مآزق الفرويدية
(الرابط المفقود بين الطوطمية والزواج الخارجي)
ميرغني أبشر
في
ذكرى مولد دافينشى كتب فرويد: "سمح لنا التحليل النفسي بادراك العلاقات
المتينة الموجودة بين عقدة أوديب والإيمان بالله. فقد علمنا أن الإله
الشخصي من وجهة نظر نفسية ليس سوى صورة لأب مهيب، فهو يتبين لنا كل يوم
كيف يفقد الكثير من الشبان إيمانهم بمجرد اندحار السلطة الأبوية، إننا
نكتشف في عقدة أوديب أصل كل حاجة دينية".
قد وضعنا استنتاج فرويد المتأني في حيثياته، والعجول في حكمه إن جاز
التعبير - باعتبار أن ملاحظته جاءت نتاج خبرة عيادية طويلة - وضعنا في
حيرة لأنه لم يقم وزنًا للفروض المجتمعية الأخرى، والتي تلعب دورًا
ميِّزًا في اندحار الشعور الديني عند الكثيرين، نحو التقدم المذهل في
العلوم والمعارف الإنسانية قبالة انكفاء المؤسسات الدينية على
تفسيراتها القديمة للمقدس، ونقف عند هذا الفرض فحسب دون طرح فروض أخرى
يلعب فيها الإعلام الدور المقدر، واضعين في الاعتبار تاريخ كتابة فرويد
لرسالته في العام 1910 م، والمسرح العالمي يتهيأ لحرب كونية تسببت
مقدماتها ونتائجها في عصاب جديد، ولد فرع من التحليل النفسي يعنى
بالحروب. والمشهد الأكثر غرابة الذي يزجنا فيه فرويد بتنسيبه فقدان
الشباب إيمانهم، إلى اندحار أو غياب السلطة الأبوية، هو هشاشة هذا
الفرض وسقوطه أمام أول محاكمة تاريخية، تكشف لنا أن منابع الإيمان
العالمي، أي ديانات التوحيد الكبرى، التي مثلت فيها الفرويدية الأب
بالإله، أنشئت على أيدي فتيان لم يختبروا في حياتهم سلطة أبوية مباشرة،
ابتداءً من (.. فتى يقال له إبراهيم) الذي كفله عمه آزر عروجا على موسى
ربيب آسيا زوج فرعون، مرورًا بالمسيح عيسى بن مريم، والقديس يوحنا
الذهبي الفم أشهر معلمي الكنيسة، وانتهاءً بمحمد اليتيم رضيع حليمة،
الذي كفله جده أبو طالب. فامتثالاً لاستنتاج فرويد، ما كان لهؤلاء
الفتية أن ينهض فيهم حس ديني البتة، وهم الذين لم يحلق في حياتهم طيف
سلطة أبوية مستبدة.
إن عقدة أوديب التي ابتدعها فرويد، وإن كانت لها في الواقع تمظهرات
تتفاوت في شدة ظهوراتها، عند كثير من المجتمعات ذات الثقافات غير
المشتركة، مما يشير بمنحى ما إلى عالميتها وبالتالي طبيعتها ذات
الخصائص الوراثية، بحسب مسوحات علم النفس الميدانية التي اضطلع بها
أنصار الفرويدية في شرق غينيا الجديدة، وجزر انتر كستو وفي شمال تيمور
الوسطى، والهضاب العليا للبرازيل وأيضًا في جزر ماركيز، إلا أن علم
النفس فيما يبدو أخذ بقران الابن بالأم الظاهر، وفسره ظنيًا بترسبات
ذات دلالة جنسية، على ضوء فرضية فرويد التي ينشد لها برهانًا تاريخيًّا
من واقع عيناته البدائية، حتى تأخذ الفرضية منحى القانون، فمقترح فرويد
بالأساس يستند على فرض متوهم لن نجد له حتى ظلالاً في أسطورة أوديب، إذ
لم تحدثنا الأسطورة البتة، ولا حتى رمزيًا أن أوديب قتل والده بدافع
غيرة جنسية، وكما يقول م. مسلان:
إن التفسير الفرويدي بكل يقين اختزالي، إذ تعرض علينا أسطورة أوديب
واقع انجذاب ذلك الطفل لأمه في حدود صور رمزية: صورة الأرض - الأم منبع
السلطة والقوة على إثر قران إلهي، وليس قرانًا جنسيًا لامرأة مسماة
جوكاست وابنها أوديب. فترجمة رمز في حدود تجربة شخصية يصبح بمثابة
اختزال مشوه.
يقول د. راموس وهو أحد أتباع فرويد:
يخيل إليَّ أنه من الأشياء المفتعلة وغير الطبيعية تفسير العلاقة
الشديدة بين الابن والأم بأنها رغبة مضاجعة المحارم سواء بشعور أو
بلاشعور. وهي توحي بأن فرويد، أو أيًّا كان أول من فكر فيها على هذا
الأساس، قد بحث جادًا عن أسطورة يلصق بها نظريته الجديدة بشأن مضاجعة
المحارم، فلما عثر على أسطورة أوديب تبناها على أنها أقرب أسطورة تتفق
مع هواه.
إن علم النفس يعتمد كثيرًا على التكهنات حين يؤسس لفروضه من أجل
التعويض عن نقص التقصيات. لقد أنشأ فرويد عقدة أوديب من بدعة داروين
حول العشيرة البدائية، التي أقام عليها فرويد تصورًا لأبناء قتلوا
أباهم للتخلص من سلطته الاحتكارية للجنس (النساء)، ومن ثم ينهض صراع
جديد بين الأبناء على وراثة الأب البدائي، وللحد من هذا الصراع المنهك،
تواضعوا على عرف يحرم الزواج الداخلي (زواج المحارم)، ولكنهم أحسوا
بالذنب تجاه أباهم فمجدوا سيرته، وصعدوا صورته إلى مقام الإله، الصورة
التي ورثتها الحضارة الإنسانية لاحقًا ليولد من رحمها الدين، ويتموضع
المقدس في التحليل الفرويدي بذلك في خانة العصاب الجماعي.
***
وبقرينة التصورات الدينية، وعالمية عقدة أوديب، اللذين نجد لهما ثيمات
مشتركة وشائعة في كل الثقافات غير المتجاورة بالمعنى التاريخي أو
الثقافي، مما يجعلنا نظن بالطابع الوراثي الذى لم يكن لينحدر إلا من
أصل واحد، ينتهي بنا لتصور المقدس لهذه العشيرة الأولى، في غياب فرض
معقول له شواهد تاريخية محققة، أن عشيرة أورثت الإنسانية عبادة الأب
الممثل في الله، لن تكون غير عشيرة آدم، أو عشيرة نوح بعد الطوفان، إن
افتراضات فرويد لا تنحدر مطلقًا من عند داروين، كما أراد لنا الاعتقاد
بذلك في مؤلفه الطوطم والتابو/الحرام، بل هي ذات منشأ توراتي
أصيل، عبر عن حقيقته ك. يونغ، وبسط شواهد صحته لاكان في مسطوره الماتع
فرويد والتوراة، فتخبئة فرويد أصول فرضه الجهير عقدة أوديب
العقدة التي تلتقي فيها بدايات الدين والأخلاق بحسب زعمه في رحل
الدارونية، وتمويهه لحيثيات أول جريمة في التاريخ الإنساني، له ما
يبرره بمنظور التحليل النفسي، لأن تخبئة فرويد لم تكن غير عملية كبت،
لحادثة تاريخية في حياة فرويد، سمحت لنا بتفسير التحوير والتحويل الذي
كان نتاجه عقدة الابن (أوديب)، بدلاً عن أن يقدم لنا الحقيقة التاريخية
وهي عقدة الأخ قابيل، والحادثة يرويها كاتب سيرته وصديقه ا. جونس: "كان
في الشهر الحادي عشر من عمره، عندما أثارت فيه ولادة أخ له ردود فعل
الغيرة، التي بقيت حادة حتى وفاة هذا الأخ في شهره الثامن حيث أحس
سيغموند، وهو ما يزال طفلاً بشعور حاد بالذنب". إن أوديب فرويد ما هو
إلا انعكاس نفسي محورن لعقدة ذنبه المتوهمة، وكما قتل موسى في كتابه
موسى والتوحيد بفرض، يمكننا أن نتهمه بقتل أخيه بفرض أكثر معقولية.
إن قصة العشيرة اليهودية التي قتلت أباها موسى كما صورها فرويد في
كتابه، انطلاقًا من فرضه الذي راح يبحث له عن شواهد تاريخية في المقدس،
لم تكن كذلك أيضًا، فحكاية العشيرة تبرهن على صحة مقترحنا الذي يقول
بحسد الأخوة، عندما اتهمت العشيرة قتل موسى لأخيه هارون حسدًا، وهو ظن
من بني إسرائيل له شواهده البينة في أي مجتمع إنساني، ولكن ما هي
مجيبات الحسد التي حركت شدة موسى ليقتل أخاه؟ إنها باختصار قوة وبيان
حجة هارون، والتي وصفها المقدس الإسلامي على لسان موسى: "وأخي هارون هو
أفصح منى لسانًا.."، فهل يا ترى مارس موسى طقسا تطهيريًا في قومه بعد
عبادتهم للعجل؟ يقول المقدس على لسان موسى أيضًا: "فتوبوا إلى بارئكم
فاقتلوا أنفسكم".
***
أن عقدة الذنب الأولى كانت عند أب العشيرة (آدم)، الذي فرط في جنب
أبنائه وحرمهم من نعيم الفردوس، إن شعور الأب كان دائمًا حانيًا
وعطوفًا وتعويضيًا وغير مستبد، إن أبًا بهكذا صفات ما كان ليُقتلَ غيلة
من أبنائه، إن الجريمة الحقيقية لم تكن قتل الأب بل كانت قتل الأخ،
استئناسًا بالواقعة التي قدمها لنا المقدس، والتي تحكينا أن مصدر حسد
قابيل أخاه كان وليد الرضى الإلهي بتقبل كبش هابيل، التقبل الذي يشير
بخلافة هابيل لأبيه آدم لاحقًا، مما يعنى وراثة سلطة الأب الزمانية
والروحية، ويزيدنا الموروث الشعبي الذي يحتفي به التحليل النفسي
كثيرًا، باقتران تقبل قربان هابيل بزواجه من أخته، التي ينافسه في خطب
ودها أخوه قابيل، فقتل الأخير أخاه حسدًا، ولكن فعلته الإجرامية أثارت
لديه إحساسًا قويًا بالذنب، فحرم قتل الطوطم (الكبش) – ما أحبه الرب
واعتنى به المقتول - والذى تقدس منذ ذلك الزمن، وأقام محل الإله لاحقًا
في الديانات النوبية القديمة في السودان ومصر، وامتد تحريمه إلى أخته
مشروع زوج أخيه المغدور، وهو التحريم الذي أخذ طريقه إلى كل الديانات
السماوية. وفقًا لهذا الفرض وحده يمكننا أن نجد الحلقة المفقودة التي
اعتاص التحليل النفسي في العثور عليها، حين احتار في الرابط المفقود ما
بين الطوطمية (تقديس الحيوان في العشائر البدائية) والزواج الخارجي، أي
تحريم سفاح القربى، وقد أصاب فرويد كبد الحقيقة حين كتب: بالاستناد إلى
المفاهيم القديمة للنظام الطوطمي يدعونا التحليل النفسي إلى تبنى ترابط
جواني وأصل متزامن للطوطمية والزواج الخارجي. وهي أطروحة لا يمكن
البرهنة عليها بشواهد إلا من عند المقدس الذي تنكر له فرويد.
***
إن مقترح الأخ المحسود بسبب اجتباءٍ إلهي يتمظهر خفيًا في حنو أبوي
يميزه من بين إخوته، مما يستدعي تآمر الأخوة، نجدها بينة في قصة النبي
يوسف، ويكفينا منها حكي المقدس: "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخل لكم
وجه أبيكم"، ولكننا في هذا المقام نحاول استخدام المعنى المزدوج للرمز،
مستعيدين رؤيا النبي إبراهيم، المسرودة في القرآن، لنعيد المشهد إلى
حقيقته القبلية، التي تحورت في الرؤيا من قتل الأخ أخاه، إلى قتل الأب
ابنه أي لمقلوب عقدة أوديب، وبإمعاننا في المشهد نستطيع أن نعود إلى أن
القاتل بالأصالة هو ميراث الأب، وبالتالي لا يمكن أن يكون الباسط يده
ليذبح غير الأخ، فصورة الأب في الرؤيا مجازية لحقيقة ما يرغب فيه الأخ،
وهو الميراث الروحي والزماني والذي جسدته الرؤيا في الأب، لذا فنقترح
أن الأخ هو القاتل، وليس إبراهيم كما هو ظاهر المشهد. إن المشهد في
جوانيته يملك هذا الإيحاء، ولا يمكننا تحويل أعمدة الجريمة الأساسية
إلا وفق رؤية روب غري التي بسطها في عمله الروائي الماتع الرائي
فـ(الحبل الصغير وقطع الحلوى والسجائر واليد ذات الأظافر الحادة تولد
احتمال استعمالها جميعًا في الجريمة) ولا يفعل بطله ماتيوس سوى أن يجد
لهذه الأشياء تطورها الطبيعي فتقع الجريمة. استلهامًا لهذه الرؤية
وحدها، يمكننا إعادة قراءة رؤيا إبراهيم التي قصه على ابنه: "يا بنى
اني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى"، والتي صدقها إبراهيم
بظاهرها فقام بالذي ظنه أمر إلهي، ولكن دلالتها الرمزية تتكشف لنا بعد
الوقوف على الواقعة التاريخية، والتي تحكينا عن منافسة حادة بين طرفين
على ميراث إبراهيم، سارة وابنها اسحق في مقابل هاجر وابنها إسماعيل،
الشيء الذي قاد في النهاية إلى إسكان هاجر وابنها بعيدًا عن سارة
وإسحاق في وأدى غير ذي زرع ببكة، وفق هذه الحقيقة التاريخية تكون دلالة
الرؤيا الرمزية تعنى يا إبراهيم بمحبتك الظاهرة لابنك الذبيح، تكشف عن
مسار بركة الله، فتأتمر العشيرة لتغيبه عن الوجود، فميراث إبراهيم بحسب
روب غرى الذى يكن له رولان بارت أعجابًا ميز، هو القاتل الحقيقي،
وليستبق الإله الجريمة قدم النوايا لإبراهيم ليجسدها لاحقًا بفعل، يخرج
مكبوت العشيرة بمشهد الذبح الفعلي الذى هم إبراهيم بأجرائه، وما كان
الكبش الذى فدى به الذبيح غير تذكار بالجريمة الأولى، ويذهب بعض
المفسرين إلى إن كبش الفداء هو بذاته القربان الذى تقبله الله من
هابيل، فعاد لينقذ الإنسانية من جريمة تسبب قديمًا في وقوعها، لو قدر
لها التكرار لدخل الناس في أكوار من الظلمات، وعلى ضوء هذا المقترح
نكتشف أن المدسوس من أعين العشيرة في وديان مكة، كان هو المستهدف
بالتصفية من قبل العشيرة، إسماعيل ابن الآمة الذى ما كان له أن يرث
السيد.
(رؤيا ابراهيم)
"إن القاتل بالأصالة هو ميراث الأب، وبالتالي لا يمكن أن يكون
الباسط يده ليذبح غير الأخ، فصورة الأب في الرؤيا مجازية".
خلاصة ثانية: إن عقدة اوديب ليس لها من وجود في الأساطير، والمقدس أو
حتى الاجتماعي المعاش، بتوصيفاتها التي ابتدعها فرويد. إن أوديب فرويد
قراءة مشوهة لميثولوجيا سوفوكليس، وتصور محوَّر لعلاقات أسرية نتاج
تبكيتات إكراهية، عانى منها فرويد في مقتبل حياته، في الوقت الذي
يحدثنا فيه التاريخ والاجتماعي المعاش عن حسد الأخ أو ما أطلقنا عليه
عقدة قابيل.
كما كشف لنا المقدس عن قران مقبول ما بين الطوطم والزواج الخارجي
بتزامن ظهور الطوطمية مع تحريم زنا المحارم في قصة أبناء آدم، القران
الذي لم يجد له علم النفس مصداقًا تاريخيًا.
إن القراءة النفستحليلية لمرموز المقدس تتيح لنا القبض افتراضًا على
شوارد تاريخية سكت عنها النص القرآني ظاهريًا.
*** *** ***