العالم من موت الوردة
(الجهة الأخرى من الأشياء)
راما وهبة
قلق الانتماء واللامتناهي
"بمعنى من المعاني، الجثَّة هي
التعبير الأمثل عن الرُّوح"
جورج باتاي
العودة
شعريَّاً إلى كلمة البدء،
تتطلَّب منَّا تماهٍ إنسانيٍّ، يكون على مستوى الحدوث الآنيِّ لأبديَّة
اللَّحظة، ليستعيد الكائن الأكثر تمزُّقًا، وضياعًا، عزلة وحدته
الكاملة، حيث "لا شيء له واقعيَّة سوى الحساسيَّة" كما يعبِّر الرَّسام
الرُّوسيُّ كازيمير ماليفيتش.
بتلك الحساسيَّة التي تعيد خلق
اللُّغة باستمرار، تتحوَّل الذَات في الجهة الأخرى من الأشياء
إلى آخر، تتبادل معه رؤية العالم في فضاء ذاكرة لم تعد تكترث بشبهات
المصير، بين فاصلين زمنيين لما كان وما سيكون، وتبقى متجدِّدة
بانكساراتها الآنيَّة اللا يقينيَّة، التي تشكِّل حالة جديدة من
الضَّوء العميق المنفتح لإيقاظ المستحيل فينا، ومقاربة جوهره، الذي هو
الغياب.
على الرغم من أنَّ كتاب الجهة
الأخرى مقسَّم إلى ثلاثة فصول (ألَّا تنتمي إلى العالم)، (
أعرف، يقول لي قلبي الآخر)، (حين يرنُّ الهواء حولك من القسوة)،
بين نصوص تشكِّل مقاطع شعريةَّ، ويوميَّات، وشذرات، ورسائل، إلَّا أنَّ
(الشِّعر)، في هذا الكتاب، ينتقي تحوُّلاته المتعدِّدة بلغة متاخمة
للانهائيَّة الحواف المصهورة بقسوة الواقع، هذا الواقع الذي رغم
تفكُّكه وانحلاله في انفعالات مبهمة من الأحداث والصُّور، يبقى مجالاً
للسُّؤال عن حريَّة الكائن في أن يكون.
يبدو أنَّ فعل الكتابة لا يمكن
أن يتمَّ خارج عمل الذاكرة، حتَّى لو حاولنا بالذاكرة، الوصول إلى
الحدِّ الأقصى من النِّسيان، بل حتَّى لو حاولنا من خلال اللُّغة،
تثبيت الحالة المتلاشية لطبيعة الأشياء، "السَّبب الأساسيُّ لوجود
مكانٍ للذَّاكرة يكمن في إيقاف الزَّمن، في عرقلة عمل النِّسيان، في
تثبيت حالةٍ للأشياء، في تخليد الموت"[1]، وهو ما شكَّل الغاية العظمى
للفنون والآداب عامة، لتأخذ صفة الأعمال العظيمة أو الخالدة فيما بعد،
لكن في شعريَّةٍ تتشارك إيقاع التَّلاشي اليومي لحركة المادَّة
والرُّوح، يصبح عمل الذَّاكرة متماهيًا مع حقيقة الموت، الذي تمكَّن
الخضر شودار من معايشته، بكل ما في فعل التَّعايش من طبيعة متغيِّرة
للحياة. حتَّى سركون بولص، الشَّاعر الذي تمكَّن دائمًا من كتابة
الشِّعر بأجنحةٍ من لهاث الواقع، يشغله أنَّ الكلام لم يعد ممكنًا،
فيما وراء ذلك المجهول العائم فوق رؤوسنا، يقول: "الموت هو الموت،
ولا أحد عاد من موته، ليقول لنا شيئًا"، في حين يبدو في (الجهة
الأخرى) أنَّ الكلمة الشِّعريَّة لا يمكن أن تقال، إلَّا بعد معايشة
تجربةٍ منفردةٍ وشاملةٍ، في الوقت نفسه، كتجربة الموت، "الحقيقيون
كتبوا دائمًا ابتداءً من الموت"، "أنا الآن أعيش حياتي الطويلة،
بعد الموت"، "ما هم هذا الحزن إذن، على شعرة تسقط من رأس
العالم؟" ربَّما في اتِّفاق ضمنيٍّ مع بلانشو، الذي يجد أنَّ "الحياة
بلا حياة، كالموت بلا موت، تعيدنا الكتابة إلى مثل هذه القضايا".
الاهتمام بالمطلق في حسِّيَّته،
يبدو لنا في أفق شعريَّة الخضر التي تصاحب الحدث في اللَّحظة،
والتَّجربة في المعيش، التي ترافق أيضًا ما طرحه جيل دولوز عن الفنِ
المعاصر، الذي يتحرَّر فيه المطلق من عدميَّته الجامدة في التَّسامي،
لتدخل الكتابة في "حالة من فقدان المركزيَّة، ومن التَّشعُّب، نُساق
فيها من مكانٍ إلى مكانٍ عبر سلسلةٍ متَّصلةٍ من السُّطوح العاكسة،
كالمرايا المتقابلة، تجتذبنا صرخة الدَّال المجنون"
"لم يقل الأثير
كلَّ شيءٍ بعد
لازال يحتفظ بصخب العالم
في أباريق الزِّينة على الرُّفوف
لم تمت القدامة تمامًا
ولا العصور
لا فروق هناك
في النَّاس والأشياء
ولا المسافات
لا أخطاء في ما يقع لنا"
.
"لا فرق
أن يكون أقرب شيء
كأبعد نجمٍ
وما يحدث هنا يحدث هناك"
إنَّها شعرية الانفتاح على فضاءٍ
حرٍّ للعبة المعنى، بالعثور على توتُّرات أو تناقضات داخليَّة، يفكِّك
فيها النَّصُّ نفسه، أو هي بالأحرى، تعترف بالنَّقص الذي لا يكتمل
أبدًا، وتستمتع بتلك الهوامش البيضاء، والمساحات الصَّامتة، لمشاهدة
النِّصف العاري من الإنسان، الذي سئم من الطَّاعة، والاستسلام الأبله
لصرامة الامتثال الوجوديِّ لما يجب، وما يخضع لمثالية أيِّ قهر
مفاهيميٍّ متعالٍ.
"أشياء كثيرة
تحزنن لأنها تفرحني
مذاق الحلاوة
وما لا يتغيَّر
السَّأم من الكمال والسَّخافات
من الكون والسُّعداء
من الطَّاعة
وأكثر شيء من الحبِّ"
"في وسعك أن تقول بأني تساقطت
ومللت من المسايرة
من الهواء والشَّمس واللَّيل
وأصابعي العشر
من البدايات في آخر النِّهايات
والنِّهايات في أوَّل البدايات"
إنَّ الذَّاكرة المعاصرة تجد
نفسها خليطًا غير متجانس من الانقطاعات والتَّغييرات المستمرَّة في
العالم، "وستكون الذَّاكرات المعاصرة ضروبًا من الموزاييك دون وحدة،
مصنوعة من أطلال الذَّاكرات الكبرى المنظَّمة التي تشظَّت، مصنوعة من
شقوق مركَّبة، من بقايا متباينة، من آثار غير متجانسة، من شهود
متعارضين، من مخلَّفات غير متماسكة"[2] وبالتَّالي فإنَّ محاولة تفكيك
هذه الذَّاكرة سوف يواجه سيلاً من اندفاعات الصُّور التي تتداخل فيها
انفعالات الكونيِّ بالشَّخصيِّ، على مستوى شعريَّة تعايش معنى "ألَّا
تنتمي إلى العالم"، هذا العالم الذي يتدلَّى من كلِّ جهاته بين
الافتقاد والمستحيل.
*
موت الماء
اللُّغة عزلة لا تكفُّ عن السَّيلان
"موت الماء أكثر
نزوعاً إلى الحلم من الموت التُّرابيِّ،
إنَّ حزن الماء، حزن لا حدَّ له"
غاستون باشلار
الحلم المائيُّ للُّغة في كلمات
باشلار، يرافق تلك الرُّؤية الضَّبابيَّة لعالم الخضر الذي يبدو "في
الخمسين" أنَّه يتساقط بلا انتهاء بعد أن "شحَّت العذوبة"
و"ذاب نصف الهواء والبحيرات"، يقول:
"في الخمسين
لا أذكر شيئًا عن أعوامي العشرين والثَّلاثين
فقد سقط كلُّ شيء في نفق
وذاب نصف الهواء والبحيرات
شحَّت العذوبة
والوقت قليل لأكون شاهدًا على هذا السِّيرك العظيم"
السَّيلان صوب عالمٍ لم تعد
المعرفة فيه مثقلة بركام ما مضى، والخروج من شبقيَّة التِّكرار
اليوميِّ لحتميَّات اليأس، هي ما يجعل شعريَّة الخضر شودار مترحِّلة مع
طبيعة الأشياء، في غموضها، وتشظِّيها، وانكشافها، وعريها المائيِّ
الأوَّل، للتَّساقط على أفقٍ آخر، يكون الواقعيُّ فيه بمثابة معجزات
الحياة البسيطة، التي لم تعد تفرد كفَّها بقمح النِّهار اليوميِّ،
لطفلٍ اعتاد أن يقلِّب وجوه عوالمه على صفحات الماء:
"قيل لي إنَّهم
أطلقوا سراح مساجين بين مجرَّة وأخرى
وإنَّ طفلاً كان يقطع أنهارًا ليقرأ كتبًا على الضفَّة
ليحنَّ الشَّجر أكثر إلى نفسه"
الطِّفل الذي من "أغيلاس"
الأمازيغيَّة، القرية أو "اللبؤة النَّائمة بين جبلين في سرير
الوادي" حيث "لم يسافر أحد في بلدتنا أبعد من بلدتنا/ أطول
رحلاتنا كانت بين الينابيع والأشجار." بينما تنقَّل الشَّاعر بعدها
في مدنٍ كثيرةٍ، آخرها "مدينة الرِّياح" أو شيكاغو، حيث "لازالت
البحيرة الخضراء في مكانها".
قد يبدو للقارئ أنَّه ثمة فجوة
زمنيَّة واسعة بين نصِّ وآخر، لكن يبدو أنَّ الزَّمن أيضًا، الزَّمن
الذي لا يمكن الإمساك به، أو الإحاطة بجريانه، قد أدخله الخضر في
شعريَّة العوالم الممكنة، الإمكان من حيث الاستطاعة لقبول شعورٍ، هو
على تزامنٍ عميقٍ وخاصٍ، في احتواء شعورٍ آخر على خلاف معه. هذا مشابهٌ
لدورة الماء في زواله المرح، وموته الذي يتوالد بلا انتهاء في حياة
أخرى.
"أنا اليوم
"نعاس لا أحد"
على شاهدة قبر بنهر الرون
لمعان البحر آخر النَّهار
في حداق إيتاكا
عشتُ أجمل أيَّامي قبل الميلاد
وحول زهوري
كان يثرثر غرباء
خرجت أشياء من الخفاء إلى الوضوح
أنسابُ كثيرة تجلس
قرب المحيطات
خرجت الغيرة أيضًا
وعاد الوضوح إلى الخفاء
ثانية
رجل آخر
أنا
الآن."
في عزلة الشَّاعر ما يوحي
بالألفة التي تزهر بملامسة الهواء، حيث تتفتَّح تلك العزلة عن أزمنةٍ،
وأمكنةٍ، وشخوصٍ أخرى، تتماهى معها بتجاوب النِّداءات القصيَّة، أو
بحمل معانٍ تلتقي بصمتٍ، لتضيء طريقها في العزلة، كما نسمع بورخيس
أيضًا يقول:
"أنا كل الآخرين
وربما لا أحد
أنا الآخر
الذي لا يعرف من أنا"
موت الماء، الذي نستشفُّه
شعريَّاً في نصوص الخضر، هو في اللُّغة التي تسيل من عزلتها
الجوهريَّة، لتلتقي بالأشجار، والموسيقا، وحركة الفصول، والحروب،
واللَّامبالاة. اللُّغة التي تلتقي بشعراء على ضفاف أزمنة متعدِّدة،
(فرناندو بيسوا، فيسوافا شيمبورسكا، جاك غيلبرت، إدمون جابيس، راينر
ماريا ريلكه، جورج باتاي، ....)، والأهمُّ اللُّغة التي تلتقي مع الذين
لا يدَّعون شيئاً، "أنا مع الذين لا يدَّعون شيئًا، مع بروست في
زمنه الضَّائع" "منذ زمن طويل وأنا أخلد إلى النوم مبكرًا" .. مع
بلانشو الذي لم يكن يراه حتَّى المقرَّبون.. مع ريلكه ضيفًا أبديَّاً
على العزلة في قصور الآخرين.. هؤلاء لم يجعلوا حياتي متعةً حقيقيًّةً
وحسب، بل من حياتي مهمَّة بعيدة المنال".
اللُّغة التي في سيلانها، تلتقي
أخيرًا بالإنسان في تأرجحه المستمرِّ بين الحياة والموت، ونسبيَّة
رؤيتنا الفريدة والمختلفة لهما معًا، كما يقول شكسبير في مسرحية حكاية
الشِّتاء: "أنتَ التقيتَ بما يموتُ، وأنا التقيتُ بما يحيا".
"لم يعد المطر
يقع في مكانه
من السَّماء على الأرض
هو بالأحرى يقع علينا
من الأثاث القديم
في البيوت
من الصُّور
والنِّسيان
من داخل الآخرين على الآخرين"
*
الصَّمت زهرة
الوقت الموحشة
اكتب بجاذبيَّة
المستحيل الواقعيِّ،
هذا الجزء من الكارثة حيث يغرق،
ناجيًا كاملاً، كلُّ واقعٍ.
موريس بلانشو
كتابة الصَّمت، أو (رأس أورفيوس
المقطوع وهو يتابع الغناء) بتعبير الكاتب إيهاب حسن، هي ليست صمتًا في
الحقيقة، بل أقرب إلى قدرة اللُّغة على الخروج من نفسها، في إيحاءات
تعيد تشكيل العالم وتعديله في العمق. الصَّمت هنا صمتٌ بدئيُّ يتجاهل
كافَّة التَّوقعات المفترضة بين اللُّغة والمعنى، كاشفًا عن طبيعة
المفارقات الواقعة بين المعرفة والتَّجربة. الصَّمت في نصوص الخضر
الآتية، يرسم أبعادًا للرُّؤية والشُّعور، ما كانت لتجد أمكنتها
الواسعة في النَّفس، لو لم يتح لها الصَّمتُ ذلك الأفق الخافت الذي
ينتظرُ الكلام، "فيما قبل اللِّسان وبعده يوجد الصَّمت، وفي الكلمات
وعلى القول، يوجد هذا اللَّيل المليء بالدّلالة، هذا اللَّيل نصف
الشَّفاف، الذي يتجلَّى أيضاً، في العيون والنَّظرات، الذي ينتظر
الكلام."[3]
"لسببٍ لا أعرفه
النَّاس اليوم خفاف وأكثر لطفًا
قلَّت الحدَّة في كلِّ شيءٍ
في رفقٍ حطَّت الطُّيور على الأغصان
وأغفى مسنُّون قرب المدافئ
الثَّلج مخمليٌّ تمامًا
وفي الخارج العالم أخرس
كأنَّ الأجساد كرات من القطن في الهواء
لا شيء أيضًا في الدَّاخل
سوى أنَّك تتذكَّر نفسك كثيرًا
في القهوة والآخرين
حيث يفكُّ العالم نفسه أمامك من عاداته
من الحزن والذكرى
ولسببٍ لا أعرفه
العشب أكثر طراوةً على القبور
ماتت اليوم بولا
جارتي العجوز
وفي إصبعها الباردة
خيطٌ وكشتبان"
لسببٍ ما، لا أعرفه أيضًا، يبدو
لي أنَّ النَّص السَّابق يبدأ من حيث ينتهي، "ماتت اليوم بولا/
جارتي العجوز/ وفي إصبعها البارد/ خيط وكشتبان". الموت هنا أرخى
صمته على جميع الأشياء، ليصبح النَّاس أكثر لطفًا وخفَّة، الثَّلج
مخمليٌّ، الأجساد من القطن في الهواء، العالم أقلّ حدَّة، حتَّى العشب
أصبح أكثر طراوة على القبور. وعلى الرّغم من أنَّه في (الدَّاخل) يفكُّ
العالم نفسه من الحزن والذِّكرى، إلا أن العالم في (الخارج)، فجأة،
أخرس. الصَّمت في هذا النَّصِّ لا يمكن بتره أو اقتطاعه من سيلان
الكلمات والصُّور، الصَّمت هنا شعور هائلٌ ورهيبٌ للاقتراب لحظةٍ من
ذلك الرَّحيل البارد.
"من منَّا يا ترى
في تلك الظَّهيرة الصَّامتة، كان ينتظر مع العزلة الآخر، أنا أم
الشَّجرة."
الكتابة هنا أقرب إلى نمنمات
الهايكو، التي تتساقط كلماتها بخفَّة، كاشفة عن المسافات الممكنة
والمستحيلة للمعاني، التي لم تعد في أمكنتها المقروءة من قبل. الألفة
مع الشِّعريِّ في نصوص الخضر، تجعلنا نشعر بتلك السُّهولة في
التَّلقِّي، في القراءة التي تبدو صامتة أيضًا، لكن ما إن تهدأ
السُّطوح من تلك الانعكاسات البِّلوريّة للكلام، حتى تتَّقد في العمق
بريَّة السُّؤال.
الشِّعريُّ الصَّامت هنا،
والأقرب إلى كتابة المحو، يبعثر أحجيات الإمكان، ويؤسِّس لاستفاقات
جديدة للأثر، الذي هو "ما يشير وما يمحو في الوقت نفسه، أي ما لا
يكون حاضرًا أبدًا"[4]، أمَّا الشِّعر، فلم يعد
غريبًا، إنَّه هنا، على المنعطف، كما يقول بورخيس:
"الشِّعر ليس
غريبًا
كما سنرى، عند المنعطف
ويمكن أن يبرز أمامنا في أيَّة لحظة"
من الصَّمت اللانهائيِّ، والعزلة
في الأعماق، من الرَّغبة في الحياة، تنسحب اللُّغة الشعريَّة مأخوذة
بأفول الأشياء البسيطة، لأنفاس تمسِّد جبهة الكون، في زوالها الخافت من
الحزن واللَّا جدوى.
"المرأة التي
حطَّت شفتيها على شفتيك حتى سالت عيناك
هي الآن طائرة ورقيَّة
جرِّب إذن في صمت
ألَّا تسال عن الفرق
وكأيِّ كلب معقور أعزل
أن تكون سعيدًا
بلا جدوى."
الصَّمت لا يقول لنا شيئًا،
لكنَّه، ودون أن نعرف، يمنح ضوء الرُّؤية لكلِّ شيء، "أن أكتب، فإنّ
ذلك يعني أن أكسر العلاقة التي تشدّني إلى الكلام، أن أسحب اللُّغة
خارج العالم، وأن أخلِّصها ممَّا يجعل منها سلطة."[5]
البقاء في هذا العالم، ملتبس
دائماً بأوهام الحضور والغياب، هذا العالم الذي يسيل من كلٍّ شيءِ على
كلِّ شيءٍ، ثم يتكوَّر وينكمش على نفسه، مفتقداً لمعناه.
"أنت، إذن، وحدك أمام غيبوبة
العالم."
*
قارَّة الكلمات
الأكثر انتشارًا
"متعبُ أنا من
أولئك الذين يأتون بكلماتٍ
كلماتٍ وليس بلغة"
توماس ترانسترومر
منذ زمنٍ، وأنا، كأيِّ قارئ آخر،
أرى إلى شعريَّة الخضر، كمن يرى إلى لغة سمعها مرارًا في الأثير، دون
أن يتبيَّن ملامحها تمامًا، كأنَّه ثمَّة ألفة مبهمة، في لغته التي
تقارب فوضى الطيور في رحيلها المطلق، وعزلتها المفردة بجريانها مع صخب
العالم وأشيائه.
لأصحو مرَّة على نهار بدا لي
مختلفًا في خفَّته عن العادة، حين أدركت أنَّني أمام (قارَّة
الكلمات الأكثر انتشارًا)، الكلمات التي بدت لي وكأنَّها تتساقط من
(الجهة الأخرى من الأشياء) لتشكِّل تلك اللُّغة الشِّعريَّة
التي بإمكانها أن تتَّسع إلى عالمٍ مكتملٍ من تفاصيل الأشياء
النَّاقصة، حين النِّداء يجد نفسه طفلاً على بحيرة، والهشاشة تلمع في
مبهم ما لا يُرى. حين الكلام يتبدَّد لأقاليم عن نهارٍ أعزب، والورقة
المتساقطة تشير إلى هجرة شموسٍ لا تُحصى.
"لم يأت الخريف
لا طيور
ولا مواسم
ولا رياح
فقط حزن قديم
يحطُّ كالآزال على الأشجار
ويعدُّ على أصابعه
الأبيض
والأسود"
هاجس الشِّعر كامنٌ في اللُّغة
التي تهدم وتبني اللَّحظة التي يتأرجح كلُّ شيءٍ حولها بين الظُّهور
والخفاء، وكما يعبِّر جاكبسون، يبدو أنَّ "الحدَّ الذي يفصل الأثر
الشِّعريّ، عن كلِّ ما ليس أثرًا شعريًا، هو أقلّ استقرارًا من الحدود
الإداريَّة للصِّين."[6] وربَّما يكون الحديث عن شعريَّة
المخيِّلة ضئيلاً، حين يتاح للشِّعر أن يكون نفسه، والتَّصرف تلقائيًا
عبر تجاربه الفرديَّة، التي تتقمَّص حضور الأشياء وغيابها، وفي كلِّ
مرَّة، تتيح برحابةٍ مكانًا للآخر.
"لا زلت منذ أشهر
راسيًا بميناء فينيسيا
نزلت مني الكآبة، ومقايضو العاج، والرُّهبان
وفي رحلتي
رأتني البريَّة بلونين مختلفين
الماء والتُّراب"
النَّصُّ الشِّعريُّ الذي يحمل
عزلة العالم، ويتلاشى بلا انتهاء إلى أثرٍ يمحوه أثر، حيث تتوالى
الصُّور في خروجها، عن بريَّة للوجود المرئيِّ الذي يستولي على
اللَّحظة في أبديَّتها، ليبقى السُّؤال وحده مطلقًا في زمنيَّة
الشِّعر.
"لا أحد منهم
عرفني
بسطوا صوري على الطَّاولة
وتركوا أمِّي تتحسَّس ثيابي
روت حكايات قديمة عن البساتين ورائحة اللَّوز
حكاية البومة السَّمراء
وخيول حمر ترعى في البريَّة
ابتلت السَّماء كلُّها تلك اللَّيلة
ثم كأيِّ امرأة أخرى سألتهم:
من هذا الطِّفل الذي يمشي تحت أصابعي
جنبًا إلى جنبٍ مع عبَّاد الشَّمس؟"
أن يأتي الكاتب بلغةٍ لا كلمات،
يعني أنَّه استطاع أن يفرِّغ نفسه من الذَّاكرة، ولكن في زمنٍ هو غياب
الزَّمن، وفي مكان لا يمكن تحديده تحديدًا مطلقًا. الطُّفولة، الحرب،
الهجرة، الحبُّ، الموت، حياة بكاملها، يختزلها الخضر بـ "السِّيرك
العظيم"، الذي لم يكن فيه المهرِّج حتمًا.
*
جهات المعنى أو
موسيقا الخروج بالدَّوائر البيضاء
"أنا الآن
مكانٌ في كلِّ مكان آخر"
الخضر شودار
الكتابةُ هجرةٌ أيضًا، والشِّعر
المتمرِّد يندفع من حالات الإخفاق، ومعاناة الإرادة، وهي تحاول الإمساك
بالمستحيل. الجهة الأخرى، في شعريَّة الصَّمت والعزلة، تتحول إلى حصوات
ضوءٍ يرميها الخضر في بحيرة المعنى، مشكِّلة تلك الدَّوائر البيضاء،
الذي استغرقت أبديَّتها في السُّقوط مرارًا، لتعرف سرَّ اللامكان.
أمَّا التَّمرد على الذَّات، والذَّاكرة، والهويَّة، فهو بحث آخر عن
المهمَّش، والمنسيِّ، والضَّائع، عن مواطن الهشاشة، وعدالة النُّقصان،
عن الإنسان كما هو في ضعفه، وشكِّه، وانحلاله، عن الإنسان في شقاق مع
نفسه، وفي ترقُّب مع الآتي من مجهول الوقت.
"لا يكفي أن أكون
نفسي
وأعيش هكذا طويلاً كما أهوى
على القدم والغابرين
أريد أن أكون أيَّ إنسان آخر
لا يحنُّ مثلي إلى الذِّكرى"
.
أن أكون أيَّ شيءٍ آخر
بيتًا للسُّكنى
حيث تستيقظ العزلة وتنام
أو معبدًا في التيبت
حيث يسقط الوقت قطرة قطرة
على رؤوس أصابعه
أن أكون كهذا المطر البارد
والسَّاعة العظمى
كالطرقات
والسُّفن التي ترسو
إلى أن أصير أيَّ شيء آخر
ويموت المكان الأول
وتموت الرَّغبة
ولا يعود العالم أبدًا
كما كان
من قبل."
إن كانت الهويَّة الحقيقيَّة،
كما يعبِّر جاك دريدا، هي في الكتابة، بوصفها آخر الحصون المنيعة أمام
الهدم، فإن اللُّغة الشِّعريَّة تميِّز نفسها، عن بقيَّة اللُّغات
الأدبيَّة الأخرى، في كونها لغة الأشياء المرئيَّة واللَّامرئيَّة
معًا، لغة الفراغ النَّاضج بهشيمه، وخمائر التَّكوين التي تجعل المعنى
في سفرٍ مستمرٍّ ناصعٍ بين ثنايا الكلام وعلى سطوحه، حيث يتشكَّل بين
اللُّغة والصَّمت مفازة قلبٍ واحدٍ، يمنح العالم طبيعة ثانية هي بمثابة
لغة في اللُّغة، "فمعنى الوجود ليس خارجًا عن اللُّغة، وهو مرتبط
ببساطة الكلمة التي لا تختزل، فمع الكتابة ينمحي حضور مدلولٍ متعالٍ
ويدمِّر نفسه بأن يطرح للرُّؤية فكرة العلامة ذاتها ببقائه قابلاً
للقراءة، فاللُّغة المكتوبة تقوم بتثبيت تعاقدات توحد بدورها تعاقدات
أخرى."[7]
الخروج مرَّة أخرى، إلى عالم لم
يحدث قبلاً، في وحدة الأشجار التي تطوي في سرِّها بيت الرِّيح، وتعرف
بدايات الدَّهشة الصَّامتة للاقتراب من وهج الظَّهيرة. الكلام الخافت
للحزن الذي يتساقط من جهات الأرض جميعها دون أن يجرح الهواء، هو ما
يحتاج أكثر من عزلة، للاقتراب من البراءة المستعادة لمطلق الشِّعر.
"أحتاج إلى أكثر
من عزلةٍ
كي أخرج إلى الأشياء
كما كنت طفلاً
قبل خمسين عامًا"
يبدو، أنَّ تشكيل تلك الدَّوائر
البيضاء، للخروج من هوَّة المستحيل في العالم، لا يكون إلَّا بعد تحطيم
الأطر السَّائدة، في معايشة المنفى، ومرافقة الإحساس بالقتل، لأنَّ
الألفة بيننا وبين الأشياء، ليست أكثر من تلك الزَّهرة التي نصادفها
دون أن نعرف لها اسمًا، لكنها بعذوبة تقترب من أكثر آلامنا هشاشة،
لتعيدنا في لحظة إلى كلمة البدء المنسيِّ.
"أن تموت في
الغابة بضربة فأس
والهواء حولك يرنُّ من القسوة
لم يعد حينها المربع والمستطيل مستقيمين
بل دائريان
النبع دائريٌّ.. السرو دائريٌّ.. الثَّلج دائريٌّ
ثقوب ملابسي
وصرخة ذلك الرجل عاليًا في الحراثة
تنهُّدات الحبِّ
أصابع الأطفال في الهواء دائريَّة
البكاء
القبلات
وذاك الحقير الموت
دائريٌّ أيضًا"
ربَّما ليس في استطاعة اللُّغة
أن تقول كلَّ شيءٍ، لأنَّ الكلَّ بلا انتهاء والفراغ ديمومة، ربَّما
تتساقط وجوهٌ كثيرة من اللَّامبالاة والوهم، ربَّما لن نعرف عدالة
مماثلة للشَّمس حين تلامس الأشياء جميعها وتعيدها للذاكرة مرَّة أخرى،
ربما لن نتمكن من رؤية العالم كاملاً إلا من موت الوردة، ربَّما
الشِّعر في هذا الكتاب لم يعد مستحيلاً أيضًا.
"أعرف، يقول لي
قلبي الآخر"
*** *** ***
مراجع:
1.
الخضر شودار، الجهة الأخرى من الأشياء، دار خطوط وظلال للنشر،
عمان، الأردن، 2021م.
2.
خورخي لويس بورخيس، صنعة الشعر، ترجمة صالح علماني، دار المدى،
بيروت 2014م.
3.
جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، دار تويقال،
الدار البيضاء، 2000م.
4.
جويل كانو، الذاكرة والهوية، ترجمة وجيه أسعد، منشورات الهيئة
العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق 2009م.
5.
رومان جاكبسون، قضايا الشعرية، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون،
دار تويقال للنشر، المغرب، 1988م.
6.
سركون بولص، الأعمال الشعرية الكاملة، منشورات وزارة الثقافة،
أربيل، 20011م.
7.
غاستون باشلار، فلسفة الرفض، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الحداثة
للنشر، بيروت 1985.
8.
مارجريت روز، ما بعد الحداثة، ترجمة أحمد الشامي، الهيئة
المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م.
9.
موريس بلانشو، أسئلة الكتابة، ترجمة نعيمة بنعبد العالي وعبد
السلام بنعبد العالي، الدار البيضاء2006م.
10.
موريس بلانشو، كتابة الكارثة، مجلة مواقف الأدبية، العدد،
لبنان، 1988.
11.
هنري لوفيفر، اللسان والمجتمع، ترجمة مصطفى صالح، منشورات وزارة
الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1983م.
12.
ويليس بارنستون، مساء عادي في بيونس آيريس، ترجمة عابد إسماعيل،
دار المدى، بيروت، 2014م.