التين والجوع
حوار مع
دارين أحمد
أجرى الحوار: إلينكا بيرنيا
إلينكا بيرنيا
ولدت دارين أحمد في 1 يناير 1979 في حماة، سوريا. هي فنانة وشاعرة
وكاتبة. بعد تخرجها من المدرسة الثانوية، انتقلت إلى حلب في عام 1996،
لتلتحق بكلية الاقتصاد في جامعتها. منذ يوليو 2004 انتقلت لتعيش في
دمشق حيث عملت كمصممة ويب ومحررة لمجلة معابر على الإنترنت حتى شتاء
عام 2012، عندما انتقلت إلى برلين حيث تعيش هناك اليوم.
ترسم دارين أحمد منذ عام 2015، وقد نشرت أعمالها في عدة مجلات منها
صحيفة بين النهرين في أكتوبر 2018، ومجلة ميريت الثقافية
في مايو 2019. في يونيو 2019، نشرت مقالاً في مجلة "العربي الجديد"
بعنوان هذا اليوم ما يزال لي، وفي أغسطس 2019 مقال في ضرورة
الوسط. كما واظبت على نشر مقالاتها الأساسية وقصائدها في مجلة
معابر، منذ عام 2004 وحتى اليوم.
عرضت دارين أحمد أعمالها لأول مرة في معرض نقطة تلاشي مع كفاح
علي ديب وفؤاد عواد وأكرم حمزة وعدنان شربجي في الفترة من مايو إلى
يوليو
2016
في المعهد الفرنسي في بون. ثم في معرض وجهان
مع الفنانة البريطانية فرانسيس بلين في لندن، تلاه مشاركتها في معرض
شهوة مؤنثة الذي سيتم الحديث عنه في هذا الحوار.
تشارك دارين اليوم في مهرجان الأدب الدولي
SAD
(أيام وأمسيات الأديب
شتيفان اوغست دويناش،
في
29
سبتمبر(2021.[1]
دارين أحمد - تصوير حنا ورد
إلينكا بيرنيا: لديك عمل مثير
للإعجاب يغطي مجموعة واسعة من المواضيع. أنت فنانة غزيرة الإنتاج:
رسامة، كاتبة، وشاعرة. ركزت إبداعاتك بشكل كبير على حالة وطبيعة وصورة
المرأة ووضعها في ظروف اجتماعية أكثر أو أقل حرية. ما مدى صعوبة أن
تكوني فنانة، كامرأة أقصد؟
دارين أحمد:
نحن نعيش في حضارة ذات طبيعة تراتبية عمودية، حيث يتم البناء عادة من
الأسفل نحو الأعلى، وكلما ارتفع البناء زادت قيمته. لا أقصد هنا البناء
المعماري فقط، بل أقصد بناء أي مشروع أدبي أو فني أو ثقافي. تتطلب
طبيعة هذا البناء الرأسي التخصصَ واختيار منطقة محددة ثم مراكمة
الطبقات فوقها. في مجال الفن، على سبيل المثال، يسمى هذا التراكم
بأسلوب الفنان. بالنسبة لي فقد اخترت بناء مشروعي بشكل أفقي، وهنا أقصد
أني بدأت بمواضيع وأساليب عدة. مع علمي بأنني من خلال هذا الاختيار
أضحي بجزء من العلاقة مع المتلقي الذي سيكون مرتبكًا أمام كل هذه
المواضيع، لكن برأيي أن هناك نوعًا جديدًا من العلاقة سيحل محل ذلك
الجزء المفقود، وبالتالي، سيكون لدى المشاهد بعض الأسئلة والشكوك
والمشاعر غير المريحة، لأنه لا ينظر إلى شيء جميل أو مفهوم أو مليء
بالعواطف، بل ينظر إلى شيء غامض ومحير ومثير للريبة، مثل الحياة نفسها.
ما معنى هؤلاء الناس العراة برؤوس مغطاة؟ ما معنى هذه العصي الخشبية؟
... الخ. علَّق أحدهم على لوحة من لوحات الطبيعة الصامتة رسمت فيها
ثمرة تين: "لا يعلم الإنسان هل يأكل هذا التين أم أن التين سيأكله"،
وهذه كانت تمامًا فكرة اللوحة: ثمرة التين هي رمز للجوع.
في المجمل، أستطيع أن أقول إن مشروعي الفني هو مشروع فكري-فلسفي-شعري
بقدر ما هو مشروع فني. أريد من لوحاتي أن تثير وعي المشاهد ولاوعيه
معًا، كما يفعل الشعر أو كما يفعل حلم يوقظ المرء من النوم، دون أن
يدخل في صراع معه، أي دون أن يجعله يشعر بالتهديد الشخصي. وهذا تحد
كبير، لأن الإنسان الحالي - جميعنا أقصد - مخلوق أناني وعاطفي يعيش في
دوائر دينية وأيديولوجية مغلقة...
جميع الموضوعات التي أعمل عليها مترابطة ويمكن وضعها تحت ثلاثة عناوين
أساسية: النسوية الإيكولوجية، فلسفة كريشنامورتي، وعلم النفس، اليونغي
بشكل أساسي. تتمثل إحدى ركائز النسوية الإيكولوجية في منظور تكاملي
يربط بين الطبيعة والمرأة والآخر المختلف، بمعنى أن أي تغيير في وعي
العلاقة بالطبيعة سيؤدي إلى تغيير في وعي العلاقة بالمرأة وبالآخر
المختلف. والعكس بالعكس. من هذا المنظور يمكن قراءة لوحاتي عن النساء
أو عن الطبيعة، وليس لأنني أنا نفسي امرأة.
