نسائم عرفانية
حسن أبو طاهر
يتحدث
شمس الدين التبريزي في كتابه المقالات (تمت ترجمته إلى العربية
عام 2018 تحت عنوان أنا والرومي)[1]
عن "علم القال" أو "علم الرسوم"، أي المعرفة النظرية "الأرسطية
المشائية غالبًا" عند الفقهاء والفلاسفة النسقيين، وكيف أنهم يخيفون
الناس من الاقتراب منه بإيهامهم أنهم يحوزون شيئًا لا سبيل لغيرهم من
الدنو منه وإدراك مراميه، ويتقصدون تقديمه بلغة مبهمة يكتنفها الغموض
ليضمن لهم ذلك البقاء في موقع السلطة المعرفية (إنهم يثيرون الغبار، ثم
يشكون من عدم وضوح الرؤية، كما يقول جورج باركلي). فقد حبسه العلماء
والفقهاء داخل سجن من حديد وأحكموا إغلاقه (بمجموعة من المصطلحات
المعقدة) في سبيل إخافة الناس منه. لكن الحقيقة غير ذلك، فهذا العلم
الرسمي ليس سوى دودة يلُّفها تصور تخيًلي خادع، تضمحل أمام سطوع
المعرفة الحقة "المعرفة الروحية الذوقية" وتتلاشى في لحظة. يقول:
"رأيت جمعًا غفيرًا يرتعد من الخوف قد بادر بالهروب. اقتربت. حذروني..
لعل الذعر يتملكني.. وقالوا: إن ثعبانًا ضخمًا قد ظهر، يلتهم أي شيء في
طريقه.
لم أكن خائفًا. اقتربت أكثر. رأيت بابًا من حديد. بابًا ضخمًا يصعب
وصفه أُحكم إغلاقه بقفل ضخم. قيل لي: "إنه في الداخل، ذلك الثعبان ذو
الرؤوس السبعة! احذر! لا تقترب من هذا الباب!".
أثار الكلام غضبي وفضول، فكسرت المزلاج... ثم دخلت. لم أر سوی دودة.
تقدمت خطوة، ثم ضغطت عليها، سحقتها. أرديتها قتيلة!".
*
لا يمكنني قول الحقيقة
إذا بدأت بالصدق يطردوني
وإن قلت الحقيقة كاملة، سيطردني جميع أهل المدينة
فدعني أقل لك أمرًا:
"هؤلاء الناس يفرحون بالنفاق، ويتضايقون من الحقيقة"
رأيت أحد المساكين وأخبرته: "أنت رجل عظيم، وفريد عصرك". فابتهج، وأخذ
بيدي قائلاً:" اشتقت إليك، وقد قصرت في حقك"، في حين أنني في العام
الماضي، قلت له الحقيقة، فانقلب ضدي وأصبح عدوي. فلا غرابة إن كنت تريد
الحياة بسعادة مع الناس عليك أن تعيش بنفاق معهم، فإن شرعت بقول الحق،
فعليك باللجوء إلى الجبال والصحارى.
***
2
بينما كان العاقلُ يفكِّرُ بصنعِ جسرٍ لعُبورِ النهر.. عبر المجنونُ
النهرَ حافيًا. [سایر اردوبادی[2]]
تعليق:
في كثير من الحالات يتطلب الأمر منا قفزة في الظلام للوصول إلى النور،
وفقًا لكيركيجارد. كما أن أرجُل العقل الاستدلالي من خشب لا يقطع
الطريق إلا بشق النفس، حينما يكون العقل الشهودي (الحدسي) قد طوى
المسافة بلمح البصر.
***
3
عند السّحَر، قال البلبل للوردة التي تفتحت للتو: "أقلي ما أنت عليه من
الغنج والدلال، فما أكثر الورود التي تفتحت مثلك في هذا البستان!".
فابتسمت الوردة وأجابت: "لم أتضايق من كلام الحق الذي قلته، ولكن لا
يوجد عاشق يقول كلامًا قاسيًا هكذا لمعشوقه." [حافظ الشيرازي]
تعليق:
إن قانون الذوق يفترض ألا نتكلم الحقيقة في بعض الأحيان.
***
4
يروي السهروردي صاحب حكمة الإشراق أنه رأى فيما يرى النائم
"غياث
النفوس وإمام الحكمة "أرسطو"، وأخذ يثني على أستاذه أفلاطون، فسأله
السهروردي:
-
هل وصل من فلاسفة الإسلام إليه أحد؟
-
فقال: لا، ولا إلى جزء من ألف جزء من رتبته.
ثم ذكر السهروردي له الفاربي وابن سينا وسواهم... فلم يلتفت أرسطو
إليهم، ومن ثم ذكر له أبايزيد البسطامي وسهل التستري وأمثالهما، فكأنه
"أي أرسطو" استبشر وقال: أولئك هم الفلاسفة والحكماء حقًا، ما وقفوا
عند العلم الرسمي، بل تجاوزوه إلى العلم الحضوري.. فتحركوا عما تحركنا،
ونطقوا بما نطقنا.
من كتاب حكمة الإشراق
***
5
الكفر والإسلام والعشق في رباعيات "أبو سعيد أبو الخير":
ولد أبو سعيد في منتصف القرن الرابع الهجري، ويعتبر من أشهر متصوفة
نيسابور، وأول من وضع قواعد الحياة الصوفية. وكانت بينه وبين ابن سينا
مراسلات. جاء في كتاب "أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد" من
تأليف أحد أحفاده واسمه محمد بن المنور، أن ابن سينا التقى بالشيخ أبي
سعيد وبقيا ثلاثة أيام يتباحثان في خلوة من الناس، وعندما غادر ابن
سينا سأله من كان معه: كيف وجدت الشيخ أبا سعيد؟ قال: إنه يرى ما
نعرفه، وحينما سألوا الشيخ أبا سعيد، أجاب: إنه يعرف ما نراه. ولعل هذا اللقاء وهذه
الأجوبة تذكرنا بلقاء محي الدين بن عربي مع ابن رشد، حينما سأله: كيف
وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه النظر؟ فأجابه نعم
ولا..
ولأبي سعيد رباعيات معروفة، لم تترجم إلى العربية حسب ما أعلم. هنا
بعضها مما وقع اختياري عليه للترجمة نثرًا:
ذهبت إلى كنائس المسيحيين واليهود
فوجدتهم مشغولين بذكرك بين متكلِّم ومستمع
وعلى أمل وصالك يمَّمتُ شطر المعبد الوثني
فوجدت الأصنام يهمهمون بذكرك.
*
في طريق عشقك أحيانًا يقولون عني عابد صنم
وأحيانًا عربيد وسكّير وملازم للحانات
يقولون كل ذلك بغية تحطيم معنوياتي
ولكني سعيد بأنهم وصفوني كما أنا عليه فعلاً.
*
يقولون بأنه في يوم الحشر تتم محاسبة الناس ومساءلتهم
وذلك الحبيب العزيز سيغدو غاضبًا
لا يصدر من الخير المحض سوى الخير والإحسان
افرح لأن العاقبة ستكون بخير.
*
إلى أن تندثر المدرسة[3]
والمئذنة
فلن ينتظم عمل هذا الدرويش (=الصوفي)
طالما لم يصبح الإيمان كفرًا والكفر ايمانًا
فلن يكون العبد مسلمًا حقيقيًا.
*
يا رب ماذا سيحصل لو أنقذتني من الحرمان؟
ماذا سيحصل لو أخذت بيدي إلى طريق العرفان؟
بكرمك جعلتَ الوثني مسلمًا
ماذا سيحصل لو أرجعت المسلم وثنيًا مرة أخرى؟
*
ماذا سيفعل القلب إذا لم يسر في طريق عشقه؟
ماذا ستفعل الروح إذا لم تطلب وصاله؟
في تلك اللحظة التي انعكس شعاع الشمس على المرآة
ماذا ستفعل المرآة إذا لم تقل أنا الشمس[4]؟
*
طالما لم تندم على وجودك (المادي)
فلن تصبح رأس حلقة العارفين والسكارى
طالما لم تبدُ كافرًا في نظر الناس
فلن تصبح مسلمًا في مذهب العاشقين.
*
في تلك اللحظة التي هزت مسامعي ولولة عشقك...
نسيت العقل والفكر والذكاء
في اللحظة التي حفظت فيها صفحة واحدة من دفتر عشقك
نسيت ثلاثمئة صفحة من العلم.
*
يطلق الصوفي يديه مهتزًا عند السماع
حتى يُطفئ بهذه الحيلة نيران القلب
يعرف العاقل أن الداية تهز مهد الطفل من أجل أن يقرَّ ويسكن.
*
لقد بقيت أسرار الوجود خامًا لم تمسسها يد
ذلك الجوهر الشريف لم يثقبه أحد...
جاء كل واحد وقال شيئًا ما بالاعتماد على الدليل العقلي
وتلك المسألة التي هي الأساس لم يتفوه بها أحد.
*** *** ***
[2]
من شعراء إيران في القرن 17.