فيليب شيرارد: أفلاطونيٌّ سئم العيش في جمهورية أرسطو
تشريح البنية التحتية المعرفية وكشف الأساس الأغسطيني-الأرسطي
للتنوير والحركة الإنسانوية الأوروبية
فادي أبو ديب
يعتبر
المفكِّر واللاهوتي البريطاني فيليب شيرارد (1922-1995) واحدًا من ألمع
المفكرين واللاهوتيين الغربيين الذين اطّلعوا على التراث الأدبي
والفلسفي واللاهوتي اليونانيِّ ودرسوه وتعمَّقوا فيه. وقد نقل شيرارد
إلى الإنكليزية أعمال أهم الشعراء اليونانيين المحدثين والمعاصرين،
كجورج سفيريس وأوذيسيوس إليتيس وكافافي وآخرين، كما ساهم في ترجمة
الفيلوكاليا وهي مجموعة من الكتابات النسكية واللاهوتية الأرثوذكسية
التي جمعها راهبان من جبل آثوس في اليونان خلال القرن الثامن عشر
وأحدثت نهضة كبيرة في الدراسات اللاهوتية الشرقية في الغرب والشرق.
شيرارد، مثل مفكِّرين غرب-أوروبيين عديدين، كان يحنُّ إلى زمن المعنى
والقيم المطلقة وقد هالته عدمية العصر الصناعي وما بعده والفردانية
المتطرفة التي تتغلغل في نمط الحياة في المجتمع الحديث، فانشغل في
العديد من كتاباته التاريخية والفلسفية واللاهوتية بمحاولة فهم سبب ما
وصل إليه المجتمع الغربيُّ من تقدم علمي وتقني سهَّل حياة الإنسان بشكل
غير مسبوق، ولكنه من جهة أخرى أصبح مهددًا لطبيعة الإنسان وللبيئة
الطبيعية، أي للحياة البشرية بأسرها. ولأنَّ العلم الحديث (كمنظومة
وفلسفة) هو نتاج غرب-أوروبي في المقام الأول (وهو لا يمدحه تمامًا هنا)
سعى شيرارد إلى البحث في جذور الفكر الأوروبي، واللاهوت الغربي المسيحي
بشكل خاص، عن الجذور التي دفعت نحو الانقلاب على المسيحية بوصفها
ممثلاً للقيم الروحية في المجتمعات الأوروبية. بمعنى آخر، كان المفكِّر
البريطاني يبحث عن ماهية الأخطاء المفاهيمية والفلسفية التي ارتكبها
اللاهوت المسيحي الغربي فأوصل نفسه عن طريق الفلسفات التي خرجت من صلبه
إلى اللامعنى وانهيار القيم الروحية في العالم الغربيِّ. وما هي
الافتراضات الفلسفية المسبقة التي قلَّما يفكِّر فيها الإنسان العادي،
وربما يجدها بلا تأثير أو سفسطائية كالسؤال عن جنس الملائكة، التي كان
لها التأثير الأكبر في انهيار القيم المطلقة والخضوع للنسبوية؟ هذا
البحث لم يكن مجرَّد بحث لاهوتيٍّ، فقد كان بالنسبة إلى شيرارد بحثًا
عن جوهر الإنسان ومكانته في الطبيعة. أما الإجابة فبالغة الأهمية
لأنَّها ستساهم في السعي نحو عالم ذي معنى وغاية؛ عالم لا يفتقر للمنطق
والانسجام والترابط الداخلي كما هو عليه اليوم، ولا يفتقر للبُنى
والهرميات الصحيحة الضرورية لاستمراره، على مستوى الحقيقة الشخصانية
للإنسان والطبيعة التعاضدية للمجتمع الإنسانيِّ الكونيِّ والبيئة
الطبيعية المتعافية والسليمة، والتي يصرُّ شيرارد على أنَّ العلم
الحديث من حيث أساسه المعرفيِّ ومنطقه، وليس بالضرورة من حيث تطبيقاته
كلها، ساهم ويساهم، ببطء ولكن بخطى ثابتة، في تدميرها الشامل.
ويؤكد فيليب شيرارد مسؤولية القديس أغسطينوس على حجب قيمة الإنسان في
اللاهوت الغربي وبنوته لله وحقيقة جوهره، بسبب عقيدة الخطيئة الأصلية
التي بالغ في التركيز عليها في لاهوته العقائدي. هذه العقيدة التي
تتفرَّد بها المسيحية الغربية رغم تسرُّب تأثيراتها إلى الشرق البيزنطي
في كثير من الأحيان. وأغسطينوس نفسه سيكون فيما بعد ملهمًا رئيسيًا
للبروتستانتية عند الراهب الأغسطيني مارتن لوثر وعند جون كالفن، وخاصة
بصورتها الجبرية في التعيين المسبق
predestination، الأمر الذي ترك تأثيرات سلبية
في اللاهوت نفسه وفي الحياة العمومية والدينية والفكرية في الغرب بحسب
رؤية شيرارد. وسيتضح فيما سيلي ماهية التأثير العميق الذي تركه القديس
أغسطينوس في الفكر الأوروبي على المستويين الفلسفي واللاهوتي.
البحث عن جوهر الإنسان وحقيقة كل الموجودات:
يحمل شيرارد المولع بالإغريق وتراثهم الكلاسيكي وصولاً إلى اليونان
المعاصرة بشعرها وأدبها وطبيعتها المتوسطية شغفًا طبيعيًا بالمسيحية
البيزنطية، لأنه وجد فيها ما فقده الغرب كلاهوت وثقافة، وهي سُكنى
الإله مع الإنسان والإنسان مع الإله، هذه السكنى التي قد لا تعبِّر عن
نفسها بالضرورة بمفردات دينية وبعبادة مؤسساتية واضحة، ولكنها تتجلَّى
في طبيعة الحياة اليومية للناس وفي العبادة والشِّعر والأدب والتراث
النسكيِّ، وهو الذي يجد مثيلاً له في الغرب عند شخصيات نسكية أو أدبية
مثل وليام بليك والشاعر و. ب. ييتس وأمثالهما. يصف شيرارد بداية
مواجهته الخلابة مع اليونان في شعر جورج سيفيريس، كما يلي:
وكانت هذه نقطة
البداية الحقيقية لاختباري اليونان، أو لاتصالي مع ما أسميته العقل
الآخر لأوروبا، لأنني عندما بدأت هذه القصائد كنت في نفس الوقت واعيًا
إلى وجود صوت، أو تواؤم مع، أو استجابة للحياة - أو ادعوه كما شئتم -
والتي امتلكت مع كلِّ ارتباطاتها مع كل ما عرفته سابقًا من شعر
أوروبيٍّ أو أمريكيٍّ - امتلكت خصيصةُ لم أقابلها قطّ من قبل. لقد
هزمت، حرفيًا، إطاري المرجعيَّ وتحدَّت... كل الأرضية التي كنت أقف
عليها، وتطلَّبت مني أن أخطو عبر باب لم أعرف قطّ أنه موجود.[1]
هذه المواجهة الباهرة بين شيرارد وشعر سيفيريس تركت في المفكر
البريطاني أثرًا لم يزُل قطّ حتى نهاية حياته، وجعلته ينتقل إلى الضفة
الأخرى من أوروبا ليتبحَّر في إنتاجها الفلسفي واللاهوتي والأدبيِّ.
ونجد عند شيرارد أثر الفلسفة البرينيالية
perennial
الغابرة كما تجلت بشكل
خاص عند الآباء البيزنطيين وفي التراث الأرثوذكسي عمومًا، كما نجد في
فكره أثرًا واضحًا لشخصيات أرثوذكسية حديثة من أمثال المفكر الروسي
فلاديمير سولوفيوف واللاهوتي الروسي المهجري سيرغي بولغاكوف وآخرين. من
هنا يجد شيرارد علاقة تبادلية لا غنى عنها بين الله والإنسان، أي بين
الألوهة كمبدأ والإنسانية ككلّ.
يصف شيرارد العلاقة الإلهية-الإنسانية بشكل راديكاليٍّ، ذاهبًا إلى
الاعتبار بأنَّ الله لا يوجد من دون الإنسان. وهو بهذا القول لا يعتنق
أبدًا ما تذهب إليه بعض مذاهب علم النفس وعلم الاجتماع، والتي تقول
إنَّ الله خيال أو إنَّه إسقاط الإنسان لصورة أبيه أو قبيلته أو مجتمعه
على كيان متعال وغير محسوس، فشيرارد يقصد معنى آخر تمامًا، بل هو في
غير مكان يدين تلك الأفكار التي يعتقد بأنَّها تشيِّئ الإنسان وتسلبه
جوهر إنسانيته نفسها. ما يقصده شيرارد هو أنَّ الإنسان هو تجلِّي الله
وإنَّ الإنسانية موجودة في الله كما أنَّ الألوهية موجودة في الإنسان.
الفرق بينهما هو أنَّ الله يمتلك الألوهية بطبيعته بينما يحوزها
الإنسان بالمشاركة. الإنسان كالنور الذي يخرج من النور إذن وكلٌّ من
الله والإنسان يعبِّر عن الآخر بمعنى ما.
يدَّعي شيرارد أنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تحفظ للإنسان
إنسانيته، فالإنسان هو "مخلوق يحيا من خلال المشاركة في الإلهيِّ،
والذي يفشل في كونه إنسانًا بنفس الدرجة التي يفشل فيها في أن يدرك هذه
المشاركة بمعنى فعال تمامًا."[2]
وتشييء الإنسان طريق ذو اتجاهين، فهو حاصل لا محالة في حال نظر الإنسان
إلى نفسه ككائن خلقه الله ولكنه ذو جوهر مختلف تمامًا عنه، فتكون
العلاقة بين الطرفين غامضة وغير ممكنة، كما إنَّ النتيجة نفسها تتحقق
إذا ما نظر الإنسان إلى نفسه بأنَّه ذو ألوهية مستقلة تمامًا عن الله
وليس بحاجة له. أي إنَّ الإنسان يخسر إنسانيته إذا لم يدرك إلهيته
أبدًا أو إذا أدركها من خلال "موت الله". النظرة الأولى نظرة دينية
تقليدية وهي الرأي السائد في كثير من الأديان بما فيها المسيحية عمومًا
والأرثوذكسية نفسها التي يرفض الكثير من لاهوتييها فكرة إزالة الهوة
السحيقة بين الجوهر الإلهي والجوهر الإنساني، ولعلَّ جورج فلوروفسكي،
أحد أشهر لاهوتيي الأرثوذكسية في القرن العشرين، خير ممثِّل لهذا
الاتجاه، حيث يشدِّد على هذه الهوة الأنطولوجية بين الإلهيِّ
والإنسانيِّ.
وشيرارد في مذهبه هذا يقدِّم اختلافه عن اللاهوت التقليدي في نقطتين
على الأقل:
·
النقطة الأولى تتعلَّق برؤيته لله، فهو رغم ابتعاده عن الحلولية إلا
أنَّه يصرُّ على نفي وجود أيِّ شيء "خارج" الله. وهو هنا يبدو وثيق
الصلة بالاعتقاد البرنياليِّ حول "وحدة الوجود" (وهو ليس مرادفًا
للحلولية، وإن بدا قريبًا منها)؛ فالله هو "الكائن" وكل ما يظهر من
الخلائق ليس إلا تجليًا لجوهر الله أو "لمحتواه"، مع التأكيد بالطبع
على حقيقة جوهر كل مخلوق. وشيرارد يبدو هنا متأثرًا أيضًا بالتيار
الروسي الآنف الذكر الذي افتتحه فلاديمير سولوفيوف في محاضراته عن
الإنسانية الإلهية في عام 1878.
·
أما النقطة الثانية فهو تعريفه لمصطلح "النعمة الإلهية". وهذا مفهوم
أساسي في اللاهوت المسيحي كله بشكل عام، وقد صار في اللاهوت الغربي
دلالةً على ما يسبغه الله على خليقته من عطايا وبركات رغم عدم
استحقاقها وعدم اضطراره وذلك في سبيل أن تتعرَّف الخلائق على خالقها.
ففي الكاثوليكية كانت تظهر النعمة كفعل مضاف إلى حالة طبيعية صرفة
مجرَّدة من النعمة. وفي البروتستانتية، وخاصة عند لوثر وكالفن، متبعين
أثر أغسطينوس، صارت النعمة دلالة على الطريقة الوحيدة الممكنة التي
تمكِّن الإنسان "الفاسد كليًا" من الالتفات إلى الله ومعرفته، وقد
تجلَّى هذا الاعتقاد بالشعار البروتستانتي الشهير
Sola Gratia
("بالنعمة وحدها"). ولكن شيرارد يقدِّم
مفهومًا للنعمة يختلف عمَّا سبق؛ فهي
ليست شيئًا
برَّانيًا، وليست شيئًا مضافًا إلى طبيعة الإنسان؛ إنها متضمَّنة في
شروط ولادته. أي يمكن للمرء أن يقول إنَّ الهوة المطلقة بين الخالق
والمخلوق، والتعالي الكامل للّه، التعالي الذي يشكِّل هذه الهوة،
كلُّها يتم تجاوزها والتعالي عنها في ذات فعل الخلق. فالخلق يقدم لنا
هذا البارادوكس: إنَّه يؤكِّد وجود هوة لا يمكن تجاوزها بين الله
والمخلوق والتي يتم جسرها بواسطة فعل الخلق ذاته.[3]
تعريف شيرارد إذن للعلاقة الإنسانية-الإلهية يؤدي إلى أنَّ الإنسان
عنده يحقق شخصانيته، أي يحقِّق كونه "شخصًا" عن طريق فهمه لأصله
الإلهيِّ ولعلاقته مع أصله الإلهيِّ. "الشخص" أو "الأقنوم"
hypostasis
عند شيرارد هو كعند غيره
من المفكرين واللاهوتيين الخارجين من رحم الفكر الأرثوذكسي أو مداراته
المحيطة؛ إنها الفكرة نفسها التي نجدها عند المفكرين الروس من أمثال
ألكسي خومياكوف وفلاديمير سولوفيوف ونيكولاي برديائيف واللاهوتي
اليوناني خريستوس يانّاراس والصربي يوستين بوبوفيتش والروسي صفروني
ساخَروف. في هذا السياق طُرِح مفهوم الشخص كضدٍّ لمفهوم الفرد في
الفلسفة الغربية الأوروبية؛ فالشخص جزء لا يتجزأ من مجتمع تشاركي
تعاضديٍّ
communal، وليس مجرَّد مواطن في مجتمع
صناعيٍّ-اقتصاديّ الطابع، عليه بعض الحقوق والواجبات تجاه كيان
لاشخصانيٍّ يمتلك في ذاته قوة مستقلة ومتعالية على كل فرد على حدة وعلى
مجموعهم أيضًا يكون فيه الفرد كيانًا منعزلاً أو شبه منعزل مثل ذرة
شاردة في فضاء مليء بذرات أخرى، أو "ذرَّة بين غرباء"،[4] أو كجزء من تكتُّل بشريٍّ غير
عضوي كما يحب سولوفيوف أن يسمِّيه.[5]
من ناحية أخرى، يرى شيرارد أنَّ علاقة الإنسان بنفسه تشبه العلاقة
الإلهية-الإنسانية التي يعرِّف كل من طرفيها الطرف الآخر ولا يكون
بدونه. فالإنسان ليس مجرَّد جسد مادِّي بلا نفس أو كيان غير مادِّي كما
يفترض العلم الحديث، وهو أيضًا ليس مجرَّد نفس سرمدية خالدة وطاهرة
تعاني من أدران الجسد المادِّي وتسعى للهروب والتحرر منه كما في
الأفلاطونية، بل إنَّ الجسد والنفس متحدان في الإنسان كاتحاد اللاهوت
والناسوت في المسيح، اتحادًا من دون تشويش أو اختلاط أو امتزاج أو
انقسام. وهذا الجزء غير المادي لا يقوم فقط على الملكات العقلية
والملكات النفسية الأخرى المعروفة، بل يحتوي في صميمه الأبديِّ ذهنًا
روحيًا أو ما يُعرف باليونانية بالنوس
nous،
وهو الملكة - إن صح التعبير - التي لا تحتاج إلى التصنيفات والتحليلات
والطرق العقلانية في التفكير بل هي على صلة سرمدية بكلِّ مستويات
الوجود وعناصره الجوهرية، فتعرفه وتتعرَّف عليه بالاختبار المباشر، كما
يدرك الكثير من الناس دينيِّين وغير دينيين، من القارئين للكتابات
المستيكية والصوفية أو من الذين لم تسنح لهم الفرصة أن يطَّلعوا عليها
أو حتى أن يتعلَّموا القراءة والكتابة.
وهكذا يكون
الإنسان وسيطًا بين الطبيعة المادية والمستويات الفائقة والإلهية
فيقرِّب الاثنين من بعضهما ككاهن يقف أمام الله لأجل جل نفسه ولأجل
كامل الخليقة الطبيعية. ويشرح شيرارد هذه الصورة، مبينًا أنَّ "هذه
السمة الثلاثية للإنسان - حقيقة أنَّه من خلال ذهنه الروحيِّ، والذي
يفوق بكثير مجرَّد كونه عقلانيًا، على صلة قرابة بما هو إلهيٌّ، بينما
يرتبط بجسده بالعالم الماديِّ - هذه السمة هي التي تمنحه مثل هذه
المكانة الرئيسية والدور المفتاحيِّ في الكون. إنه يقف بين الله
والعالم المادي، بين السماء والأرض. وبحسب الصيغة القديمة فإنَّه كون
مصغَّر
microcosm. وفي الحقيقة، كل الأشياء تجد في الإنسان نقطة لقاء، ويكون الإنسان
كل الأشياء في حالة الكمون.[6]
نجد هنا صدى لفهم سولوفيوف للعلاقة الإلهية الإنسانية؛ ففي عمله الأشهر
"محاضرات حول الإنسانية الإلهية"، يرى سولوفيوف أنَّ الطبيعة
الإنسانية ما هي إلا الجسر الواصل بين الطبيعة المادية والطبيعة
الإلهية. الإنسانية هي ذروة الخليقة (والخليقة عنده ليست من العدم بل
هي تجلٍّ لجوهر الله أو خروج الله إلى حيِّز ما هو ملموس) والجسر الذي
يأخذ بيدها نحو أصلها الإلهيِّ من جديد. الجنس البشري بمعنى ما هو
"المطلق الثاني"، تجلِّي المطلق الأول الذي هو الذات الإلهية.[7]
يشدِّد شيرارد على أنَّ عدم إدراك الإنسان لماهيته من جهة ولموقعه على
سلم الموجودات ومهمته الكونية من جهة أخرى جعله ينكبُّ على تشييء
الطبيعة واستعبادها قبل أن يصبح هو نفسه عبدًا لمنظوماته المتزايدة
التعقيد وأخيرًا لآلاته وتقنياته المتقدمة. هذه هي السخرية التي سبق
لشيرارد أن ذكرها حين ألمح إلى أنَّ الإنسان، وفي أوج إصراره على
التأكيد على "إنسانيته" و"شخصيته" المستقلة عن الألوهة وعمَّا هو غير
مادي من المستويات الفائقة ضمن الوجود الكوني وما فوقه، فقد إنسانيته
ذاتها التي يستميت في تأكيدها. هذه هي الإنسانية
humanity
المزيفة، والإنسانوية
humanism
المزيفة التي بدأت بتمجيد
العقل الإنساني في عصور النهضة والتنوير ثم انحدرت إلى البحث عن حقيقة
الإنسان في المملكة الحيوانية، كما يعبِّر عن ذلك يوستين بوبوفيتش حين
اعتبر أنَّه مع نيتشه وداروين "توجهت أوروبا لتبحث عن الإنسان الجديد
بين الكائنات الأدنى لكي تبتدع إنسانًا من دون الله من رحم المملكة
الحيوانية".[8] وعلى المستوى الإنساني
الفرديِّ، تتجلَّى هذه الإنسانية المزيفة بالذات المزيفة. هذه هي الذات
التي يطلب المسيح (وعدد كبير جدًا من معلِّمي الحكمة) من الإنسان
إنكارها وإبغاضها كما يشير شيرارد.[9] وهي ربما الذات نفسها
التي يسعى كثير من المستيكيين والمتصوِّفة إلى إفنائها. في المستيكية
المسيحية، لا تذوب شخصية الإنسان في ما هو إلهيٌّ، فالشخصانية مؤكَّدة
لأنَّ الله شخص (بمعنى ما). الشخص أو الأقنوم كيان سرمديٌّ لا يفنى،
ولكن ما يجب أن يفنى أو يُصلح ويُستنار هو الذات المزيفة أو الإيغو
بالتعبير اليونغي، وذلك من أجل تحقيق التفردن
individuation
وإيجاد الذات الحقيقية
Self.
حين يحصل هذا الأمر وتتكشف للشخص ذاته الإلهية الحقيقية، التي هي على
صورة الله ومثاله، يعرف أنَّه ليس كونًا مصغَّرًا فحسب بل هو نفسه
الكون الكبير
macrocosm
بالفعل من خلال المشاركة
في الجوهر الإلهي.[10]
ما الذي حدث في الغرب؟
يُمعِن إذن شيرارد في التنقيب الفلسفي عن جذر التحولات
اللاهوتية-الفلسفية في الغرب ليعيد بداية الفصل بين الإلهيِّ
والإنسانيِّ إلى القديس أغسطينوس الذي عاش في القرنين الرابع والخامس
للميلاد. فأغسطينوس (المانويُّ سابقًا والمعتنق للأفلاطونية المحدثة
لاحقًا قبل اعتناقه المسيحية) الذي تحدَّث عن الاستنارة الروحية
والنعمة الإلهية هو نفسه الذي بدأ مسلسل الفصل بين الله والإنسان، حين
اعتبر أنَّ الإنسان في حالته الطبيعية فاسد تمامًا ولا يمكنه أن يخرج
من فساده إلا عن طريق نعمة إلهية لا تُقاوَم؛ هذا المبدأ الأخير الذي
صار أحد أعمدة البروتسانتية الحديثة التي خرج بها جون كالفن ثم تشدد
فيها أتباعه إلى درجة أن أصبح الإنسان مخلوقًا لا حول له ولا قوَّة،
ليس عاجزًا عن التقدم الروحي فحسب بل هو عاجز أيضًا عن الالتفات إلى
العالم الإلهيِّ والحياة الروحية من دون نعمة إلهية خاصة تقترب من
الحدث العجائبيِّ أو هي كذلك فعلاً. هذا التعليم بالفساد الكامل الناتج
عما يسمى بالخطيئة الأصلية لم يعرفه الشرق المسيحي بصورة واسعة؛ فالشرق
المسيحي حافظ بمستويات مختلفة على الاعتقاد ببقاء الصورة الإلهية في
الإنسان، التي وإن أصابها بعض الضرر تبقى كاللوحة التي يعلوها بعض
الغبار. الأهم هو أنَّ آباء الكنيسة الشرقيين لم يعتقدوا بالخطيئة
الأصلية التي تعني فيما تعنيه أنَّ كل إنسان مذنبٌ نتيجة خطيئة حدثت في
غابر الأزمان، بل يعتقدون أنَّ الإنسان ورث مرضًا روحيًا يعاني منه،
كما يعاني بالوراثة من أمراض بيولوجية تنتقل في العائلات. فالإنسان لا
يحمل "ذنبًا" جرح به "كرامة" الله أو عدالته التي باتت في مأزق تبحث عن
تعويض للعدالة المفقودة أو الكرامة المهدورة(!)، كما في العديد من
النظريات اللاهوتية الكلاسيكية الغربية (وخاصة نظرية أنسلم)، والتي ما
تزال سائدة في العديد من المجتمعات الدينية، بل ألقت بصبغتها
وتطبيقاتها حتى في بعض المجتمعات التي انسحبت منذ زمن من الحياة
الدينية العمومية (الفكرة الرأسمالية الشهيرة عن مذنوبية الفقير وذنبه
الشخصي في كونه فقيرًا، والمتأتية من فكرة أن الذنب هو الذي يجعل
الإنسان مقطوعًا عن البركة الإلهية الروحية والمادية أحيانًا، وفكرة
صكوك الغفران التي تتضمن حقيقة أنَّه لا غفران بلا ثمن يتم تسديده، على
سبيل المثال لا الحصر).
