نقدُ نقدِ أنطون سعادة للفلسفة الشخصانية عند نيكولاي برديايف
فادي أبو ديب
-1-
في معرض ردِّه على المسؤول السابق في الحزب السوري القومي الاجتماعي
فايز صايغ، يتطرَّق المنظِّر والمفكِّر السوريُّ (اللبناني) ومؤسس
الحزب المذكور أنطون سعادة (1904-1949) إلى الفلسفة الوجودية عند
الفيلسوف الروسيِّ نيكولاي برديايف (1874-1948). وبحسب سعادة فإنَّ
دافعه إلى تناول هذا الموضوع هو محاربة الفلسفة "الأنانية" و"الفوضوية"
التي بدأ صايغ بترويجها في صفوف الحزب، مصنِّفًا إياها أفكارًا هدَّامة
للقومية والأمة. ولا يفوت سعادة أن يؤكِّد على أن أيَّ تحليل شامل لهذا
المذهب، ممثلاً ببرديايف، سيتطلَّب قراءة جميع كتب الفيلسوف المذكور،
ولكنه يكتفي ببعض المراجعات من الكتاب الذي يعتمد عليه صايغ في دعواه
الوجودية أو "الكيانية"، وهو كتاب "عبودية الإنسان وحريته" أو كما في
ترجمته الإنكليزية "العبودية والحرية"، والصادر في لندن عام 1944.
وهكذا يصرِّح سعادة في مستهلِّ مقاله المعنون "مدرسة الأنانية ومحبة
الذات تعاليمها الفوضوية الغريبة"، والصادر عام 1947، بأنَّه "لو...
كان لنا وقت وكان موضوع فايز صايغ يستحق كل هذا العناء لعمدنا إلى
قراءة كل كتب برديايف التي جمعها فايز صايغ وجعلها مع كتب أخرى زاده
للكتابة، ولكننا سنكتفي بنقاط ارتكاز لمذهب الشخصية الفردية الأنانية
الفوضوية من كتاب برديايف المذكور، وهي النقاط التي تسرَّبت إلى أوساط
القوميين الاجتماعيين عن طريق عمدة الثقافة وعمدة الإذاعة اللتين
تولاهما فايز صايغ، بالاتفاق مع نعمة ثابت على خيانة الزعيم والقضية
القومية الاجتماعية."[1]
ولكن نقاط الارتكاز هذه التي اعتمدها سعادة في الردِّ على صايغ تبيِّن
اجتزاءات عديدة وخطيرة لفكر برديايف حول هذه المسألة، وهي فكرة الشخص
ومذهب الشخصانية، مع الأخذ بعين الاعتبار احتمال عدم توفر أو عدم ترجمة
بعض الكتب الأخرى من الروسية إلى الإنكليزية أو الألمانية في ذلك
الوقت، وإقرار سعادة بأنَّه لا يبتغي تقديم تحليل شامل لتفاصيل المذهب
الوجودي: "ليس ما نريد أن نقوله الآن دراسة تحليلية كاملة لجميع تفاصيل
مذهب الأنانية الفوضوية، بل هو إظهار نقاط ارتكاز لها تدل دلالة واضحة
على اتجاهها الفوضوي الأناني الهدَّام للأمة والقومية، وعلى مصدر الفكر
الذي نقله إلى العربية فايز صايغ، وإذاعه [الخطأ من المصدر- (أبو ديب)]
في أوساط الحزب القومي الاجتماعي، كما لو كان يذيع تعليمًا خاصًّا به."[2]
والذي يدعوه في مناسبة سابقة بالمذهب الكيركيغاردي البرديايفي.[3]
يحدِّد سعادة المرتكزات الخمسة لمذهب برديايف كما يلي:
"المرتكز الأول لمذهب الفردية: إنَّ نقطة الارتكاز الأولى لمذهب
الفردية القائل: بأن كل فرد هو شخص وبالتالي هو شخصية هي دينية تجعل
الفرد منبثقًا رأسًا من الله وليس من النوع الإنساني أو المجتمع
الإنساني، أو بواسطة النوع الإنسان أو المجتمع الإنساني."
"المرتكز الثاني: ولما كانت الشخصية (الفردية) منبثقة رأسًا من الله من
غير واسطة النوع الإنساني ومن غير واسطة المجتمع كان اتحاد الفرد في
المجتمع وروحيته ونظامه قضاء على شخصيته. ولذلك وجب أن يكون لهذا
المذهب اللاوجودي، المنعوت خطأ بالوجودية نقطة ارتكاز ثان هو: رفض
الاتحاد في المجتمع، والتمرد على واجبات المجتمع."\
"المرتكز الثالث: تكون نقطة الارتكاز الثالثة في مذهب الشخصية الفردية:
ولاء الفرد لنفسه فقط – لشخصيته وحدها!"
"المرتكز الرابع: المرتكز الرابع لمذهب الشخصية الفردية هو: الفوضى
المطلقة."
وأخيرًا المرتكز الخامس الذي سنورده كاملاً بصعوبة فهمه مجتَزأً:
"المرتكز الخامس لمذهب الشخصية الفردية مرتكز خامس أخير لا آخر هو:
فلسفة النعامة. للنعامة فلسفتان: الأولى حين تزجُّ رأسها في الرمل إذ
يدركها الصياد. هذه فلسفة النعامة الشخصية الصغرى. الثانية هي: قيل
للنعامة، يا نعامة طيري! فقالت لست طائرًا، إنما أنا جمل! فقيل لها يا
نعامة احملي! فقالت لست جملاً، إنما أنا طائر! هذه الفلسفة الثانية هي
فلسفة النعامة الشخصية الفردية الكبرى الباهرة!
يقول برديايف في مقدمة كتابه إن الشخصية الفردية هي "عدم التغيُّر في
تغيُّر". ويقول أيضًا (ص 37): "لا يمكن للشخص أن يكون بكليته عضوًا في
العالم أو الدولة لأنه عضو في مملكة الله.. وهذا مرتبط بواقع أنَّ
الإنسان (الفرد) كائن ليس في عالم واحد، بل في عالمين!".
بما أنَّ الفرد يخصُّ عالمين، لا عالمًا واحدًا، وجب أن يختار، بحسب
مرتكز ولائه لشخصيته، في أية مناسبة يحسن أن يكون ولاؤه، بعد نفسه ومن
أجل نفسه فقط، لأحد العالمين دون الآخر. فمرَّة يكون ولاؤه لعالم
الملكوت ومرَّة يكون لعالم الأرض!
الطريقة الأخرى لتطبيق فلسفة النعامة الثانية هي أن يكون المرء بوجهين
ولسانين! فلسفة عظيمة وسلوكية باهرة!"
وتحت كلِّ من هذه المرتكزات يورِد سعادة عددًا من الاقتباسات
والاستنتاجات المختصرة من الكتاب، حيث يبدو أن سعادة يعتمد على أول
أربعين صفحة تقريبًا منه.
وفي هذا النقد لنقد سعادة سيتم الاعتماد على نسخة روسية إلكترونية من
الكتاب المذكور، بالإضافة إلى بعض الكتب الأخرى بنسختها الإنكليزية.
-2-
يأخذ سعادة على برديايف اتهامه نتائج علم الاجتماع بأنها خاطئة: "يحتاج
برديايف، في فوضويته، إلى إنكار قيمة العلم والنتائج الأكيدة التي توصل
إليها العلماء وفلاسفة العلم، فيقول متسرعًا (ص 26 من كتابه) ’جميع
تعاليم علم الاجتماع عن الإنسان هي غلط (!!!) إنها لا تعرف غير الطبقة
السطحية المأخوذة بمثابة وضع للإنسان‘. ثم ينكر قيمة الفلسفة
الاجتماعية وفلسفة الحياة (البيولوجية) لأنها لا تعتبر كل شخص شخصية
مستقلة منبثقة رأسًا من الله...". ولكن قبل التطرُّق بالتفصيل إلى ما
يقوله برديايف في كتابه المذكور، وتحديدًا في الجزء الأول من
الفصل الأول من هذا الكتاب، وهو بعنوان "الشخص" أو "الشخصية"
Lichnost،
ينبغي التعرُّف باختصار على السياق الزمني لهذا الكتاب.
لقد صدر هذا الكتاب عام 1939 أي في عام بداية الحرب العالمية الثانية،
وهو زمن وصول الأفكار الجمعية والجماهيرية الفاشية والنازية والشيوعية
إلى ذروتها، وزمن يلي مباشرةً فترة "الرُّعب العظيم"
Большой террор/Bol’shoi terror
عام 1937 وهو عام الإعدامات الجماعية الشهير الذي فقد فيه مئات الآلاف
على الأقل من الروس حياتهم. لقد شهد برديايف بعينيه، وهو أحد أهم
شخصيات الإنتلجنسيا الروسية المعارضة للقيصر الروسي، فظائع الدعوات
الجماهيرية الروسية من اشتراكية وثورية وشعبوية، والتي تمثلت في فظاعات
بدايات القرن العشرين وما انتهت إليه من أحداث الأعوام 1917-1922، وما
تلا تلك الفترة من نفيه هو وعشرات المثقفين الروس إلى أوروبا.
وكماركسيٍّ سابق، أصدر برديايف وعدد من رفاقه عام 1909 كتاب علامات
التخوم
vekhi،
كنوع من الاعتراف العلني بخطايا الإنتلجنسيا وكتحذير لرفاقهم
(السابقين) بأنَّ الثوروية اليوتوبية والعقلية الجماهيرية التي لا تعرف
خطوطًا حمرًا ستؤدي إلى دمار البلاد ونهاية طبقة الإنتلجنسيا نفسها.
لقد كان كتاب الـ
Vekhi
آخر صيحة من قلب الإنتلجنسيا الروسية لتنقذ نفسها، ولكن هذا العمل حورب
بشراسة من قبل الراديكاليين. وقد أثبت التاريخ بسرعة أن برديايف ورفاقه
كانوا محقين؛ فبعد بضعة سنوات استلم البلاشفة (وهم فئة راديكالية من
الإنتلجنسيا) السلطة عام 1917 وتم القضاء على هذه الطبقة ومفكريها من
غير البلاشفة إعدامًا أو نفيًا أو سجنًا أو موتًا من الجوع. هذه الحالة
لم تتأتَّى من فراغ بل كانت نتيجة تعرُّض روسيا لتسرُّب التيارات
العدمية والعبثية والنظرة الطبيعانية للإنسان والمتجلية في علم
الاجتماع الغربي والروح العلموية في ذلك الزمن. هذا بالتحديد ما يقف
برديايف ضده والذي أثار حفيظة الزعيم سعادة. ويصف أوساتشِف بأنَّه في
ذلك الزمن "كان الحماس للتدمير الذاتي والنقد الذاتي يضعان الإنسان في
موقف جعله يصبح محتاجًا للإقرار بأنَّ عالم التشييء كان ليس بلا
نهاية."[4]
أي أصبح الإنسان الروسيُّ المثقف يرى نفسه كائنًا ماديًا فانيًا ذا
وجود عبثيٍّ وعابر. وتشرح يوسفين فان كِسّل بأنَّ علم الاجتماع "أعطى
فقط وصفًا للحالة الملموسة للمجتمع"، مشيرة إلى ظهور الفلسفة الدينية
الروسية في ذلك الوقت (وبرديايف أحد أقطابها) كرد فعل يحاول تصوير
ماهية الحالة الفضلى للمجتمع وليس الطبيعانية فقط[5]،
ويردَّ في نفس الوقت على الموقف الديني التقليدي المستسلم والخاضع
للتيار السائد والمبشِّر بالزهد وعدم الفاعلية[6].
