النضال اللاعنفي محاولة إقامة صلة مع الخصم منذ البداية. يجب اعتبار الخصم شريكًا في الإمكان. فغاية النضال اللاعنفي هو التوصل إلى توافُق مع الخصم؛ وبالتالي، لا بدَّ، في مرحلة ما، من الكلام معه. فالسلام يُعقَد مع العدو وليس مع الصديق! في اللاعنف هناك: المطالبة بالعدالة، إرادة النضال من أجل العدالة، وإرادة احترام الخصم. يجب أخذ إمكانية لقاء الخصم دومًا في الحسبان. ومن الحكمة الإستراتيجية، قبل مباشرة العمل، اقتراح اللقاء مع الخصم وإجراء حوار. في كثير من الأحيان، لا يكون الحوار ممكنًا؛ إذ يمكن للخصم أن يرفض أيَّ لقاء، ولكن هذه المبادرة تكون قد أُخِذَتْ.

أما إذا قبل الخصم إجراء لقاء، فيجب إعلامه بالمطالب الدقيقة للحركة، وإعلامه بالهدف المطلوب، وإعلامه وتوعيته بالتزامنا اللاعنف وإصرارنا عليه، وبتصميمنا على مواصلة النضال حتى النصر. وحتى إذا قبل الخصم مقابلتنا يكاد يكون من المستحيل أن نتوصل معه في هذه اللقاءات الأولى إلى وفاق. المهم في هذا اللقاء – إذا جرى – هو عدم الاكتفاء بالوعود؛ فالتفاوض يجب أن ينتهي إلى قرارات، وليس إلى وعود، لأن الخصم يمكن أن ينصب لنا فخًّا بأن يعدنا باستيفاء مطالبنا (كأن يقول مثلاً: إذا تخليتم عن أعمالكم سننظر بعين الرضا إلى مطالبكم). كما يجب ألا نستسلم للإغراء في حال كان المفاوضون "مفاوِضات"! فترة هذه المفاوَضات يجب أن تكون فترة إعداد لامتحان القوة épreuve de force: يجب على الخصم أن يعي تمامًا أننا، وإنْ يكن لدينا الاستعداد للتفاوض، فنحن نستعد، في الآن نفسه، للنضال.

حتى نستطيع أن نستمر، أنطلق من فرضية أن المفاوضات الأولى أخفقت...

أكرم أنطاكي: الإستراتيجية التي تعرِضُها، جان ماري، يمكن لكلا اللاعنفي والعنفي أن يستعملاها. هذه تكتيكات وليست إستراتيجية؛ أو هي "إستراتيجية" بمعناها الضيق، لأن الإستراتيجية، بمعناها العريض، هي تحديد الهدف ودرس الظروف، والباقي يندرج تحت اسم "أساليب عمل". أقصد أن ما ذكرتَه يمكن له أن يُستعمَل في معزل عن عدالة القضية التي يُطالَب بها أو لاعدالتها. مثلاً، وصل الأصوليون في الجزائر إلى السلطة عن طريق انتخاب ديموقراطي، وهذا أسلوب "لاعنفي"؛ "حماس" أيضًا وصلت إلى السلطة بطريق ديموقراطي، وحين وصلت أزاحت الآخرين. ما تقوله لا يميِّز العمل اللاعنفي، بل يمكن للجميع تطبيقُه.

جان ماري مولِّر: لا توجد أية صعوبة خارقة في التخطيط للأشياء، ومداخلتك تسمح بتوضيح المسألة. قطعًا اللاعنف، بوصفه منهج عمل، يمكن له أن يُستعمَل لأهداف غير عادلة. لذا فنحن نعتبر النضال لاعنفيًّا لا لأن الوسائل المستعمَلة خالية من العنف وحسب، بل لأن الغاية نبيلة وعادلة أيضًا. عندما نتكلم على الوسيلة والغاية، يجب أن تكون الوسائل أيضًا عادلة، لأن الوسائل هي التي ينبني الحاضرُ عليها. ولكن، في النهاية، الوسائل ليست "ثانوية" ولكنها ثانية، والغاية هي الأولى. حتى نكون في العمل اللاعنفي لا مناص من أن تكون الغاية عادلة.

ديمتري أڤييرينوس: غاندي قال: "بوسعي أن أصوم ضد أبي كي أشفيه من رذيلة، لكن لا يجوز لي أن أصوم كي أقنعه بأن يجعلني وريثه."

أكرم أنطاكي: إذن، كما قال جان ماري، المسألة الأولى هي الغاية التي يجب أن تكون عادلة.

[هنا طلب الحضور من جان ماري مولِّر أن يعدِّد الخطوات كاملة قبل أن يفصِّلها.]

جان ماري مولِّر: لا خلاف حول هذه النقطة. سأذكر الخطوات كاملة، وهي على التوالي:

1.    تحليل الموقف؛

2.    اختيار الهدف؛

3.    اختيار اللاعنف؛

4.    اختيار التنظيم؛

5.    التفاوض الأول؛

6.    استنهاض الرأي العام؛

7.    إرسال إنذار؛

8.    اللاتعاون المباشر؛

9.    البرنامج البنَّاء؛

10.                       القمع (وهذه لحظة حاسمة في الحملة اللاعنفية)؛

11.                       التفاوض النهائي (أنطلق هنا من فرضية نجاح هذه المفاوضات؛ لكن هذه المفاوضات يجب أن تبقى في حيز الهدف المحدد، الدقيق، الواضح، الممكن. بعد هذا النصر الجزئي، يجب، ربما، مواصلة النضال في سبيل أهداف أخرى)؛

12.                       استلام السلطة على مستوى القاعدة؛

13.                       التنظيم السياسي: حالما يقوم المواطنون والمواطنات بتنظيم السلطة في المجتمعات المدنية، قد يكون من المشروع أن يستعدوا لاستلام السلطة، حتى على مستوى القمة؛

14.                       استلام السلطة: نحن نعرف، بالطبع، أن استلام السلطة أمر خَطِر؛ لذا فمن المهم للمواطنين على مستوى القاعدة أن يستمروا في ممارسة سلطتهم. الثورة لا تنتهي أبدًا؛ ولهذا، كنقطة أخيرة، أقترح:

15.                       الثورة الدائمة.

إذا أخذنا، مثلاً، نضال نقابة "تضامن" Solidarność، نجد هذه النقاط الخمسة عشر بحذافيرها، ربما مع نقطة ضعف هي الثورة الدائمة. من المدهش أن نرى الزعيم لِخْ ڤاليسا Lech Wałęsa، الذي سُجِنَ مرات عديدة، رئيسًا للجمهورية لاحقًا؛ وكذلك في تشيكوسلوڤاكيا، أن نرى المنشق ڤتسلاڤ هاڤل Václav Havel يصير رئيسًا للدولة.

دارين أحمد: تبدو المراحل التي ذكرتَها مختصة بالشأن السياسي البحت – حتى إنني لا أستطيع سحبها على العمل الاجتماعي، الثقافي، وغيره.

جان ماري مولِّر: أنا هنا أقدم نموذجًا عامًّا. يجب التكيف عمليًّا مع أرض الواقع في كلِّ بلد على حدة.

دارين أحمد: لنقل، مثلاً، إن هدف جماعة العمل اللاعنفي ليس استلام السلطة، بل التغيير الاجتماعي...

جان ماري مولِّر: طبعًا ممكن. قد تتوقف الحملة اللاعنفية قبل النقطة 14 من الإستراتيجية، لكني أعطيت النموذج الذي يصل إلى منتهاه. في الحالات التي نريد فيها التوصل إلى أهداف اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية نتوقف قبلئذٍ.

منى هلال: هو يقدم نموذج التجربة الپولونية...

جان ماري مولِّر: إذا أخذنا، على سبيل المثال، الإضرابات الأولى في عمل نقابة "تضامن"، فهذه لم يكن هدفها استلام السلطة...

دارين أحمد: مادام الهدف النهائي للإستراتيجية التي ذكرتَها هو استلام السلطة، سيكون هذا هدف كلا الطرفين، وسيبقى النزاع مستمرًّا!

جان ماري مولِّر: مناقشة النقطة 14 دون تدقيق النقاط الأخرى التي قبلها تسبِّب التباسًا...

كاجو كاجو: لم أفهم ما تقصده بـ"الثورة الدائمة"! كأنك تعني عدم وجود دولة مدنية، كأنك تتحدث عن ثورة مشاعية دائمة!

جان ماري مولِّر: يجب أن نناقش النقاط متسلسلةً...

أكرم أنطاكي: ليست المسألة مسألة تسلسل! عندما ذكرتَ الغاية العادلة، فهذه الغاية لا بدَّ من الاتفاق عليها، وإلا سيتدهور كل شيء إلى العنف! الهدف الأساسي يجب أن يتحقق ضمن مجتمع مدني، ديموقراطي، تعددي، عَلماني. عندما نتفق على هذه الأمور يمكن لنا الحديث عن أساليب لتداول السلطة، ومفهوم "الثورة الدائمة" يصير عند ذاك غير ذي معنى. منطلق تحفُّظي، من البداية، هو ضرورة التشديد على الغاية العادلة ضمن "عقد اجتماعي"؛ فخارج نطاق العقد الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق شيء!

ڤتسلاڤ هاڤل (1936- ).

پاتريس لومومبا (1925-1961).

 

كوامِه نْكروما (1909-1972).

كوراثون أكينو (1933- ).

جان ماري مولِّر: المشكلة أن طرحنا لهذا السؤال سابق لأوانه، حيث لم يُتَحْ لي أن أبرِّر لماذا استعملتُ مصطلح "الثورة الدائمة" révolution permanente. لدينا أربع حالات: غاندي، ڤتسلاڤ هاڤل، [پاتريس] لومومبا Patrice Lumumba (الكونغو)، وحتى [كوامِه] نْكروما Kwame Nkrumah (غانا)، استطاع فيها النضال اللاعنفي أن يوصل المناضلين إلى السلطة؛ وهناك أيضًا مثال استلام "كوري" أكينو Corazón (Cory) Aquino للسلطة في الفيليپين الذي تم من خلال نضال لاعنفي. في هذه الحالة، يصبح مناضلو الأمس وزراء اليوم. لكن هذا لا يعني بأن جميع المشكلات قد حُلَّتْ. يجب أن تكون هناك رقابة شعبية من قبل المواطنين على الدولة، لأن رؤساء الدولة، حتى إذا أتوا إلى السلطة من خلال النضال اللاعنفي، قد يغريهم الانحباسُ في منطق الدولة. ضمن الشروط التي تم فيها ذلك مع غاندي – وقد تم الأمر بشكل سيء لأنه ترافق مع تقسيم الهند إلى دولتين بحسب معايير دينية؛ وبنظر غاندي كان هذا إخفاقًا (لم يكن إخفاق غاندي، لكنه إخفاق الزعماء الدينيين) – كان غاندي موافقًا على أن يكون نهرو رئيس وزراء الهند، لكنه لم يُرِدْ لحزب "المؤتمر" أن يكون حزب السلطة، وإنما حزب الثورة الدائمة، وكان يتمنى على جاي پراكش نارايان Jayaprakash Narayan – وهو رجل رائع قابلته في الهند، دعا إلى "الثورة الكلية" Sampurna Kranti السلمية – أن يستلم رئاسة "المؤتمر" لكي يوازن سلطة نهرو. أقصد بهذا الكلام أن الثورة لا تنتهي مرة واحدة وإلى الأبد. فحتى إذا تمَّ استلام السلطة، يجب دائمًا أن تكون بنية الدولة قادرة على أن تتيح للمواطنين أن ينتظموا في أُطُر تسمح لهم بممارسة رقابة فعلية تُوازِن سلطة الدولة، أيًّا كان العقد الاجتماعي...

غاندي وجواهرلال نهرو (1889-1964).

جاي پراكش نارايان (1902-1979) يدعو جمهور الطلاب المحتشد في ميدان غاندي بمدينة پتنا إلى "الثورة الكلية" (5 حزيران 1975).

أكرم أنطاكي: مصطلح "الثورة الدائمة"، لا أتفق معك عليه إطلاقًا! فمن المحتمل جدًّا، في المقابل، أن يُستَعمَل ما سميته بـ"ضغط الجماهير" الدائم على السلطة خارج أُطُر الپرلمان أو مؤسَّسات الدولة الديموقراطية لأهداف أخرى. مثال من تاريخنا الوطني الحديث: في الخمسينيات، كان هناك زعيم سياسي محترم [أكرم الحوراني]، لكنه شعبوي populiste، لم يستطع الحصول على الأغلبية في الپرلمان، فراح يستعمل مصطلح "برلمان الشارع"، وكان يحشد دومًا على باب الپرلمان مظاهرات، لدرجة أنها عطلت عمل الپرلمان! في هذه الحالة نسأل: هل الشرعية معهم [الشعب] أو مع نظام سياسي يتيح الانتخاب وتداوُل السلطة؟ الشرعية ليست مع الشارع دائمًا!

ديمتري أڤييرينوس: جان ماري لم يقل ذلك...

أكرم أنطاكي: ولكن تعبير "الثورة الدائمة"...

جان ماري مولِّر: أحتاج إلى شرح النقاط بالتسلسل. فلو استمعتم إلى شرح متدرِّج للنقاط لحصلتم على إجابات عن أسئلتكم. لذلك أظن أن الأفضل أن نعود إلى منهجية التقديم نقطة فنقطة. فيما يتعلق بما قيل قبل قليل، أود أن أدقِّق بعض المبادئ: أنا أحاول أن أحلِّل الأعمال اللاعنفية التي جرت في الماضي. هناك أوضاع متفاوتة شديدة الاختلاف. في فرنسا، مثلاً، جرى نضال كبير دام ثماني سنوات، حيث كانت هناك عشرات العائلات طُرِدَتْ من بيوتها بأمر من الحكومة وذلك من أجل توسيع قاعدة عسكرية. قاوم الفلاحون بإظهار اللاعنف، وأتيح لي أن أشارك عن كثب في هذا النضال. جرى هذا النضال على هضبة اللارزاك Larzac في فرنسا، وكان الهدف المعلَن المباشر أن يبقى الأهالي على أراضيهم ولا يتم توسيع القاعدة العسكرية. كان هذا هو الهدف الدقيق، المحدد، الواضح، الممكن؛ ولم يكن المقصود أبدًا استلام الفلاحين السلطة في اللارزاك! وبعد ثماني سنوات من النضال انتصر الفلاحون. وإذا ذهبتم إلى فرنسا تستطيعون زيارتهم، فهم مازالوا في بيوتهم على هضبة اللارزاك. أخذت مثالاً عمل نقابة "تضامن" في پولونيا لأنه مثال نموذجي. قلت هذا صباحًا، ولعلي لم أقله بما يكفي من الدقة: ما أقدمه لكم هو بمثابة "تمرين على الأسلوب" exercice de style. بالطبع ليس في نيتي أبدًا أن أقدم لكم برنامج عمل لاعنفي يطبَّق بعد غدٍ، بل المقصود أن أبين لكم في كلِّ مرحلة ما هي طبيعة مَسْرَحَة العمل اللاعنفي زمنيًّا.

كل منهج لاعنفي يمكن لأناس عنيفين أن يستعملوه في سبيل هدف ظالم. قد تستعمله حركة شعبية غايتها الوصول إلى السلطة وتكريس ديكتاتورية مثلاً! يجب أن تكون الأمور واضحة. هذا قاله غاندي، كما قاله مارتن لوثر كنغ. العمل اللاعنفي، قبل كلِّ شيء، يطمح إلى غاية عادلة. وليكن واضحًا في أذهاننا أننا لا نريد مجتمعًا إلا في إطار دولة قانون. إذا أخذت، على سبيل المثال، العصيان المدني الذي أعمله غاندي فإن أية حركة عنيفة [كـ"حزب الله"] يمكن لها أن تستعمل العصيان المدني. فلنُبْق في أذهاننا تلك الصلة بين الغاية العادلة والوسائل العادلة، ولنقل إن الوسائل الخالية من العنف في سبيل غاية ظالمة هي وسائل ظالمة أيضًا.

لعلنا استطعنا الآن أن نحدد في دقة أكبر ما أثار هذا النقاش. لا نريد أن نطيل سهرتنا، ولهذا من المهم أن نعود إلى بعض النقاط من أجل التوضيح. والآن سأكمل النقاط، فأعالج النقطة السادسة.

النقطة السادسة: استنهاض الرأي العام:

على افتراض أن المفاوضات الأولى أخفقت، فإن دور التنظيم هنا أن يضع الظلم على الساحة العامة باستعمال وسائل التواصل والإعلام والتوعية كافة لنشر الموضوع شعبيًّا. بنية العمل اللاعنفي بنية مثلَّثة، وهناك ثلاثة فاعلين، وليس فاعلان اثنان فقط:

1.    هناك المقاومون الذين اختاروا هدفًا ودخلوا في المقاومة لبلوغ هذا الهدف؛

2.    وهناك الخصوم، وهم أصحاب صلاحية قبول المطالب التي قدمتها المقاومة: فهم أصحاب القرار، وقد يكونون وزراء في الحكومة، أو مدراء شركة خاصة (كأن يضرب العمال عن العمل، مثلاً، لكي يحصلوا على شروط عمل أفضل)، فتكون مهمة العمل اللاعنفي ممارسة "ضغط" على أصحاب القرار من أجل إقناعهم أو إكراههم على الاعتراف بحقوق المقاومين (وأستعمل كلمة "إقناع" أولاً، ثم "إكراه": ففي العمل اللاعنفي هناك دومًا إرادة الإقناع، حتى عند الاضطرار للجوء إلى وسائل إكراه)؛

3.    وهناك فاعل ثالث أيضًا هو الرأي العام، والعمل كله سيدور حول إقناع الرأي العام بصحة مطالب المقاومة وعدالتها.

هناك، إذن، ما أسميه "معركة الرأي العام"، وعلى المقاومين أن ينتصروا فيها. في الوقت نفسه، سيحاول أصحاب القرار أيضًا أن يقنعوا الرأي العام بأنهم على حق؛ وهنا سينشب صراع لمعرفة مَن الذي سيقنع الرأي العام. أقول "الرأي العام" بصيغة المفرد، لكن الصحيح أنه توجد "آراء عامة"، ولن نستطيع أبدًا أن نقنع الرأي العام في جملته، وهناك دومًا جانب من الرأي العام سيكون معارِضًا للمقاومة. الهدف هو استنهاض أقلية كبيرة. بالطبع، إذا استطعنا أن نقنع أغلبية فهذا أفضل: إذا استطعت أن أقنع جانبًا كبيرًا من الرأي العام بأن مطالب المقاومين مطالب عادلة سيتم "ضغط" – وهذا مصطلح شائع – الرأي العام على أصحاب القرار. في عبارة أخرى، فإن عمل المقاومين اللاعنفي سيكون هدفه الأكبر إقناع الرأي العام، أي مجموع المواطنات والمواطنين. يمكن لنا أن نميز هنا الرأي العام المحلِّي (فهناك صراعات كثيرًا ما تحدث ضمن قرية أو مدينة صغيرة أو محافظة)، ويمكن للصراع أن يدور على المستوى الوطني، وحتى الدولي.