أغسطينوس الذي يُعتَبَر بحقٍّ أبًا للّاهوت الكاثوليكي الرومانيِّ قبل
القديس توما الأكويني، وبصورة أقل، البروتستانتي، بدأ إذن هذا الفصل
بين ما هو إلهيٌّ وما هو إنسانيٌّ، من دون أن يدرك بالطبع نتائج هذا
الفصل في الأجيال اللاحقة. كما يتهم المفكر البريطاني أغسطينوس بأنَّه
هو من روَّج لفكرة عبودية الإنسان وعجزه الناجم عن فساده الكليِّ، وهي
الفكرة التي خنقت (أو على الأقل حيَّدت) الجزء الآخر من الفكرة
المسيحية التي ترى في الإنسان ابنًا للّه.[11]
ويلخِّص شيرارد الصورة النهائية للّاهوت الأغسطيني التي أتى على إثرها
الأكويني وبدأ عمله بأنَّها فصل كامل بين الخليقة والخالق، بين العالم
والكنيسة، بين الطبيعيِّ وما صار يًسمَّى بفوق الطبيعيِّ، مبيِّنًا أنه
بالنسبة إلى أغسطينوس لم تكن جواهر المخلوقات، أو قل أسسها
الأنطولوجية، موجودة في المخلوقات نفسها، بل خارجها، والمخلوق لا يمكن
بأي طريقة أن يكون شعاعًا صادرًا من النور الإلهيِّ، وكل ما هو عالميٌّ
منفصل جوهريًا عن العالم اللدنيِّ والذات الإلهي ومصيره الاضمحلال
الأكيد.[12]
هذه الاعتبارات التي خرج بها أغسطينوس وأكَّدها في لاهوته العقائدي، من
دون إنكار النواحي المستيكية العميقة في شخصيته والتي تجلَّت في عدد من
كتاباته الأخرى لعلَّ أهمها اعترافاته، هذه الاعتبارات أصبحت هي النظرة
السائدة حين بدأ القديس توما الأكويني يسجِّل شروحاته الفلسفية
واللاهوتية متأثرًا بفلسفة أرسطو ومعتمدًا عليها. فشيرارد يجد أن
التحول الحقيقي في اللاهوت المسيحي الغربي "الرسميِّ" -إن صح التعبير -
هو التحوُّل عن المبادئ الفلسفية الأفلاطونية بشكل كبير والاتجاه نحو
الأرسطية. ويؤكد شيرارد على أنَّ الاختلاف الكبير بين منظومتي الأفكار
الأفلاطونية والأرسطية يجسِّد نفسه في نقطتين اثنتين تهمَّان موضوع
القيم الروحية وعلاقة الإنسان بالألوهة ومكانته الكونية:
·
النقطة الأولى هي رفض أرسطو لفكرة المُثُل الأفلاطونية بوصفها كينونات
حقيقية أو أفكارًا إلهية لها وجودها الجوهريّ الخاص بمعزل عن
تجسُّداتها الأدنى في العالم الماديِّ. وبالتالي لا يوجد جوهرٌ ما
يحلُّ في عدة تمثلات أرضية. فلكل كيان جوهره الخاص. ويمكن هنا أن نضرب
مثالاً توضيحيًا: فإذا كانت كل الأحصنة بالنسبة إلى أفلاطون تشترك في
الجوهر الذي هو "الحصان"، أي إنَّ الخاصَّ يشترك بجزء من العام مع
خاصٍّ آخر؛ فإنَّ هذا غير ممكن بالنسبة إلى أرسطو، فللحصان البنيِّ
مثلاً جوهر يمتلك صفاتٍ معينة، وللحصان الأسود جوهر آخر وللأشهب ثالث
وهكذا. وأرسطو يرفض إمكانية وجود الجواهر المركَّبة، أي، بالتحديد، لا
يمكن للجوهر الإلهي أن يجتمع والجوهر الإنساني في كيان واحد من دون أن
يزيحه تمامًا أو يدمِّره. وهكذا لا يمكن أن يكون هنالك شراكة بين الله
والإنسان في الجوهر أو في الطبيعة، وفكرة السكنى المتبادلة أو الاحتواء
المتبادَل
perichoresis
التي تقوم عليها أجزاء مركزية من اللاهوت المسيحي، سواء في فهم فكرة
الثالوث أو التساكن الإلهي-الإنساني، أصبحت مستحيلة تمامًا، حتى لو بقي
اللاهوت العقائدي الغربي يقرُّ بها حتى اليوم. فالمهم ليس فقط ما يتم
الإقرار به، وليس مجرَّد وجود عبارة هنا أو هناك، بل مقدار التركيز على
الفكرة وموقعها كمحور للممارسة والفكر أو كجزء طرفيٍّ أو حتى كشعار
مقدَّس ومنسيٍّ في عين الوقت.
·
النقطة الثانية هي أنه بحسب أرسطو يكون الجوهر غير منعزل عن الصفات،
فلا وجود للجوهر من دون صفات معينة ولا وجود لهذه الصفات من دون
الجوهر. بإسقاط هذا المفهوم على اللاهوت: لا يمكن أن يشارك الخاص
(إنسان ما) في العام (الجوهر الإلهي) ليشكِّل هذا الأخير حقيقته
الأبدية، لأنَّ هذا غير ممكن، كون الجوهر الإلهيِّ مرتبط عضويًا
بالصفات الإلهية. فالألوهة عند أرسطو وأتباعه من السكولائيين
(المدرسيين) هي المحرِّك الأول
(Prime
Mover)
ولا تتخلل الأشياء جوهريًا بسبب استحالة تشارك جوهرين اثنين في كيان
واحد، فهي فعليًا بعيدة عن المخلوقات من حيث الطبيعة ولو أنها داخلها
(محايثة) كالعلَّة الأولى في أول سلسلة لا نهائية من العلل والمعلولات.
ويشير اللاهوتي الروسي سيرغي بولغاكوف إلى أنَّ فكرة المحرِّك الرئيسي
هذه ليست مناسبة بتاتًا للفهم المسيح للعالم حتى لو لجأ إليها الكثير
من اللاهوتيين عبر العصور. ففكرة الله كمحرك رئيسي في أول سلسلة العلل
والمعلولات ما هي إلا بوابة الإلحاد وإنكار وجود الله وقطع عرى الشراكة
بين الإنسان وكينونته الإلهية الأصلية.[13]
ويلخص بولغاكوف الفرق بين النظرة الأرسطية والنظرة المسيحية للعلاقة
الإلهية-الإنسانية بتأكيده على أنَّ "الله ليس علَّة العالم، تمامًا
كما أنَّ العالم ليس معلوله، وليس مرتبطًا به برابط سببيٍّ. الله هو
خالق [مُبدِع] العالم، والعالم هو خليقة الله. وصلة الخالق بالخليقة
مختلفة جوهريًا عن صلة العلة بالمعلول".[14]
ويشرح بولغاكوف الفرق بين المعلولية والخلق باللجوء إلى تصوير الفرق
بين الجبرية وحرية الإبداع الإنساني المشتقِّ من الإبداع الإلهي؛
فالسببية "ميتة، بينما الإبداع حيٌّ وحامل للحياة. ويمكن للسببية أن
تكون مشمولة في الإبداع ولكن فقط بشكل يخضع لأهدافها وخططها، لأنَّ
السببية الميكانيكية عمياء وفارغة في ذاتها، بمعنى أنَّ الجِدَّة
الإبداعية غائبة عنها".[15]
يلخِّص شيرارد نتيجة هذين الافتراضيين الأرسطيين بالنتيجة التالية:
يمتلك الجوهر
substance
وجودًا منفصلاً
على شاكلة الكيانات الخاصة
particulars
فهو ينتمي فقط إلى نفسه وإلى الذي يحوزه. وبالتالي فهو غير قادر على
أن التواجد في كثرة من الكيانات الخاصَّة
particulars
بشكل متزامن،
ولهذا فهو لا يستطع أن يكون كونيًا
universal
بالمعنى الأفلاطوني. الجواهر عند أرسطو لا يمكن مشاركتها أو التشارك
بها. وكل جوهر في الكون فرديٌّ بشكل مطلق.[16]
هذه القاعدة المعرفية الأغسطينية-الأرسطية جعلت من الصعب على الأكويني
وغيره أن لا يروا العالم من منظور مثنوية الطبيعيِّ- فوق الطبيعيِّ؛
فالله موجود وهو المحرِّك الأول للعالم وعلَّته الأولى، ولكنه في
النهاية يبقى منتميًا - إن صح التعبير - إلى نظام وجوديٍّ مفارق بصورة
راديكالية للنظام الوجودي للعالم الطبيعيِّ الذي تسوده الدساتير
الفيزيائية والرياضية بطرقة شبه ميكانيكية لا يتدخَّل فيها النظام
العلويُّ إلا في الخوارق والأعاجيب.
وإذا كان شيرارد يبدو معارضًا للفكر الأرسطيِّ ولمضامينه الأنطولوجية
والمعرفية، فإنَّ أنطوني غوتليب، وهو على العكس من شيرارد في تحمُّسه
للدفاع عن "عدم لاهوتية" الفيلسوف الإغريقي، يؤكِّد بشكل أو بآخر
أطروحة شيرارد؛ فغوتليب يؤكِّد على حقيقة أنَّ ما فعله دعاة الثورة
العلمية في أوروبا في القرن السابع عشر من رفض للصورة الغائية للكون لم
يكن انقلابًا على فلسفة أرسطو بل بالحقيقة عودة إليها من دون الإضافات
اللاهوتية التي أسبغها عليها اللاهوت المسيحي الكاثوليكي.[17]
كما يشير غوتليب إلى أنَّ أرسطو كان على عكس أفلاطون متفائلاً ويرى
أنَّ "الكهف الأفلاطوني" لم يكن بهذا السوء فيما لو "أُنير جيدًا"
وبشكل خاص فيما لو التفت المرء إلى علم الحيوان.[18]
وهو يستشهد بمقطع من أحد أعمال أرسطو التي لا يسمِّيها، والذي يبيِّن
الاهتمام شبه الحصريِّ الذي كان يوليه أرسطو لعلوم الطبيعة على الرغم
من اهتمامه المعروف بالميتافيزيقا، لأنَّه وبحسب أرسطو لا يمكن للمرء
أن يعرف الكثير عن الجواهر الأبدية في حين أنَّ هذا ممكن من ناحية
الأشياء الأرضية والمرئية.[19]
هذه الافتراضات ونتائجها مهَّدت الطريق لديكارت لكي يخرج أخيرًا
بمثنوية مؤلفة من النفس والجسد من جهة، حيث لكل منهما جوهره الخاص الذي
لا يقبل التساكن المعرفيِّ مع الآخر، وبين الأنا المفكِّرة والعالم،
حيث يصير العالم موضوعًا للمعرفة بالعقل بشكل منفصل عن الذات العارفة.
فجوهر الذات العارفة منفصل تمام الانفصال عن العناصر المحيطة به ولا
يوجد صلة قربى - إن صح التعبير - بين الإنسان والمحيط، لأنَّه بحسب
الافتراض الأرسطيِّ ومن بعده اللاهوت السكولائيّ (المدرسيّ) القائم
عليه فإنَّ إمكانية تساكن الجواهر والطبائع المختلفة مع بعضها مستحيلة.
وهذا ما يلخِّصه العالم الفيزيائي فرنر هايزنبرغ حين شرح كيف أنَّ
ديكارت قسَّم العالم إلى الأنا واللاأنا وما أدى إليه ذلك من قيام وهم
المعرفة الموضوعية المطلقة التي لم تستطع الصمود طويلاً، وخاصة بعض
اكتشافات الفيزياء الكوانتية وغيرها من مجالات المعرفة.[20]
كما أنَّ هذه العقلية الأرسطية قد مهَّدت الطريق أيضًا لأمثال فرانسيس
بايكون الذي كان أيضًا يرغب بإنشاء نظام يفسِّر كل العلوم والموجودات
والظواهر من دون اللجوء إلى ما هو ما ورائيٌّ.[21]
وبالمختصر، يمكن القول إنَّ لبَّ الفهم اللاهوتي السكولائيِّ-
الأرسطيِّ للوجود هو ما يسمِّيه شيرارد بمبدأ "الحقيقة المزدوجة"، أي
مثنوية تقوم على وجود نظام طبيعيٍّ ونظام فوق طبيعيّ، وأنَّ لكلٍّ من
هذين العالمين نظامه الخاصَّ الذي لا يمكن أن يتداخل مع الآخر (إلا في
حالة الخوارق الاستثنائية)؛ فالطبيعة نظام مستقلٌّ من ناحية قوانينه
التي يمكن اكتشافها بعيدًا عن الاستنارة الروحية والمعرفة اللدنيَّة،
والعالم الإلهي له نظام آخر يمكن المعرفة عنه بنعمة خاصة واستثنائية من
الروح القدس أو الروح الإلهية، وبالتالي محصور بشكل أو بآخر ضمن
الكنيسة (مدينة الله).[22]
هذا الوضع من الانفصام شبه الكلِّيِّ بين العالمين يؤكِّده أيضًا هيغل
في "فلسفة التاريخ" حين يصوِّر حال العالم الغربي في القرون الوسطى،
حيث "كان العامَّة... غرباء عن الألوهة. إنَّه الشرخ المطلق الذي
انخرطت فيه كنيسة القرون الوسطى: لقد نشأ من اعتبار المقدَّس شيئًا
خارجيًا.... هذه النظرة تتضمَّن إنكار الوحدة الأساسية للإلهيِّ
والإنسانيِّ؛ بما أنَّ الإنسان في ذاته اعتُبِر غير قادر على تمييز
الإلهيِّ والاقتراب منه".[23]
من هنا يبدو واضحًا من أين أتت المذاهب الربوبية
Deism،
وما هو جذر فصل الدين عن الدولة (وهو شعار شعبيٌّ للغاية، تعتنقه كثرة
من المثقفين تردُّ الفكرة بشكل خاطئ إلى التنوير والفكر الحديث في حين
أنَّه فكرة ذات جذر لاهوتي غربيٍّ مغرق في القدم).[24]
كما يبدو جليًّا المكان الذي أتت منه كل أنواع الثنائيات المتضاربة في
الفكر الحديث (وخاصة قبل نشوء ما بعد الحداثة وتجلياتها التي أضعفت هذه
الحدود بين المفاهيم)، والتي تفصل بين العلم والفلسفة، الدين والفلسفة،
المجتمع المدني والمجتمع الديني، الله والطبيعة، الفرد والجماعة،
الحقيقة والأسطورة، المخيِّلة والعقل،...إلخ، وكيف في النهاية ظهرت
مذاهب الشكِّ الراديكاليِّ وصولاً إلى العبثية والعدمية وفكرة "موت
الله" وما شاكل من التجليَّات الطبيعية والمنطقية لفكرة عزل عالم الروح
عن عالم المادَّة. هذه الانقسامات التي تكاثرت وتتكاثر من دون توقف
دفعت شيرارد إلى وصف حال التعليم المعاصر بشكل سوداويٍّ، ضاربًا مثالاً
عن الشِّعر وعدم قدرة الطالب الحديث بالعموم على الوصول إلى معناه
والتعامل معه، وعن الفلسفة التي تحوَّلت إلى مجموعة من الألعاب اللغوية
والمنطقية المملَّة في كثرة من الأحيان؛ فالعلموية لم تسيطر فقط على
مجال العلوم بل امتد منهجها ونظرتها للأمور إلى كل شيء (لم يعش شيرارد
ليرى كيف يسيطر المنهج الاستهلاكي-التسويقي-التكنولوجي المعاصر ومفاهيم
التتجير على كل مجالات الحياة).[25]
هكذا إذن يصبح من السهل غير الممتنع تخيُّل كيف نشأت الفلسفة الغربية
اللاحقة التي أوصلت النظرية اللاهوتية الأغسطينية-السكولائية إلى
نتائجها الطبيعية التي تتمثَّل في العزل الكامل لمجالي العلم والفلسفة
عن القيم الروحية والعالم الروحيِّ، وعن تقدير البيئة الطبيعية بعمق
والعمل والبحث بشكل لا يعبث بالطبيعة ولا يسلِّع الإنسان؛ فالعالم
المنفصل عن الألوهة أنطولوجيًا وجوهريًا والبعيد من حيث القدرة على
إقامة الاتصال مع عالم المثل والمعاني لم يعد بالفعل بحاجة إلى "فرضية"
الله على حد تعبير العالم الرياضيِّ لابلاس. الله الذي بقي في لاهوت
الأكويني والكثير من اللاهوتيين والفلاسفة الآخرين وصولاً إلى ديكارت
وكانط وهيغل كان قد فقد كل أساس معرفيٍّ حقيقيٍّ؛ فقد كان باقيًا لأنَّ
أولئك اللاهوتيين والفلاسفة كانوا يعتمدون على إيمان شخصيٍّ به، سواء
أكان اختباريًا أم موروثًا أم مسنودًا بحجج عقلية ضعيفة يعزِّزها
الإيمان الشخصيُّ، أو بسبب رغبة في مسايرة الشائع عند الحكَّام
والعوام. فإذا كان الله والإنسان بعيدان عن بعضهما جوهريًا والاتصال
بينهما غير ممكن إلا بوسائل خاصة ومفاجئة تقوم على "النعمة" التي
يسبغها الله فجأة على من يريد (بحسب كالفن وغيره) فلم الانشغال بالأمر،
ولمَ تجشُّم عناء التفلسف حوله؟ وكيف سيكون للطبيعة التي نبحث بها
بالوسائل الكمية وعن طريق القوانين أيَّة علاقة بالإله المفارق جوهريًا
والمتواري خلف هوَّة لا قرار لها ولا يمكن عبورها بأي حالٍ من الأحوال؟
من ناحية معينة، كان الفلاسفة اللاحقون محقُّون؛ ففي إطار فلسفيٍّ
أرسطيٍّ-أغسطينيٍّ-سكولائيٍّ كان من الصعوبة بمكان الاحتفاظ "بفرضية"
إله لا يمتُّ للبشر والأنفس الحيَّة الأخرى بصلة جوهرية ولا يمكن
محاكاته ولا التواصل معه إلا بوسائل فائقة للطبيعة يبادر بها الله فجأة
تجاه المقدَّر لهم أن ينالوها.
هذا الواقع المفاهيمي والعمليُّ يفسِّر التحالف الأبديَّ بين مؤسسة
اللاهوت الغربي المحافظ (وحتى الشرقيِّ في كثرة كاثرة من الأحيان)
والعلموية العقلانية في وجه التيارات المستيكية والروحية ومذاهب العصر
الجديد، وأحيانًا كثيرة في وجه الأفكار الرهبانية نفسها وفي وجه
التوجُّهات الحدسية بعمومها، ويفسِّر أيضًا لماذا يسعى كلٌّ من الطرفين
في مناظراتهما وكتبهما إلى نسب أرسطو وكثير من العلماء اللاحقين إلى
صفِّه. فالصراع الدينيُّ-اللاديني في بعض دوائر الغرب المعاصر، وخاصة
في الولايات المتحدة وقبلها في أوروبا، يبدو - أحيانًا على الأقل -
وكأنَّه شجار أخوين شقيقين أو غير شقيقين داخل ذات البيت الأرسطيِّ
العقلانيِّ والمادِّيِّ الواحد. ولذلك لا نستغرب أن نجد قادةً دينيين
محافظين كثيرًا ما يلجؤون إلى النظريات العلمية واللغة العلمويَّة التي
تنتقص من بعض تيارات علوم النفس والتحليل النفسي بوصفها أشباه علوم
وتزدري بالتجارب الروحية الغريبة في الغرب والشرق حين يبدو لهم أنَّ
هذه الأفكار تشكل خطرًا على معتقداتهم وعلى مؤسساتهم الراسخة، على
الرغم من أنَّ هذه الأفكار قد تتشارك الكثير من الناحية المفاهيمية
والدينية مع معتقداتهم الدينية.
ويرى شيرارد الصورة قاتمة - جزئيًا على الأقل - بسبب أنَّ هذه العقلية
الأحادية الجانب قد حصَّنت نفسها جيدًا في أبراجها الأكاديمية وفي
بُناها التربوية في المدارس والجامعات، وفي الجيش العرمرم من الصناعيين
ورجال الأعمال والمصرفيين والسياسيين الذين يستفيدون جميعًا من هذا
الوضع الماديِّ المتطرِّف الذي يركز على مجموعة من الاعتقادات
المتحيِّزة، والمتشابك إلى درجة أن الإنسان يمكن أن يقضي حياته ضمن
أروقته من دون أن يتعرَّض لفكرة تتحدى هذه العقلية.
هذا ومن الجدير بالذكر أن شيرارد يوجه انتقاده هذا قبل ظهور شبكة
الإنترنت بشكلها العمومي المفتوح كما هو الحال اليوم. فاليوم لم يعد من
الممكن حجب الأفكار وفرض الرقابة على ما يتداوله حتى الأكاديميون، مع
أنَّ القبضة العلموية لم ترتخِ تمامًا بعد عن جميع مجالات المعرفة
المتاحة، وإن أصبحت البدائل متوافرة بالنسبة إلى الأجيال الجديدة. ولكن
هذا التوفُّر وهذ البدائل لا يمنع أن نرى أن حجة شيرارد ما زالت ذات
أهمية بالغة اليوم، مع التحديات البيئية والمناخية والوبائية التي
تواجه البشرية، والتي يبدو أن ترف التداول الفكري المحض يفارقها شيئًا
فشيئًا مع سرعة التحولات المهددة لها وللبيئة الطبيعية المحيطة. وأنا
أكتب هذه السطور الأخيرة، أتذكر تصريحين منفصلين صدرا منذ بضعة أيام عن
كبير خبراء الأوبئة في الولايات المتحدة الأمريكية، أنطوني فاوتشي، وعن
رجل الأعمال الشهير، بيل غيتس، يحذِّر كل منهما، بطريقته، من أنَّ
البشرية مقبلة قريبًا على أوبئة أشد فتكًا من الفيروس التاجي كوفيد-19
الذي ينتشر الآن في أصقاع الأرض، مهددًا صحة عشرات الملايين والصحة
النفسية والعافية الاقتصادية للمليارات من البشر. كل هذه الأوبئة
المتوقَّعة هي بشكل جزئيٍّ على الأقل، بحسب تصريحات العارفين
والباحثين، نتيجة مباشرة لنشاطات الإنسان الذي فقد معنى وجوده وفقد
معرفته لأصله ولقداسة ما حوله من مخلوقات تعبِّر في نفسها عن تجلِّي
الأصل السرمديِّ للكون، فأخذ يدمِّر نفسه وبيئته الطبيعية التي يعيش
منها في سبيل شيء واحد وهو التراكم الربحي والرفاهية التي لا تعرف
حدودًا ولا يضبطها مبدأ.
22 آب 2020
*** *** ***
[4]
Kyriacos C. Markides, Riding with the Lion: In Search of
Mystical Christianity (USA: Penguin Arkana, 1996), 46.
[9]
Sherrard, The Rape of Man and Nature, 31.
[13]
من أجل المزيد حول حجة بولغاكوف حول هذه الفكرة راجع:
[20]
Werner Heisenberg, Physics and Philosophy: The Revolution
in Modern Science (London: Georg Allen & Unwin Ltd.,
1958), 72-3.