لقد كانت روسيا عبر تاريخها مسرحًا لأدوار متبادلة بين الفردانية
المتطرفة (ليس بالمعنى الحداثي) الموروثة من الإسكندنافيين الذين حكموا
الروس لفترة طويلة (نسل روريك) من جهة، والقطيعية الطاغية التي أتى بها
التتار الذين حكموا الروس في مرحلة لاحقة، من جهة أخرى. وبنظر
الباطنيِّ الروسيِّ فالنتين تومبرغ فإنَّ ما حصل إبَّان الثورة
البلشفية عام 1917 كان ظهورًا جديدًا للسمات التتارية القطيعية، فيصف
بأنَّه "كما في العصور القديمة حين هاجمت البلداتِ جموعُ البشر الآتية
من السهوب، والتي تملؤها الكراهية، ودكّوا أسوارها...هكذا بدأ الآن
العرض الفظيع للكراهية المنظَّمة من قبل الجمع البشري ضد الفرديَّات
والأشخاص. أعداد لا تحصى من أفراد الإنتلجنسيا تم إعدامها بسبب
انتهاكها للوصية الأسمى:’لا ينبغي أن تكون لديك حياة داخلية خاصة.‘
إنَّ كره الحياة الداخلية والشخصية هو ما يشكِّل العصب المركزي للإرهاب
البلشفيِّ."[7]
وكتب تومبرغ أيضًا في عام 1931: "وبهذا فإنَّ زمننا هو الأكثر لا
مستيكية [صوفيَّةً] ولا فرديَّة في التاريخ: ما يعرفه وما يريده الفرد
بوصفه فردًا يصبح أقلَّ أهمية شيئًا فشيئًا؛ فالفرد يُعتَبَر مجرَّد
جزءٍ من كلٍّ... وهكذا فالنفس البشرية تحدِّق في قلَّة اهتمام باردة
وعديمة الرحمة بما هو شخصيٌّ جوَّانيُّ."[8]
وهو يعرِّف البلشفية على المستوى النفساني بأنَّها "نفي كل ما هو
فرديُّ وأرستقراطيٌّ لمصلحة تكريس الذات بكل قوة لكبرياء تحت-فردية
وجمعيَّة."[9]
فالإنسان أصبح له أهمية واحدة فقط، بمَ وكيف يخدم المجموع البشري، وليس
له أدنى أهمية عدا ذلك. بمعنى آخر، صار الإنسان وسيلة فقط، سواء أتمَّ
التصريح بذلك أم لا. وبطبيعة الحال لا يتوقع المرء من جهة ما أن تصرِّح
بالفم الملآن أنها تستعمل الإنسان لمصلحتها فقط!
في خضمِّ كل هذه التيارات التي تختصر الإنسان إلى مجرَّد ذرة لا قيمة
لها ضمن محيط الجماهير، وتضحِّي بحاضره من أجل مستقبل موعود كما يشير
برديايف في نقده الشديد للماركسية في مقالته "الشخصانية والماركسية" أو
تدعوه للخنوع والتسليم بمشيئة الله، ظهرت وجودية برديايف ودعوتها
للشخصانية، والتي تحاول أن تمنح الشخصية الإنسانية تفرُّدها وقيمتها
كصورة الله وككونٍ أصغر
microcosm
لا يمكن اختصاره كمجرد جزء حيوانيٍّ بيولوجيٍّ من الحياة الطبيعانية.
وبالتأكيد فإنَّه لا يمكن إيراد كلِّ ما كتبه برديايف عن مفهومه
للشخصية، فهذا التعليم متكرر بصورة كبيرة ومسهبة في عدد كبير من
أعماله. ولكن لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ سعادة لم يتنبِّه إلى تفريق
الفيلسوف الروسي الحاسم والصريح بين مفهومي الشخصانية والفردية
(بالروسية
lichnost
أو
individual’nost،
وبالإنكليزية
individuality)
من جهة ومفهوم الفردانية (بالروسية
individualizm،
وبالإنكليزية
individualism)
من جهة أخرى؛ فالفردانية في نظر برديايف صراعٌ ضد حتمية العالم
الطبيعانية البيولوجية وليست وسيلة لخلق لعالم جديد، والحرية في
الفردانية هي "حرية مشرذمة ومغتربة عن العالم."[10]
أي إنَّها مفهوم سلبيٌّ دفاعيٌّ وليس مفهومًا خلّاقًا إبداعيًا يعمل
على بناء عالم جديد. وأما بخصوص تصريحات برديايف حول علاقة الإنسان
بالعالم من حوله، والتي ينتقدها سعادة، يشرح برديايف هذه العلاقة كما
يلي:
لا يمكن للشخصية أن تُدرَك كشيء، كواحد من الأشياء إلى جانب أشياء
العالم الأخرى، كجزء من العالم. هذا ما تريد أن تفعله بالإنسان العلوم
الأنثروبولوجية والبيولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع. والإنسان يُدرَك
جزئيًا هكذا، ولكن ليس سرّ الإنسان كشخص، بوصفه المركز الوجودي للعالم.
إنَّ الشخصية تُدرَك فقط كذات [وليس كموضوع-(أبو ديب)]، في ذاتية
لانهائية ينطوي فيها سر الوجود.[11]
لقد كان برديايف يحارب اعتبارَ الشخص الإنسانيَّ مجرَّد حيوان ناطق أو
متعضِّية بيولوجية أو جزءًا يمكن إهماله من تكتُّل قطيعيٍّ كبير مؤلَّف
من كائنات بيولوجية. لقد كان يحارب فكرة أن يكون الإنسان مجرَّد فردٍ،
على عكس ما يفهم سعادة من كلامه بأنه يدعو إلى انعزال هذا الفرد
واعتبار نفسه مرجعية نفسه أو أن يكون على علاقة بالله فقط من دون باقي
البشر. ضمن هذا السياق يمكن فهم اتهام برديايف لعلم الاجتماع بالخطأ،
فهو يقول إنَّ
كل تعاليم علم الاجتماع عن الإنسان خاطئة، فهي لا تعرف إلا الطبقة
المشيَّأة من الإنسان. فقط من الخارج تظهر الشخصية من وجهة نظر علم
الاجتماع كجزء خاضع للمجتمع، وهو جزء صغير جدًا بالمقارنة مع المجتمع
الهائل الضخامة. ولكن التعليم الحقيقي عن الإنسان-الشخص لا يمكن أن
يقوم إلا على الفلسفة الوجودية، وليس على فلسفة علم الاجتماع، وليس على
الفلسفة البيولوجية أيضًا.[12]
ومن منظور برديايف فإنَّ هذه الاعتبارات لا تعني عزلة الإنسان عن محيطه
الإنساني وعالمه، بل الانخراط فيهما. ولكن أي محيط إنسانيٍّ وأي عالم؟
فالإنسان كائن اجتماعي كما يعترف برديايف، ولكنه أيضًا كائن روحانيٌّ،
وروحانيَّته هذه هي مصدر معرفته للخير بوصفه خيرًا (وبرديايف لا يشير
هنا إلى ما يعرِّفه المجتمع بالضرورة كخير).[13]
ولهذا فهو يعتبر أنَّ علم الاجتماع الذي ينكر حقيقة الإنسان هذه ليس
علمًا أصيلاً بل هو فلسفة زائفة ودين زائف.[14]
لقد أخذ سعادة على الفيلسوف الروسي بأنَّه حتى في اعترافه بالمجتمع كان
يريد منه أن يُبرز الشخصية الفردية فحسب: "مبدأ الشخصية الفردية يعترف
بوجود المجتمع فما ذلك إلا من أجل إبراز الشخصية،" وأنَّه لا حقَّ
للمجتمع على الفرد بل العكس فقط هو الصحيح. بعد ذلك يستنتج الزعيم ما
يلي:
كل تعسف جائز ومستحسن في هذه الفوضى البديعة.
كل رغبة وكل شهوة وكل جماح هي من ضرورات ’الحرية‘. ولا تحقيق للشخصية
الفردية إلا بهذه الفوضى. فالشخصية الفردية لا تقوم إلا بالشذوذ
والمخالفة وعدم التوافق مع العالم وبالتمرد والانفلات!
كل عقل وكل فكر يحدُّ من ’حرية‘ الشخص هو من ’الوضع‘ الذي لا يليق
بالشخصية الفردية.
ولكن هذه النتيجة التي توصَّل إليها سعادة معاكسة تمامًا لفلسفة
برديايف؛ فالأخير يرفض القسر المفروض على الشخص ويرفض الحريَّة المزيفة
التي لا تعترف إلا بالطاعة، ولكنه لا يدعو للشذوذ والمخالفة. إنَّه
يرفض أن تكون أخلاق النواميس والشرائع هي الهدف الأسمى للإنسان، بل
مرحلة مؤقتة في طريق الحرية الخلّاقة، وهي الحرية الوجودية والالتزام
المنطلق من القناعة. إنَّ الشخصية لا توجد إلا ضمن علاقة محبة وتضحية،
ووجود الشخصية يفترض ضمنًا وجود أشخاص آخرين.[15]
أمَّا ما يصوِّره سعادة من فوضى يكاد ينطبق على ما يسميه برديايف
"الفردانية" التي هي "عدوُّ للفردية" وتحرُّر الإنسان من العالم بوصفه
كوزموسًا (العالم كما ينبغي أن يكون) لينال عبوديته.[16]
ويتابع بأنَّ "العزلة الضيقة للشخصية في الفردانية الحديثة هي تدمير
الشخصية وليس انتصارها. الذاتية المتقسّية - نتيجة الخطيئة الأصلية -
ليست هي الشخصية. فقط حين تذوب هذه الذاتية المتقسّية ويتم تجاوزها
تكشف الشخصية عن نفسها."[17]
فبرديايف يرى أنَّ الفردية الحقيقية لا تتحقق إلا في الحياة الكونية
الشاملة،[18]
لا بل يذهب إلى القول بأنَّ تحرير فردية الإنسان من الله ومن العالم هو
ضربٌ من الجريمة وعبودية شيطانية، لأنَّ حرية الإنسان مرتبطة بحرية
العالم ولا تتحقق إلا بها.[19]
وهكذا فإذا كان برديايف يرفض أن يكون المجتمع رقيبًا على العلاقة بين
الرجل والمرأة ووسيطًا بينهما ومقرِّرًا لحدود العلاقة بينهما، في حال
كانت مبنية على الحبِّ الذي هو سرُّ لا يدركه إلا أطرافه، فهو لا يبيح
كل شهوة أو نزوة أو كل فكرة فوضوية.[20]
إنَّ برديايف يدافع عن العفَّة، ولكنها ليست العفَّة المفروضة من فوق
والمقيدة بتعاريف المجتمع الخاضع للنزوات السياسية والثقافية
والاجتماعية للفئات الحاكمة والمرجعية والمسجونة في التقاليد المولودة
في زمان ومكان معيَّنين؛ فهو يعتبر أنَّ العفة تحفظ "كلانية" الإنسان
بحيث تعيد توجيه الطاقة الجنسية ولا يصرفها في الفعل الجنسي البيولوجي
المحض.[21]
ولكن في النهاية يكون الأمر متروكًا لحريَّة الأشخاص ولا ينبغي أن يكون
مفروضًا من سلطة عليا دينية أو سياسية. ومن نافل القول إنَّ برديايف
الذي يتصور الشخصية ضمن علاقة الحب والتضحية لا يشرعن حرية تعتدي على
الآخرين.
ما يعنيه برديايف هو أنَّ الشخص الإنساني كيان روحيٌّ وليس مجرَّد
كيمياء ونظام فيزيولوجيّ، ولكنه في نفس الوقت ليس كيانًا أنانيًا. وهو
يشرح بأنَّ "الشخصية هي حريَّة واستقلال الإنسان في علاقته بالطبيعة
وبالمجتمع وبالدولة، ولكنها ليست مجرَّد عدم تأكيد أناني على الذات، بل
على العكس تمامًا؛ فالشخصانية لا تعني، كما هو الحال في الفردانية،
عزلة متمحورة حول الذات. إنَّ الشخصية في الإنسان هي استقلاله في
العلاقة مع العالم المادي الذي هو مادَّة لعمل الروح. وفي نفس الوقت
الشخصية هي كون، وهي ممتلئة بالمحتوى الكوني."[22]
وهذا يؤدي كما يقول الفيلسوف الروسي، وهذا ربما العنصر الأهم، إلى أنَّ
الشخص حرٌّ من الحتميات الطبيعانية والاجتماعية. الإنسان ليس عبدًا
لغريزة قطيع، وهو دائمًا يمتلك الحرية ليفعل إرادته أو ليحاول تنفيذها
على الأقلِّ. يستطيع الإنسان أن ينتمي لهذا المجتمع أو ذاك أو أن يحاول
على الأقل؛ يستطيع أن يختار عناصر ثقافته رغمًا عن كثير من مسلَّمات
ثقافته الأصلية؛ يستطيع أن يتزوَّج أو لا يتزوَّج؛ يتكاثر أو لا
يتكاثر؛ يطوِّر نفسه عقليًا وماديًا وروحيًا بهذا الاتجاه أو غيره.
وهذا ما لا تستطيعه الكائنات الأخرى على حدِّ علمنا. يرفض برديايف وصف
الفيلسوف إسبيناس للإنسان بالخلية كجزء من جسد كامل، بل يرى أنَّ
علاقته بالآخرين والعالم والمجتمع قائمة على الإبداع والحرية والمحبة،
أي إنَّها ليست علاقة حتمية كالحتمية الطبيعية بل تفسح المجال
للاختيار، لأنَّ الإنسان ليس آلة كما يقول.[23]
إنَّ شخصية الإنسان وفرديته ليسا "وجهين ولسانين" كما يرى سعادة، بل
هما خاصيتان من خواص الإنسان ذاته، أو قوَّتان من قواه.[24]
وامتلاك الإنسان طبقات عديدة من عقل ووجدان ومشاعر وجسد مادي لا يعني
أنَّه بوجوه عدَّة وخطابات متعددة، ولو أنَّ علم التحليل النفسي وعلم
النفس التحليلي، عند كلٍّ من فرويد ويونغ على سبيل المثال، يقولان بشكل
أو بآخر إنَّ للإنسان بالفعل وجوهًا عدَّة وألسنةً متعددة! فكون
الإنسان ينتمي لملكوت الله ولهذا العالم هو أمر لا يمكن التخلُّص منه
بمجرَّد إنكاره أو عدم الرغبة فيه، خوفًا من انقسام الإنسان؛ فقدر
الإنسان أن يمارس حرية الاختيار ويصارع بين الخيارات، وهذا أمر لا
مفرَّ منه، وليس بسياسة نعامة. ألا يقف الإنسان أحيانًا حائرًا بين
عائلته الصغيرة وعائلته الأكبر، أو بين حبِّ حياته/ا
وإرادة عائلته/ا،
وبين إكمال دراسته/ا
بوصفه عالمًا أو عالمة وبين كونه/ا
أبًا أو أمًا أو رغبته/ا
في ذلك؟ هذا حال الحياة ولا يمكن الهرب من هذا الأمر أو تجاهله. وكلُّ
إنسان يختبر الوجود الأصيل سيقف في كثير من الأحيان بين حقيقة كونه
كائنًا روحيًا وبين كونه كائنًا طبيعانيًا مادِّيًا، وبين ما هو حَسَن
وبين ما هو حَسَن مثله ليختار واحدًا على حساب الآخر؛ لا ريب في ذلك!
هذا هو معنى أن يكون الإنسان حرًّا، ولا معنى لحريَّته بغير هذا. وأية
محاولة لتغيير هذا الواقع يولِّد الطغيان والاستبداد وصولاً إلى
الجريمة، ناهيك عن تقزيم الشخصية البشرية والاحتفاظ بها في حالة طفولة
أو مراهقة دائمة تعبِّر عن نفسها بالتعصُّب والغضب وكافة أنواع العنف
وانعدام المسؤولية. ومن ناحية أخرى فإنَّ ما يستشهد به سعادة عن "عدم
التغير في تغيُّر" هو ظاهرة من ظواهر الحياة وليس تناقضًا بأيِّ شكل من
الأشكال؛ فعندما يقابل الإنسان شخصًا يعرفه فإنَّه قد يلاحظ عليه
تغيُّرًا في السمات النفسية والعقلية، ولكن مهما كان هذا التغير عميقًا
فهذا الإنسان يبقي هو هو، ولهذا يمكن للآخرين أن يتعرَّفوا عليه
ويميزِّوه نفسيًا وروحيًا من بين آخرين. وحتى لو كان هذا التغيُّر
مدعاةً للأسف فإنَّ هذا لا يغيِّر من حقيقة أن الشخص ما زال هو ولكنه
خضع لتغيُّر معيَّن. وقد يكون أحيانًا عدم التغيُّر هو ما يدعو للأسف.
وفي العموم يرغب الإنسان أن يرى في الآخرين تغيُّرًا نحو ما يعتبره
الأفضل ولكن من دون "أن يتغيَّروا".
يتابع برديايف إذن ليؤكِّد بأنَّ الشخصية الإنسانية لا يمكن أن توجد من
دون وجود عالم أسمى وقيم فوق-شخصية، كما أنَّها لا يمكن أن توجد إذا
كان هذا العالم العُلويُّ هو فقط ما يمتلك وجودًا حقيقيًا وكان الإنسان
مجرَّد وسيلة له؛ فأن يُقال مثلاً إنَّ الإنسان موجود فقط لكي يمجِّد
الله نفسه هو تصغير للإنسان وللّه في الوقت عينه.[25]
وكذلك الأمر فيما يخصُّ البنى الكبرى كالأمة والدولة والمجتمع التي
يمكن أن ترى في الفرد الإنساني مجرَّد وسيلة لغاية ما أو وسيلة لمجرَّد
البقاء بوصفها ظاهرة أو نوعًا.[26]
وبالمقارنة بين الشخصية البشرية وهذه البنى الكبرى تبدو هذه باهتة أو
بالأحرى وهمية وغير حقيقية بحسب برديايف الذي يستعمل مصطلحات قاسية
للتعبير عن ذلك: "الشخصيات الجمعية، الشخصيات الفوق-شخصية بالعلاقة مع
الشخصية الإنسانية هي محض وهم، وتتولَّد من التصدير [الإسقاط الخارجي-
(أبو ديب)] والتشييء. لا توجد شخصيات بوصفها موضوعات، لا يوجد إلا
شخصيات بوصفها ذوات. وبهذا المعنى يكون للكلب والقطة شخصيات أكثر،
ويرثون الحياة الأبدية أكثر من الأمة والمجتمع والدولة والكلِّ
العالميِّ. هذه هي الشخصانية اللاهرمية، وهي الشخصانية الوحيدة
المتماسكة. لا يوجد أيَّة كلّانية أو إجماليَّة أو يونيفرسالية خارج
الشخصية، وهي توجد فقط فيها، وخارجها يوجد فقط العالم المُشيَّأ
الجزئيُّ.[27]
هذا الوصف القاسي هو طريقة أخرى للقول إنَّه في عمق الوجود لا يوجد شيء
يسمَّى ألمانيا والاتحاد السوفييتي وفرنسا بل يوجد فقط هذا الشخص وذاك
والآخرون؛ فهذه الدول سواء أمثَّلت أممًا أم دولاً أم شعوبًا أم غير
ذلك فمصيرها في النهاية التغيُّر أو التبدُّل أو الانحلال؛ فهل سوريا
الهلّينية على سبيل المثال هي سوريا القرن الحادي والعشرين؟ لقد
تبدَّلت كثيرًا حتى لو بقيت فيها بكل تأكيد سمات وموروثات من ذلك
الزمن. هذا حكم موضوعيٌّ وليس عاطفيًا البتة ولا يعبِّر عن رغبات
وأماني كاتب هذه السطور، كما لا يعني الاستسلام لهذا الواقع. ولذلك
ووفق نظرة برديايف، الوجودية المسيحية، الإنسان هو الخالد لأنَّه على
صورة الله الذي هو شخص أيضًا. وبرديايف لا يعني بأي شكل من الأشكال
أنَّ الإنسان يمكن أن يعيش منفردًا وأن يكون ذا معنى من دون أخيه
الإنسان، ولكنه يقول بطريقة أخرى إنَّ الإنسان لم يوجد لخدمة السَّبت
بل السبت وُجِد لخدمة الإنسان. ويمكن القول إنَّ برديايف ليبراليٌّ
ومحافظ في الوقت عينه؛ فهو ليبراليٌّ من حيث تركيزه على الإنسان-الشخص
وعلى مبدأ الارتقاء خلال التاريخ (من دون أن يكون الارتقاء متواصلاً
دائمًا، ويوضح ذلك في مقالته المعروفة "العصور الوسطى الجديدة")،
وهو محافظ على القيم الروحية الخالدة من دون التمسُّك بتجسُّداتها
الزمنية التي تتغيَّر عبر الزمان والمكان. لقد كان برديايف يبحث عمَّا
دعاه في أحد أعمله باسم "الضمير المحض"، أي البحث في الضمير البشري
من دون سلطة المنظومات القاهرة- إن صح التعبير.
-3-
إنَّ العلاقة بين الشخص والمجتمع أو المتّحد- بحسب مصطلح سعادة- قائمة
على العضوية وعلى التعاونية وليس على مفهوم المجتمع السلطوي. هذا
التصوُّر له جذور عريقة في الفكر الروسيِّ ويعبَّر عنه بمفهوم
"السَبورنست"
Sobornost’.
ومن دون الدخول في تاريخ المصطلح وجذوره، فإنَّه يعبِّر عن تصوُّر
تعاونيّ غير جماهيريٍّ قطيعيِّ. والسبورنست في نظر برديايف لا يمكن إلا
أن يكون حرًّا، كما أنَّ الشخص الإنساني لا يمكن إلّا أن يكون روحًا
تعاونية جماعية.[28]
فالسبورنست "ليس حقيقة جمعية تقبع فوق مستوى الإنسان وتصدر أوامرها
إليه، بل هو القوة النوعية الروحية الأسمى في البشر... هذا السبورنست
لا يمكن أن يكون لديه تعبير حقوقيٌّ عقلانيٌّ، فكل من فيه يأخذ على
عاتقه مسؤولية الكلِّ، ولا يمكن لأحد أن يفصل نفسه من الكلِّ العالمي،
مع أنه في نفس الوقت لا يجب أن يعتبر نفسه جزءًا من كلٍّ."[29]
وربما لا يكون هذا التصوُّر بعيدًا كلَّ البعد عن تصوُّرات سعادة نفسه
حول الأمة والشعب. هذه النظرة الرومانسية المضادة لعقلنة مفهوم المتّحد
التعاوني تعني أنَّ المجتمع المبني على قواعد منطقية خارجة عن روح
أفراده وميولهم الاجتماعية هي صيغة شرعية حقوقية قسرية قائمة على القوة
والتسلُّط وفرض النفوذ. ويمكن تمثيلها بفرض نموذج غربيٍّ مثلاً على
دولة أفريقية أو محاولة تطبيق النموذج الصيني في دولة كألمانيا، بحيث
تصبح الحالة الجمعية مجموعة قوانين مفروضة من فوق. وبرديايف لا يسلِّم
طبعًا بأنَّ كل ما يخرج من الشعب هو الذي يجب أن يسود؛ فالدولة الغريبة
المفروضة على مجتمع أجنبيٍّ عنها، كذلك يمتلك الشعب ميولاً قطيعية
وغرائزية طاغية تسحق الشخص، وعلى الشخص أن يقاومها كما يقاوم القوانين
الغريبة، ولعلَّ سعادة بالذات هو واحد من أهمِّ الذين قاوموا
التوجُّهات العشائرية والمناطقية والمذهبية الضيِّقة حتى تلك التي كان
الشعب أو المجموع البشري يخضع لها ومقتنعًا بها.
و"السبورنست" إذن ليس دولة بوصفها كيانًا عقليًّا مستخرجًا
بشكل منطقي وحقوقيٍّ جامد، كما أنَّه ليس إرادة قطيعية غريزية لا هدف
لها سوى البقاء النوعي والبيولوجي، بل هو كيان روحيٌّ ذو مفهوم مسيحيّ
(كونه ناشئًا ضمن الثقافة الروسية الأرثوذكسية أو ذات الجذور
الأرثوذكسية) يقوم على المحبة والتضحية المتبادلة. ولذلك كان مفهوم
السبورنست دائمًا يرتبط بشكل أو بآخر بتصوُّر للمجتمع الروسيِّ قبل
إصلاحات بطرس الأكبر في نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن
عشر، ويرتبط بشكل خاص بالمجتمع الروسيِّ قبل الاحتلال التتاري، حيث لم
تكن هناك طبقة كهنوتية
عليا تتكلَّم بلغة مختلفة كما في العالمين الروماني والجرماني اللاتيني
من بعده، وكانت الإمارات الروسية لا مركزية إلى حدٍّ كبير، والمجتمع
الواسع عبارة عن متّحدات تشاركية تقوم على قيم منسجمة بين أعراق وأمم
متعدِّدة. وفي الواقع فإنَّه لا يمكن فهم الفكرة الشخصانية (أو
الاشتراكية الشخصانية كما يسمِّيها أحيانًا) عند برديايف من دون
التعمُّق في هذا المفهوم التشاركي، وهو ما لم يفعله مؤرِّخ بحجم فاسيلي
زنكوفسكي، الذي تطرق إلى الفكرة في أسطر معدودة، من دون تقديمها كما
تظهر في فكر برديايف، مما جعله يرى في دعوة برديايف قُربًا من
الأناركية (والتي تُترَجم خطأً إلى العربية باعتبارها "فوضوية")، بل
وتماسًا مع حدود الأنا-وحدية
Solipsism.[30]
وهذا كما يظهر من الشرح السابق منافٍ للحقيقة وبعيد عن الدقَّة.
ينطلق برديايف إذن من هذه الشحنة الروحية الروسية، والتي يصف نيكولاس
زيرنوف بعض جوانبها كما يلي:
إنَّ روسيا هي وحدة تشبه إلى حدٍّ بعيد الهند أو الصين أو الإسلام أكثر
من الدول القومية الأوروبية الحديثة؛ فهي كالهند والصين ثقافة متّحداتٍ
فلَّاحية، ومثل الإسلام لا تعترف بموانع تقيمها الدولة بل تؤكِّد على
أخوَّة جميع المؤمنين وتساويهم... لقد كان الذهن الغربيُّ منشغلاً برسم
الحدود، بينما انشغل الروسيُّ بالبحث عن قلب الأشياء.[31]
هذا البعد عن العقلية الكهنوتية من جهة وعن العقلية
الإغريقية-الرومانية المولعة بالقوانين والمصطلحات الفلسفية والفروق
الدقيقة بينها من جهة أخرى جعل روسيا تفتقد للانضباطية الصارمة
والتركيز على وجوب طاعة السلطات.[32]
ويشرح زيرنوف عن مفهوم "السبورنست" بأنَّه يعني "الاجتماع، الروح
الجماعية، الكلَّانية، وهو يشير إلى الوحدوية، ولكن من دون انتظام أو
فقدان للفردية."[33]
هذه الصورة الحميمة للمجتمع الروسي هي ما احتلَّ أذهان العديد من
المفكِّرين الروس، ومنهم برديايف الذي فهم الشخصية والحرية والعلاقة مع
المجتمع الأوسع والعالم، كما فهم مقاومة الانضباط والهيئات الاصطناعية
واختزال الإنسان إلى عنصر مجرَّد أو وسيلة لأجل غاية، في ضوء هذا
التصوُّر الروحيِّ للإنسان والجماعة البشرية. فالمجتمع
Obshchestvo
فقط هو عدوّ الإنسان-الشخص ولكن ليس "السبورنست" أو التشاركية أو
التضافرية
Obshchnost.[34]
ويبدو هنا أنَّ برديايف يوظِّف مفاهيم يستوردها من عالم الاجتماع
الألماني فرديناند تونّيس
Ferdinand Tönnies؛
فالمجتمع (بالألمانية
Gesellschaft)
كيان يقوم على العقل وعلى ما يسمَّى بالإرادة الاختيارية ويفتقد لعناصر
الانسجام العاطفي، وهو يشبه مجتمعات المدن الكوزموبوليتانية في العالم
المعاصر، بينما المجتمع التشاركي أو الحالة التشاركية أو المُتَّحَد
(بالألمانية
Gemeinschaft)
يقوم على الرابط العاطفي والثقة المتبادلة بين الناس والإرادة
الجماعية، وهو يشبه مجتمع القرية أو الجماعة الدينية أو الفلَّاحية، من
دون أن يعني هذا الأمر أنَّ برديايف يحافظ على تعريفات تونّيس كما هي؛[35]
فنظرة برديايف للسبورنست لا تتوقف عند كونه مجرَّد حالة جماعية تحكمها
أخلاق واحدة وقيم ثابتة وطاعة لمشيئة واحدة، بل قائمة على حرية خلّاقة
لا مكان فيها للقسر. ولعلَّ نظرة برديايف قريبة بشكل ما من تصوُّر
المدينة الفاضلة، ولكنها المدينة الفاضلة التي ينيرها الروح القدس وليس
القوانين الأفلاطونية التي تطرد المخالفين وتستبقي المطيعين. وإذا كان
يمكن انتقاد عدم واقعيتها، إلا أنَّه لا يمكن في أي حال من الأحوال
وصفها بدعوة للفوضى والانفلات وإباحة كل نزوة بشرية. لقد كان برديايف
مدركًا لتراجيدية التاريخ ولوقوع كلِّ عمل وجوديٍّ خلَّاق في براثن
الشريعة والقانون وشروط الزمان والمكان، ولهذا أشار في كتابه "معنى
التاريخ" إلى أنَّه لا يمكن تحقيق الحالة الإنسانية الفضلى التي
تتجاوز ثنائية الخير والشر ضمن حدود التاريخ كما تريد الشيوعية أن
تفعل، بوصفها وريثة النزعة المسيحانية اليهودية بحسب رؤيته. ولكن هذا
الإدراك لم يعنِ بالنسبة إليه ولا يجب أن يعني على أية حال الاستسلام
لشروط الزمان والمكان وإرادة القطيع والسلطات الطاغية؛ فإمكانية
التغيير والارتقاء موجودة ضمن حدود التاريخ وإن كان "الكمال" (أو
الحالة الأسمى على الإطلاق) بعيدة عن التحقق، وبعيدة حتى عن التخيُّل
التفصيلي.
-4-
التفصيل السابق لبعض معتقدات برديايف لا يعني أنه لا يمكن توجيه نقد
شرعيٍّ وحقيقيٍّ لها؛ فيمكن كما أشرنا سابقًا الحديث عن طوباويتها
والتساؤل حول معناها العملي وإمكانيات تحقيقها. كما يمكن القول إنَّه
من الممكن أن يكون الفصل الكليّ والحاد بين الشخصانية والفردانية، وهو
الأمر الذي اعتاد المفكِّرون واللاهوتيون الأرثوذكس المحدثون تكراره
والتشديد عليه، نظريًا أكثر من كونه عمليًا؛ فالفردانية المتطرِّفة
التي تُصوِّر الإنسان الغربي منعزلاً عن محيطه ليست حالة عامة وشائعة
بشكل نهائيٍّ، وهي تختلف بحسب البيئات والبلدان وظروفها الاقتصادية
والاجتماعية وحتى الجغرافية. كما أنَّه من غير الواضح لماذا لم تنجح
كثير من المجتمعات والبلدان والمناطق البعيدة عن الفردانية في منح
الإنسان إمكانيات تحقيق شخصيته المتفردة والخلَّاقة لا بل كثيرًا ما
سحقتها ودمَّرتها أو قزَّمتها وغرَّبتها عن حقيقتها، في حين يظهر أنَّ
الفردانية (السلبية في نظر برديايف وآخرين) ساهمت في كثير من الأحيان
والأزمنة في تطوير الشخصية المبدعة الخلَّاقة المساهمة في مجتمعها
البانية أمَّتها، كما يمكن الاستنتاج مما أشار إليه المفكِّر
اليونانيُّ المعاصر ستيليوس رامفوس،[36]
وكما تدلُّ حقيقة أنَّ الفلسفات الشخصانية - حتى وإن انتقدت الفردانية
- نشأت وازدهرت وأثَّرت في المجتمعات الفردانية نفسها، في حين أنَّها
ربما لم تحقق التأثير نفسه في أمكنة أخرى تفتخر بإرثها الاجتماعي
التضامني بينما هي تعاني من التفكك والأنانية المتطرِّفة حتى وإن
كانت تفتخر نظريًا بعلاقات اجتماعية متماسكة أصبحت في واقع الأمر
مجرَّد شعارات جوفاء. وهكذا يمكن في الحقيقة أن تكون الفردانيَّة بكل
سلبيتها خطوة في طريق تحقيق الشخصانية الحقيقية وليست نقيضًا مطلقًا
لها، أي أنه من الممكن المحاججة بأنَّ الفردانية قد تكون، في بعض
صيغها، خطوة أولى لكسر أسوار القطيعية والجماهيرية الغرائزية
والقَبَلية العمياء، ودواءً ضروريًا في مرحلة من مراحل علاج الشخصية
البشرية المسحوقة. ويذهب اللاهوتيُّ الوجودي بول تيليش إلى القول بأنَّ
فردَنة الإنسان هي إحدى قوانين الحياة التي "تتفَردَن" بكافة الصور
والأشكال، و"كلَّما تفرْدَن الكائن كلما أصبح أكثر قدرة على المشاركة."[37]
ويشير تيليش إلى أنَّ الكائن القادر على الاعتزال هو فقط القادر بالفعل
على الشَّرِكة مع الآخرين، أي إنَّ الفرد الحقيقي هو فقط من يستطيع
خدمة الجماعة. ومن يبحث عن التخلص من وحدة ذاتيته المفردة ضمن حالة
جمعية طاغية سيبقى وحيدًا إلى الأبد لأنَّه حين يدخل بين الحشود لن يجد
أشخاصًا آخرين ليستقبلوه وليتشارك معهم بشكل شخصيٍّ بل كل ما سيجده هو
حالة ’شيئية‘ تعبِّر عن الشخصية العامة للجماعة المؤلَّفة من تكتُّل
كبير من البشر الذي يعانون من الوحدة.[38]
إنَّ الخطر الذي يواجه الإنسان إذن سواء ضمن شكلٍ اجتماعيٍّ طاغٍ أو
ضمن مجتمع فردانيٍّ مهلهَل البنية هو أن يتحوَّل إلى مجرَّد شيء من
الأشياء، إلى عنصر بلا معنى، إلى نسخة مكرَّرة، أو نسخة غير مكرَّرة
ولكن لا حياة فيها ولا معنى ولا هدف. وهذه الحالة الأخيرة هي الشكل
الفردانيُّ الذي يكافح ضدَّه برديايف.
وعلى أية حال، وبالاستناد إلى المنطلقات السابقة في هذا التحليل، يمكن
القول إنَّ أنطون سعادة هو خير مثال على الشخصية الفردية، ليس بالمعنى
الفردانيِّ الاعتزاليِّ، بل بمعنى الشخصية المتفرِّدة التي لا تخضع
لسلطان وطغيان العُرف والدين المؤسساتي والمذهب والطائفة والقبيلة
وعاداتها البالية؛ فلم تأتِ الأخلاق التي آمن بها نسخة من أيَّة شريعة
ثابتة جامدة ورثها، بل اختار لنفسه (وللقضية التي آمن بها) ما يعتقد
أنَّه مناسب لزمانه الحاضر والمستقبل، ودفع حياته ثمنًا لهذه
الاختيارات المنبثقة من أعماقه. وهذا ليس مديحًا لعقيدة الرجل وسلوكه
السياسي وخياراته؛ فإصدار حكم كهذا لا يمكن أن يحصل من دون دراسة
تحليلية عميقة وتفصيلية في فكره وسيرته، وهذا أمر جدير بدراسة
مستقلَّة. كما أنَّ سلوك سعادة وتأثيره على أتباعه أو تعامله مع
أصدقائه وخصومه لا يغيِّر أيضًا من حقيقة تفرده؛ فسواء اختلف المرء معه
أو اتفق فالأمر سيَّان، وسواء استطاع سعادة أن يمنح أتباعه نفس
إمكانيات تفرُّد شخصيته أم لم يفعل فلا يغيِّر هذا من حقيقته؛ فكم من
شخصيات إبداعية باهرة نجحت في تعليم أتباعها كيف تكون على نفس مستوى
التفرُّد، وكم من شخصيات نظيرها لم تنجح في ذلك، وخاصة أن جزءًا كبيرًا
من التأثير يتعلَّق على أية حال بالأشخاص واستعداداتهم وميولهم
وإرادتهم الحرَّة؛ ولسنا الآن أيضًا بوارد إصدار حكم في هذه المسألة من
دون دراسة تاريخية دقيقة لمسيرة الحركة القومية الاجتماعية السورية.
*** *** ***