ما هي الوسائل المتاحة لنا لإقناع الرأي العام؟ أنتم تعرفونها. هناك، أولاً، وسائل الإعلام: يجب أولاً أن نُعلِم الصحافيين؛ فللصحافيين والإعلاميين دور أساسي في نقل الصورة إلى القائمين على الإعلام. يجب أن نضع العلاقة مع الصحافيين في مكانة ممتازة: فعن طريق الصحافيين يتم إعلام المواطنين. يمكن أن نلتقي بالصحافيين في مؤتمرات صحفية، في لقاءات شخصية، أن نزودهم بملفات، ببيانات صحفية – هذا كله كلاسيكي.

ثم ندخل بعد ذلك في صلة مباشرة مع الجمهور، لا عن طريق الصحافيين، بل مباشرة. هنا أيضًا تعرفون المناهج، فهي كلاسيكية: توزيع المنشورات في الأماكن التي يرتادها الجمهور أكثر من غيرها، توزيع عرائض، تنظيم حملة لتعليق پوسترات، وأيضًا "إنطاق الجدران"، إذا جاز التعبير؛ إذ يمكن لنا أن نكتب عبارات بالطلاء، ويجب أن نقوم بذلك بكثير من الحذر والتمييز، بحيث يفهم الرأي العام عباراتنا. والأبسط أن "نُنطِق الأرصفة" بأن نكتب عبارات بالطلاء عليها، رسومًا أو شعارات. ومن المهم جدًّا أن يُعبَّر عن هذه الأمور بمرح، فللفكاهة قوة إقناع هائلة: إذا أضحكتُ الجمهور فأغلب الظن أني سأكسبه في صفي. لن أقدم لكم أمثلة، لأن خصوصية الفكاهة أنها تتعذر ترجمتُها من لغة إلى أخرى!

مثال على "إنطاق الجدران": "المقاومة هي زراعة الحرية" (مزارعو اللارزاك).

هذا الإعلام الذي نتوجه به إلى الجمهور هو مخاطبة، ومجرد أخذ "مبادرة الكلام" prise de parole هو نوع من أخذ "مبادرة السلطة" prise de pouvoir. الخنوع والتواطؤ صامتان؛ لذا كثيرًا ما يجري الكلام على "الأغلبية الصامتة" التي تصمت وتذعن. لذا فإن أول مبادرات المقاومة هي الكلام أو أخذ مبادرة الكلام على الساحة العامة. سوف "نحتل" الساحة العامة. ولكن من الأهمية بمكان أن يكون الكلام كلامًا سلميًّا، في تفادٍ جذريٍّ لأي سباب، لأية شتيمة، لأية سخرية، لأن هذه قطعًا لا تجدي في إقناع الرأي العام.

ما هي وسائل التدخل المباشر على الساحة العامة؟ عندما يتظاهر المقاوِم في الشارع، على الساحة العامة، فإن مكانة الجسم ستكون أساسية. أنا أتظاهر بجسمي، وربما سيخاف جسمي الخروج إلى الشارع ومجابهة الجمهور. من هنا أهمية أن يستطيع المرء السيطرة على خوفه. ضمن التدريب نستطيع، من خلال "لعب الأدوار" jeux de rôles، أن نتصور ما هي المشاعر التي يختبرها المتظاهر إبان المظاهرة.

التدخل المباشر في الساحة العامة هو ما نسمِّيه بالفرنسية "المظاهرة" manifestation: ندعو المتظاهرين إلى التجمع في مكان رمزي لتشكيل موكب، بحيث يسيرون على الأقدام في المدينة لكي يتلاقوا في مكان رمزي آخر. التظاهر يُطرَح على جميع المواطنين، على جميع المتعاطفين مع القضية. مرة أخرى، التظاهر هو نوع من أخذ مبادرة الكلام على الساحة العامة، وقد تكون مبادرة الكلام على شاكلة مظاهرة صامتة. وحتى إذا التزم المتظاهرون الصمت، يجب "إنطاق" المظاهرة بمنشورات توزَّع على الناس؛ ويمكن للمتظاهرين أن يعبِّروا عن أنفسهم بلافتات وشعارات.

ثم هناك "المسيرة" marche. والمسيرة ليست مظاهرة ضمن مدينة، بل سيرٌ على الأقدام من مدينة إلى أخرى قد يدوم عدة أيام. في مناوأة ضريبة الملح، بدأ غاندي بتنظيم مسيرة؛ وفلاحو اللارزاك التي تحدثت عنهم لتوِّي قاموا بتنظيم مسيرة سبعمائة كيلومتر باتجاه باريس بالجرارات tracteurs، وقام الصحافيون بتغطية كاملة لهذه المسيرة؛ وبعد سنتين، قاموا بمسيرة أخرى، هي عينها مسيرة السبعمائة كيلومتر السابقة، لكن سيرًا على الأقدام هذه المرة. في المسيرة عادةً ما يسير الإنسان على قدميه، لكن يجوز أن نتصور وسائل نقل أخرى: يمكن أن نتحدث عن "مسيرة بالدراجة" أو "مسيرة بالجرارات" إلخ.

مزارعون من اللارزاك يقطعون المسافة من مقاطعتهم إلى باريس (710 كم) سيرًا على الأقدام.

من المظاهر الأخرى هناك "المسرح–المنشور" théâtre-tract، وهو تمثيل مسرحية قصيرة على الساحة العامة تتراوح مدتها بين بضع ثوانٍ وبضع دقائق؛ والقصد منها هو تحريض عامل الدهشة لدى الناس. لماذا نتكلم على المسرح–المنشور؟ لأن رسالة المسرحية يجب أن تكون في مثل قِصَر رسالة المنشور ووضوحها وتكثيفها. مثال إبان حرب ڤييتنام: قام المقاومون اللاعنفيون للحرب بتمثيل مسرحية–منشور يقوم فيها جندي أمريكي بقتل فلاح ڤييتنامي: كان الأمر يدوم ثلاثين ثانية فقط، مع، بالطبع، طلاء أحمر يُسفَح على الرصيف! يمكن أيضًا أن توزَّع منشورات على المشاهدين. ثم هناك "الاعتصام قعودًا" sit-in: والمقصود هو الجلوس؛ هي مظاهرة جلوسًا يتم بها احتلال مكان ينبغي له أن يكون مكانًا رمزيًّا.

جان ماري مولِّر، لانزا دِلْ ڤاستو، والجنرال دُه لابولرديير في اعتصام قعودًا
على هضبة اللارزاك إبان النضال ضد توسيع معسكر للجيش.

في جميع البلدان، بما فيها الدول الديموقراطية، سرعان ما يزورنا رجال الشرطة. يجب أن نستعد دومًا لزيارة أصدقائنا الشرطة، ويجب أصلاً أن نكون متوافقين على تنفيذ تعليمات دقيقة. يمكن لنا أن نقرِّر سلفًا مدة الاعتصام، كأن نقرر أن نبقى ساعة كاملة مهما حصل. لكن "ميزة" الشرطي أساسًا أنه يستعمل وسائل ليست "لاعنفية"، كضربات الهراوات والرمانات المسيلة للدموع أو إطلاق الرصاص المطاطي، وفي بعض الحالات، الرصاص الحي. يجب أن نستعد لمجيء رجال الشرطة، وما يجب تجنبه بأيِّ ثمن هو فرار المعتصمين في فلول غير منظم débandade. هذه الأمور موجودة في البلاد الديموقراطية والبلاد غير الديموقراطية.

مرمريتا، 21 حزيران 2008، الجلسة المسائية

* * *

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود