عن "ملاكم الذباب
الأزرق" وأديل
وائل
شعبو
الآن
وأنا في الثالثة والأربعين من عمري صدر كتابي الأول، "وربما يكون
الأخير".
لا أدري كم كاتبًا أصدر كتابه الأول في مثل هذا العمر المتأخر؟ وهل
يعني هذا السؤال شيئًا؟
عن الكتابة الأولى هناك معادلة تقليدية: طفل أو مراهق + كتب + موهبة =
كتابة، وعن الكتاب الأول ثمة معادلة تقليدية أيضًا: كتابة + فقر/قلة حظ
= طباعة بدائية بشكل ما، وهكذا كان.
في نهاية القرن الماضي وبعدما قرأت الأولين والمتأخرين والمحدثين عرباء
وغربيين عشت متخبطًا في شرك الشعر أكتب دون أن أقنع بما أكتب، فجربت
الفكاك من بهائه المتعِب من خلال إثبات رغبة فشل لاواعٍ فيه تجلت
بكتابتي القصة القصيرة؛ أسلس الأجناس الأدبية برأيي، لكن لحسن حظي
وربما لسوئه بدأت أقرأ لشعراء الثمانينيات والتسعينيات، وكانت دهشتي
سعيدة للفارق في التصور الذي كان أعطانيه شعراء الحداثة الأًوّل عن
جدية الشعر وعنفوانه، وبين الانطباع الذي تركه الشعراء الجدد، حيث وجدت
ذاك الميل اللطيف حتى السذاجة أحيانًا نحو التبسيط في كافة خصائص الشعر
من لغة وصورة وموسيقى ورمز و و، وكان هذا الانطباع هو ما حرك فيَّ
مقاومة رغبتي في الفشل شعريًا، وهو ما ولد فيَّ التصميم على كتابته
وحتى نشره.
بداية حاولت مع وزارة الثقافة في سورية لكن كأن شيئًا لم يكن، وقد فكرت
بعدها في المستحيل أي أن أطبع على كلفتي لكن هيهات هيهات، أما فكرة
الكتابة اليدوية والطباعة البدائية فقد نفذتها حين جمعت تجريباتي
الشعرية وكتبتها على ورق
A4
مُنَصف بشكل
طولي بخطي الرديء طبعًا، وقمت بتنفيذ الغلاف من صورة كولاجية صممتها
أنا، ثم طباعته بنسخٍ عشرين عند إحدى المكتبات التي تطبع ورقا سميكًا
مع التلوين، وعند ابنة عمتي منال التي كانت تعمل في مكتبة، توَفر لي
مجانًا نسخ الأوراق ثم تخريزها ككتيبات بخرازة المكتبة الكبيرة، بعدها
قمت بتوزيع منجزي الشعري الطباعي الذي سميته أبجدية الوجائع على
من أعرفه من أصدقاء ومهتمين بالشعر، لكن كأن شيئًا لم يكن.
ومضت سنون نسيت أمر الطباعة التي صارت تعد لي ترفًا لن أسعى إليه إلى
أن تعرفت على الشاعر نديم الوزة الذي بدأ يعمل على مشروعه الخاص
(أوغاريت) وهو عبارة عن موقع الكتروني أدبي ودار نشر - ليس بالمعنى
الحقيقي - أراد أن يبدأها بنشر مجموعة شعرية له وأخرى لصديقتي ومجموعتي
ملاكم الذباب الأزرق ضمن إمكانيات لا تزيد عن إمكانيات محاولتي
الأولى إلا الكتابة بالكومبيوتر، أما الغلاف فكان من تصميم أخي رامي،
ثم قمنا بتوزيع منجزاتنا متأملاً لكن متوقعًا أن شيئًا لن يكون.
ودارت الأيام ومرت الأيام خف القلق شعري لحساب المعيشي نتيجة زواجي
وإنجابي ابنتي أديل، أنشر في موقع هنا أو هناك، أكتب قصائد عديدة لأديل
وقليلة للأشياء الأُخَر.
وبدأت الحرب الخسيسة لضم سورية إلى محميات الإمبريالية "الربيع
الصهيوني"، وكأن كل شيء حقير لم يكن في سورية إلا وكان، بَعُدَ الشعر
أكثر والطباعة صارت يوتوبيا، وتفاهة وسخافة ونجاسة ثورة البترودولار
تدمر البلد وتنخر العمر والأعمار فيالعار الثورات التي تهدم الأوطان.
كنت تعرفت قبيل الثورة/العورة على الشاعر هادي دانيال المقيم في تونس
منذ زمن طويل عن طريق أخيه نديم، الذي كان شريكًا في دار نشر تصدر له
ولغيره من الكتَّاب، وقبل قرابة السنتين اقترح علي طباعة مجموعة لي
ولزوجي، فسألني أن أرسل له نسخ وورد جاهزة للطباعة، طبعًا سرني أن لا
يكون هناك يوتوبيا وأن يصبح لي كتاب رسمي، سرني ولم يفرحني، ذلك أن
عورة الثورات كانت تزيد من وعورتها، فأرسلت له طبعة منقحة ومزيدة من
ملاكم الذباب الأزرق على أن تصدر بعد عديد من الشهور، إلا أن
انسحاب هادي من دار النشر تلك مدد الانتظار، وخلال هذه المدة ومثل
الكثير من السوريين سدت العورة النفطية وإفرازاتها المَرضية الإرهابية
بالذات أفق حياتي، فلجأت إلى ألمانيا بعيدًا عن زوجتي وأديل سورية،
وهنا في ألمانيا لا أنتظر سوى عائلتي أو خبرًا جيدًا يوقف قبح المهزلة
الثورية التي تفبركها الإمبريالية والصهيونية مستخدمة أموال قِراد
الخيل وإرهابهم، فحتى نوبل أو البوليتزر أو البوكر لن يكون لها طعم
بعيدًا عن ابنتي الطفلة وأمها، وعندما علمت الآن بعد تسعة أشهر من
لجوئي بأن مجموعتي صدرت عن دار الديار التي أسسها هادي، لم تتدفق في
عروقي ذرة أدرنالين، بل حتى عندما وصلت نسخ إلي، لم يشجع ذلك الحضور
المادي للأسف أي ذرة أيضًا، لم أعش ذاك الشعور الذي تمنيت أن أعيشه
عندما كنت شابًا، بل أنني خلال قراءتها لم أتفاجأ بمللي منها، إلا أن
المفاجأة الغبية مني كانت أنه لا توجد ولو حتى قطعة عن طفلتي أديل، فيا
لعاري وعار الثورات، فالشكر لك هادي واللعنة على هكذا ثورة وعليَّ وعلى
كتابي الأول الذي ربما يكون الأخير.
لا بد أن من سيقرأون رأيي بما يسمى "ثورة" لن يغضبوا فهم مثل من يدعمهم
مع الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، وبالتأكيد سيمنعون وسيدافعون عني
بكل شراسة إذا ما حاول أحد ثورييهم المجاهدين ذبحي على الطريقة
الوهابية... أم أنني مخطئ؟
*** *** ***