ما هو الطب الاجتماعي؟*

 

ماثيو ر. أندرسون
لاني سميث
فيكتور و. سيديل

ترجمة: عدنان علي حسن

 

لوحظ في العقدين الأخيرين اتساع سريع في برنامج العمل المشترك في ميدان الصحَّة والرعاية الصحيَّة. وبدلاً من التحرُّك باتجاه نظامٍ للرعاية الصحيَّة يقترب من العالميَّة في الولايات المتحدة، أخذ الوصول إلى خدمات صحيَّة نوعيَّة يتحول نحو الصناعة التأمينية بشكل متزايد. يمثِّل المرضى الآن «الزبائن»، وتمثل الخدمات الطبيَّة «خطوط الإنتاج»، وتموِّل الصناعةُ الصيدلانية البحثَ العلمي السريري في هذه الأيام أكثر مما تموله المعاهد الصحية الوطنيَّة؛ فالرأسمال الصيدلاني يدفع رواتب أساتذة الجامعات المتميزين ويحدِّد برنامج البحث الوطني. والأطباء والمرضى، على حد سواء، تُقنعهم شركات الإعلان المضلِّلة (وغالبًا ما تتنكر بقناع تثقيفي) بالترويج لعقاقير غالية الثمن ومشكوك بفاعليتها.

إن إقحام "عقلانية السوق" في مجال الرعاية الصحيَّة لا يمنح الأمل بكبح نفقات الرعاية الصحيَّة. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تنفق أكثر من أيِّ بلد في العالم على الرعاية الصحيَّة، فإنها لم تنجز إلا القليل وفقًا للمعايير الصحيَّة العديدة، وبخصوص توقع الحياة عند الولادة تصنَّف السابعة والعشرين في العالم.

لكن برنامج العمل المشترك هذا لم يكن بلا جدوى. فبدلاً من أن يكون متشائمًا أو متراجعًا، فإننا نعتقد أنه قد يكون ذا فائدة إذا أخذنا بالاعتبار التاريخ الطويل والغني من الفاعلية المتطورة في الطب. ويعود هذا التاريخ «على الأقل» إلى بداية القرن التاسع عشر عندما بدأت الدراسة المنظَّمة عن الترابط ما بين المجتمع والمرض والطب تأخذ منحىً جدِّيًا. وأصبحت هذه الدراسة – مع أشكال الممارسة الطبيَّة المنبثقة عنها – تعرف بـ «الطب الاجتماعي». بمرور الزمن، حمل مصطلح «الطب الاجتماعي» معاني متنوعة لأنه تكيَّف مع مجتمعات مختلفة وأوضاع اجتماعية متعددة. ومع ذلك، هناك مبادئ مشتركة محددة تشكل أساس هذا المصطلح:

  1. تؤثر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بقوة في الصحة، والمرض، والممارسة الطبية.
  2. صحة السكان قضية اجتماعية.
  3. على المجتمع أن يرتقي بالصحة من خلال العمل بالوسائل الفردية، والاجتماعية.

وسنبين في هذه المقالة منشأ هذه المفاهيم في أوروبا القرن التاسع عشر وتطوُّرها لاحقًا في كل من أمريكا اللاتينية، وجنوب أفريقيا، والولايات المتحدة.

في الوقت الذي لن تتمكن فيه هذه المقالة المختصرة من تقديم إحاطة شاملة بالطب الاجتماعي، فإننا نأمل أن تطرح أساليبًا تتمكن من خلالها الممارسة التاريخية للطب الاجتماعي من إلقاء الضوء على أكثر العقبات إرباكًا على صعيد الصحة الحديثة والرعاية الصحيَّة.

كيف تؤثر الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعية في الصحَّة والمرض

على الرغم من أنه لم يكن أوَّل من يشير إلى الترابط بين المجتمع والصحَّة، فإن الطبيب الألماني، رودولف ﭭيرشو Rudolf Virchow، يُعْتبرُ من قبل الكثيرين مكتشفَ الطب الاجتماعي (2-4). كان ﭭيرشو واحدًا من أهم الاختصاصيين بعلم الأمراض في القرن التاسع عشر، إذ قدَّم أكثر المساهمات أهمية لفهم المرض على مستوى الخليَّة. وقد تنبَّه، بذكاءٍ بالغٍ، إلى الأسباب الاجتماعية للأمراض. ففي العام 1848، وكان عندها ضمن الفريق الطبِّي العامل في مشفى رويَّال شاريتيه في برلين، لاحظ تفشِّي مرض التيفوس في مقاطعة سيليسيا العليا البروسية. وبيَّن ﭭيرشو أن هناك عوامل اجتماعية من مثل الفقر، ونقص التعليم والديمقراطية، تعتبر عناصر أساسيَّة في تطوُّر الوباء. وأوصلته التجارب إلى وضع مفهوم «الأوبئة الاصطناعية» التي تنشأ في أزمنة التمزُّق الاجتماعي:

الأوبئة الاصطناعيَّة... هي من الخصائص المميزة لمجتمع، إنها نواتج ثقافة زائفة أو ثقافة ليست بمتناول جميع طبقاته. وتعتبر تلك الخصائص مؤشرات على نواقص أنتجها التنظيم الاجتماعي والسياسيُّ، ولذلك فإنها تؤثر بالدرجة الأولى في تلك الطبقات التي لا تحظى بنصيب من مزايا الثقافة[1].

قد تبدو هذه الكلمات تنم عن بصيرة فذة عندما نتناول وباء الإيدز AIDS. فالتمزُّق والظلم الاجتماعيين لعبا دورًا أساسيًّا في انتشار فيروس الـHiv (5-6). إنَّ الترابط بين البيئة الاجتماعية الأكثر تحررًا وبين الحوادث الفرديَّة للإصابة بفيروس Hiv لدى الهايتيين، وصفها على نحو مؤثر بول فارمر paul farmer (1). ولا يعتبر الصراع ضد الإيدز وقوفًا بوجه أحد الأمراض المعدية فحسب، بل هو صراع من أجل حقوق النساء، والأطفال، والمشتغلين بالجنس، والأقليات الجنسية.

الصراع ضد الإيدز أيضًا هو صراع لإيصال العناية الطبيَّة لبعضٍ من الناس الأشد فقرًا في العالم (7). هنا يحق لنا القول إن كنا نعيش أفضل والأسوأ من الأزمنة.

إن إحدى معجزات الطب الحيوي الحديث هي بكل تأكيد قدرته السريعة على تحديد العوامل المسبة للإيدز، بالإضافة لتطوير علاجات فعالة جدًا له. ويعتبر الإيدز في الولايات المتحدة قابلًا للعلاج الآن بالرغم من أنه غير قابل للشفاء. لكنه لمن الوحشيَّة الرهيبة – وهذه أيضًا من خصائص الطب الحديث – أن معظم من هم بحاجة للعلاج يمنع وصوله إليهم (8). – هناك نحو ستة ملايين من الفقراء الذين هم بحاجة ملحَّة لأدوية الإيدز، فقط أربعمئة وأربعين ألفًا منهم يأخذون العلاج. لماذا يُرفض وصول الدواء إلى مرضى الإيدز وهم بأمس الحاجة إليه؟ إن الجواب لا يكمن حقًا بتكلفة العلاج. «فمجموعة» أدوية الإيدز تكلِّف سنويًّا مائتان وخمسون دولارًا، إلا أن حكومة الولايات المتحدة، التي تعمل وفق منظمة التجارة العالمية، قاتلت طويلًا وبعناد للحد من قدرة البلدان الأفقر على إنتاج أو شراء الأدوية غير المرخصة تجاريًّا. إن حقوق الشركات الصيدلانية في "ملكيَّتهم الفكريَّة" انتصرت على صحة الناس.

ومع ذلك، كان علم الطلب المنظَّم بطيئًا، بشكل تقليدي، في القبول بحقيقة أن العوامل الاجتماعية تلعب دورًا مهمًا في المرض. وفي أواخر القرن التاسع عشر، حصل تقدم مذهل في علم الأمراض وعلم الأحياء الدقيقة جعل معه العوامل الاجتماعية تبدو أقل صلة بأسباب المرض. لكن البشر، بحسب قول الفيلسوف أرسطو، «حيوانات اجتماعية»، يرتبطون فيما بينهم بيولوجيًا واجتماعيًا بشكل لا يمكن فصله. والفيلسوف الروسي جورجي بليخانوف استخدم «قوانين الهضم» لإيضاح ذلك بأسلوبه الثاقب المميَّز:

ما إن تصل كمية محدده من الطعام إلى المعدة، حتى تبدأ عملها بالتوافق مع القوانين العامة للهضم المعدي. لكن هل من أحدٍ، وبمساعدة تلك القوانين، ليجيب عن السؤال: لماذا يدخل الطعام اللذيذ إلى معدتك، بينما هو زائر نادر إلى معدتي؟ هل تشرح تلك القوانين لماذا يأكل البعض كثيرًا، بينما هناك آخرون يتضوَّرون جوعًا؟ يبدو أن شرح ذلك يتطلب البحث في فضاءٍ آخر والعمل وفق نوع آخر من القوانين.[2]

إن جلَّ الدفع الأولي باتجاه تبني مفهوم الطب الاجتماعي أتى من الإحصائيات الصحية الأوروبية التي تظهر اختلاف نسبة الوفيَّات الهائل بين الطبقات الاجتماعية. فالصحة والمرض يرتبطان بالغنى والفقر. ولسوء الحظ، فإن هذا يبقى صحيحًا في أيامنا هذه، وعدم المساواة الصحيَّة هي مجال مثير للبحث واتخاذ الإجراءات الفعَّالة (10 – 13).

الحالة الصحيَّة للسكان قضية اجتماعية

عُرضت تفسيرات متنوعة لحقيقة أن الأغنياء أكثر صحة من الفقراء. لربما أن لديهم مكوِّن وراثي أفضل، أو أسلوب حياة أفضل. ورأى الكثيرون في هذه التباينات دعوة لإصلاح أو ثورة اجتماعية. توماس هودجكين، المعروف باكتشافه مرض لمفوما هودجكين (14)، والجراح الكندي نورمان بيثيون، اللذان عملا على الحفاظ على الجمهوريَّة إبَّان الحرب الأهليَّة الإسبانية، وماتا وهما يساعدان الثوار الصينيين، هما، حقًا، مثالان للنشاط الفعَّال للأطباء (16).

وكان فيرشو مثالًا آخر (17). إذا كان المرض نتاجًا اجتماعيًا، فتكون عندها الصحة السيئة، بالنسبة له، اتهامًا للنظام السياسي القائم. وقف على المتاريس إبَّان ثورة برلين في آذار 1848. ولعب فيما بعد دورًا سياسيًا فعَّالاً، كمستشار لمدينة برلين، ومؤسس الحزب التقدمي الراديكالي الألماني، وعضو في برلمانَيْ كلٍّ من بروسيا وألمانيا. وخلال أيام ثورة 1848، أعلنت جريدته أن «الطب هو علم اجتماعي، والسياسة لا شيء سوى الطِّب على مقياس كبير».

طوَّرت أمريكا اللاتينيَّة واحدًا من أكثر المراكز نشاطًا في مسألة الطب الاجتماعي خلال القرن العشرين. وكان اثنان من أبرز أعضائه هما – سلفادور الليندي، وتشي غيفارا اللذان عُرِفا أساسًا من خلال انخراطهما في المجال السياسي.

في ثلاثينيات القرن العشرين، تسلَّم الليندي، وكان طبيبًا في الصحة العامة، منصب وزير الصحة في تشيلي، وأعد تحليلاً للأساس الاجتماعي للمرض والمعاناة في تشيلي La Realidad medico- socinlchilera (18). ورأى أن حلَّ المشاكل الصحيَّة لا يكمن فقط في الرعاية الصحيَّة المتطورة، بل أيضًا في تعزيز الصحة العامة ومنع تفشي المرض، وتحسين المسكن والتغذية وظروف العمل. كتب الليندي متأثرًا بأفكار فيرشو: «إنه من غير الممكن أن تقدِّم الصحَّة والمعرفة للناس الذين يعانون من سوء التغذية، ويرتدون ثيابًا باليةً، ويعملون تحت وطأة استغلال لا يعرف الرحمة» (19). في المآل، أُدرجت هذه الأفكار ضمن البرنامج السياسي لحكومة الوحدة الشعبية المنتخبة ديموقراطيًا في تشيلي. ترأس الليندي هذه الحكومة من عام 1971 حتى عام 1973 عندما اغتيل في أثناء انقلاب دبَّرته الولايات المتحدة (20).

تشي غيفارا، وهو طبيب أرجنتيني، انضم إلى العصيان المسلح بقيادة فيديل كاسترو في كوبا، ليصبح أخيرًا وزيرًا للاقتصاد في الحكومة الثوريَّة. نظر تشي غيفارا متأثرًا بأفكار فيرشو إلى الأمور السياسيَّة كما الطبابة، فهي تقع ضمن أولويات الثورة – تدريب وتغذية الأطفال، تثقيف الجيش، توزيع أراضي الملاكين القدامى البعيدين عن أراضيهم على أولئك الذين يكدحون فيها يوميًا من دون أن ينالهم من محاصيلها شيئًا – كانت هذه الإجراءات أعظم الأعمال في مجال الطب الاجتماعي في كوبا.[3] ومثله مثل سيلفادور الليندي، سيموت تشي غيفارا وهو يقاتل في سبيل معتقداته (22-23).

وعلى الرغم من أولئك الذين ماتوا، فإن الطب الاجتماعي في أمريكا اللاتينية شهد ازدهارًا. قدَّم الطب الاجتماعي في أمريكا اللاتينيَّة كمًّا هائلًا من الأعمال النظرية والعمليَّة التي تدرس العلاقة بين الصحة والمجتمع. وهو يؤكد على الممارسة: إنشاء وتطوير علاقة وثيقة بين النظرية والخبرة العملية. انخرط الممارسون في المنظمات الاجتماعية، والنقابات، والحركات السياسيَّة، وسقط العديد منهم ضحايا للقمع السياسي (24).

خلق الطب الاجتماعي في أمريكا اللاتينية جوًّا نقديًّا عالي الصدى تجاه التفكير التقليدي في الطب وعلم الأمراض. فبدلاً من رؤية المرض كحالةٍ أو حدث معزول، شدَّد على جدلية «المرض – الصحة»، وهو مفهوم يعبر عن العلاقة المرنة والمعقدة بين ما هو طبيعي وما هو مرضي. هذه العلاقة الجدليَّة موجودة في بنية أي مجتمع من المجتمعات يخلق أنواعًا مميزة من الأمراض وإيديولوجيات طبيَّة مميزة أيضًا تفسر تلك الأمراض وتعالجها. كذلك أثر الطب الاجتماعي على أمريكيي الشمال المنضوين في المركز الأمريكي لحركة مناهضة الحرب في ثمانينيات القرن العشرين، وبشكل بارز في تشكيل ما يسمى «تحرير الطبابة».

لسوء الحظ، لم تكن دراسات الطب الاجتماعي في أمريكا اللاتينية متوفرة لجمهور المتحدثين بالإنكليزية، وعولج هذا الوضع جزئيًا من خلال نشر العديد من المقالات الحديثة (24-25) أو المنقحة، وإحداث موقع إلكتروني خاص بالطب الاجتماعي في أمريكا اللاتينية في جامعة نيومكسيكو (26).

على المجتمع أن يرتقي بالصحَّة من خلال العمل بالوسائل الفرديَّة والاجتماعية

لم تكن أمريكا اللاتينية وحدها التي ظهرت فيها الرغبة في نماذج جديدة – أكثر ديموقراطيَّةً، وأقل هرميَّةً – للرعاية الصحيَّة. في الواقع، إذا كانت السياسة هي الطب بأوضح صوره، فيبدو أيضًا أن الطب هو السياسة بأبهت صورها (27). تنطوي الطريقة التي تقدَّم بها الرعاية الصحيَّة السريرية على تداعيات سياسيَّة مهمة. فالأطباء ذوو الاهتمامات الاجتماعية أخذوا يبحثون عن أساليب لممارساتهم السريريَّة التي يمكن لها أن تعكس قيمًا اجتماعيَّة مختلفة.

من الشؤون ذات الأهميَّة القصوى في هذه الورقة البحثية تطور الطب الجماعي، تلك الحركة التي ارتبطت جزئيًا بالطبيبين من جنوب أفريقيا، سيدني وإيميلي كارك. في عام 1940، وكانت أفضل فترة سياسية في جنوب أفريقيا (28)، تشجَّع الطبيبان على إقامة شكل من أشكال الوحدة الصحيَّة في فوليلا التابعة لناتال Natal (الآن أصبحت في كوازولو/ ناتال) (29). استُخدم المركز الصحِّي كميدان اختبار عملي لما كان يسميه الطبيبان بشكل أولي «ممارسة الطب الاجتماعي» (30)، ليصبح فيما بعد تحت اسم مخادع هو «الرعاية الأولية الموجهة إلى الجماعة» (31 – 32). وتوسع المشروع في عام 1946 ليصبح معهدًا للصحة الأسريَّة والاجتماعية في دوربان مع ثمانية مراكز صحية بمنهاج تعليمي ضخم. وعندما تغيَّر اتجاه الرياح السياسيَّة في جنوب أفريقيا أوقف المعهد نشاطاته في عام 1959. عمل الطبيبان اللذان استقرا أخيرًا في إسرائيل ضمن برنامج الطب الاجتماعي الإسرائيلي التابع لمنظمة الصحة العالمية WHO (32).

أدخل نموذج (الرعاية الأولية الموجهة إلى الجماعة) إبداعات جديدة قائمة على مفاهيم الطب الاجتماعي. بدأ التخطيط بما سمي «التشخيص الجماعي». واستنادًا إلى العمل في نطاق الوبائيات، حُدِّدت الحالات الثلاث الأكثر شيوعًا في مقاطعة فوليلا: «سوء التغذية، والأمراض المعدية، والاضطرابات النفسية– الاجتماعية»، وهي الثلاثية المكوِّنة لما يسمى «التناذر الاجتماعي». قاد هذا التشخيص إلى تدخلات صحيَّة غير تقليديَّة من مثل برنامج توزيع الحليب للأطفال وزراعة حديقة عامة (32).

كانت العناية السريريَّة مسؤولية فريق عمل مكوَّن من طبيب عناية أولية، وممرض(ة)، ومرشد(ة) صحِّي (وكان عادة واحدًا من أعضاء الجمعية)، وقدم الفريق خدماته للسكان المجاورين المعروفين لديهم بشكلٍ وثيق، فهم ينظرون إلى «مريضهم» بوصفه الأسرة وليس فردًا بحد ذاته:

"إن استمرارية الفريق في تقديم العناية أنتجت علاقات شخصية بين الأسر وبين أطبائهم وممرضيهم، من نفس نوع تلك العلاقات التي كانت قائمة قديمًا مع طبيب الأسرة إن كان في القرية أو في المناطق المجاورة لمنطقة عمله"[4]. وكان على الفريق الصحِّي، خلافًا لطبيب الأسرة التقليدي أن يضع في حسبانه وبانتظام مضمون البيئة الاجتماعية المتحررة بالنسبة للمرضى المستقلين وبعض المضامين الوبائية الممكنة عن التشاخيص الحديثة عند مرضاهم المستقلين.

في ستينيات القرن العشرين، موَّل مكتب الإقراض الاقتصادي الأمريكي أول مركزين للصحة الاجتماعية في الولايات المتحدة: الأول في شبه جزيرة بوينت كولومبيا التابعة لبوسطن، والآخر في ماوند بايو في الميسيسبي (33 – 34). وهذا الأخير أقامه جاك جيجير، الذي سبق له وعمل بمراكز كارك في جنوب أفريقيا، بالتعاون مع زملائه. وقام الكونغرس أخيرًا بتمويل برنامج وطني لإقامة مراكز للصحة الاجتماعية لا زالت تقدم الرعاية الصحية لـ «العالم الثالث» داخل الولايات المتحدة، واثنان من كتَّاب هذه الورقة (مات أندرسون ولاني سميث) يقدمان الرعاية الصحيَّة في مثل هذه المراكز.

إن العديد من أهداف حركة الصحة الاجتماعيَّة تم تضمينها في «إعلان ألما - آتا» الصادر عن المؤتمر العالمي لمنظمة الصحة العالميّة عام 1978 حول الرعاية الأولية (35). أكد الإعلان على التعريف الشامل للصحَّة باعتبارها «حالة البنية تامة السلامة جسميًا وعقليًا واجتماعيًا، وليس مجرد غياب المرض أو الوهن». وذهب التقرير بعيدًا في الإشارة إلى أن وجود التفاوت الصحِّي الصارخ «أمر غير مقبول لأن الأشخاص لهم حق المشاركة في المنظمة ومساهماتها في الرعاية الصحيَّة، وأن الرعاية الأولية يجب أن تكون متوفرة للجميع على مستوى العالم. وأخيرًا، وفي إشارةٍ إلى مسؤولية الحكومات تجاه الصحَّة، طرح الإعلان هدفًا طموحًا هو «الصحة للجميع» بحلول عام 2000. ويا للأسف، فقد انتصر برنامج الليبرالية الجديدة الاقتصادي على الرؤية البعيدة التقدمية. أما اليوم، فقد حلَّ محلَّ هدف الصحة للجميع مجموعة متنوعة من المبادرات الخاصة بأمراض محددة، مثل الصندوق العالمي للقضاء على الإيدز والسل، والملاريا (وتمويله ضعيف في الواقع). لكن الأهداف التي أعلن عنها في إعلان ألما- آتا تواصل تنشيط حركة الصحة الاجتماعية العالمية ذات القاعدة العريضة التي تم تنظيمها الآن لتُعرف بـ حركة صحة الشعوب» (36).

أُنشئ أول قسم استشفائي للطب الاجتماعي في الولايات المتحدة في مركز مونتيفيور الطبي عام 1950، وكان مارتن تشيركا سكاي أول عامل فيه، ثم تبعه جورج سيلفر وواحد من كتَّاب هذه الورقة، (فيكترو سيديل) (37 – 40). وتمَّ تطوير موقع إلكتروني من قبل أعضاء الكلية في قسم الصحة الأسريَّة والاجتماعية في مونتيفيور وكلية الطب ألبرت إينشتاين، مع اثنين من كتَّاب هذه الورقة (مات أندرسون ولاني سميث). يعمل الموقع على تقديم المعلومات الخاصة بالطب الاجتماعي ويتصل مع المواقع الأخرى ذات الصلة بالموضوع (41).

هل يرتبط الطب الاجتماعي بالممارسة الطبية في أيامنا هذه؟

إنه لمن المفيد أحيانًا تثبيت الأمور الواضحة. فبعد عقدين من «إصلاح السوق» في الولايات المتحدة لم تصل الرعاية الصحية إلى جميع الأمريكيين لا من حيث نوعيتها ولا من حيث المقدرة على شرائها، ولا يبدو أن ذلك سيحدث. فهذا الإمبراطور عارٍ. إن تكلفة علاج جميع المرضى المصابين بفيروس الإيدز والمحتاجين للعلاج لا يشكل إلا جزءًا زهيدًا جدًا مما دفعته الحكومة الأمريكية لتعقب صدام حسين وأسلحة التدمير الشامل لديه، وهي غير موجودة أصلًا. فأساس المشكلة هو سياسي فحسب.

فما العمل في هذه الحالة؟ يطَّلع الأطباء السريريون على حياة مرضاهم جوهريًا، وأولئك، دون غيرهم، مهيؤون لفهم الأبعاد السياسية والاجتماعية لمشكلات مرضاهم. أكد فيرشو بإيجازٍ مفيد أن الطبيب هو المحامي الطبيعي عن الفقراء. ولدينا فعليًا أمثلة معاصرة عن أطباء تصدوا لهذه المهمة. تلك هي بالضبط الرسالة التي وجهتها جائزة نوبل للسلام عبر منح الجائزة إلى منظمة أطباء بلا حدود في عام 1999، وإلى رابطة الأطباء الدوليين لمنع الحرب النووية في عام 1985.

يدرك المطلعون على تاريخ الطب الاجتماعي أن المشكلات الصحيَّة في الولايات المتحدة لن تحل بمزيد من الشيء نفسه - مزيد من الأطباء، مزيد من الأدوية، مزيد من مبادرات ضبط الجودة، مزيد من الحواسيب، مزيد من التدقيقات، وأخيرًا السرعة في إنجاز المهمات. إن المطلوب إعادة النظر جوهريًا بالدور الاجتماعي للطب. وأولئك الأطباء السباقون الذين أوجدوا نوعًا من الطب هو بجلاء طبًا اجتماعيًا، يمكنهم أن يلعبوا دور المرشدين. إن وصفة فيرشو لوباء التيفوس في سيليسيا تبدو ملائمة جدًا أكثر من أي وقت مضى: الجواب المنطقي للسؤال عن كيف نمنع وقوع حالات مشابهة لتلك التي حدثت أمام أعيننا في أعالي سيليسيا مستقبلًا هو، مع ذلك، بسيط وسهل جدًا: الثقافة وأخواتها، الحريَّة والرخاء الاقتصادي.[5]

*** *** ***

الحواشي

  1. Rosen G. From Medical Police to Social Medicine; Essays on the History of Health Care. New York: Science History Publications, 1974.
  2. Ackerknect E. Rudolf Virchow. Madison: University of Wisconsin Press, 1953.
  3. Reese DM. Fundamentals—Rudolf Virchow and modern medicine. West J Med 1998; 169(2):105-108.
  4. Silver GA. Virchow, the Heroic Model in Medicine: Health Policy by Accolade. American Journal of Public Health 1987; 77(1):82-88.
  5. Lurie P, Hintzen P, Lowe RA. Socioeconomic obstacles to HIV prevention and treatment in developing countries: the roles of the International Monetary Fund and the World Bank. AIDS 1995; 9(6):539-546.
  6. Krieger N, Margo G (eds.) AIDS: The Politics of Survival. Amityville, New York: Baywood Publishing Company, Inc., 1994.
  7. Farmer P. Infections and Inequalities: The Modern Plagues. Berkeley and Los Angeles, California: University of California Press, Ltd., 1999.
  8. Pecoul B, Chirac P, Trouiller P, Pinel J. Access to essential drugs in poor countries: a lost battle? JAMA 1999; 281(4):361-367.
  9. Plekhanov G. The Development of the Monist View of History. New York: International Publishers, 1947.
  10. Krieger N. Theories for social epidemiology in the 21st century: an ecosocial perspective. International Journal of Epidemiology 2001; 30:668-677.
  11. Eisenberg L. Rudolf Ludwig Karl Virchow, where are you now that we need you? Am J Med 1984; 77(3):524-532.
  12. McCally M, Haines A, Fein O, Addington W, Lawrence RS, Cassel CK. Poverty and ill health: physicians can, and should, make a difference. Ann Intern Med 1998; 129(9):726-733.
  13. International Society for Equity in Health. www.iseqh.org. Accessioned 8-1-2003.
  14. Rosenfeld L. Thomas Hodgkin: social activist. Ann Diagn Pathol 2000; 4(2):124-133.
  15. Gordon S, Allan T. The Scalpel, the Sword: The Story of Doctor Norman Bethune. New York: Monthly Review Press, 1973.
  16. Porter D, Porter R. (eds.) Doctors, Politics and Society: Historical Essays. Atlanta, GA: Editions Rodopi, B.V., 1993.
  17. Bloch H. Rudolf Virchow, M.D. (1821-1902), builder of barricades. N Y State J Med 1974; 74(8):1471-1473.
  18. Schuftan C. The challenge of feeding the people: Chile under Allende and Tanzania under Nyerere. Soc Sci Med 1979; 13C(2):97-107.
  19. Cockcroft JD, Canning JC (eds.) Salvador Allende Reader: Chile’s Voice of Democracy. New York: Ocean Press, 2000.
  20. Boorstein E. Allende’s Chile: An Inside View. New York: International Publishers Co., Inc., 1977.
  21. Deutschmann, David (ed) Che Guevara: A Reader: Writings on Guerilla Strategy, Politics and Revolution. New York, Ocean Press, 1997.
  22. Anderson JL. Che Guevara: A revolutionary life. New York: Grove Press, 1997.
  23. Taibo II PI. Guevara, also known as Che. New York: St. Martin’s Press, 1997.
  24. Waitzkin H, Iriart C, Estrada A, Lamadrid S. Social medicine in Latin America: productivity and dangers facing the major national groups. Lancet 2001; 358(9278):315-323.
  25. Waitzkin H, Iriart C, Estrada A, Lamadrid S. Social medicine then and now: lessons from Latin America. Am J Public Health 2001; 91(10):1592-1601.
  26. University of New Mexico Health Sciences Center. http://hsc.unm.edu/lasm/. Accessioned 7-27-2003.
  27. Waitzkin H. The Second Sickness: Contradictions of capitalist health care. Revised and Updated ed. Lanham, Maryland: Rowman & Littlefield, 2000.
  28. Phillips HT. The 1945 Gluckman Report and the establishment of South Africa’s health centers. Am J Public Health 1993; 83(7):1037-1039.
  29. Susser M. A South African odyssey in community health: a memoir of the impact of the teachings of Sidney Kark. Am J Public Health 1993; 83(7):1039-1042.
  30. Kark SL, Steuart GW. (eds.) A Practice of Social Medicine: A South African Team’s Experiences in Different African Communities. Edinburgh: E&S Livingstone Ltd., 1962.
  31. Longlett SK, Kruse JE, Wesley RM. Community-oriented primary care: historical perspective. J Am Board Fam Pract 2001; 14(1):54-63.
  32. Kark S, Kark E. Promoting Community Health: From Pholela to Jerusalem. Johannesburg: Witwatersrand University Press, 1999.
  33. Sardell A. The U.S. Experiment in Social Medicine; The Community Health Center Program, 1965-1986. Pittsburgh, PA: University of Pittsburgh Press, 1988.
  34. Geiger HJ. A health center in Mississippi—a case study in social medicine. In: Corey L, Saltman E, Epstein ME, editors. Medicine in a Changing Society. St. Louis: C.V. Mosby, 1972.
  35. World Health Organization, “Declaration of Alma-Ata International Conference on Primary Health Care, Alma-Ata, USSR, 6-12 September 1978,” http://www.who.int.
  36. People’s Health Movement. www.phmovement.org Accessioned 11-24-2004.
  37. Levenson D. The Department of Social Medicine at Montefiore: The First 30 Years. Montefiore Medicine 1980; 5(2): 47-53.
  38. Sidel VW. The Department of Social Medicine at Montefiore in the 1970’s and 1980’s.Montefiore Medicine 1980; 5(2): 55-60.
  39. Sidel VW, Silver GA. Social Medicine: A 1990’s Perspective from the United States;Scandinavian Journal of Social Medicine 1995; 23(3): 145-149.
  40. Silver GA, Sidel VW. Social Medicine. In: Encyclopedia of Bioethics. Third Edition. Stephen Post, Editor. New York: Macmillan Reference USA, 2004; pp 2453-2459.
  41. Social Medicine Portal http://www.socialmedicine.org/students.html Accessioned 2-20-05.

 

horizontal rule

* المصدر:

Monthlyreview.org,  2005 › Volume 56, Issue 08 (January) › What is Social Medicine?

By Matthew R. Anderson, Lanny Smith and Victor W. Sidel

[1] Cited in G. Rosen, From Medical Police to Social Medicine [New York: Science History Publications, 1974].

[2] G. Plekhanov, The Development of the Monist View of History [New York: International Publishers, 1947]

[3] Cited in David Deutschmann, ed., Che Guevara: A Reader: Writings on Guerilla Strategy, Politics and Revolution [New York, Ocean Press, 1997].

[4] S. L. Kark and G. W. Steuart,A Practice of Social Medicine [Edinburgh: E&S Livingstone Ltd., 1962].

[5] Cited in G. A. Silver, “The Heroic Model in Medicine: Health Policy by Accolade, ” American Journal of Public Health 77, vol. 1 [1987] 82–88.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني