الموسيقى عند العرب
سمير عنحوري
الغناء
أمر طبيعي عند الشعوب والأمم للتعبير عن مشاعر النفس والروح. فالعرب
قبل الإسلام وخاصة منهم من كان يعيش في صحاري الجزيرة العربية وهم أهل
ماشية وإبل وخيام، لم يعرفوا شيئًا من الفنون إلا الشعر يطربون تلاوته
دون ترنيم أو غناء. ثم ظهر فيهم "الحداء" يتغنوه في سَوْق إبلهم وفي
خطواتهم، ثم عمدوا إلى "ترنيم" الشعر وغنائه.
تطور الغناء فيما بعد حتى أصبح على ثلاثة ألحان أو أصوات، فشاع الغناء
والرقص في مدن العرب على ألحان الآلات الموسيقية المعروفة عندهم
وأشهرها الدفُّ ومنه المستدير والمربع، والمزمار على أبسط أنواعه. لم
يعرف العرب غيرها إلا بعد أن جاء الإسلام واستولى العرب على ممالك
الروم والفرس وتعرفوا على ما كانت تتمتع به هذه الممالك من اتساع أسباب
الحضارة والترف والرخاء. وكان المغنُّون من الفرس والروم قد دخلوا في
سلطان العرب وجاء بعضهم إلى الحجاز في جملة الأسرى والسبايا فأصبحوا من
موالي العرب، وحملوا معهم آلاتهم الموسيقية فغنُّوا بها ونالوا اعجاب
سامعيهم، خاصة بعد أن عملوا على تلحين أشعار العرب على الألحان
الفارسية أو الرومية.
كان الغناء في صدر الإسلام مكروهًا إن لم نقل محرَّمًا كما كانت عليه
الحال عند الديانات اليهودية والمسيحية في أزمنتها الأولى. واختلف
مشرِّعيِّ الإسلام والفقهاء الأولين في تحريمه وتحليله كلٍّه أو بعضه.
ويقال بالإجمال أن أهل الحجاز أجازوه وأهل العراق كرهوه، وحجَّة من
جرَّمه "أنه يسعر القلوب ويستفزُّ العقول ويستخفُّ الحليم ويبعث على
اللهو، ويحرِّض على الطرب وهو باطل من أصله".
لكن التطور الاجتماعي في الحجاز تغاضى وتسامح في هذا الأمر بعد أن زالت
الروعة الأولى التي أوحاها ظهور الإسلام، واتجه إلى ناحية تذوُّق
الجمال والترف وإلى ما اسماه العرب "الغناء المتقن أو الرقيق". فنبغ في
المدينة في أيام بني أمية طائفة من المغنين وجماعة من مهرة الموسيقيين
أتقنت هذه الصناعة وآلاتها اتقانًا حسنًا، فانتشر وتكاثر المغنون في
المملكة العربية لمَّا تولَّى الخلافة أصحاب اللهو والمجون.
كان الخليفة عثمان أول من اكتنز المال والتفت إلى الترف وتذوُّق رفاه
العيش. وكان الخليفة الأموي يزيد بن معاوية أول من أباح الغناء ونشَّط
أهله. ففي أيام حكمه (680-683 م) ظهر الغناء في مكَّة وانتشر في الحجاز
ولا سيما المدينة. ومن أكثر الخلفاء الأمويين رغبة في الغناء وبذلاً
للمغنين يزيد الثاني بن عبد الملك (720-724 م)، وكذلك ابنه الوليد
الثاني بن يزيد (743-744 م)، وهو أول من استجلب المغنين إلى الشام وكان
شاعرًا وصاحب شرابٍ ولهوٍ وتهتُّكٍ وخلاعة، فجعل يقيم الحفلات الكبرى
في بلاطه ومن ثم أصبح الغناء والشرب متآلفين في تاريخ الدولة
الإسلامية. ومن الخلفاء العباسيين الذين حذوا حذوهم المهدي والهادي
والرشيد والأمين والمأمون والواثق والمتوكل.
وكان أهمُّ من احترف الموسيقى والغناء من الجيل الأول في الحجاز طُوَيس
(الطاووس الصغير) 632-710 م، أول من غنّى بالمدينة فعُدَّ أبا الغناء
في الإسلام، وكان له عدد من التلامذة أشهرهم ابن سُرَيْج (624-726 م)
أحد المغنين الأربعة العظام في الإسلام وقد درس على سعيد ابن مسْجح وهو
مكيٌّ أسود، والفريض وهو الثاني من المغنين الأربعة المشهورين في هذا
العهد. أما المغنيان الآخران فهما ابن محرز (المتوفي حوالي 715 م)
ومعبد (المتوفي سنة 743 م) الذي نال حظوة في بلاط الخلفاء الأمويين
الوليد الأول ويزيد الثاني والوليد الثاني. وكان من المغنيات "القِيان"
جميلة المتوفاة نحو 720 م، تزعمت الفن في الجيل الأول وتتلمذ عليها
كثيرات في مكَّة، وكان من أبرز الذين كانوا يحضرون حفلاتها شاعر الحب
عمر بن أبي ربيعة. ومن تلميذاتها حبابة وسلَّامة محظيتا يزيد الثاني.
وكما أن استنكار أصحاب الشرع للموسيقى لم يؤثر في دمشق كذلك هو لم يؤثر
في بغداد. وقد أحضر الخليفة العباسي المهدي إليه صيَّاتًا المكيّ
(739-785 م) صاحب الصوت الشجيِّ، ثم أحضر أيضًا تلميذه ابراهيم الموصلي
(724-804 م) الذي غدا بعد استاذه إمام الأصول في الموسيقى الكلاسيكية
عند العرب. ثم جاء الرشيد (786-809 م) فأخذ يرعى الموسيقى والغناء كما
رعى العلم والفن، فأصبح بلاطه مقصدًا لأرباب الموسيقى، واستلحق ابراهيم
به وكذلك منافسه ودونه مرتبةً ابن جامع القرشي، ومخارق (المتوفي 851 م)
وهو تلميذ ابراهيم الموصلي.
وكان من المغنين الذين رعاهم المأمون والمتوكل اسحق بن ابراهيم الموصلي
(767-850 م) عميد أهل الفن الموسيقي في عصره، وقد قيل فيه أنه "أعظم من
أنجبهم الإسلام في هذا الفن". أما الخليفة الواثق (842-847 م) فكان
يضرب على العود ببراعة فكان بذلك أول موسيقيٍّ بين الخلفاء. ومن بعده
قام المنتصر والمعتزُّ فأظهرا مقدرة في الشعر والموسيقى، إلا أن أبرعهم
في الموسيقى هو الخليفة المعتمد (870-892 م).
وقد نُقلت كتب يونانية عديدة إلى العربية في العصر العباسي بعضها
لأرسطو تبحث في الموسيقى النظرية، نقلها إلى العربية الطبيب المسيحي
النسطوري الشهير حنين بن اسحق (809-873 م)، والبعض الآخر لجالينوس
واقليدس ونيقوماكس ابن أرسطو. وقد تبع المدرسة الاغريقية عددًا من رجال
الفلسفة والطب ومنهم الفيلسوف الكِنْدي الذي زها في الشطر الثاني من
القرن التاسع، وتظهر في كتبه أول استعمال صريح لعلامات الموسيقى عند
العرب. وكذلك أيضًا الرازي (865-925 م) الذي وضع هو الآخر كتابًا في
علم الموسيقى النظرية. أما الفارابي (المتوفي سنة 950 م) فهو أعظم من
كتب في أصول الموسيقى، وابن سينا (المتوفي سنة 1037 م) الذي كتب في
الشفاء بحثًا في الموسيقى نُقل إلى اللاتينية. أما الغزالي فقد كان
لدفاعه عن "السماع" الأثر الأكبر فيما بلغته الموسيقى من شأنٍ في الطرق
الصوفية.
الموسيقى والغناء عند عرب
الأندلس:
نشأت في الأندلس أوزان جديدة في الشعر أكسبته ميلاً لتذوق الأغاني
الغرامية التي تتجلى فيها عواطف الحب والمغامرة والبطولة. وظهر في
مستهل القرن الحادي عشر الموشح الشعبي (من الوشاح الذي تلبسه المرأة)
وتبعه الزجل، وقد أُستعين بكلاهما للغناء فأصبح الارتباط بين الموسيقى
والغناء والشعر متينًا منذ ذلك الزمن. وقد اشتهر في الطريقة الزجلية
ورفع مقامها أبو بكر بن قزمان القرطبي (المتوفي 1160 م). أما فنُّ
التوشيح فكان أول اختراعه في الأندلس ثم انتقل منها إلى شمال أفريقيا
والمشرق العربي. ومن أهم المنشدين في هذا المجال الأعمى أبو العباس
الطليطليُّ (المتوفي 1126 م)، وابراهيم بن سهل (المتوفي حوالي 1260 م)
شاعر اشبيلية، ومحمد بن يوسف أبو حيان (1256-1344 م) الغرناطي البربري.
استولى سلطان الموسيقى والألحان على قلوب أهل الأندلس وكانوا على
العموم أكثر ميلاً إلى فن السماع والطرب من اخوانهم الشرقيين، فكان
زرياب مؤسس فن الموسيقى الاسبانية وهو تلميذ مدرسة الموصلي البغدادية.
وقد نزل زرياب قرطبة عام 822 م وكان واسع المعرفة بالموسيقى والأصوات
التي لا يعرفها أحد غيره، إضافة إلى ما كان يتمتع به من جاذبية ولطف
وثقافة وأدب فأصبح بفضل ذلك مقربًا من عبد الرحمن الثاني (822-852 م)
وهو من بناة الوحدة الأموية الأندلسية ومن رعاة الموسيقى وعلم الفلك.
كان زرياب واحدًا من رجال الموسيقى الذين لمعوا في بلاط هارون الرشيد
وأبنائه، وكان نبوغه في الموسيقى والغناء والعلوم والشعر سببًا في أن
يحسده أستاذه الموسيقي المشهور اسحق الموصلي وينقم عليه، فاضطر إلى أن
يهرب إلى اسبانيا حيث استقبله عبد الرحمن بحفاوةٍ بالغةٍ وشمله بصداقته
حتى فاقت منزلته جميع أهل الموسيقى في البلاد حيث أنشأ مدرسة غدت
معهدًا كبيرًا للموسيقى الأندلسية. ويتلو زرياب مرتبة أبو القاسم عباس
بن فرناس (المتوفي 888 م) وله الفضل الأكبر في ادخال الموسيقى الشرقية
إلى اسبانيا وتعميمها، وهو أول رجل في تاريخ العرب حاول الطيران بطريقة
علمية. على أن الموسيقى النظرية والتطبيقية التي أدخلها زرياب وابن
فرناس كانت فارسية وعربية وقد حلَّ محلها لاحقًا أصول الموسيقى
اليونانية والفيثاغورية بينما كانت الكتب اليونانية التي تبحث في هذا
الموضوع تُنقل إلى العربية. ولم يأتِ آخر القرن الحادي عشر حتى كانت
الموسيقى الأندلسية قد كسفت شهرة بغداد في هذا المجال. وفي هذه الحقبة
من الزمن أصبحت اشبيلية تحت حكم بني عبَّاد مركزًا للموسيقى والغناء،
وكان المعتمد العبادي (1068-1091 م) شاعرًا يُجيد الانشاد والضرب على
العود. كما اشتهرت اشبيليا بصناعة الآلات الموسيقية وتصديرها وخاصة
منها الآلات التي نقلها وأدخلها العرب إلى أوروبا وهي العود والرباب
والقيثارة والبوق والطبل والقانون.
عاصر الفاطميون (909-1071 م) الدولة الأموية في الأندلس وكانوا أولاً
في تونس ثم في مصر انتزعها قائدهم جوهر الصقلي سنة 969 م من أيدي
أصحابها الأخشيديين وكانت عاصمتهم الفسطاط، وخطط مباشرة لبناء عاصمة
جديدة سمَّاها القاهرة أصبحت عاصمة الفاطميين سنة 973 م وكان أول من
وُليَّ الخلافة الفاطمية في مصر أبي منصور نزار العزيز (975-996 م) وهو
خامس الخلفاء الفاطميين، وقد بلغت في عهده سلطة الفاطميين أوجها فنافست
وفاقت خلافة بغداد وأصبحت الدولة الإسلامية الكبرى في شرقي المتوسط.
كان العزيز شاعرًا محبًا للعلوم وعاش في القاهرة حياة ترف وبذخ فابتنى
القصور والجوامع وكان أهمها الجامع الأزهر الكبير، ويمكن اعتبار الحقبة
الفاطمية الشيعية في تاريخ مصر الثقافي عصرًا عربيًا فارسيًا. أما
الخليفة المستنصر (1035-1094 م) فكان أغنى الخلفاء المصريين على
الإطلاق وعاش عيشة بذخ ومجون. وقد تمتعت القاهرة في عهد الفاطميين
بحياة موسيقية مزدهرة انتشرت حتى جزيرة صقلية، وتواجد فيها أعداد كبيرة
من الموسيقيين والمغنين لإحياء حفلات اتَّصفت بالترف والفخامة وبموسيقى
وألحان ذات طابع بغدادي يتضمن بعض عناصر موسيقية فارسية.
لقد ذكرنا سابقًا رفض فقهاء الإسلام للموسيقى وأدواتها وخاصة تسخيرها
للشؤون الدينية، كما رأينا أنهم تسامحوا بعض الشيء في هذا الأمر
وتغاضوا عنه بسبب انتشار فن الموسيقى والغناء في بلاط الخلفاء الأمويين
أولاً ثم عند الخلفاء العباسيين والأندلسيين والفاطميين فيما بعد. ثم
ذهب العثمانيون أبعد من ذلك عندما أسسوا في بلاطهم نفسه معهدًا
للموسيقى ولموسيقيي السراي أفرز أنواعًا موسيقية جديدة في عهد السلطان
مراد الرابع (1623-1640 م) الذي كان هو نفسه موسيقيًا مبدعًا، وقد
أُطلق على هذا النوع الموسيقي الجديد وما تبعه فيما بعد من ألحان اسم
"الموسيقى التركية الحديثة" التي تأثرت نوعًا ما بالموسيقى الغربية،
فأدخلت بعض الأدوات الموسيقية كالكمان والبيانو وموسيقى الأوبرا
والموسيقى العسكرية.
وكان السبب الآخر الذي حدَّ من عدائية التيار الإسلامي المناهض
للموسيقى هو انتشار الصوفية والتصوُّف الروحاني في بلاد الإسلام منذ
القرن التاسع الذي كان في بدئه مقصورًا على الحياة الزهدية القائمة على
الاعتزال والتأمل الفردي إلى الله مصحوبًا بالشوق إلى الاتحاد الشخصي
بالحقيقة الدينية والشعور المباشر بالحضرة الإلهية. لكن "الطرق"
الصوفية المنظَّمة بدأت بالظهور في أواخر القرن الثاني عشر وكانت أولها
القادرية ثم الرفاعية، ثم ظهرت الطريقة المولوية في القرن الثالث عشر
وكان مؤسسها الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي في مدينة قونيا في
الأناضول الذي أقام للسماع "الموسيقى" والرقص مكانًا هامًا في مراسم
طريقته التي ظلت متَّبعة في الدولة العثمانية ويتمتع رئيسها بشرف تقليد
السلطان الجديد بسيف بني عثمان. ولا بدَّ أن نشير بأن الطرق الصوفية
قدَّمت للموسيقى في دار الإسلام بُعدًا روحيًا هامًا ازدهر في العصر
العثماني وانتشر في أفريقيا الشمالية، وكان لها الفضل في عدم اندثار
الموسيقى الأندلسية الكلاسيكية هناك.
لكن الموسيقى العربية التقليدية عادت من جديد وانتشرت في الولايات
العربية التابعة للحكم العثماني متمسكةً بخصوصيتها المحلية حتى نهاية
زمن السيطرة العثمانية، وبعيدًا نوعًا ما عن الموسيقى السائدة في مراكز
الحكم بين النخب التركية المثقفة. كما ظهرت قي القرن التاسع عشر بعض
التيارات الموسيقية التجديدية في العالم العربي ومنها بما سميَّ
"بالمقام العراقي" في بغداد والموصل يمكن تصنيفه فارسيُّ الأسلوب. كما
أصبحت مدينة حلب مركزًا هامًا للأداء الموسيقي العربي التقليدي، وبقيت
مصر متصلة بشكل وثيق بالأسلوب الموسيقي السوري في بلاد الشام نتج عنه
نوع موسيقي محلي ومركَّب أُطلق عليه اسم "الوصلة" يبدأ "بالتنغيم"
وينتهي "بالسمعيِّ" يتخلله أنواع من الغناء من بينها الموشَّح.
اشتهرت القاهرة منذ بدايات القرن العشرين بحياتها الأدبية والفنية
والموسيقية فكثُرت فيها مجالس الغناء والطرب والحفلات الموسيقية
يؤدِّيها في العشرينات من هذا العصر مشاهير الموسيقيين والمغنين في
المسارح والقصور أو في دار الأوبرا. كما تواجد فيها "معهد الموسيقى
العربية" لتدريس التدوين والغناء والعزف، فازدحمت القاهرة بالعازفين
والمغنين يتسابقون ويتصارعون على قمة التلحين والغناء. وكان من أشهر
الملحنين آنذاك زكريا أحمد ورياض السنباطي وأحمد شريف وكمال الطويل
ومحمد الموجي وبليغ حمدي ومحمد سلطان. ومن المغنيات المطربات ألمظ
ومنيرة المهدية ونادرة الشامية واسمها الحقيقي (أناسي زخاريان) وفتحية
أحمد، ثم لحقت بهنَّ أم كلثوم (كوكب الشرق) التي نمت شهرتها في ظل هذا
الصراع وقدَّم لها الشاعر أحمد رامي عددًا من أجمل أغانيها. ومن
المغنين عبده الحامولي وسيد درويش ومحمد عثمان وصالح عبد الحيِّ والشيخ
أمين حسنين ومحمد عبد المطلب والفنان الشاب محمد عبد الوهاب الذي ساعده
الشاعر الكبير أحمد شوقي أن يتربَّع على قمة الغناء منذ منتصف
العشرينات.
كانت فترة الثلاثينات والأربعينات من أخصب فترات التلحين والغناء في
مصر بسبب انتشار المذياع "الراديو" والسينما وشركات انتاج الاسطوانات
"أوديون" و"بيضافون" و"كَيْروفون". وظهر فيها مطربات شهيرات منهنّ لور
دكَّاش (لبنانية الأصل) ورجاء عبده (اعتدال جورج عبد المسيح) وليلى
مراد (ليليان زكي مراد موردخاي) والسورية أسمهان (أمال الأطرش)
واللبنانيتان نور الهدى (الكسندرا بغدان) وصباح (جانيت فغالي). ومغنين
كبار ومنهم عبده السروجي وعبد الغني السيد والسوري فريد الأطرش الذي
نال شهرة واسعة في تلحين الأغنية الشعبية والأغنية الرومانسية
والأوبريت. كما ظهرت في مصر راقصات شهيرات منهنَّ اللبنانية بديعة
مصابني وتحية كاريوكا (بدوية محمد علي النيداني).
أقبل محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش على الاقتباس في أعمالهما الموسيقية
والغنائية من الموسيقى الغربية العالمية رغبة منهما في التجديد مع
إدخال آلات موسيقية هجينة إلى الفرقة الموسيقية التقليدية، بينما اتجه
الملحن رياض السنباطي إلى حفظ التراث الموسيقي العربي الأصيل والإبداع
به بما يفي بحاجات العصر دون الخروج على قوالبه الفنية ودون ابتذال
وذلك في سبيل ازدهار وارتفاع الفن الموسيقي والغنائي في جميع أشكاله
إلى أعلى المستويات.
كما برز في مصر خلال الخمسينات والستينات عددًا من كبار الملحنين
والمغنين من أهمهم الملحن والمغني محمد فوزي وكارم محمود وعبد الحليم
حافظ (العندليب الأسمر) ومحرَّم فؤاد. ومن المغنيات الشهيرات نجاة
الصغيرة وفايزة أحمد وكلتاهما سوريتا الأصل وهدى سلطان واللبنانية سعاد
محمد. ومن الراقصات الشهيرات سامية جمال وثريا حلمي ونجوى فؤاد وسهير
زكي ونعيمة عاكف. وقد لحق بهؤلاء في السبعينات والثمانينات المغنيات
وردة الجزائرية والمغربية سميرة سعيد والسورية ميادة حناوي. وقد ذاعت
شهرتهم جميعًا بسبب ظهور التلفزيون في الأقطار العربية عام 1960.
كان أهل الشام يتمتعون بذوق موسيقي رفيع ويقيمون مجالس السماع والطرب
في بيوتهم أو في أماكن عامة عندما انتشرت المقاهي والمسارح في المدن
خلال القرن التاسع عشر، وكانت الموسيقى العربية التقليدية تعتمد في
أدائها على "التخت" الشرقي المؤلف من أربعة موسيقيين يعزفون على العود
والقانون والدف والناي. أما الرباب الذي كان يضاف أحيانًا على التخت
فقد استبدل في المدن بالكمان منذ عام 1850. وكان من أوائل الملحنين وفي
أواخر القرن التاسع عشر أبو خليل القباني (1835- 1904 م) الذي يعتبر
أيضًا رائد الفن المسرحي.
انتشر التعليم الخاص والسماعي للموسيقى والعزف على العود والقانون
والكمان بين العائلات البورجوازية نساءً ورجالاً منذ منتصف القرن
التاسع عشر ولحق بهم البيانو، وكان العود "سلطان الطرب" يتواجد بشكل
خاص في كثير من البيوت ودكاكين الحلاقين. لم تكن مهنة العازف والمغني
في الأماكن العامة معتبرة اجتماعيًا حتى منتصف القرن العشرين، ثم تغير
الأمر بسبب تطور الفكر والثقافة والتعليم فنال الموسيقيون والفنانون
حقَّهم واعتبارهم في المجتمع العربي مع تأسيس معاهد رسمية لتعليم
الموسيقى على مختلف فنونها وأشكالها. كما تأسست دار للأوبرا في دمشق في
أواخر القرن الماضي.
اشتهرت صناعة العود في دمشق منذ زمن طويل ولا يعرف عنها إلا القليل.
لكن المعروف هو أن عائلة "نحات" المؤلفة من أربعة أشقاء وهم حنَّا
وأنطون وروفان وعبدو اشتهروا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر
بصنع الأعواد على مختلف أحجامها وأشكالها تحت اسم "نحات اخوان" وازدهرت
صناعتهم هذه في جميع الأقطار العربية وعُرفت بجمالها ودقة صنعتها وخاصة
ابتكارهم بصنع عودٍ بشكل إجاصة قلَّده جميع الصانعين فيما بعد. وبقي
منهم الأخوين توفيق وجرجي وهما أبناء حنّا يصنعان الأعواد في حيِّ
القيمرية رقم 42 حتى منتصف القرن العشرين مع شريك لهم اسمه فؤاد عبدلله
سلكا (وقد اقنيت حتى زمن قصير عودًا صُنع سنة 1956 يحمل نمرة "رقم"
1955).
عرفت بلاد الشام منذ الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين نشاطًا
موسيقيًا محدودًا بالمقارنة مع مصر، انتشر بفضل الاسطوانات والراديو
وكان من أشهر ملحني ومغنيي تلك الفترة الملحن نجيب السراج
والمونولوجسيت سلامة الأغواني والمغني رفيق شكري ومطربة سورية الأولى
ماري جبران "مطربة الكبراء والعظماء في دمشق وحلب والاسكندرية الذين
كانوا يرمون طرابيشهم في الهواء نشوى وطربًا واعجابًا بالصوت الجميل
والشكل الحسن" (من مجلة "أيام الشام" عدد 6 سنة 2005)، وزكية حمدان من
مواليد حلب والتي لُقبت "بأم كلثوم الشام". ثم ظهرت في الخمسينات وما
بعدها المغنية سميرة توفيق والمغنين محمد جمال وزوجته طروب، وفهد بلان
وجورج وسوف وشادي جميل والملحن والموسيقي صفوان بهلوان. وفي حلب
الملحنين عمر البطش وبكري الكردي والمغنيين صبري مدلل وصباح فخري وعازف
العود محمد قدري دلال والمغنية ميادة الحناوي وكان أكثرهم يلحن أو يغني
الألحان والموشحات العربية الأصيلة.
أما في لبنان فقد أنتجت الأربعينات والخمسينات المغني الشعبي فيلمون
وهبي والملحنين الأخوين فليفل اللذين لحنا النشيد الوطني اللبناني
والسوري والمغني الكبير وديع الصافي والمغني نصري شمس الدين والملحن
والمغني محمد سلمان وزوجته المغنية نجاح سلام، والمغنية والممثلة صباح
(جانيت فغالي) والملحن زكي ناصيف والملحن والمغني ملحم بركات وكذلك
وليد توفيق وغسان صليبا، ومن المغنيات ماجدة الرومي ونجوى كرم...
ولا بد من الإشارة بشكل خاص للموسيقيين الكبيرين الأخوين عاصي ومنصور
الرحباني والمغنية الكبيرة فيروز (نهاد حداد، زوجة عاصي الرحباني)، وقد
شكَّلوا معًا ولفترة طويلة "ثلاثية" فريدة ومميزة في تاريخ الفن
الموسيقي العربي الحديث أُطلق عليها اسم "المدرسة الرحبانية" التي برعت
أيضًا في تقديم مسرحيات غنائية رائعة مستندة على التقنيات الحديثة في
الإضاءة والصوت والتوزيع الموسيقي أخلصت للموسيقى التقليدية مع تطوير
في المقدمات الموسيقية التي تمهد وتُغْني وتلتحم ببراعة متناهية مع
الأداء الغنائي المسرحي.
لم يقتصر فن التلحين والغناء في القرن العشرين على منطقة بلاد الشام بل
تعداها إلى العراق والجزيرة العربية وبلاد المغرب العربي والسودان
فأنتجت هذه البلدان موسيقى تتصف بأسلوب وخصوصية متميزة تستند على
التراث العربي التقليدي فأصبح لها جمهور كبير من المستمعين تخاطبهم
وتتفاعل معهم مباشرة عن طريق الإذاعة والتلفزيون مضيفة إلى هذا التراث
رونقًا جديدًا يدعم استمراره وانتشاره في الوطن العربي. فظهر في العراق
منذ الأربعينات المغني الكبير ناظم الغزالي وفي السبعينات سعدون جابر
ومن بعده الملحن والمغني كاظم الساهر. كما ظهر في الجزيرة العربية
المغني السعودي محمد عبده والملحن والمغني طلال مدَّاح وغيرهما، وفي
الكويت المغنيين نبيل شعيل وعبدلله رويشد...
أما في المغرب العربي فقد اشتهر في تونس لطفي بوشناق والمغنية لطيفة،
وفي المغرب المغنية عزيزة جلال وسميرة سعيد، وكان هناك عدد كبير من
الموسيقيين والمغنيين الذين التزموا مع بعض التجديد بألحان الموسيقى
الأندلسية وهم فرقة "الخمسة والخمسون" التي أسسها الملك محمد الخامس.
ومن المغنين الذين اشتهروا أيضًا في المغرب أحمد البيضاوي وعبد الوهاب
أكومي وعبد السلام الرفاعي والأخوين عباس والغالي الخياطي. وفي الجزائر
المغنية وردة التي عملت واشتهرت أيضًا في مصر.
وتجدر الإشارة بأن حركة موسيقية حديثة ظهرت في المغرب العربي منذ
الثمانيات تضم عددًا من الملحنين والمغنين الشباب المبدعين الذين
مزجوا بين الموسيقى التقليدية العربية والتراث الموسيقي البربري
والأمازيغي مع مؤثرات من الموسيقى الغنائية الغربية الحديثة وقد سمي
هذا النمط بالـ "الراي"، وقد لاقى نجاحًا كبيرًا في أوروبا وفي الوطن
العربي وكان من أشهر مغني "الراي": الشاب مامي والشاب خالد والشاب طه
وغيرهم...
وأخيرًا لا بدَّ أن نذكر أيضًا الموسيقى السودانية التي تتمتع هي
الأخرى بألحان وموسيقى نوبية وصوفية مميزة تعتمد على آلات موسيقية
وترية وإيقاعية كالطبول النحاسية وكذلك الدفوف والمزامير وغيرها. لكن
الموسيقى السودانية تكاد تكون معدومة الانتشار في الشرق الأوسط العربي
مما يصعب التكلُّم عنها وعن المغنين والمغنيات السودانيين وهم كثر بشكل
أوسع بسبب نقص المراجع في هذا الخصوص.
اللوحات المرافقة من رسم سمير عنحوري
20-2-2020
*** *** ***
المراجع
§
العرب قبل الإسلام وتاريخ التمدن الإسلامي، جرجي زيدان.
§
تاريخ العرب، فيليب حتّي.
§
السنباطي وجيل العمالقة، صميم الشريف، 1988.
§
“ Lieux d’Islam , Cultes et Cultures” (1996 : La musique savante
musulmane et son développement, texte écrit par Eckhard Neubaum)
§
“ Damas, Miroir brisé d’un Orient Arabe” (1993 : Luth, luthistes et
luthiers, texte écrit par Nabil Allao et Anne-Marie Bianquis)