التَّعليم الأساسيُّ وتمييز المواهب:
تساؤلٌ دائم
أديب الخوري
لا، ليس في استطاعتك أن تحيل البراعم إلى أزهار.
هزَّ البرعم، اضربه، فلن تكون لك القدرة على جعله زهرةً.
إنَّ لمستك تفسده، إنَّك تمزِّق أفوافه وتذروها على التُّراب.
ولكن لن يتراءى أيُّ لون ولن يفوح أيُّ أريج.
إنَّ الذي ينوِّر البرعم، يتأتَّى له ذلك في يسر.
إنَّه يرامقه بنظرة فيتمشَّى رحيق الحياة في عروقه.
(رابندرانات طاغور – من ديوان جني الثّمار)
لا بدَّ
إلى جانب كلِّ ما كُتِب ويُكتَب عن هذا الموضوع أن نعيد طرح السُّؤال
المعروف: هل الموهبة ملَكَة أو اكتساب؟ أو بطريقةٍ أفضل صياغةً ربَّما:
أين تنتهي الموهبة ومتى يبدأ الاكتساب؟ ما هو دور الوراثة، وأين وإلى
أيِّ مدىً يمكن لشخصٍ ما أن "يفوز" بموهبةٍ لم يُخلَق لها وأن يحقِّقها
بالمران والتدرُّب والتعلُّم؟! هل هناك "جين" الموسيقا أو "مورِّثة"
الرِّياضيَّات مثلاً؟!
يرى عالم النَّفس البلجيكي المعاصر بيير داكو[1]
أنَّ الطفل يولد مزوَّدًا بجميع المواهب الممكنة (رياضيات، موسيقا،
رسم، تمثيل، شعر...) لكن بعض هذه المواهب ينمو عمومًا على حساب أخرى،
وعلى العموم تغربل "التَّربية" هذه المواهب، والتَّربية الموفَّقة هي
التي تنجح في الحفاظ على البعض منها، وعلى صقله وتنميته.
يمكن لعالم هندسةٍ وراثيَّة أن يرى الأمور أكثر تحديدًا، فيعتقد بوجود
مبالغة في وجهة نظر عالم النَّفس الشَّهير، بيد أنَّه لا يسعنا غير أن
نقبل بأنَّها صائبةٌ إلى حدٍّ بعيد إن لم يكن بالمطلق. فمَن منَّا لم
يلاحظ ميل ولده الصَّغير إلى الموسيقا كما إلى الرَّسم، وولعه بالأرقام
مثل ولعه بالحروف؟!
لعلَّ بإمكاننا تشبيه المواهب ببذور صغيرة. فلتكن هي الجينات إن شاء
عالم الهندسة الوراثيَّة أن يماهي هذه مع تلك.. وبغضِّ النَّظر عن
التَّسمية يمكننا أن نتساءل: ألا يمكن أن يتعلَّم جميع، أو على الأقلِّ
معظم الأطفال الموسيقا بشكلٍ جيِّد، كما يتعلَّمون اللُّغة المحكيَّة
بشكلٍ جيِّد، إن توفَّرت لهم فرص لتعلُّم الموسيقا تكافئ فرص تعلُّم
اللُّغة؟
إذا وُلِد طفلٌ في بيت يعزف فيه الوالدان على آلةٍ موسيقيَّة،
ويُكثِران من سماع الموسيقا، ويتحدَّثان بين وقتٍ وآخر عن المقطوعات
الجميلة، وتدندن الأمُّ وهي تقوم بأعمال البيت أغانٍ ناعمة بصوتٍ
جميل... ألا يكون احتمالاً مرجَّحًا جدًّا أنَّ الولد سيميل إلى تعلُّم
الموسيقا، ويبقى بعد ذلك عمل المدرسة أو المعهد؟ إذا كان الجواب "نعم"،
فلنتَّفق مع بيير داكو إذًا على أنَّ كلَّ طفلٍ يملك بذور الإبداع في
الموسيقا، ولنعِد طرح نفس الفكرة بعدئذٍ حول الرَّسم والشِّعر وغير
ذلك... ألا نصل في النهاية إلى قناعة بيير داكو نفسها؟!
لكن المعروف عند الجميع أيضًا أنَّ أيَّ بذرةٍ لا تصلح لها أيُّ أرض.
بمعنى أنَّ بذرةَ، أي موهبةَ، القراءة لن تعيش طويلاً في بيتٍ لا مكتبة
فيه ولا كتب، ولا يقرأ الأهل فيه حتى ولو حالة الطَّقس في جريدةٍ
يوميَّة.
تحتاج البذرة إلى تربةٍ خصبة، وإلى ريٍّ مناسب، وإلى مناخٍ ملائم.
فلنقل إنَّ التُّربة الخصبة هي البيت، وإنَّ الرَّيَّ والرِّعاية
يصيران في المدرسة، وإنَّ الجوَّ الملائم هو المجتمع بأكمله، بما فيه
من مؤسَّسات تربويَّة من جهة، وبما يحكمه من قوانين وأعراف وعادات من
جهة ثانية، وصولاً حتى إلى ما يوفِّره من بنىً تحتيَّة (مكتبات، مسارح،
دور عرض..) ومن إمكانيَّات تكنولوجيَّة، ومن وسائل تواصلٍ واتصال..
وقبل هذه وتلك بنوع العلاقات التي يعيشها فيه النَّاس الذين ينمو
الطِّفل في وسطهم.
يعني هذا بطبيعة الحال أنَّ هذه البذور لن تنمو كلَّها، والحمد لله!
فرغم امتلاك كلِّ طفلٍ لكلِّ الإمكانيَّات، لن يصير الجميع، موسيقيِّين
وشعراء ورياضييِّن وفيزيائيِّين ورسَّامين في الوقت نفسه... فهذه
البذور ستجد نفسها في تربةٍ خاصَّة وستُسقى بمياه مختلفة وستعيش في
أجواء ومناخات متباينة.. وستنمو بعض هذه البذور، بحسب كلِّ تلك
الظروف... ولا بدَّ هنا من ملاحظةٍ على نحوٍ كبيرٍ من الأهميَّة وهي
الفكرة نفسها التي طرحها شاعر الهند بأسلوبه الفريد والتي أشرحها على
هذا النَّحو:
لا يمكن لمزارعٍ أن يجعل البذرة تُنتش وتنمو وتكبر، كما أنَّها لا تفعل
ذلك من تلقاء نفسها. إنَّ نموَّ البذرة هو عمل الطَّبيعة بمجملها،
إنَّه عمل الحياة كلِّها في هذه البذرة أو هذه النَّبتة، ودور المزارع
هنا هو دور المساعد، المشرف، الرَّاعي... وفق هذا القياس، ليس هناك
تعليمٌ، ولا تعلُّم: هناك نموٌّ في العلم والمعرفة، يشبه النموَّ في
القامة، فلا أهل الطفل ولا الطبيب ولا الطفل نفسه يحدِّدون طول قامته
وكيفيَّة نموِّه... لكنَّ الأهل يجتهدون في تقديم أفضل الغذاء، والطبيب
يقدِّم الدَّواء وقت اللُّزوم، والطفل يأكل لأنَّه يحب الطَّعام،
ولأنَّه يجوع إلى الطَّعام، ولأنَّه يحتاج الطَّعام... وهو يأكل أيضًا
لأنَّه يجد الطَّعام الذي يحمل الأب مواده الأوليَّة بمحبَّة وتعدُّه
الأمُّ بفرح. علينا ألا نخشى إذًا من ابتعاد الطَّفل عن التَّعليم إذا
ما أحسنّا "طهي" العلوم والفنون والآداب له.. إنَّما علينا بالمقابل،
وعلى نحوٍ مسبق، أن نقبل للطِّفل ما يختاره بنفسه ويفضِّله من هذه
الوجبات التي نحاول أن نضعها في متناوله.
إنَّ ما يساعد على نموِّ المواهب، هو أن نميِّز "صعود" بعض المواهب دون
غيرها، وأن نلاحظ توجُّهات الطِّفل العفوية. أن نعرف ما يحبُّه وما
يسرُّه وما يمتعه وما يشغله أوقاتًا طويلة دون ملل.. بدل أن نسعى لكي
نفرض على الجميع دومًا تعليمًا واحدًا مشتركًا، وأن نطلب من الجميع على
السَّواء التَّميُّز في الرِّياضيَّات واللُّغة مهملين الرِّياضة
والموسيقا على سبيل المثال.
إنَّ الفكرة التَّربويَّة التي تنصح بتشجيع الطِّفل عبر الثَّناء أو
الهديَّة أو المكافأة عندما يقوم بعملٍ جيِّد أو مميَّز، مقابل تجاهل
العمل السيِّئ أو الأداء الضَّعيف، بدلاً من العقاب أو الردِّ بقسوة،
هي تمامًا أن نعطي البذرة أو النَّبتة الصَّغيرة المزيد من الماء حين
نشعر أنَّها تتجاوب مع الماء، والمزيد من الضَّوء عندما نرى التَّأثير
الإيجابيَّ للضوء، والمزيد من السَّماد عندما تطلب النَّبتة السَّماد،
مقابل ألاّ نسعى من جهةٍ أخرى إلى دفع وتحريض وإجبار بذرةٍ أخرى على أن
تنمو وتكبر بأيِّ طريقةٍ من الطُّرق.
إنَّ عمل المدرسة، ولا سيَّما مرحلتي الرَّوضة والتَّعليم الأساسيَّ،
يصبحان بهذا المعنى مراقبة الطِّفل ضمن بيئةٍ يتوفَّر فيها أكبر قدرٍ
من الوسائل والأدوات التَّعليميَّة، ومرافقته في تمييز طريقه واكتشاف
موهبته. أمَّا دور المعلِّم فسوف يتحوَّل على الأكثر إلى مساعدٍ
للطِّفل على تقصِّي أرجاء مختلفة من جوانب اختصاص هذا المعلِّم، أكثر
ممَّا يكون انتقالاً ممنهجًا بين فقرات متتالية يجتهد مرتِّبوها في
انتقائها دون الرُّجوع إلى مَن هو معنيٌّ بها مباشرةً! بمعنى آخر: يمكن
أن تتلاشى مهمَّة واضعي المناهج الدِّراسيَّة أو أن تتحوَّل إلى واضعي
مراجع عامَّة وبرمجيَّات تعليميَّة الكترونيَّة متعدِّدة تُستخدم
بانتقائيَّة وأريحيَّة من قبل المعلِّمين والطُّلاب. ومن جهةٍ أخرى قد
يكون من الموافق أكثر، خدمةً للتَّمييز، أن يرافق معلِّم واحد عددًا من
الطُّلاب لعدَّة سنوات متتالية بدلاً من استمرار تبديل المدرِّس كلَّ
عام.
كنت في الصف السَّابع (13 سنة) قد فقدت إلى حدٍّ كبير موهبة الموسيقا.
لكنِّني كنت أحبُّ الشِّعر وكنت أهوى اللُّغة العربيَّة، وكنت أحفظ
الأشعار والأناشيد مع الضَّبط الصَّحيح بالشَّكل على نحوٍ جيِّدٍ
عمومًا..
في إحدى حصص الموسيقا طلب منِّي المدرِّس ترديد مقطعٍ من أغنية..
وعندما تلوت المقطع كما كنت قد حفظته طلب منِّي بعصبيَّة أن أعيد،
فكرَّرت.. أنشدَ هو المقطع بنفسه، وطلب مني أن أعيد.. فأعدتُ للمرَّة
الثَّالثة وأنا واثقٌ من سلامة الكلمات، وكنتُ أعتقد أنَّ هذا ما كان
يبحث عنه.. لكنِّني فوجِئتُ بصفعة مدوية من كفِّ المدرِّس – رحمه الله
وسامحه – على خدِّي الأيمن... فهمتُ لاحقًا أنَّ النَّشاز في اللَّحن
كان خطأً لا يُغتفر بالنسبة لأذنه المرهفة، وأنَّني لذلك كنت مستحقًّا
هذا العقاب الذي قضى على أيِّ إمكانيَّةٍ باقية كي أتعلَّم الموسيقا،
لكنَّ المفارقة الأكثر غرابةً أتت بعد حصَّةٍ أو حصَّتين: ففي حصَّة
تالية في اليوم نفسه كان مدرِّس اللُّغة العربية يشرح درس قواعد.. وكان
أحد زملائي في الصَّف شاردًا يدندن المقطع نفسه من الأغنية نفسها التي
تعلَّمناها في حصَّة الموسيقا.. فكان نصيبه من مدرِّس اللُّغة نظير
نصيبي من مدرِّس الموسيقا...
تكمن إحدى مشاكل التَّعليم التَّقليديِّ، أي المُمارَس اليوم، في الفصل
الحادِّ بين المواد المختلفة، وخصوصًا في فقدان التَّواصل بين
المدرِّسين. يرى كلُّ مدرِّسٍ أمامه مجموعةً من الطُّلاَّب المتشابهين
الذين يقع عليه عاتق تعليمهم الرياضيات أو اللغة أو الموسيقا...
وكثيرًا ما يعتقد المعلِّم أنَّ نجاحه يمكن أن يُقاس برفع "سويَّة" (ما
يُختصر بـ "علامة") الطَّالب الضَّعيف إلى درجةٍ أعلى. أمَّا التَّفكير
بما يمكن أن يكون هذا الطَّالب نفسه قد حقَّقه من نجاحٍ وتميُّزٍ في
مجالاتٍ أخرى (يمكن حتَّى ألاّ تقع مباشرةً ضمن مادَّة دراسيَّة
بعينها) فأمرٌ قلَّما يهتمُّ له أحد.
ما المُقتَرَح؟ هل نعطي كلَّ طالبٍ وتلميذ بحسب ميله مثلاً؟؟ سيقول أحد
المدرِّسين التَّقليديِّين أو المدراء: نُفَصِّل شُعبًا على قياس
التلاميذ؟ لكلِّ طالبٍ قاعةٌ ومدرِّس بحسب هواه؟..
لم لا؟ يقول العبد الفقير.. دون الذَّهاب في المبالغة إلى هذا الحدِّ
بكلِّ تأكيد!
سيُحكى مباشرةً عن الكلفة العالية لمثل هذا التَّوجه... وسيجري تناسي
الهدر اللامعقول على أمورٍ لا جدوى منها، باسم التَّربية، في كلِّ
العالم. فمنذ فترةٍ قريبةٍ فحسب اعترفت مديرة اليونسكو (على سبيل
المثال) بأنَّ المبالغ التي تُصرَف على المؤتمرات التي تُعقد في أفخم
الفنادق حول التَّربية تزيد على ما يُصرَف بشكلٍ فعَّال على البرامج
التَّربويَّة نفسها! ولقد وعدَت بمعالجة هذا الأمر، ولكم يتعدَّى الوعد
مجرَّد الكلام!
نحتاج إلى وقتٍ طويلٍ بعد كي نجد حلولاً عمليَّة لمشاكل أولادٍ ما
يزالون يتعرَّضون للتَّعنيف لأنَّهم لا يستطيعون أن يكونوا متميِّزين
في كلِّ شيء.. وإذا كنَّا نضع في إطار الحلم والطَّموح مدرسةً يكبر
فيها الأولاد بفرح وهم يتعرَّفون على كلِّ ما يريدون، فيبتعد تلميذٌ ما
عن الرِّياضيَّات ليعود إليها بعد حين، ويتمتَّع غيره بقراءة الشِّعر
لأوقاتٍ طويلة بينما يفضِّل ثالثٌ الرَّسم والتَّشكيل... فإنَّنا لا
نستطيع تجاهل واقعٍ مختلف نعيشه اليوم. ولأنَّنا ننطلق من اليوم إلى
الغد فلا بدَّ أن نفكِّر في كيفية تطبيق روح الأفكار المستقبليَّة في
مدارس الحاضر الموروثة عن الماضي.
أحاول في الفقرات الآتية طرح بعض الأفكار التي يمكن أن تساعد كلاً من
الطَّالب وذويه ومعلِّميه على اختيارٍ أقرب إلى الصّحَّة. فمقولة
"الإنسان المناسب في المكان المناسب" لا تبدأ عند استلام الإنسان وظيفة
معيَّنة، كما يسود الاعتقاد، بل تبدأ قبل ذلك بكثير، أي حين يدرس
الطَّالب ما يناسب إمكانيَّاته ومواهبه ورغباته.
الواقع المُعاش، في معظم المنظومات المدرسيَّة حول العالم، هو أنَّ
التِّلميذ يترفَّع من عامٍ دراسيٍّ إلى آخر بحسب تقويماتٍ وامتحاناتٍ
تعطيه درجاتٍ في مواد مختلفة، بحيث يكون عليه أن "ينجح" في جميع المواد
أو في معظمها، كي ينتقل إلى صفٍّ "أعلى". والمثال المنشود هو أنَّ
التِّلميذ يتعرَّف إلى جوانب العلوم والآداب والفنون المختلفة ويمارس
بعضها ويتعمَّق في بعضها بدرجات مختلفة بحسب رغباته ودوافعه الخاصَّة
وتجري مساعدته في ذلك وتقديم ما يمكن من الوسائل والأدوات من جهة ومن
المرافقة والإرشاد من جهة أخرى، وصولاً إلى أخذ طريقه وتمييز تخصُّصه،
يعني هذا نظريًّا إعادة التَّفكير في شكل الصَّفِّ وتوزُّع الطُّلاَّب
في الصُّفوف وفي شكل البرنامج الأسبوعيِّ الذي يمكن أن يكون أكثر
مرونةً بكثير وأن يحتوي الكثير من السَّاعات الحرَّة ومن إمكانيَّات
الاختيار للطَّالب، ويستدعي هذا الأمر بدوره قدراتٍ مضاعفة من جانب
المعلِّمين والموجهين... ولعلَّ من المبكر بعد المضيِّ في هذا
التَّصوُّر، الأمر الذي أتركه لمناسبةٍ لاحقة..
أمَّا الحلُّ الوسط، أي محاولة تطعيم الواقع بالمنشود، فيمكن أن يجري
من خلال إجراءاتٍ يمكن اقتراح بعضٍ منها:
-
تخصيص ملفٍّ خاصٍّ لكلِّ طالب (تسهِّل تكنولوجيا المعلومات إنشاءه
وحفظه وتحديثه..) في المدرسة يرافقه من صفٍّ إلى آخر، ويشارك في تحديثه
باستمرار جميع معلِّمات ومعلِّمي الطَّالب بدءًا من الرَّوضة، ويحتوي
على ملاحظاتٍ دقيقة عن الطَّالب، وعلى ما يمكن أن نسمِّيه إنجازاتٍ
خاصَّة (مع ذكر التَّاريخ وبعض التَّفاصيل الأخرى) من قبيل: كان واحدًا
من بين عدد قليل من الطُّلاَّب الذين سارعوا إلى حفظ عملهم على الحاسب
حين انقطع التَّيَّار الكهربائي بشكل مفاجئ وقد أفادهم ذلك لأنَّ
التَّيَّار البديل لم يخدم أكثر من نصف دقيقة، ما يدلُّ على التَّنظيم
الجيِّد وسرعة البديهة – بادر بإنشاء لوحةٍ ملوَّنة تمثِّل أجزاء
العين، استوحاها من بحثٍ أجراه على الأنترنت، وقدَّم عمله لمدرِّسة
العلوم – قدَّم حلاًّ مبتكرًا لمسألة في الرِّياضيَّات بطريقةٍ مختلفة
عن الطريقة المطروحة من قبل المدرِّس مستفيدًا من معلومات في الهندسة
لحلِّ مسألة في التَّحليل - فاز في بطولة جري على مستوى المحافظة -
ألَّف أغنيةً باستبدال كلمات أغنيةٍ معروفة بكلماتٍ من عنده محافظًا
على صحَّة اللَّحن – قلَّد مدير المدرسة في حركاته وصوته بطريقةٍ
مذهلة..)
إنَّ تكرار كلماتٍ معيَّنة (مثلاً: "رياضيَّات" أو "مبادرة" أو "سرعة
بديهة" أو "ألَّفَ") عبر ملاحظاتٍ عديدة في ملفِّ طالبٍّ معيَّن يمكن
أن تجعل منها كلمات مفاتيح في تعرُّف الطَّالب إلى نفسه وإمكانيَّاته..
يمكن بالتَّالي لمثل هذا الملفِّ أن يكون أداةً مفيدةً بقدرٍ كبير
للطَّالب نفسه حين يوضع أمام خيار تحديد طريقه، ولكنَّها بالتَّأكيد
ليست الأداة الوحيدة. ولنلاحظ قبل الانتقال إلى المقترح التَّالي
الفارق بين ما يمكن أن يُقابَل به، في النَّظرة السَّلبيَّة، طالبٌ
تجرَّأ على تقليد المدير، وبين نظرةٍ إيجابيَّة يمكن أن تكون مفيدةً
لاكتشاف موهبةٍ عند الطَّالب، وربَّما لإيصال رسالةٍ لطيفةٍ يمكن أن
يستفيد منها مديرٌ (أو مدرِّس) منفتح ومتواضع!
-
تشكِّل الأسئلة التي يطرحه التَّلاميذ والطُّلاَّب على معلِّميهم
مؤشِّرات هامَّة عن اهتماماتهم الخاصَّة. هناك بالتَّأكيد أسئلةٌ
يطرحها الطُّلاَّب ويمكن وصفها بالعاديَّة. لكنَّ هناك بعض الأسئلة
التي تدلُّ بوضوح على علاقةٍ قويَّة بالمادَّة التي يجري الحديث عنها،
ومن بين هذه الأسئلة تلك التي تستبق الدُّروس القادمة في المادَّة
نفسها، فالطَّالب الذي يحبُّ قواعد اللُّغة مثلاً، يمكن أن يطرح سؤالاً
مصدره قراءة شخصيَّة، الأمر الذي يشير إلى كونه قارئًا يمارس المطالعة
من جهة، وإلى دقَّة قراءته واهتمامه بالقواعد التي لم يتعرَّف إليها في
المدرسة بعد. يمكن لهذه الأسئلة أن تشكِّل مصدرًا مهمًّا للملفَّات
التي سبق أن تحدَّثنا عنها منذ قليل.
-
من المفيد جدًّا أن يُشجَّع الطِّفل منذ الطفولة المبكرة، وذلك من جانب
الأهل أوَّلاً ثمَّ المدرسة ثانيًا، على الاحتفاظ ببعض أعماله المهمَّة
بالنِّسبة لعمره: بدءًا من دفاتر التَّلوين التي يشتريها الأهل للأطفال
في عمر الرُّوضة، إلى بعض التَّشكيلات التي يعملها الأطفال باستخدام
المعجون (أو صورٍ لها مثلاً) إلى بعض الأشغال الأخرى التي يقومون بها
في الرُّوضة ووصولاً إلى مواضيع الإنشاء المميِّزة التي يكتبها
التَّلاميذ خلال مراحل الدراسة المختلفة... إنَّ نوع وطبيعة هذه
الوثائق التي سيكتشف الشَّاب أنَّه احتفظ بها أكثر من غيرها يمكن أن
تكون مؤشِّرًا قويًّا على المجال الذي يمكن أن ينجح فيه في الدِّراسة
أو في العمل.
-
يمكن لملاحظات أو ذكريات الأهل حول بعض الأعمال التي قام بها أولادهم:
(جمَعَ عندما كان في الصفِّ الثَّامن علب أعواد الثِّقاب الفارغة وصنع
منها مجسَّمًا لشارعٍ في مدينة مع أبنية ودور وحديقة - قام، وهو في
الصفِّ الخامس الأساسيِّ، باصطياد بعض الذُّبابات ووضعِها في زجاجةٍ
فارغة وظلَّ يراقبها لوقت طويل - قصَّ قصبةً من حقلٍ وحرقَ داخلها
ليصنع مزمارًا..) أن تكون مؤشّرًا هامًّا أيضًا. إنَّ الذكريات الأكثر
بقاءً هي التي تدلُّ على الخصوصية غالبًا، ويمكن عند ضمِّها أو
مقارنتها مع مؤشِّرات أخرى أن تساعد في التَّعرُّف إلى إمكانيَّات
الشَّخص. ولا بدَّ أن نذكِّر هنا بعدم الاستخفاف بأيِّ إمكانيَّة أو
موهبة أو مؤشِّر.
-
لا ننسى في الوقت نفسه أدوار الموجِّهين والمرشدين التَّربويِّين
المختلفين الذين يُفترض أن يرافقوا الطِّفل في مراحل الدِّراسة
المختلفة، فمن حيث المبدأ يمكن لهؤلاء المختصِّين، من خلال ملاحظاتهم
الخاصَّة ومن خلال المؤشِّرات السَّابقة وبالتَّواصل المستمرِّ مع
الأهل، أن يكونوا الأكثر قدرةً على رؤية توجُّهات الأولاد، علينا أن
ننتبه هنا إلى أنَّ مهمَّة هذه الفئة من المربِّين يحسن ألا تقتصر على
الحالات الخاصَّة، وألاَّ تنتظر طلب استشارةٍ أو مساعدة، وألاَّ تتراجع
إلى وظيفةٍ ثانويَّة، بل أن تُعطى أهميةً أولى على مدى سنوات
الدِّراسة. وقد يكون من المفيد الإشارة إلى إمكانيَّة تكامل الاستفادة
من جانب بعض النظريات عن "أنماط الشخصية" التي تقدمها بعض مدارس علم
النفس (الأنماط بحسب يونغ مثلاً: انطوائي – انبساطي و: حسِّي، عاطفي،
فكري، حدسي) أو المدارس الأكثر تقليديَّةً وعراقة (مثل التَّاسوعيَّة)
إضافةً إلى الكثير من الاختبارات والأسبار مثل اختبارات الـ
I.Q
وغيرها...
-
يسود الاعتقاد بأنَّ مدرِّس اللُّغة العربيَّة هو الأقدر دومًا على
تمييز موهبة اللُّغة العربيَّة أو الشِّعر أو كتابة القصَّة، وبأنَّ
لمدرِّس الرِّياضيَّات فرصة أكبر من غيره لاكتشاف الموهبة الرِّياضيَّة
أو العلميَّة عمومًا، وباختصار بأنَّ كلَّ مدرِّسٍ قادرٍ أن يلحظ لوحده
وجود أو عدم وجود الموهبة ضمن اختصاصه. يمكن إبداء ملاحظتين أعتقد
أنَّهما على قدرٍ من الأهمِّيَّة حول هذا الموضوع. الأولى هي أنَّ هذا
الطَّرح يمكن أن يكون صحيحًا بمقدار ما يجري التَّفريق بين الدَّرجات
التي يحرزها الطَّالب في الامتحان (أو طرق التَّقويم التَّقليديَّة
عمومًا) وبين الومضات الخاصَّة التي يبديها بعض الطُّلاَّب. بمعنى أنَّ
الدرجات لا تشكِّل دومًا مرجعًا أكيدًا للموهبة بقدر ما هي في الواقع،
وضمن الأنظمة التَّعليميَّة التَّقليديَّة، سبرٌ لمقدار ما يحفظ
الطَّالب من معلومات يمكن أن يعود لينساها بعد حين. أمَّا المدرِّس
الاختصاصيُّ الذي يبني تمييزه على استجاباتٍ محدَّدة من قبل الطَّالب،
وربَّما بالأخصِّ على أسئلةٍ يمكن أن يطرحها هذا الطَّالب، فإنَّه يكون
أكثر قدرةً على اكتشاف من هو موهوبٌ ضمن اختصاصه. ترتبط الملاحظة
الثانية، والأكثر أهمِّيَّةً ربَّما، بإمكانية اكتشاف الموهبة من قبل
مدرِّس من اختصاصٍ آخر. في الرِّياضيَّات على سبيل المثال، تتطلَّب
صياغة البراهين الهندسيَّة على نحوٍ صحيح ودقيق مقدرةً واضحة في
الإنشاء، وبالتالي في قواعد ومفردات اللُّغة، وعلى الأخصِّ في أسلوب
الكتابة. وهنا يمكن لمدرِّس الرِّياضيَّات أن يلعب دورًا في اكتشاف
إمكانيَّات لغويَّة عند أحد الطُّلاَّب قد تخفى لسببٍ ما على مدرِّس
اللُّغة [مثلاً: لأنَّ الطَّالب يعتمد في كتابة موضوع الإنشاء على
مصادر أخرى ولا يكتب بشكلٍ كاملٍ بأسلوبه الخاصِّ]. وفي مثالٍ مقابل
يمكن لمدرِّس اللُّغة أن يلاحظ اهتمامًا خاصًّا من قبل طالبٍ ما بدرس
قراءة يرتبط بموضوعٍ علميٍّ أو تاريخيٍّ فينتبه إلى توجُّهٍ عند
الطَّالب يمكن أن يتحدَّث عنه أمام مدرِّس العلوم أو التَّاريخ. وعلى
سبيل المقارنة مع بعض القصص الواقعيَّة أودُّ أن أنقل هنا ما رواه لي
أحد تلاميذ الصَّفِّ السَّابع: من بين حصص اللُّغة العربيَّة حصَّة
"المطالعة". يطلب المدرِّس من كلِّ تلميذٍ أن يتحدَّث عن كتابٍ قرأه
خلال الأسبوع. يقوم أحد التَّلاميذ ليتحدَّث عن كتابٍ قرأه عنوانه
"عالم البحار" فيخبره المدرِّس أنَّ هذا ليس "مطالعةً" وأنّ الأحرى به
أن يقرأ كتابًا لجبران خليل جبران مثلاً، ويطلب منه الوقوف في ركنٍ من
أركان الصَّفِّ عقابًا له على عدم المطالعة!
تقودنا فكرة إمكانيَّة أن يلاحظ مدرِّسٌ ما اهتمامًا عند الطَّالب في
جانب لا يخصُّ مادَّته بشكلٍ مباشر إلى الانتباه إلى أهمِّيَّة
المشاركات التي يمكن أن يجري تبادلها بين مختلف المدرِّسين لصفٍّ
معيَّن، وإذا أمكن أن تُنظَّم جلساتٌ يجري فيها تبادل مثل هذه
المشاركات فإنَّ الانعكاس سيكون كبير الفائدة على الصَّفِّ وعلى
طلاَّبه. نتحدَّث هنا بطبيعة الحال عن مدرِّسين مؤمنين بمثل هذا
النَّوع من العمل مع الطُّلاَّب، وهذا يعيدنا مرَّة أخرى إلى موضوع
اختيار وتدريب المعلِّمين، ويدعونا أن نؤكِّد على أهمِّيَّة تأهيلٍ
يخرج عن الإطارات التَّقليديَّة المُكرَّرة، وفي جميع الأحوال تعيدنا
الفكرة إلى التَّذكير بـ: "المعلِّم أوَّلاً".
-
في كثيرٍ من الأحيان يجهل المتقدِّمون إلى الجامعات تفاصيل الدِّراسات
التي يختارونها، يمكن لطالبٍ يتقدَّم إلى كليَّة الآداب (لدراسة الأدب
الفرنسيِّ أو الإنكليزيِّ أو الرُّوسيِّ مثلاً) أن يظنَّ نفسه على باب
دراسة لغة من اللُّغات، غير مدركٍ لاختلاف ذلك عن دراسة الشِّعر
والقصَّة والمسرح والنَّقد الأدبيِّ واللِّسانيَّات.. وكم من طلاَّبٍ
يعبِّرون عن رغبتهم في دراسة الهندسة المدنيَّة أو المعماريَّة، غير
مدركين الفارق الكبير (رغم العلاقة الوثيقة بين الاختصاصين) بين دراسةٍ
قوامها التَّصميم وأخرى جوهرها الحسابات الرِّياضيَّة... يمكن أن تلعب
المدرسة الثَّانويَّة دورًا خاصًّا هنا، فإذا كانت مهمَّة هذه المدرسة
تأهيل الطَّالب إلى دخول الجامعة، ألا يكون عليها أيضًا أن تطلعه أيضًا
على المجالات المختلفة المتاحة أمامه؟! لا يعفي هذا واجب الطَّالب نفسه
في استطلاع بعض التَّفاصيل، لكن ثقافة السُّؤال والاستطلاع قد تكون
مرتبطة أيضًا بتربيةٍ مدرسيَّة منفتحة.
-
ثمَّة عوامل غير محسوبة تتدخَّل في معظم الأحيان لتحدِّد مسار خيارات
الطفل أو الشاب. فإذا كانت الملكات كلّها موجودة، وإذا كان توجه الأهل
والبيئة التي ينمو فيها الطفل تؤثِّر إلى حدٍّ بعيد في توجُّهه فإنَّ
من الممكن جدًّا أنَّ مدرِّسًا لمادَّة معيِّنة في سنةٍ معيِّنة ينقل
عدوى حبِّه للمادَّة إلى أحد طلابه الذين يملكون استعدادًا لذلك فيساهم
في الدَّفع نحو توجُّهٍ معيَّن. وقد يحدث أن تسجل الوالدة الولد في
معهد رياضيٍّ كي تفوز بساعةٍ من الرَّاحة بعد الظُّهر فيصبح الولد
واحدًا من أفضل لاعبي كرة القدم أو كرة السلَّة أو غيرها... وقد يشاهد
الطِّفل فيلمًا كرتونيًّا أو برنامجًا علميًّا في إحدى المحطَّات
يشكِّل مفصلاً في حياته ويحدِّد بقدرٍ كبير توجُّهه.
قد يرى البعض في مثل هذه الحوادث نوعًا من الصُّدفة، لكن ما هي
الصُّدفة؟ الطِّفل الذي شاهد برنامجًا عن رصد الكواكب فبدأ يهتمُّ
بالرِّياضيَّات والفيزياء كي يصير عالم فلك (مثلاً) ألم يشاهد الكثير
من البرامج الأخرى دون أن يكون لها عليه نفس الأثر؟
*** *** ***