سأغادرُ دونَ أن
أستلقي مَرَّةً فوقَ عُشبٍ نديٍّ
نور دكرلي
-
هل يعني هذا أنِّي سأغادر العالم، وأنا لم أستلقِ مرَّةً فوق عشبٍ
نَديٍّ؟
-
الأمرُ أهمُّ من ذلك، لكنْ إنْ كانَ هذا ما يهمُّكَ، ما زالَ لديكَ
ثلاثةُ أسابيعٍ على الأقلْ، بإمكانكَ أن تقومَ به.
-
لكنْ لنْ يكونَ للأمرِ أيُّ قيمةٍ بعَد الآن، لنْ أفعل.
لم أتركهُ يُخبرني بأكثرَ من ذلكْ، وخرجتُ قبلَ أن يبدأ بِعباراتِ
المواساةِ السخيفة.
في الشَّارعِ كانَ هناكَ أناسٌ يسيرونَ بشكلٍ طبيعيٍّ ولا يَبدو
عَليهمْ أيُّ اضطرابٍ، سائقُ تاكسي يَركنُ سيَّارتهُ بجانبِ الرصيفِ
ويَستمعُ إلى أغانٍ رديئةْ، شُرطيُّ مرورٍ يكملُ عملهُ، نساءٌ
جميلاتْ... وقفتُ في وسطِ الشَّارعِ وبدأتُ أصرخُ بهمْ جميعًا:
-
يا "ولاد الكلب" كيفَ تَستطيعونَ أنْ تَكونوا هَكذا وأنَا سأغادرُ هَذا
العَالم!! من أينَ اكتَسبتمْ كلَّ هذهِ القسوةْ!!
انظروا إليَّ، أنَا
مِثلكُمْ لكنني سَأرحلُ ولن أستمرَّ بمشَاركتكمْ الحَياة، ألا يُحزنُكم
هَذا؟ ألا تَخجَلون؟ هل لأنَّكمْ لا تَعرفونَني؟ لكن هَذا لا يَكفي
أيُّها القُساةْ... أوقِفوا حَياتكمْ يَومًا واحدًا عَلى الأقلِّ.
لم أفعلْ ذلكْ.. تَخّيلتُه وتمنَّيتهُ فقطْ، إلا أنَّ القهَر كانَ قدِ
ابتلعَ صَوتي.
حينَ وصلتُ إلى الحَيِّ الذي أسكُنُ فيه، كانَ أمامَ بَيتي أطفالٌ
يَلعبونَ، فاقتربتُ من أحدِهمْ وسَألتهُ:
-
هل أمسكتَ يَومًا عُصفورًا صَغيرًا.
تَجمَّعَ بقيَّةُ الأطفالِ حَولي قبلَ أن يُجيبَ على سُؤالي، ليجيبَ
طفلٌ آخرٌ بدلاً عَنه، طفلٌ لهُ وجه مليءٌ بالنَّمش:
-
وهلْ يوجدُ عُصفورٌ كبيرٌ؟
ضحكَ البقيَّةُ على نكتةِ الوغدِ الصَّغير.
-
هل تعتقدونَ بأنَّ الأمرَ مُضحكٌ؟ سَتكبرونَ وستندمونَ عَلى هَذا يا
أغبياءْ، سَارعوا وامسكُوا عَصافيرًا صَغيرة.
في كلِّ طُفولَتي لم أُمسكْ عُصفورًا، حينَ كنتُ في عمركمْ كنَّا نَقضي
الوقتَ في خربةِ الحيِّ القديمْ، نبحثُ تحتَ الصُّخورِ عن دُودٍ كنَّا
نُسمِّيهِ "جُغْل"، ثمَّ نضعهُ في الفِخاخِ كطُعمٍ للعصَافيرِ، ثمّ
ننتظرُ لساعاتٍ في الشَّمسِ الحارقةِ قبلَ أنْ ينجحَ أحدُنا بالإيقاعِ
بأحدِ العَصافير، ومَا إنْ يُطبق أحدُ الفِخاخ فكَّيهِ على عُصفورٍ
صغيرٍ، كانَ الفرحُ يفعلُ ذلك بِقلوبنا أيضًا، ثمّ نُهرول كالعصافيرِ
المحرَّرةِ من أقفاِصها لكي نُمسكِ بالفَريسة.
كلُّ الأولادِ كَانوا يَستمتعونَ بِصيدهمْ إلا أنَا لمْ أكنْ أجرُؤ
عَلى الإمساكِ بالعصفورِ وتحريرهِ منَ الفخِّ، لذلكَ كنتُ أبيعهُ لأحدٍ
مِنهمْ مقابلَ خمسِ ليراتٍ إنْ كانَ أنثَى وعشرةٍ إنْ كانَ ذكرًا.
وها أنا الآنَ أشعرُ بغصَّةٍ كبيرة، تَجعلُ حُنجُرتي تَرتَجفُ كقلبِ
عصفورٍ صَغيرْ، كيفَ أفلتَتْ طُفولتي مني دونَ أنْ أمسكَ فِيها بأيِّ
عصفورٍ، واكتفيتُ بمراقبةِ الَبقيَّة، أحسدُهمْ لِملامَستهمْ ريشهُ
النَّاعمْ، وإحسَاسهمْ بجسدهِ الصَّغيِر بينَ كفَّيهمْ.
لو أنِّي متُّ فجأةً لَما تَذكَّرتُ ذلكَ، ولَمَا شعرتُ بكلِّ هذهِ
الحَسرة.
لا تُضيِّعوا طُفولتَكمْ يا أغبِياءْ...
-
أنَا أستطيعُ الإمساكَ بعصفورٍ، عصفورٍ صغيرٍ، وليسَ كبيرًا، هل أحضرُ
لكَ واحدًا لتُمسكُه، كمْ سَتعطينِي ثَمنه؟
-
سيعطيكَ خَمسةً إن كانَ أنثَى وعشرةً إن كانَ ذكرًا.
-
لا... إنَّهُ لا يَجرؤُ على الإمساكِ بعصفورٍ، صغيرٍ، لِنُحضرْ لهُ
تلكَ الدودةَ ليمسكَ بِها. ماذا أَسميتَها؟ جُغل؟
استمرَّ الأولاُد بالتَّنافسِ في إبرازِ مَواهبهمْ في إلقاءِ النُّكاتِ
والضَّحكِ، وكأنَّهمْ وجدُوا لعبةً جديدةً، فتَركتُهمْ ودخَلتُ إلى
بَيتي حَزينًا، كيفَ أصبحَ العالمُ قاسيًا هَكذا!! كيفَ لأطفالٍ مثلهمْ
ألّا يَفهمُوا أنَّ رَجلاً مِثلي تَصهرُ الحسرةُ قلبهُ، لأنَّه سيغادرُ
ولم يُمسكْ عُصفورًا صَغيرًا في حَياته.
في البيتْ، أستَلقي عَلى سَريري، مُحاولاً أنْ أبكِي، وعَينايَ
تُحدِّقانِ بسقفِ غُرفَتي، حتَّى تَكادا تَلتصقانِ به.
استَلقيتُ لساعاتٍ وعينايَ كمِحبَرتين، تَرسُمانِ حُروفًا على
السَّقفِ، وكأنَّها حروفُ رسائلٍ أخَافُ أن أكتُبها، تُحزِنُني رسائلُ
المُغادرينْ:
أمي:
هلْ تَذكرينَ حينَ كنتُ أعَانِي من مَرضٍ ربيعيٍّ في عينيَّ، وأُسرعُ
خَائفًا إلى حُضنِكِ وأنا أغمِضهُما لساعاتٍ، وأنتِ تُبلِّلينَهما
بالماءِ لِكي يَخفَّ الألمْ؟
لكني حِينَها لمْ أكُنْ أتَوقَّفُ عنِ الشَّكوى، أريدُ أنْ أخبركِ
بأنَّ ذلكَ لمْ يَكنْ بسببِ الوخزِ الَّذي كنتُ أشعرُ بهِ في عَينيَّ،
بلْ بسببِ عَجزِي عنْ وصفِ ما كنتُ أشعرُ بهِ والتَّعبيرِ عنهُ
بدقَّةْ، كانَ هذا مَا يُبكِيني، تلكَ الأشكالُ الّتي كنتُ أرَاها وأنا
أُغمضُ عينيَّ، تلكَ الأشكالُ لم تَكنْ صُورًا فَقط، بلْ كانتْ
تَجعلنِي أشعرُ بضغطٍ شديدٍ على جَانبي رأسِي وقَلقٍ لا أفهَمهُ، كيفَ
كانَ عليَّ أن أشرحَ وأصفَ ذلكَ؟ هل كنتِ سَتُصدقينَ حِينها؟
تَخيَّلي.. وأنا الآنَ في عمرِ الثّلاثينِ لا أتَمكَّنُ من التَّعبيرِ
عنهَا بشكلٍ صَحيح، لكني اكتشَفتُ لاحقًا أنَّ هناكَ الكثيرَ منَ
الأشياءِ الّتي تَحدثُ ويعجزُ الإنسانُ عن وصفِها للآخَرين.
أنا أتَألَّمُ كلَّ يومٍ يا أمي، كيفَ بعدَ كلِّ هذا أعجزُ عنْ فهمِ
مَا تُحدثهُ المسافاتُ في دَاخلي، وكيفَ لا أتَمكَّنُ منْ وصفِ تلكَ
الأشياءِ التي أشعرُ بِها، وكأنَّ هناكَ ما يسيلُ في دَاخلي، قربَ
القلبِ، ليسَ تمامًا، حتى أنِّي لا أقدرُ على تحديدِ مَكانَها... لمَ
أشعرْ بها؟.. يُؤلمنِي ألا أتمكَّنَ من وصفِ ذلكَ للبَعيدين.
أبي:
أنا منْ كانَ يسرقُ شفراتِ الحِلاقةِ وأخبِّئُها، لأسْتَخدمها بِحلاقةِ
الزَّغبِ في وجهِي كلَّ ثلاثة أيَّامٍ لكي أصبحَ رجُلاً بِسرعة، لكنِّي
بعدَ كلِّ تلكَ السَّرقاتِ سَأغادرُ العالمَ ولمْ أصبحْ رجُلاً.
هل كانَ عليَّ أن أقومَ بِحلاقَتها أكثرْ؟ أمْ كانَ يلزمُني أنْ أكبُرَ
ثَلاثين أخرَى؟
يا بَعيدةْ:
أحصَيتُ اليومَ الرَّسائلَ المتبادلةَ بَيننا، تَخيّلي... صارَ عَددها
38771 رسالةً، و983 صورةً لكِ.
لكن أريدُ أن أعرفَ شيئًا واحِدًا، كيفَ سأشعرُ إن أمسكتُ يدكِ؟
ما مَلمسُها؟ ناعمةٌ رطبةٌ كعينينِ حزينتينِ؟ أمْ باردةٌ جَافَّة
كَجبهةِ مَيتٍ؟
أم أنَّكِ تعجزينَ عن وصفِ ذلك.
أحبُّكِ، وسَأغادرُ دونَ أن أستَلقيَ معكِ، مرَّةً فوقَ عشبٍ نَديٍّ.
*** *** ***
دحنون