|
ج. كريشنامورتي ومؤسَّسة كريشنامورتي في أمريكا
رَوَتْ وقائعَ سيرة كريشنامورتي (1895-1986) كتبٌ ومقالاتٌ لا عدَّ لها، مع أن كريشنامورتي نفسه لم يُوْلِ أهميةً تُذكَر لأصوله، بل حضَّ الناسَ على الإصغاء إلى ما كان يقوله ويكتب عنه. وعدم اكتراثه هذا بقصة حياته وبأهميَّته العالمية كان على اتساق مع تعاليمه التي شدَّد فيها على أننا يجب أن نهتم بالوقت الحاضر لأن الماضي تاريخ، ميت، ولا يقدِّم مساعدة تُذكَر في الفعل الآني الفطين. ومع ذلك، فإن حياة كريشنامورتي الشاب مفيدة لأولئك الذين يفتشون عن تبصُّر لفهم هذا المعلِّم الخارق الذي صَرَفَ 65 عامًا يجوب العالم، مخاطبًا الملايين من الناس، والذي تُرجِمَتْ كتبُه إلى حوالى خمسين لغة. ولد كريشنامورتي في أيار 1895 في بلدة صغيرة في جنوب الهند، على مقربة من مدراس. وبوصفه الولد الثامن – الذَّكَر – في أسرة برهمنية، فقد سُمِّيَ كريشنامورتي عملاً بالتقليد، تكريمًا لشري كرشنا، الإله الهندوسي الذي كان الثامن بين أشقائه. وقد انتقل والده، موظف الدولة المتقاعد، إلى مدراس، مصطحِبًا معه أبناءه الأربعة الناجين.
كريشنامورتي فتى، حوالى 1911. وفي العام 1911، جيء بكريشنامورتي البالغ من العمر السادسة عشرة، وبشقيقه الأصغر، إلى إنكلترا، حيث تلقَّى تعليمًا خصوصيًّا. ثم ما لبث أن بدأ يتكلَّم وفقًا لمنطلقات، أعرضتْ، اعتبارًا من العام 1929، عن المنقول، حين طلَّق جميع ارتباطاته مع الأديان والإيديولوجيات المنظَّمة. ومنذ ذلك الوقت، شَرَعَ كريشنامورتي يجوب العالم، كاتبًا ومتكلِّمًا ومناقشًا.
كريشنامورتي في قرية برجيني، 1924. وحالما بلغ سنَّ الرشد، لم يعد أبدًا يبقى في أيِّ مكان أكثر من بضعة أشهر؛ إذ لم يعتبر نفسه منتميًا إلى أيِّ بلد أو جنسية أو ثقافة. كذلك، لم يكن يقبل أية أتعاب عن محاضراته ولا أية حصص عن كتبه وتسجيلاته. كان كريشنامورتي في محاضراته يطالِب بنوع خاص من المشاركة من جانب الحاضرين. لم يكن يلقي محاضرة محضَّرًا لها مسبقًا، فيستمع إليها الحاضرون موافقين أو مخالفين؛ إذ لم يكن يقدِّم وجهة نظر، أو يروِّج لفكرة أو معتقد أو مذهب، أو يقود الحاضرين إلى نتيجة معيَّنة سلفًا. بدلاً من ذلك كلِّه، كان المتكلِّم والمستمعون يستكشفون معًا المشكلات البشرية. وهذا فنٌّ يُتعلَّم في فعل إيلاء الاهتمام نفسه لما يقوله كريشنامورتي. فأنت لا تستطيع أن تسمع إذا كنت، في الوقت نفسه، تقارن ما يقال بما سبق لك أن قرأت؛ فهذا يحول دون السَّماع. وبالمثل، إذا كنتَ تترجم ما يقال بحسب معرفتك أو رأيك المسبق، فأنت لا تستطيع أن تسمع. فالاستماع ينطوي على انتباه الكيان ككل. وهذا الانتباه ليس جهدًا للتركيز؛ إذ هو يتم في صورة طبيعية إذا كنت مهتمًا اهتمامًا عميقًا بمشكلات الوجود العديدة.
كريشنامورتي في الخمسينات. في المحور من تعليم كريشنامورتي أن الإنسان، إذ شاء أن يتحرر حقًّا، يجب أن يعي أولاً الإشراط النفسي الذي يحول بينه وبين رؤية الأشياء على حقيقتها فعلاً. وخاصية الانتباه هذه إلى "الموجود" – لا إلى ما يستحبُّ المرء أو يستكره، ولا إلى ما تقول عنه مرجعيةٌ ما إنه صحيح، بل إلى الشيء الفعلي نفسه – هي في اللبِّ نفسه من فكره. ففي هذا الانتباه إلى "الموجود" يتوقف الذهن عن الثرثرة ويستكنُّ، وبذلك لا يعود منفصلاً عن الشيء الذي يرصده. وفي هذا الصمت، ليس ثمة "أنا" أو مركز يربط إليه المرءُ كلَّ ما يُرى أو يُسمَع. وبذلك، لا يبقى ثمة إلا "الموجود"، وهذا يتصف بخواص المحبة والجمال والنظام. إبان السنين التي سبقت وفاته، دَرَجَ كريشنامورتي على سؤال أعضاء مجلس إدارة المؤسَّسة عن كيفية تصرفهم حين يغيب عنهم. قال: "ها أنا ذا ميت. فماذا أنتم فاعلون الآن؟" لقد كان يريد أن يتأكد من أن المؤسَّسة التي أنشأها وأن أولئك الأصدقاء المشترِكين معه لن يسمحوا لتعليمه بأن يتحوَّل إلى مذهب أو إلى تنظيم روحي أو إلى دين. ففي أثناء حياته، اختار أن يناقش مقاصد المؤسَّسة وعملها المستقبلي، بحيث لا يؤدي موتُه إلى إحداث أيِّ تغيير في الأسُس التي وضعها لنشر تعليمه. لقد كان يعلم – وقد قال مرارًا – أن مأسَسَة تعاليم كريشنامورتي ستصيب منها مقتلاً. في العام 1973، أدلى كريشنامورتي بالتصريح التالي في اجتماع لأمناء مؤسَّسات كريشنامورتي: بعد هذه السنوات كلِّها، مازلت أقول بهذه الحقيقة الجوهرية: التبعية العمياء، أو بحسب المتعة أو المزاج، لا توصل الإنسان إلى الحرية؛ ومن دون الحرية لا توجد حقيقة. طوال هذه السنين العديدة من المحاضرات والمحاورات جميعًا، كان هذا هو الهمَّ الرئيسي. هناك اليوم أربع مؤسَّسات كريشنامورتي: هناك أمانة مؤسَّسة كريشنامورتي المحدودة في إنكلترا، مؤسسَّة كريشنامورتي في أمريكا[1]، مؤسَّسة كريشنامورتي الهند، ومؤسَّسة كريشنامورتي الإسبانية–الأمريكية... وهي، مادمتُ حيًّا، ترتِّب للمحاضرات والمناقشات الجماعية وحلقات البحث والتجمعات. إنها مسؤولة عن... تحرير الكتب وترجمتها ونشرها. وهي مسؤولة عن العناية بالأرشيف. وهي تنتج الأفلام والتسجيلات المسموعة والمرئية، وتسهر على توزيعها... هناك خمس مدارس في الهند، ومركز تربوي مع المدرسة الملحقة به في بروكوود بارك في إنكلترا، وسوف يكون هناك مركز تربوي ومدرسة في الولايات المتحدة في أوجاي. وهذه المدارس جميعًا تعمل تحت إشراف مؤسَّسات كريشنامورتي. وإنه لمن مسؤوليات المؤسَّسات أن تسهر على استمرار هذه المدارس، إنْ أمكن، بعد موتي. وإنه لمن المنوي قطعًا في هذه المدارس، التي ليست طائفية من أيِّ وجه... أن يعيش [التعاليم] كلا المعلِّم والطالب... والمدارس ذات أهمية لأن من شأنها أن تولِّد ذهنًا بشريًّا مختلفًا بالكلِّية. ليست للمؤسَّسات مرجعية بخصوص التعاليم. فالحقيقة تكمن في التعاليم نفسها. والمؤسَّسات سوف تسهر على أن يُحافَظ على هذه التعاليم سليمة غير محرَّفة، غير معرَّضة للفساد. ليس للمؤسَّسات سلطة أن تبعث بمروِّجين أو مفسِّرين للتعاليم. فلقد قضت الضرورةُ أن أشير مرارًا إلى أنه لا يوجد مندوب عنِّي سوف يواصل هذه التعاليم باسمي، الآن، أو في أيِّ وقت في المستقبل. والمؤسَّسات لن تجيز لأية روح مذهبية أن تتسلَّل إلى نشاطاتها. والمؤسَّسات لن توجِد أيَّ نوع أو مكان عبادة حول التعاليم أو الشخص. في هذا العالم الشواشي والمتحلِّل، من الأهمية بمكان كيفية حياة كلِّ شخص لهذه التعاليم في الحياة اليومية... وإنه لمن مسؤولية كلِّ كائن إنساني أن ينهض لتحوله الشخصي، الذي لا يتوقف على المعرفة أو الزمن.[2] فكيف، إذن، أراد كريشنامورتي لتعاليمه أن تُبلَّغ وتُنشَر فيما يتعدَّى توزيع الكتب والأشرطة عبر المدارس؟ – مع أنه تكلَّم بهذه القوة ضدَّ أية شَرْعَنة أو تنظيم أو ترويج لتعاليمه. في العام 1947، صاغ الأمر على هذا النحو: ... الترويج كذبة لأن مجرَّد التكرار ليس الحقيقة. ما يمكن لك أن تكرِّره هو كذبة. فالحقيقة لا تتكرَّر، لأن الحقيقة لا يمكن لها أن تُختبَر إلا اختبارًا مباشرًا: مجرَّد التكرار كذبة، لأن التكرار ينطوي على التقليد... ففي نظركَ، أمسى العالم أهم من الحقيقة. لذا فأنت واقع في شِراك المستوى اللفظي، وما تريد نَشْره هو الكلمة. وهذا يعني أنك سوف تلتقط ما أقوله في شبكة من الكلمات، وبهذا تتسبب في الفَصْل بين إنسان وآخر. ثم سوف تبتدع منظومة جديدة قائمة على كلمات كريشنامورتي التي سوف تنشرها – أنت المروِّج – بين مروِّجين آخرين، هم أيضًا عالقون في شِباك الكلمات – وبذلك ماذا تكون فعلت؟ مَن تكون قد ساعدت؟ لا، أيها السادة، ليست هذه هي الطريقة لنشر التعليم! إذن، فأنت تستطيع أن تنشر جزءًا ضئيلاً مما تكلَّمتُ عليه، لكنْ بأن تحياه وحسب. فعِبْر حياتك يمكن لك أن تبلِّغ تبليغًا عميقًا، وليس عِبْر الكلمات. الكلمات، أيها السادة، في نظر امرئ جِدِّي حصيف، ليس لها إلا القليل القليل من المعنى. لا تنطوي المصطلحات إلا على القليل القليل من المغزى حين تفتش عن الحقيقة فعلاً – الحقيقة في علاقة، وليس حقيقة مجرَّدة تتعلق بتقييم الأشياء أو الأفكار. إذا أردت أن تجد حقيقة تلك الأشياء لفظيًّا، فهذا ليس له إلا القليل القليل من الأهمية. لكن الكلمات تصير عظيمة الأهمية حين لا تفتش عن الحقيقة؛ إذ ذاك فإن الكلمة تحل محلَّ الشيء، والشيء، بالتالي، يوقِع بك... لذا، إذا كنت تريد أن تنشر هذه التعاليم عِشْها – وبحياتك سوف تنشرها، سوف تبلِّغها. وهذا أكثر حقيقية وجدوى من التكرار اللفظي؛ إذ إن التكرار محاكاة، والمحاكاة ليست إبداعًا. وعليك أنت كفرد أن تصحو على إشراطك، وتحرِّر نفسك بذلك، وبهذا تمنح المحبة للآخر.[3]
كريشنامورتي في السنين الأخيرة من حياته. بعد وفاة كريشنامورتي بثلاث سنين[4]، مازال العمل، كما رَسَمَ له، يتواصل بخطى حثيثة، مع أن على المؤسَّسة أن تبذل المزيد من الجهد لاستقطاب الهِبَات لتمويل العمل. وهذا العمل يتضمَّن الحفاظ على التعاليم ونشرها ودعم مدرسة أوك غروف [أوجاي، كاليفورنيا]. ومؤسَّستا كريشنامورتي في إنكلترا وأمريكا سوف تواصلان إصدار المحاضرات والمحاورات غير المنشورة سابقًا في كُتُب. وفي حين لن تكون هناك أشرطة فيديو إضافية، فإن فيلمًا جديدًا بعنوان كريشنامورتي: بذهن صامت قد صَدَرَ لتوِّه، متضمنًا مادة مصوَّرة جديدة، مستمَدة من الأفلام والأشرطة المسجَّلة في السنوات الأخيرة من حياة كريشنامورتي.[5] *** *** *** [1] مؤسَّسة كريشنامورتي في أمريكا هي واحدة من خمس مؤسَّسات مماثلة في أنحاء العالم تهتم بالحفاظ على التعاليم وبنشرها. للمزيد من المعلومات وللحصول على كاتالوغ بالكتب والأشرطة المرئية والسمعية أو على معلومات عن مدارس كريشنامورتي السبع حول العالم، يُرجى الكتابة إلى: Krishnamurti Foundation of America, P.O. BOX 1560, Ojai, California, 93023 USA. [2] بروكوود بارك، إنكلترا، 10 تموز 1973. [3] مدراس، الهند، 28 كانون الأول، 1947. [4] 1989، زمن كتابة المقال خصيصًا لـمعابر، حين كنَّا ننوي نشرها كمجلة ورقية، وحالت العقبة المالية دون ذلك. (المحرِّر) [5] نشير كذلك إلى وجود فيلم وثائقي آخر ممتاز عن حياة كريشنامورتي وفكره (من إخراج المخرج الهندي المرموق ج. أرافندان) بعنوان الرائي الذي يمشي وحده، وضعتْ نصَّه المرحومة بوبول جاياكار. (المحرِّر) |
|
|