كل ذكرته أعلاه يقودنا إلى فهم الظروف الصعبة التي تواجهها أية امرأة
لديها مشروع فكري أو فني مختلف وجذري – هذه الظروف الصعبة تواجه الرجال
أيضًا، ولكن بدرجة أقل، لأن الدوائر الثقافية المهيمنة، وخاصة
التقليدية منها، تضع المرأة في موقع الملهِمة للفن والشعر، دون أن تكون
مؤهلة لإنتاجهما. هذا الفخ تلاحظه وتتجنبه القليل من النساء، وعندما
يفعلن ذلك، يتعرض منتجهن الإبداعي للإقصاء والتهميش، خاصة إذا كن أمهات
أيضًا، إذ يتم ابعادهن من الحياة العامة أو هن يبعدن أنفسهن. كثيرات من
النساء لم يعدن من منفى الأمهات هذا مطلقًا، لكن في المقابل الكثيرات
عدن.
إ. ب.: نحن في العمر نفسه،
لكنني نشأت وعشت في مجتمع مختلف تمامًا، درستُ المسرح، ثم حصلت على
دكتوراه في الفلسفة ونظرية الفن. لقد دُفعت إلى أن أكون أكاديمية
ومبدعة، لكن رغبتي الحقيقية كانت أن أكون موديلاً. كان حلمي أن أكون
مصدرَ إلهام للفنان. قد تمكنت من أن أصبح موسيقية لكن أمنيتي كانت أن
أكون ملهِمةَ الفنان. بدون العلاقة بين نظرة الفنان أو الملحن أو
الكاتب والاقتراحات المنقولة إليه بواسطة موديل ما أو بواسطة ما هو
أمامه (والذي يمكن أن يكون طبيعة ساكنة، أو منظرًا طبيعيًا، أو حالة
حياتية، أو امرأة) فإن الخلق غير ممكن. التوتر الجمالي الناشئ بين
النظرة الذاتية والشيء المنظور هو مصدر الخلق. لقد أردتُ أن أكون
ملهِمة أكثر من أن أكون فنانة. وبصدق أقولُ، أنا أكثر سعادة عندما يقول
لي رجل أني جميلة، مما أكون عليه عندما أنهي كتابًا. ألا تعتقدين أنه
يجب ببساطة تشجيع النساء على التعبير عن رغباتهن بحرية، دون نماذج
إلزامية؟ أي دون محاكمة خارجية تملي عليهن من هن وماذا يجب أن يكنَّ؟!
د. أ.:
نعم، بالتأكيد! لا توجد معايير تحد من حرية الرجل أو المرأة في أن
تكون/يكون كما تريد/يريد. أعتقد أن الأمر يتعلق بالظروف التي ينشأ فيها
المرء، حيث يسعى كل واحد منا إلى إيجاد توازن يمكِّنه من الحصول على
أكبر قدر ممكن من الأشياء أو الخبرات أو المعارف.
مع ذلك، فإن لدي موقف رافض واضح للغاية من أن تكون المرأة ملهِمةً
للفن، والرجل صانعًا له. بعبارة أخرى، أنا ضد الفصل بين الجنسين في هذا
الأمر، خاصة أنني أنتمي إلى ثقافة تمتدح المرأة الجميلة الصامتة
وتُهمِّش المرأة القائلة، وأقصد بالقول هنا النساء اللواتي يتحدثن في
مواضيع خارج نطاق "أحاديث النساء". لنأخذ مثال نجمات السينما الموهوبات
وكيف تتعامل وسائل الإعلام معهن ونوع الأسئلة التي تطرح عليهن مقارنة
بالأسئلة التي تطرح على الرجال. لنأخذ مثالًا آخر - مثال قد يزعج ممثلي
بعض الثقافات، بما في ذلك الثقافة العربية - وهو الرقص الشرقي. في
الرقص الشرقي، يتجلى جمال جسد الأنثى بطريقة ساحرة، لكن ألا يتجلى فيه
جمال جسد الذكر بالدرجة نفسها؟ بكل تأكيد، نعم. لكن الرجل الذي يمارس
الرقص الشرقي يُحتقَر. يتم تحقير النساء الراقصات أيضًا، خاصة مع
تقدمهن في السن، ولكن هذا موضوع آخر.
أعتقد أننا بحاجة إلى مساءلة كل التقسيمات الجندرية المسبقة من مثل أن
المرأة هي رمز الجمال والحنان، والرجل هو رمز القوة والسلطة. أو أن
المرأة هي الأم التي تحتضن الرجل وتعتني به، بينما الرجل هو الولد
الشرير الذي يحتاج إلى أن يدمر الأشياء ثم يعود إلى صدرها المليء
بالعاطفة. وإلا ما الذي نعنيه بالقول إننا بحاجة إلى ثقافة جديدة
وأساطير جديدة إذا كنا نريد تكرار نفس أنماط الواقع وإضفاء الطابع
الرومانسي عليها؟!
إ. ب.: في النحت اليوناني
القديم، على سبيل المثال، وأيضًا في الكلاسيكية أو في العصر الحديث، تم
تقدير قيمة العراة من الإناث والذكور بشكل متساوٍ، وإن لم يلهموا
الأشياء نفسها، بالطبع. إذ تم وضعهم في مواقع مختلفة، مسارات مختلفة.
أعتبرُ أن الرقة والحساسية هي جزء من القوة الأنثوية، القوة التي تتمتع
بها المرأة عن الرجل. إن القدرة على التنافس معهم في حلقات الملاكمة
الخاصة بهم هي نوع آخر من القوة التي لست مهتمة بها شخصيًا. لقد نشأتُ
في أسرة متعلمة وليبرالية للغاية، ولم يكن لدي أية قيود، ولا أتحدث من
الكتب، ولكن من أعماق كوني الحساس. إن أكثر صفاتي وضوحًا هي الجمال
والحنان، هكذا أرى نفسي، وأشعر بعدم الارتياح عندما يضعني شخصٌ ما في
موقع السلطة الاجتماعية. أعاني لأنني أعيش في ثقافة يتم فيها التقليل
من قيمة الأنوثة القديمة وتهميشها. الجمال والحساسية هما قوتي، وهذا
الشعور يأتي من غريزتي، إنه شيء فطري، لا يتم اكتسابه من خلال
التأثيرات الثقافية. لقد دفعتِ لأن أكون قائدةً ورفضتُ. إنه آخر شيء
أطمح إليه. لا أهتم بإضفاء الطابع الرومانسي على الفضائل الأنثوية
الكلاسيكية.
سأعطي مثالاً لما يسمى "بتحرر"
المرأة. بالنسبة لي، يرتبط هذا المصطلح بما نسميه التنقية. التحرر هو
طفرة جمالية في وعي المرأة. تمامًا كما في الفيلم المسمى
My Fair Lady، حيث تتحول مادة أنثوية خام إلى جوهرة. إنها قفزة في حالة أفضل من
الواقع والروح. الحب، الحب الحقيقي، يمكن أن يُنظر إليه على أنه شكل من
أشكال التحرر من بؤس الوحدة، على سبيل المثال. ما أعنيه هو أن هذه
الفكرة يمكن تفسيرها على أنها تطور من حالة القصور إلى حالة الإنجاز.
المرحلة المزهرة لأي كائن. إنَّ تحرر المرأة هو ما يجعلها تزدهر.
ما رأيك بهذا؟
د. أ.: نعم. اتفق معك في نتيجتك الأخيرة! لكني أود أن أضيف أنه لا يوجد
فرق هنا بين الحديث عن تحرر المرأة وتحرر الرجل. في كثير من الحالات،
يتم التعامل مع حقوق المرأة كما لو أن النساء كائنات فضائية ويجب دمجهن
في النظام الثقافي وتحويلهن أو تكييفهن بما يناسب هذا النظام ويطيل
عمره. المرأة جزء من هذا النظام، وليست دخيلة عليه، هي الجزء الذي تم
إسكاته عند بنائه - أي النظام. لذلك فإنهن عندما يعبِّرن ويتحدثن عن
تجاربهن ومعارفهن الحقيقية، فإن النظام الحالي سينهار تدريجيًا لأنه
نظام قائم على صمتهن. دعونا نأخذ على سبيل المثال أية ديانة من
الديانات الكبرى. لا يمكن إلا أن تنهار هذه الديانة إذا تمت إضافة
خبرات النساء ومعارفهن الباطنية إليها. لقد تحررت المرأة في القرن
الماضي بشكل أساسي بسبب التطور التقني والعلمي وليس بفضل النضال
الفكري، وهذا التحرر من عبودية العمل اليومي غير المأجور، واليوم ومع
توافر وسائل وإمكانيات التعبير لأي شخص، بما في ذلك النساء، فإن لديهن
إمكانية طرح أفكارهن والدفاع عن تلك الأفكار، وهذا شيء رائع!
إ. ب.: أود أن أعرف أين نشأت
وكيف كانت طفولتك. كيف كانت علاقة الفتاة الصغيرة بالعالم من حولها؟
د. أ.: ولدت في منزل صغير في قرية
صغيرة من سوريا. أنا الأكبر بين سبعة إخوة وأخوات. كان والدي مدرِّسًا
ومزارعًا، وكانت والدتي خيَّاطة حتى أنجبت العديد من الأطفال ولم تستطع
الاستمرار في عمل الخياطة. لقد أمضيت طفولتي في الجبال بين الصخور
والأشجار والعشب، وكان لهذا تأثير كبير على رؤيتي للأشياء لاحقًا،
عندما أصبحت مهتمةً بموضوعات العالم الخارجي. كنت طفلةً انطوائيةً،
وحساسة، في بيئة فقيرة وفوضوية، لذلك هناك ثغرات كبيرة في ذاكرتي عن
الطفولة، لكن ما أتذكره منها أتذكره بكثير من الحب.
إ. ب.: كم كان عمرك عندما أردت
أن تصبحي رسامةً؟
د. أ.: منذ أن كنت طفلة صغيرة أردت أن
أصبح رسامة عندما أكبر. في ذلك الوقت لم تسمح الظروف لي بتطوير موهبتي.
أنهيتُ دراستي الثانوية، ثم أنهيت دراستي في مجال الاقتصاد، حتى أُتيحت
لي الفرصة في عامي 2014/2015 لإعادة إحياء حلمي القديم. هذا أحد
الأسباب التي تجعلني أرسم كثيرًا، بأساليب متعددة، لأنني أشعر أنه ليس
لدي الوقت الكافي لأقول كل ما أريد أن أقوله، كما أرغب في تجريب كل ما
يمكنني تجريبه من تقنيات ومواد حتى أصل إلى المستوى الذي أرغبه. كل
لوحة أرسمها اليوم تضيف إلى معرفتي وإلى اللوحات التالية لها.
إ. ب.: ما هي سمات الأنوثة
برأيك؟ ما هو الشيء الخاص بالنسبة لك في أن تكوني امرأة؟
د. أ.: أفهمُ الأنوثة من منظور علم
النفس اليونغي، إذ من المؤكد وجود اختلافات بين النساء والرجال، وهذه
الاختلافات تقدم لكلٍّ منهما مزايا مختلفة. لكن، بشكل عام، هما يشتركان
في المادة، والاختلاف بينهما مماثل للاختلاف بين رجل يعيش في إفريقيا
وآخر يعيش في السويد، أو بين امرأة في أمريكا وامرأة في إندونيسيا، أي
هو اختلاف في التفاصيل، وليس في جوهر الإنسان. تكمن المشكلة في
الثقافات والأديان والأنظمة الاجتماعية والقانونية واللغوية التي تقوم
على هذا الاختلاف. أغلب هذه الأنظمة تتميز بالذكورة وهي موجهة ضد
المرأة وضد الطبيعة وضد الآخر المختلف عن النموذج البشري الموجود في
السلطة.
انظر إلى حال أفغانستان اليوم، لقد تم سلب المرأة الأفغانية حقها
البديهي في التعليم والعمل والحركة في الشارع في لحظةٍ، وكأن حصولها
على هذه الحقوق في العقدين الماضيين كان استثناءً، بينما القاعدة هي
سلطة الرجل - بمساعدة ربه - الرجل أيضًا. عندما يتغير هذا التسلسل
الهرمي الأبوي في الثقافة والاقتصاد والدين والسياسة واللغة، يمكننا أن
نرى التجليَّ الحقيقي للأنوثة، للمرأة التي لا تنفق طاقتها على الخوف
والذنب والاستهلاك اليومي. سيتجلى الرجل أيضًا بطريقة مختلفة عن حاله
الآن، فالرجل في المجتمعات الدينية يتعرض بشكل متواصل لضغوط إثبات نفسه
كرجل، وفي المجتمعات العلمانية هو واقع تحت وطأة العبودية الوظيفية،
بينما تعيش المرأة حياتها تحاول محو نفسها كامرأة في كلي المجتمعين.
إ. ب.: لا أستطيع التحدث عن
الثقافات الأخرى. لكن في الرومانية، على سبيل المثال، يتم التأكيد على
مزاياك الفكرية بل والمبالغة في تقديرها، لأن القيم السائدة مرتبطة
عضويًا بروح عقلانية حادة. لديك كل الحريات الممكنة كامرأة إذا كنت
تريدين أن تصبحي طبيبة أو مهندسة أو سياسية أو رئيسة دولة. أبو الهول.
الأمر كله يتعلق بالاستيلاء على نموذج الدور الذكوري. افعلي ما يفعله
الرجال. كوني في منافسة معهم. لكنك محتقرة في كل ما يتعلق بعالم
المظاهر الخاص بالجنس الأنثوي. لقد ولدتُ في جسد معين، جسد لا يستطيع
الرجال الوصول إليه بشكل مباشر. أكتبُ أدبًا جنسيًا من منظور أنثوي،
وأتعامل مع المشاعر والخبرات الجنسية، هذا صحيح، أدبي وشعري لهما أساس
فلسفي، لكنهما قائمان أيضًا على رهانات ومواضيع جنسية. زملائي في
الفلسفة يكرهونني لهذا السبب، فهم ينظرون إليَّ مثل الحمقى، ويتعاملون
معي كـ "فاسد". ما الذي يمكن أن يكون أكثر بغضًا في العالم من قوة
المرأة المثيرة ورغبتها وشغفها؟!...
لنعد إلى الرسم. تتميز أعمالك
برموز خفية. ما الذي تنوي كشفه أو تغليفه؟ إنها تحتوي على قصص غير
مروية، مخبأة تحت ما هو واضح. يمكنني اكتشاف توتر مطبوع في تعبيرات
الشخصيات، حتى عندما تظهر مبتسمة. من الذي يلهمك؟ أو ما هي الموضوعات
والجوانب التي تجعلك تشعرين بالحاجة إلى الرسم؟
د. أ.: لوحاتي هي مساهمة في نقد وضعنا
اليوم، نقد الثقافة والدين والسياسة. هي مساهمة في إثارة الشك في
إمكانية الحصول على نتائج مختلفة عندما نكرر الأنماط نفسها. لقد اعتدنا
على أن يكون الفن التشكيلي هو مجال الجمال، حيث يمكن للفنان إظهار
القدرة على تقديم التجلي الأمثل للجمال في الرسم من خلال مهارات
استخدام تقنيات التلوين والرسم، أو هو وسيلة للتعبير عن ردود الفعل
العاطفية على مظاهر الواقع مثل الكوارث التي تحدث في الحرب أو العزلة
الناجمة عن انفصال شخص ما عن العالم وعدم الاهتمام به... إلخ. بالنسبة
لي، أريد للرسم أن يفعل أكثر، أريده أن يدخل مجال الفلسفة والفكر، مجال
النقد والشك، مجال اللاوعي.
ب: أي إبداع فني حقيقي يتضمن
بعدًا فلسفيًا، هذا مؤكد وأية جمالية هي موضع احترام.
د. أ.: سأورد مثالاً على ما أقصده: لقد
رسمت سلسلتين تبدوان بعيدتين عن بعضهما البعض من حيث الموضوع: سلسلة
الطبيعة الصامتة أو الساكنة، وسلسلة العارية أو العاري. في سلسلة
"الطبيعة الساكنة" لم أتبع التقليد الكلاسيكي لرسم الأشياء الجامدة،
إنما اخترت رسم توت بري كرمز لحلمات الأم المرضعة، واخترت ثمرة التين
المشقوق كرمز للجوع. كان الهدف هو بناء علاقات تخيُّلية جديدة مع
الطبيعة البرية، مع جايا. وقد ذكرت في إجابة السؤال الأول أن أي تغيير
في الوعي البشري تجاه العلاقة مع الطبيعة سيؤدي إلى تغيير في الوعي
تجاه العلاقة مع المرأة ومع الآخر-المختلف. في سلسلة العارية أو
العاري، رسمت أجسادًا عارية برؤوس مغطاة. أردت أن أرسم اللحم البشري،
اللحم المتماثل للرجال والنساء والحيوانات. أردت أيضًا أن أنتقد مركزية
الرأس والتفكير الاقصائي الذي تنتجه. أشير هنا أيضًا إلى أن شعر/رأس
المرأة المغطى على جسد عار هو صورة تلهم مشاعر مشوشة في الثقافة
الدينية. هناك تفاصيل وتأويلات أخرى تتعلق بفكرة لوحات العاري، لكنني
سأتوقف هنا.
وبسؤالك عن المواضيع التي تشعرني بالحاجة إلى الرسم أقول إن كل شيء
يلهمني، والأمل في واقع أفضل لنا جميعًا هو المحرك الرئيسي. ينتقدني
البعض بسبب الرمزية المفرطة وعدم إعطاء الأولوية لجماليات الفن
التشكيلي، لكنني راضية عما أفعله، ولأنني أستطيع رؤية الصورة الكلية،
لا تزعجني الفراغات التي يراها المشاهد الآن في عملي. إنه مثل
الأحجية-البازل، كل قطعة صغيرة مهمة.
إ. ب.: هل تراودك أحلام اليقظة؟
د. أ.: بطريقة ما، نعم. عندما كنت في
العشرينات من عمري قضيت وقتًا طويلاً في أحلام اليقظة، لكني الآن أسابق
الوقت. إنما كنت وما زلت حالمة-ليلية، أي أني أحلم كثيرًا.
مع ذلك، فإن علاقتي مع الواقع حولي علاقة خاصة. أستقبلُ الكثير من
المعلومات البصرية والإشارات الحسية وهذا يجعلني مشتتة في واقع الحياة
اليومية. أيضًا، لست مستعدةً دائمًا للأحاديث الروتينية مع الآخرين.
تجعلني الاتصالات اللفظية الروتينية والاجتماعات مرهقة للغاية. هذا هو
حالي في السنوات العشرة السابقة، قبل ذلك كنت شخصية مختلفة تمامًا وأظن
أني سأكون مختلفة في المستقبل. أعتقدُ أن كل واحد منا يعيش في نهر من
التحولات المستمرة، وقد تحدث الانعطافات في أي وقت.
بالإضافة إلى المعلومات البصرية والحسية، أنا كائن فلسفي أو متفلسف،
تسبح الأفكار في داخلي مثل الأسماك في المحيط، وأميز منها ما هو نتاج
الذهن وما هو نتاج الوعي. منها ما هو ثقيل مثل كرة من الحديد تسحب
الروح إلى قاع الكآبة ومنها ما هو لطيف وساحر مثل ريشة تحط على ماء
صافٍ.
إ. ب.: من قدوتك في الفن؟ وفي
العالم الحقيقي هل من موديل؟
د. أ.: لا يوجد اسم محدد، لكنني
بالتأكيد تأثرت بالعديد من اللوحات. على سبيل المثال، تأثرت بالفوضى
المدروسة في أعمال جيفري واتس ونيكولاي فيشين. وعندما رسمت سلسلة صور
السيلفي، استوحيت الإلهام من الصور الفوتوغرافية للمصور الفرنسي بيير
غونورد.
لم أرسم بعد عن موديل حيًّ. لدي بعض الشخصيات التي أود رسمها، لكن ليس
الآن. أعلم أن هذا ليس مثاليًا في عالم الفنون الجميلة إذ يعد الرسم
الحي مهمًا للغاية. لقد اعتدت دائمًا الرسم بمفردي، وسيكون الرسم مع
وجود شخص آخر بقربي خطوة جديدة بالنسبة لي. قد أقوم بذلك في المستقبل
القريب.
إ. ب.: من هم الشعراء والكتاب
العرب المفضلون لديك؟ وماذا عن الفنانين التشكيلين؟ ومن هم من العالم ككل؟
د. أ.: الإبداعات هي التي تؤثر علي
وليس الكاتب. أعتقد أننا جميعًا لدينا بعض القمم في إبداعنا، والعلاقة
بين العمل الفني والقارئ أو المشاهد في وقت معين هي تلك التي تجعل
العمل مؤثرًا وتكرسه في النفس. أتذكر كتابًا أثر عليّ كثيرًا عندما كنت
مراهقة وهو كتاب غادة السمان ليل الغرباء. جورج طرابيشي، المفكر
السوري، هو أحد المفضلين لدي. سركون بولص، جويس منصور، كشعراء... من
بين أعمال الأحياء أذكر أعمال الشاعر العراقي ورسام الكاريكاتير ميثم
راضي والقاص السوري نور دكرلي، وكلاهما يبدع أدبًا مهمًا لا يحظى
باهتمام كافٍ. في مجال الفن، أحب بشكل خاص مروان قصاب باشي ولؤي كيالي.
هناك أسماء كثيرة أخرى في كل المجالات. من المبدعين العالميين يمكن أن
أختصر وأقول: يانيس ريتسوس، وسان جون بيرس كشعراء. ميغيل دي أونامونو
وفرانز كافكا كروائيين. وفي الفن التشكيلي أحب رسامي المدرسة الوحشية
والمعلمين القدامى.
إ. ب.: متى غادرت بلدك وتحت
أية ظروف؟
د. أ.: لم يكن في خططي مغادرة سوريا.
في عام 2011 انطلقت الحركة الشعبية التي سرعان ما تحولت إلى حرب ذات
طبيعة معقدة. في ذلك الوقت، كان لدينا، عدد من الأصدقاء وأنا، مشاريع
ثقافية مختلفة. أنشأنا دار نشر ملحقة بمجلة معابر على الإنترنت، حيث
يتم نشر نصوص فلسفية فكرية فنية في مجالات مختلفة، مثل الإيكولوجيا،
الفلسفات الشرقية، فلسفة اللاعنف، علم النفس... إلخ.
في نهاية عام 2011، أنجبت ابنتي الوحيدة. زوجي وابنتي يحملان الجنسية
الألمانية فقط، فالقانون السوري يمنع المرأة من منح جنسيتها لأطفالها.
في نهاية عام 2012، بدأت السفارات الأجنبية في سوريا بالإغلاق، ولم يكن
الوضع في المكان التي كنا نسكن فيه آمنًا، لذلك قررنا السفر إلى برلين،
حيث توجد عائلة زوجي، على أمل العودة إلى سوريا قريبًا. لكن ما حدث كان
مختلفًا. استمرت الحرب واستقرينا في برلين.
إ. ب.: نحن نعيش في مجتمع
يُقترح فيه بكل الوسائل أن نكون مستقلين قدر الإمكان. أنا لا أوافق على
فكرة أنه يمكننا أن نكون مستقلين تمامًا، وأنه أمر مرغوب به. يمكن
للناس أن يكونوا سعداء وأن يعيشوا بصحة جيدة فقط إذا اعتمدوا على بعضهم
البعض. الفن بحد ذاته هو فعل تواصل. نحن نسعى جاهدين للتواصل مع الآخر،
حتى لا نكون منفصلين عنه. أنا أسعد بمعرفة أن أحدهم ساعدني في أن أصبح
ما أنا عليه أكثر من أن أقول: "لقد فعلت كل شيء بنفسي." مثل هذا البيان
سيكون احتيالاً على أية حال. لمن تدين أكثر؟ من الذي ساعدك أو ألهمك
لتصبحين ما أنت عليه؟
د. أ.: لا أحد منا يستطيع أن يعيش
بمعزل عن الآخر، وحياتنا هي انعكاس لنوع العلاقة التي نقيمها مع العالم
من حولنا ومع الآخرين الذين يشاركوننا هذا العالم. سواء أحببنا ذلك أم
لا، نحن نعيش في العلاقة. والسؤال هو: ما نوع هذه العلاقة؟ ما هو عمقها
ودورها في إحداث ثورة في معرفتنا وطاقاتنا أو في الحد منها وإخمادها؟
أليس الاستقلال ضروري لعلاقة جيدة؟ إلى أي مدى يمكننا أن نكون مستقلين
حقًا؟ أعتقد أن كل واحد منا، في كل لحظة، هو حصيلة كل تجاربه، كل ما
حدث معه من خلال العلاقة مع الآخر، مع أولئك الذين وقفوا إلى جانبه ومع
أولئك الذين وقفوا في طريقه. أنا شخصيا ممتنة لكل من مر في حياتي،
وخاصة أولئك الذين آمنوا بي ووقفوا إلى جانبي، بدءًا من أبي وأمي الذين
فعلا كل ما في وسعهما من أجلي، وأجل إخوتي وأخواتي. ممتنة جدًا للمفكر
والمثقف الراحل أكرم أنطاكي الذي ساعدني كثيرًا، وممتنة لزوجي الذي
يدعمني بشكل دائم. وأخيرًا ممتنة لابنتي التي علمتني وما زالت تعلمني
الكثير.
إ. ب.: هل يمكن أن تحدثيني عن
موضوع معرضك الحب الراديكالي: شهوة مؤنثة[2]. من وجهة نظري، والتي تشكلت
بحكم الاعترافات والدراسات والأفلام الوثائقية والتجارب الحياتية، فإن
أسوأ المحرمات المعادية للمرأة وأكثرها انتشارًا هي ضد الدافع الجنسي
للمرأة ورغبتها واحتياجاتها. يتم تشجيع النساء على أن يكون لديهن
"مشاعر مجردة"، عاطفية بحتة، ولكن ليس التوق إلى الحب الجسدي. لا يتم
الاعتراف بالحق في الرغبات والشرعية في الحصول على مطالب أو توقعات أو
مقتضيات جنسية من الرجال. حقهن في النشاط الجنسي المُرضيْ ممنوع. وهذا
يحدث في كل ثقافة تقريبًا في العالم اليوم، حتى فيما يسمى أوروبا
"التحررية". العديد من النساء اللواتي أعرفهن يعشن في علاقات مسيئة.
يبدو الرجال فيها غير مهتمين بحقوقهن واحتياجاتهن الجنسية. ليس العنف
فقط، بل إهمال الشريك أيضًا هو إساءة. لقد دمرت ثقافة الهوك-أب
Hook-upالعديد من
النساء. لم تحقق الحريات والكرامة الجنسية، ولكن تحرير المفترسين من
الذكور. تتعرض النساء للاغتصاب والإذلال والتجارب المهينة في مثل هذه
المواقف. يجب أن تشعر النساء بالأمان من أجل الاسترخاء وهذا هو السبب
في أن معظمهن يفضلن شريكًا مستقرًا. أود أن أسمي هذه القضية تحررًا
جنسيًا كاذبًا. في ثقافة الهوك-أب يعامل الرجالُ النساءَ بطريقة غير
مسؤولة. لدي فضول لمعرفة ما إذا كانت الأعمال المعروضة في هذا المعرض
مرتبطة بأي شكل من الأشكال بأي من هذه القضايا التي ذكرتها.
د. أ.: كانت فكرة المعرض وكل ما يتعلق
بتحضيراته من عمل الممثلة
Roisin O'Loughlin.
وفكرة المعرض كانت استحضار القصائد الحسية التي نظمتها شاعرات كتبن عن
رغباتهن الجنسية وتحويل هذه القصائد إلى أعمال تشكيلية. كانت الفكرة هي
الجمع بين الشعر والرسم في موضوع محجوب تاريخيًا وثقافيًا، خاصة في
الثقافة الإسلامية التي ينكر واقعها الحاضر أي اعتراف باحتياجات المرأة
الجنسية إلا تحت وصاية الرجل. كان من بين الشاعرات من هن من أصحاب
المكانة الاجتماعية العالية، مثل الأميرة ولادة بنت المستكفي، ابنة
الخليفة
المستكفي
بالله. ونزهون بنت القلاعي
الغرناطية وكان والدها قاضيًا. وآخريات منهن كن من الجواري....
إ. ب.: لدي حلم متكرر أشعر فيه بالضيق. وأكون فيه شاعرة وراقصة، مثل
الآن. هذه هي الطريقة التي يصورني بها عقلي الباطن. هذا ما أشعر به.
هذه هي حياتي.
د. أ.: ... الجواري كنَّ، مثل الغيشا
اليابانية، مغنيات وموسيقيات وراقصات وشاعرات. يمكن شرح العلاقة بين
معرض شهوة مؤنثة وثقافة الهوك-أب من المنظور التالي: في فيلم مذكرات
غيشا
Memoirs of a Geisha، هناك مشهد بعد هزيمة اليابان
تفتخر فيه واحدة من الغيشا بأن لديها العديد من الزبائن الآن بينما هي
في أحضان جندي يريد جنسًا سريعًا اغتصابيًا، لا فن فيه. في تقاليد
الغيشا أو الجواري، لا تستحق المرأة مكانتها إلا إذا جمعت بين الفنون
الحسية (الرقص، العزف، الغناء...) والإثارة الإغوائية الأنثوية.
المشكلة الرئيسية في هذا النظام هي أن كل ذلك يجب وضعه في خدمة صاحبها
واحتياجاته. سيكون من السخف الاعتقاد بأن الأمور مختلفة الآن، وأن
النساء، وخاصة العاملات في مجال الترفيه، مثل الرقص والغناء والتمثيل،
لا يعانين من الجور القديم نفسه وإنما بشكل جديد، المالك هنا هو شركات
الإنتاج وأصحابها الذي يتعاملون مع أجساد النساء وكأنها ملكهم الخاص.
لقد أثرت هذه القضية لأقول إن أجيالاً كاملة من الرجال قد تربوا على
هذه الثقافة الجنسية الاغتصابية ولا يعرفون شيئًا آخر.
الابتذال العام الذي نعيشه لا يمكن أن ينتج جنسًا مُرضِيًا وصحيًا،
وكما تتحمل النساء العبء الأكبر من مساوئ هذه الحضارة، مثل آثار
التدهور البيئي والحروب، فإنهن يعانين أيضًا من الناحية الجنسية. وهذا
لا يعني أن الرجل محصن من مساوئ هذه الحياة البائسة، فهو من يموت في
الحروب، وهو من يموت أيضًا دون أن يعرف الازدهار والرضا عن طريق الجنس.
ونحن نتحدث في هذا الأمر لابد من الانتباه إلى الاختلاف بين المجتمعات
التي مرت بالثورة الجنسية والمجتمعات التي لم تصل إليها بعد. يذكر جورج
طرابيشي أن العالم العربي بحاجة إلى الثورات الثلاث التي شهدها العالم
الغربي، بما في ذلك الثورة الجنسية. وإذا كانت النساء في الغرب يعانين
من الانحطاط والتجارب المؤلمة لثقافة الهوك-أب؛ ففي أجزاء أخرى من
العالم هناك نساء يتم تشويه أعضائهن التناسلية، ونساء لا يعرفن ما هي
القبلة أو ما هو الجنس. هناك نساء يمتدحن العبودية ويعاقبن بناتهن
الصغيرات على أي فضول جنسي. وهناك أيضًا جرائم الشرف وغيرها من
الانتهاكات بحق النساء. حتى داخل الطبقة المثقفة، هناك ظلم يلحق
بالنساء: يتجاهلهم رجال الطبقة التقليدية لأنهن منفتحات ويستغلهم بعض
المثقفين الذين يمارسون حريتهم الدينية والجنسية في دوائرهم الثقافية،
لكن عندما يتزوجون يعودون إلى الدين والتقاليد الأسرية.
إ. ب.: دارين، أرجوك أخبريني
شيئًا عن شعرك. كيف يمكنك تأطيره أو وصفه؟ أعلم أنه من الصعب تصنيف
كتاباتك، لكن كيف تصفين أسلوبك؟
د. أ.: تجربتي التشكيلية هي استمرار
للتجربة الشعرية، فلا فرق بينهما إلا الاختلاف بين الصورة المرئية
والكلمات. أنا كائن لاشخصي، كما تلاحظين، وقصائدي، مثل اللوحات، لا
تشير إلى تفاصيل حياتي وأحداثها، إلا في المستوى المعرفي والرمزي، أي
في العلاقة بيني وبين العالم. الشعر بالنسبة لي أكثر شخصية من الرسم،
وفيه تحضر الذات الواعية واللاواعية أكثر مما تحضر في الرسم. لا بد لي
من التأكيد على تفصيل مهم هنا عن الشعر المكتوب باللغة العربية. الشعر
العربي كان الحامل الأساسي للفكر والأدب والفلسفة والدين في الثقافة
الناطقة بالعربية، لأنه، ومن وجهة نظر تاريخية، كان السبيل الإبداعي
الوحيد الذي سُمح له بالتعبير عن هذه المسائل. لذلك، كان حضور الشاعر
الشخصي وانفعالاته مجرد تفصيل صغير بينما كان الحضور الأساسي هو
للقضايا الكبرى. لم يتغير هذا حتى منتصف القرن الماضي مع ظهور قصيدة
النثر والشعر الحر، حيث لم يعد للبناء الشعري المساحة الأكبر على حساب
حرية سرد الانفعالات أو الأفكار، وصار للشاعر حق التعبير عما يختلج فيه
من معان بشكل أكثر حرية. بالمناسبة، مع هذا التحول، زاد حضور المرأة في
الشعر العربي، وقد لعبت الشاعرات دورًا مهمًا في تشكيل وتطوير هذا
الانتقال.
قصائدي معقدة وتؤدي إلى تفسيرات متعددة، بعضها يدور حول الخبرة
النفسية، بشكل خاص حسب علم النفس اليونغي، والبعض الآخر يتحدث عن
العالم والحرب والإنسانية والطبيعة. أبني قصيدتي بعناية وكل كلمة لها
معنى مفتوح لما يأتي لاحقًا ولما كان قبلها. أود لقصائدي أن تؤثر في
القارئ ليس من خلال المنطق، ولكن من خلال إيقاظ شعور مألوف غريب مثل
صوت الريح في ليلة مظلمة.
إ. ب.: ما هو نوع الكتاب
المفضل لديك؟
د. أ.: أفضل الكتب الفلسفية ذات الطابع
الأدبي، مثل: الشعور المأساوي بالحياة لميغيل دي أونامونو، الماء
والأحلام لغاستون باشلار، الفلسفة والشعر لماريا ثامبرانو...
إ. ب.: ما نوع الأفلام التي
تشاهدينها؟
د. أ.: في السنوات الأخيرة، شاهدت
الكثير من أفلام الكرتون وأفلام المغامرات، وهي ممتعة للغاية! عندما
يكون لدي المزيد من الوقت، أشاهد أفلامًا كلاسيكية، مثل أفلام إنغمار
بيرغمان.
إ. ب.: إذا فكرت في الموسيقى
الآن، ما أول ما يخطر في بالك؟
د. أ.: موسيقى رافيل، وخاصة إذا كان
تسيلبيداتشي هو قائد الاوكسترا.
إ. ب.: أخبريني ببضع كلمات عن
مقالتك في ضرورة الوسط.
د. أ.: الفكرة الأساسية للمقال هي نقد
الاستقطاب السائد في الثقافة والسياسة وضرورة العمل الجاد لتقريبهما
وفتح حوار بينهما حول القضايا التي يختلفان فيها. يمكن الاستفادة من
شبكات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، على سبيل المثال، لإعطاء الفرصة
لتحقيق حوار بمستوى مقبول بين الأطراف المتنازعة، بدل النفي الذي يعتمد
إما على تخوين أو تشويه سمعة الخصم. في الحالة السورية مثلاً، وبعد كل
الكوارث التي حدثت، ما يزال هناك خطاب إقصائي، متشابه في جوهره ومختلف
فقط في شكله، بين طرفين غير قادرين على الالتقاء. أردت أن أمتدح الخيار
الثالث، وهو مساحة الحوار الممكنة عندما نكون محاصرين بين منظورين
متشابهين أساسًا، لكنهما يختلفان عن بعضهما البعض فقط في الأقنعة التي
يضعونها.
إ. ب.: أخيرًا، أود أن أعرض للجمهور قصدتين من قصائدك، ترجمتهما إلى
اللغة الرومانية.
عيون
1
ماذا عنكَ؟!
يخيل لي أننا في مكان آخر، وزمان آخر،
كنا معًا
كنتُ اللبوةَ وكنتَ ظبيَّ الأمِّ الفزعة
يخيل لي أني تذوقت لحمك
وفي قلبي بهجة المنتصر وتصدع المهزوم
وأحيانا أكاد أرى آخر لمعانٍ في عينك الواسعة
عندما خيط الشمس عَبَرَ الرموش الطويلة
نحو العشب
المغطى بالندى والدم.
2
الشخوص في اللوحات
وإن كانت مفتوحة العينين هي نائمة
لكنها
بعيونها المفتوحة أو المغمضة أو المتلاشية أو المفقوءة أو المنزاحة....
الخ
تستيقظ من حين إلى حين
لتجول مخيال العالم
راكضةً، رائعةً، يتبعها خيط يقص أصابعي ويعيدها متى شاء
وشاءتْ.
*
أفكر بحرقكما معًا
لكن مثل هذه النار لا تكفي
أريد النار المشتعلة
في النفس
في القلب
في الرأس
في مكان ما خفيٍّ من المرء
اللاهث خلف الماء يطفئها
فيشرب ولا تنطفئ
يغرق
ولا تنطفئ.
*
وها نحن الآن – أيها المرء
–
نتجول في العمى
والعمى طرق وظلال
ذعر وحبال
لكنا نغير الوجهة نحو الحبِّ وفي جيوبنا الكثير من حصى الكراهية
اللامعة.
*
تعال إذًا أيها الشعر
أمام عينينا التشكُّلُ في العشب المسحوق تحت الأجساد العابرة
وغدًا عند الفجر
يتألق الندى على الرؤوس الخضر الناجية.
***
يجري الوقت
غامضًا
فينا - نحن من نعشق الموتى
وننصب آلامهم مثل سور حول آلامنا
"ابتعدي قليلاً عن هذه الخشبة
ما زال الطلاء رطبًا
وعين الميت لم تنطفئ بعد".
*
هذا الصباح
والناس يعبرون الشوارع الواسعة
ويقرأون في شاشات صغيرة أخبار العالم
كنت أتصفح صور أجساد عارية
وأقول سأرسم اليوم جسدًا بذيل ثعبان
ولثة طفل.
*
وإذا كان الشعر كلامًا طيبًا
نزهة نتوارى فيها خلف جدار
نسترق النظر إلى العالم أو نشتمه،
أو كان الشعر عين المكان
يجري الزمان فيها
أبيضَ غامضًا؛
فإني هنا
اتكئ على خشب جاف
بعيون لامعة.
*
د. أ.: في نهاية هذا الحوار أود أن
أشكرك جزيل الشكر، إلينكا، على هذه الأسئلة التي جعلتني أصوغ أفكارًا
تدور في ذهني لكن لم تتوفر لي فرصة صياغتها حتى الآن. أشكرك أيضًا على
التواصل العميق، الذي جعلني أشعر أنني أعرفك منذ فترة طويلة.
إ. ب.: شكرًا لك أيضًا دارين!
*** *** ***