استنساخ الثقافة الاستهلاكية
كيف يروج التسويق العالمي أسلوب الحياة الغربية

 

نورين جانوس*

ترجمة: نسرين زريق

 

لا أحد يسافر إلى افريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية من دون أن يقع على عناصر الحياة المدينية ذات الطابع الغربي البحت.

إن الوقوع في شرك الثقافة العابرة للجنسيات (السيارات والإعلام والمحلات الكبيرة ومراكز التسوق والفنادق وسلسلة مطاعم الوجبات السريعة وبطاقات الائتمان وأفلام السينما الهوليوودية) يترك لدى المرء انطباعًا بأن هذه الثقافة باتت عفويًا تشكل أسلوب حياته. ويقف وراء هذه الرموز المادية الممثلة لهذه الثقافة مجموعة بعينها من القيم والآراء عن الوقت والاستهلاك وعلاقات العمل، وغيرها.

يعتقد البعض أن الثقافة العالمية هي نتاج تطور تدريجي عفوي اعتمد فقط على ما يلي: الثورة التكنولوجية، تزايد التبادل التجاري العالمي، شبكات الاتصال والتواصل العالمية، اختصار المسافات عبر السفر بالطائرات النفاثة. إلا أن الدراسات الحديثة أظهرت أن التقدم قد يكون نتاج أي عملية ما عدا العفوية، أي إنه نتاج استثمار ضخم ومخطط لكل من الوقت والطاقة والمال، وذلك من جانب الشركات العابرة للجنسيات.

بالمحصلة، إن الثقافة العابرة للجنسيات حصيلة مباشرة لتدويل الإنتاج والتراكم بفعل نماذج تطورية معيارية وأشكال ثقافية مستحدثة.

إنتاج المستهلكين:

يشكل مفهوم الاستهلاك المبحث المشترك في عموم فروع الثقافة العابرة للجنسيات، ولا يمكن بحال أن نغفل الدور الذي تلعبه الدعاية بأكثر أشكالها زيفًا واصطناعًا، وأكثرها إثارة بصرية لدى المستهلك، وذلك للتعبير عن أيديولوجية الاستهلاك التي تروجها الثقافة العابرة للجنسيات.

تسلِّط الدعاية الضوء على قلة من العناصر وتستمر بتقديمها مرارًا وتكرارًا، وهي: السعادة، الشباب، النجاح، المكانة الاجتماعية، الرفاهية، الموضة، الجمال. وبالمقابل، تُعتِّم على كل من عنصري التفاوت الاجتماعي والفروق الطبقية، كما لا تعلن عن التباينات في طبيعة وأماكن العمل بين الأفراد.

تقترح الحملات الإعلانية أن الاستهلاك الشخصي الخاص بكل فرد على حدة يمكن أن يشكل حلًا للمشكلات الإنسانية. ويُقدَّم هذا الحل كمخرج مثالي للطاقات المكبوتة، وكشكل مقبول اجتماعيًا للتفاعل والمشاركة، مما يمهِّد لاستخدامه لتهدئة أيَّة بلبلة أو شغب سياسي محتمل.

يمكن القول، إن الإعلام يقدم الى طبقة الفقراء حول العالم ديمقراطية استهلاكية، كبديل عن الديمقراطية السياسية.

فمثلًا، تمَّ العمل على مجموعة من الإجراءات الإدارية تحوَّل وفقها عنوان الحملة الدعائية للبيبسي من "انضم إلى جيل البيبسي" المطروح في الولايات المتحدة إلى "انضم إلى ثورة البيبسي" المطروح في البرازيل. إن أسباب هذا التحول في عنوان الحملة الدعائية للمنتج نفسه هي ما يلي: لا يملك العديد من الناس وسائل للتعبير عن حاجاتهم إلى التغيير الاجتماعي إلا بتغيير الماركات التجارية وبزيادة استهلاكهم للسلع المعروضة في الأسواق. أي إنها توجه حملاتها الدعائية للمنتج نفسه بما يناسب البلد الذي تروج فيه لهذا المنتج.

تعتبر الدعاية والإعلان الإعلام العابر للجنسيات واحدًا من الأسباب الرئيسية لكل مما يلي:

1.    انتشار الثقافة العابرة للقارات.

2.    انهيار الثقافات التقليدية.

يترافق وصف أسلوب الحياة الأجنبي المفعم بالنشاط للنجمة الصاعدة الشقراء في فرنسا أو إنكلترا مع عروض المنتجات الغربية التي تكرس الحداثة والعصرنة، بما يخدم فكرة أن كل ما هو حديث ومعاصر جيد، وكل ما هو تقليدي سيئ بشكل مطلق.

تسعى الثقافة العابرة للجنسيات جاهدة في سبيل إبطال التنوع الثقافي المحلي، وإن استراتيجية السوق العالمية فعالة جدًا لدرجة أنها لا تتيح للمواطنين المحليين كل في بلده الإحساسَ بتأنيب الضمير من جراء انسياقهم في أسلوب الحياة الذي تروِّج له.

"نحن سنبيعك ثقافة"... رسالة واحدة من إنتاج الحملات الإعلانية العابرة للجنسيات ترسلها إلى كل البلدان التي يُصنَّع أو يُوزَّع المنتج فيها.

وغنيٌّ عن القول، إن الدعاية والإعلان عبر العالم هو أكثر اقتصادًا وأكثر فاعلية، على الرغم من أنه قد يصطدم بوحشية بالشروط المحلية.

هكذا، على الرغم من حالات العنف الشديدة التي يعيشها المزارعون في ريف غواتيمالا، فإنهم قد يتجمعون حول جهاز التلفاز الوحيد في قريتهم ليشاهدوا إعلانا تجاريًا يروج لعطر ريفلون Revlon"" تظهر فيه إمرأة شقراء تتنزه في شارع مشجر في ولاية نيويورك الامريكية.

تعمل الشركات العابرة للجنسيات ووكالات الإعلان العالمية جاهدة لخلق أو إنتاج ثقافة استهلاكية، وتتوجه الحملات الإعلانية أكثر فأكثر نحو العدد الضخم من الفقراء في العالم الثالث.

فحتى العائلات الفقيرة التي تعيش في مسكن واحد مع بعضها بعضًا، تتشارك دخلها، تستطيع أن تضيف الى الدخل الأسري ما يقارب أكثر من 10000 دولار في السنة، مما يجعل هذه العائلات هدفًا إعلانيًا مهمًا لهذه الشركات.

وبهذا الصدد، يعلق أحد العاملين المحترفين في الدعاية فيقول: "عندما يبدأ التلفاز بالعمل، تتحول العائلة إلى مجموعة من الأولاد في مخزن للحلويات، إنهم يقعون تحت تأثير حوالي 450 إعلان في الأسبوع، يشاهدون كل الأشياء الجميلة، وفي المحصلة يريدون أن يحصلوا على ما يشاهدون".

إذًا، تتوجه الحملات الإعلانية أكثر فأكثر، نحو العدد الضخم من الفقراء في العالم الثالث.

وسائل الإعلام العالمية:

لمَّا كانت السرعة والانتشار الواسع هما من الخصائص الرئيسية للثقافة العابرة للجنسيات، وبهما تنتشر حول العالم، فإن نظم المعلومات والاتصالات تلعب دورًا مهمًا في تمرير رسالة بعينها، لتنتشر عالميًا عبر: مسلسلات التلفاز، الأخبار، المجلات، أفلام الصور المتحركة، وأفلام السينما بشكل عام.

إن استعمال التلفاز لنشر الثقافة العابرة للجنسيات فعال بشكل خاص مع الأميين. ففي هذا الصدد أجرت وكالة غراي (Grey) العالمية للإعلان دراسة حول العالم لتحديد مدى الفائدة من استخدام التلفاز كقناة دعاية وإعلان. وفي تقرير نتائجها جاء التالي: "لا شك في أن التلفاز هو المفتاح لتطور الاتصالات في عصرنا، فهو يشكل القيم، والآراء، وأسلوب الحياة للجيل الذي يكبر معه. في البلدان التي تحظى ببيئة تجارية متحررة، أُثبت بالنسبة للعديد من المنتجات أن التلفاز هو السلاح الأكثر قدرة وفاعلية من كل أسلحة التسويق كمؤثر أساسي في ترسيخ الصور الإعلانية التي تسعى الشركة التجارية لترويجها." ندرج هنا بعض الأمثلة عن مدى تأثير التلفاز في بعض البلدان:

بالتدريج أخذ هوائي التلفاز يحتلُّ مكان طبول الـ tom-tom على امتداد افريقيا.

حلت الألحان الجذابة محل النداءات القبَلية في جبال الانديز في أمريكا اللاتينية.

اندثر السوق (البازار) الشرقي المتوسطي الذاخر بمختلف البضائع الذي طالما كان منشرًا عبر كل آسيا، لتحل محلَّه أسواق Spic- and-Spam.

إن غناء الأولاد للإعلانات التجارية التي تظهر في التلفاز، وإدخال هذه الأغاني في ألعابهم اليومية لهو أكبر دليل على تأثير التلفاز.

درس بيير سيزير سيّا تأثير الإعلان العابر للجنسيات على الثقافات في ساحل العاج، فلاحظ أن منتجات الشركات، من مثل كولجيت ونستله، قد حلت محل المنتجات التقليدية المحلية التي غالبًا ما تكون أرخص وأكثر فاعلية من معجون الأسنان الصناعي وغذاء الرضَّع البديل للحليب الطبيعي.

وصاغ نتائجه فيما يلي: "باستهلاك المنتجات التالية: كوكا كولا، نستله، مارلبورو، ماجي، كولجيت، او ريفلون، لم يستجب فقط سكان ساحل العاج لحاجاتهم غير الضرورية، لكنهم أيضًا وبالتدريج تخلوا عن عالمهم الأصلي التقليدي، لمصلحة أسلوب الحياة العابر للجنسيات."

الإعلانات التي تروج لمنتجات تفتيح البشرة أدت إلى أن تخجل النساء الأفريقيات من لون بشرتهن، وتحاولن تفتيحها. استخلص سيّا أيضًا أن سكان ساحل العاج تخلوا عن هويتهم العرقية التي تعتبر أحد أقوى الأسلحة المتاحة للحفاظ على هويتهم الإنسانية. تسبَّب الإعلام أيضًا في تغيير رأي سكان ساحل العاج بمسألة التقدم في العمر، جاعلا ًالنساء يخفن من أن يبدين كبيرات في السن. هذا عدا عن هزِّ الصورة التقليدية المحترمة لكبار السن.

إن استهلاك المشروبات الخفيفة والمشروبات الكحولية المعطرة Liquor يشير الى تغير اجتماعي آخر، فالمشروبات التقليدية تستهلك فقط في الجلسات الأهلية المحلية كما يدل الوعاء الكبير حيث تُخزَّن. إلا أن مشروبات الكوكا كولا وبيرة Heineken التي يُروَّج لها كثيرًا عبر مصورات الإعلان، يتم استهلاكها بشكل فردي خاص، أكثر منه كفعل جماعي.

شرحت دراسة أُجريت في فنزويلا تأثير ما يعرض على التلفاز في آراء الأولاد.

حلل سانتورو (1975) برامج التلفاز لمدة أسبوع وقابل 900 من طلاب الصف السادس طلب منهم أن يخترعوا قصة ويرسموا شخصياتها، بإيحاء من البرامج التلفزيونية التي يشاهدونها ثم يصفون ما يرسمون.

في المقام الأول كانت المشاهد المتخيلة عبارة عن قصص عن العنف، الجريمة، القوة الجسدية، المنافسة، والأكثرية العظمى منهم صورت مشاهد تدمير حرض عليها الطمع والجشع.

كانت الشخصيات "الخيِّرة" من أصل أمريكي، بيضاء البشرة، ثرية، متعددة المواهب، وتحمل ألقابًا باللغة الانكليزية.

أما الشخصيات "الشريرة" فمعظمها من بلدان أخرى غير الولايات المتحدة من مثل: الصين وألمانيا، ذات شعر أسود، فقيرة، عمال أو موظفون في شركة، يحملون ألقابًا إنكليزية او إسبانية.

خلص سانتورو إلى أن هذه الشخصيات الموصوفة من قبل الأولاد نجدها نفسها في برامج التلفاز الفنزويلي والإعلام المحلي.

الافتراضات الأساسية:

من خلال دراسته لمجموعة أخرى من طلاب الصف السادس، اكتشف المعهد المكسيكي لدراسات الاستهلاك في عام 1981 أن ما تعلمته هذه المجموعة من خلال متابعتها لبرامج التلفاز هو أكثر مما تعلمته من كتبها المدرسية. إنهم يملكون معرفة أكبر عن الشخصيات التلفزيونية البارزة مقارنة بمعرفتهم عن الأبطال القوميين في بلدهم، وهم يميزون العلامات التجارية للوجبات السريعة، والمشروبات الخفيفة، ومنتجات العلكة، وغيرها، أكثر مما يميزون الرموز الوطنية، كعلم بلادهم، أو موقعها على الخريطة العالمية، أو حتى الاحتفالات الرمزية لأعيادهم القومية... الخ. يعرفون أيضًا عن مسرح الأوبرا الشهير ومسلسلات العنف أكثر من معرفتهم عن مراحل تاريخهم المكسيكي.

وفي دراسة أخرى، قدَّم لأولاد من خلفيات اقتصادية مختلفة صورًا لشخص يعايش ثلاث حالات مختلفة من حيث ارتباطه بالعائلة وعيشه بسعادة معها، والحياة في الريف وسط الطبيعة، وحياة الرفاهية والبذخ والممتلكات الكثيرة، وطلب منهم أن يختاروا أكثر هذه الحالات سعادة برأيهم.

عُني هذا السؤال بإظهار الدرجة التي يتقبل بها الأولاد الافتراض الأساسي للإعلان والمتمثل في أن الاستهلاك يجلب السعادة.

ففي حين أن أكثر من نصف الأولاد بقليل اختاروا حياة العائلة، فإن الأولاد الفقراء كانوا بكل تأكيد أكثر ميلاً من الأغنياء منهم لربط مفهوم السعادة مع مقدار ما يمتلك المرء من وسائل الرفاهية والبذخ.

قد تتعلق أكثر نتائج هذه الدراسة أهمية بقدرة الأولاد على تحليل الاستهلاك تبعًا لمنزلتهم الاجتماعية.

لقد قدم لهم صورًا لأنواع مختلفة من المنتجات الاستهلاكية كالسجائر وأجهزة التلفاز، وسألهم عن السلع التي يستطيع شراؤها الأغنياء وتلك التي يستطيع شراؤها الفقراء. عمليًا، أبدى كل ولد وعيًا حادًا بكيفية الحصول على هذه المنتجات تبعًا للمنزلة الاجتماعية للأفراد.

لقد علموا جيدًا أن الشخص الغني يستطيع شراء أي من هذه السلع أو كلها، في حين أن الفقير لا يستطيع شراء أكثر من السجائر، وكوكا كولا، ووجبات الطعام السريعة، وأقلام الحمرة.

تقترح هذه النتائج - رغم أنها غير نهائية بالمرة - أن تأثير الثقافة العابرة للجنسيات أعظم بين الفقراء، هؤلاء بعينهم الذين لا يقدرون على شراء أسلوب الحياة الذي تقدمه لهم هذه الثقافة.

من المرجح أنهم يربطون الاستهلاك بالسعادة، ويشعرون بأن المنتجات الاصطناعية أفضل من تلك المصنَّعة محليًا. لكنهم وفي الوقت نفسه يَعون بألمٍ أن الأغنياء فحسب يستطيعون عيش أسلوب الحياة المُصوَّر في وسائل الاعلام العالمية.

هذا يقودنا الى بعض الأسئلة المهمة:

ما هو التأثير السياسي لانتشار الثقافة العابرة للقارات على الفقراء الذين لا قدرة لهم على عيش أسلوب الحياة الباذخ الذي تقدمه هذه الثقافة؟

وبالتالي، كيف سيتعايشون مع التناقضات اليومية التي تخلقها أمامهم هذه الثقافة؟

*** *** ***


 

horizontal rule

* نورين جانوس Noreene Janus: مستشارة تكنولوجية لأمور المعلومات والاتصالات، USAID، العاصمة واشنطن. تصمم استراتيجيات للاستخدام الفعال لوسائل الإعلام، والإنترنت، ووسائل التكنولوجيا الأخرى العريضة النطاق، لدعم تقدُّم التعليم، والصحة، والبيئة، والديموقراطية. عملت لأعوام عديدة في المكسيك وغواتيمالا في مجال الإعلام والاتصالات والتطوير الريفي. تحمل شهادة دكتوراه في أبحاث الاتصالات من جامعة ستانفورد.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني