مقدمة في اللاعنف
مايكل ناغلر
خلَّف
لنا القرن العشرون إرثًا مضاعفًا، فمن جهة كان زمن قسوة وعنفٍ شديدين
ومن جهة أخرى لاحظنا بروز مظاهر نوع جديد من القوة أو بالأحرى
استخدامات جديدة لقوة قديمة تستطيع قيادة الإنسانية إلى مستقبل أفضل
بكثير. وانطلاقًا من الدليل الذي قدمه المهاتما غاندي على قوة اللاعنف
في تحرير الهند من السيطرة الاستعمارية حتى لجوء مارتن لوثر كينغ الابن
إلى اللاعنف لتحرير الملوَّنين من بعض أشكال القمع في الولايات المتحدة
نجح عدد لا يُحصى من الناس حول العالم باستخدام اللاعنف، من مانيلا إلى
موسكو ومن كيب تاون إلى القاهرة وحتى حركات احتلوا العالمية، وبدرجات
متفاوتة، باستخدام جانب أو آخر من جوانب اللاعنف لزعزعة روابط
الاستغلال والقمع.
تلامس ممارسة اللاعنف شيئًا أساسيًا في الطبيعة البشرية، وتلامس ما
نرغب أن نكونه كأفراد أو كشعوب. وقد قال غاندي ببساطة: "اللاعنف
قانون نوعنا". وأوضح الدكتور فاندانا شيفا
Dr. Vandana Shiva
القائد شهير في المقاومة الريفية في الهند خلال محاضرة حديثة أننا إن
لم نتبن اللاعنف فإننا نخاطر بإنسانيتنا. وبالمثل يقول الناشط الكردي
العراقي آرام جمال صابر
Aram Jamal Sabir
إنَّ اللاعنف قد يكون أصعب ويتطلب تضحية أكبر من العنف ولكن "لن
تفقد إنسانيتك في هذا العمل".
يمكننا أن نقارن هذا مع المستويات المخيفة للاكتئاب وتعاطي المخدرات
والانتحار بين الجنود الأمريكيين حاليًا حيث قال أحد الجنود الأمريكيين
لمخرجٍ وثائقي: "لم أعد أحب من أكون. لقد فقدت روحي في العراق".
وأطلع جندي آخر أحد أصدقائي الذي كان في طريقه إلى الشرق الأوسط كعضو
في فريق صناع السلام المسيحيين: "ما زالت تطاردني الأشياء التي
فعلناها... أنا مستعد للتخلي عن أي شيء مقابل العودة إلى الماضي وعدم
القيام بالأمور التي فعلناها لكنني لا أستطيع ذلك. ولكن على الأقل
أستطيع شكركم من كل قلبي على القيام بما تفعلونه". من خلال هذه
الكلمات الشاهدة على الطبيعة البشرية يمكننا معرفة تكلفة انتهاك هذا
الجانب من طبيعتنا، ومعرفة الطريق إلى الخلاص.
بالتالي ليس من المفاجئ أنَّ الناس هنا وهناك قد أدركوا قيمة اللاعنف،
أدركها من يبحث عن قصة جديدة تتناول الطبيعة والقدر البشري ومن وجد
نفسه يبحث عن صورة سامية مُلحة للبشرية. تَعتَبرُ النظرةُ العالمية
الحالية والمؤسسات التي تقوم على هذه النظرة العنفَ قانونًا، وتغيير
هذا القانون سيقود إلى قفزة في التطور الثقافي. وقد يستطيع هذا حل أو
توضيح كيفية حل مشاكلنا الاقتصادية والبيئية والشخصية والدولية.
باختصار قد يقود الاعتراف الكامل باللاعنف إلى إعادة كتابة قصة المصير
البشري.
رغم هذا لا يفهم معظم الناس في وقتنا الحالي آليات اللاعنف بشكل كامل.
يعلمون القليل عن إمكاناته أو كيفية استخدامه لتحرير أنفسهم والجميع من
الطمع والطغيان والظلم. قد يكون اللاعنف راسخًا في طبيعتنا كما قال
غاندي ولكنه لن يظهر في حياتنا ومؤسساتنا حتى يُفهم بشكل أفضل بكثير.
تظهر بشكل مستمر أحداث تتميز باستخدام اللاعنف ولكن حتى نستخدمه بشكل
آمن وفعّال وبكل تأكيد حتى نستخدمه من أجل تغيير ثابت، يلزمنا المعرفة
والتخطيط.
الكر والفر والطريق الثالث
يظهر اللاعنف كأمر نادر رغم حالاته الاستثنائية وإمكاناته، وحتى
إمكانية تطبيقه بحد ذاتها عرضة للتجاهل المستمر من قبل صناع القرار.
ويظهر العنف أو الأذى المقصود تجاه شخص آخر أو تجاه الكرامة البشرية
أمرًا شائعًا جدًا لدرجة يبدو فيها موحدًا بخاصة عندما نتحدث عن العنف
البنيوي أو الاستغلال أو السيطرة التي يقوم عليها نظام من الأنظمة.
يبدو أنّ حالة الانتشار الكبير لظاهرة العنف وندرة اللاعنف لهما علاقة
بالطريقة التي نرى بها العالم أكثر من ارتباطهما بحقيقة العالم كما هو.
كانت طريقتنا في ممارسة العلم حتى القرن العشرين تنزع إلى التشديد على
المادية والانفصالية والمنافسة وهذا قادنا إلى صورة طبيعة دموية.
ومؤخرًا فقط تغير العلم بشكل كبير باتجاه نظرة أكثر توازنًا مع الطبيعة
البشرية والتطور بشكل عام. ولهذا التطور أهمية كبيرة ولكن ما يزال على
العلم أنّ يشق طريقه نحو نظرة عالمية أشمل.
هناك سبب آخر لكوننا غير واعين بالأمثلة التي يقدمها اللاعنف، أو لظننا
أن اللاعنف غير فعّال أو ينتهي نهاية مخيبة للآمال كما حدث في مصر
وسورية. وهذا السبب يعود إلى فشل الثقافة المعاصرة في إعدادنا جيدًا
لفهم قوة اللاعنف الإيجابية، اللامادية. في الحقيقة إن كلمة اللاعنف
جزء من المشكلة. فكلمة اللاعنف تفترض أن الحقيقيَّ، الحالة الافتراضية،
هو العنف، وأنّ اللاعنف هو غيابه. هذا يشبه تمامًا اعتقاد الكثيرين أنّ
السلام هو غياب الحرب. وهم بذلك يقلبون الحقائق وظاهريًا يقيدون
خيارتنا.
إن كنا غير واعين باللاعنف سنميل إلى الاعتقاد أنَّ ردة فعلنا الوحيدة
على هجوم ما ستكون الاستسلام أو رد الهجوم - الحرب أو الهرب. من وجهة
نظر اللاعنف هذا لا يعد خيارًا حقًا. ففي كلا الطريقتين سنسمح بأن
يُستخدم العنف ضدنا (أو ضد آخرين) أو نتصرف بطريقة نزيد فيها منه. لذلك
خيارنا الحقيقي ليس بين هذين الطريقين بل يأتي من رفض كلا الخيارين.
عندها سنرغب بأن نواجه العنف بالبديل الذي دعاه أندرو يانغ
Andrew Young
وعبَّر عنه وكأنه يقتبس مقولة دينية قديمة: "المخرج من اللاطريق".
يقدم لنا اللاعنف طريقًا طبيعيًا ثالثًا وصالحًا للخروج من معضلة الحرب
أو الهرب. تُظهر لنا كشوفات النسبية والواقع الكمومي في القرن العشرين
أنّ الأشياء ليست منفصلة كما تبدو. وبالتوازي يوجد في الوقت الراهن
أدلة كافية على أنَّ التعاطف والتعاون قوى مهيمنة في التطور وأنَّ
الكائنات البشرية والرئيسيات الأخرى مُجهزة "بعصبونات انعكاسية"
mirror neurons
تمكننا من مشاركة الآخرين ما يحسون به، وأنَّ التضحية بالذات يمكن أن
تعود بفوائد كثيرة على الجهاز العصبي. لذلك اللاعنف أداة فعّالة جدًا
في تحقيق التغيير الاجتماعي.
ومن الطبيعي على كل حال ألا ننكر بأنَّ التعاطف والاهتمام بسلامة غريمٍ
لنا لا تأتي بسهولة بل قد تكون صراعًا حقيقيًا ولكن من المُشجع تذكر أن
هذا الصراع بالتحديد هو أساس قوة اللاعنف. وكما يقول كينغ:
غالبًا ما يُعطي مصطلح "المقاومة السلبية" انطباعًا خاطئًا بأنّه أسلوب
"عدم القيام بشيء" حيث يقبل المقاومُ الشرَّ بهدوء وسلبية. ولكن هذا
أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالمقاوم اللاعنفي يبقى سلبيًا لمدة معينة
بمعنى أنّه لا يلجأ إلى العنف الجسدي في تعامله مع الخصم. ويبقى عقله
وعواطفه في حالة نشطة، ويحاول بشكل دائم اقناع هذا الخصم أنه على خطأ.
إن الغضب من الظلم والخوف من الأذى ردود فعل إنسانية طبيعية. وليس
القصد أن نملك "الحق"
right
بالخوف أو الغضب بل في كيفية تمكننا من تغيير الوضع بشكل أكثر فاعلية.
وكباحث بارز في اللاعنف يشير جين شارب
Gene Sharp
إلى أن أول أمر يجب على الناس المضطهدين القيام به هو التغلب على الخوف
الشديد الذي يكبحهم. في تشيلي على سبيل المثال كانت الطرق الدستورية
كافية لإسقاط أوغستو بينوشيه عام 1989 ووضع حد لكابوس الحكم العسكري
ولكن توجب على الناس في البداية التغلب على خوفهم وهذا ما أعطاهم القوة
الإبداعية للعمل على تحقيق هذا.
لا شك أنَّه يتوجب علينا خوض هذا الصراع الشخصي مع مشاعرنا "الطبيعية"
مرارًا وتكرارًا ولكن في النهاية سيصبح الأمر عادة. وعندما يخرج خوفنا
أو غضبنا بشكل طاقة إبداعية سنمتلك قوة اللاعنف الإبداعية، ومن الناحية
العاطفية لن نهرب من خوف ولن نهاجم عن غضب، ولن نبحث عن "ربح" ولن نخاف
من الخسارة. وسيصبح هدفنا إن كان متاحًا أن نكبر حتى لو كان بالتوازي
مع خصومنا.
استخدامات اللاعنف
جميعنا استخدم طاقة اللاعنف مرات لا تحصى وفي مواقف عديدة أيضًا دون
التفكير بتسميتها كذلك. نلاحظ أنفسنا عندما نكون على وشك توجيه نقد
قاسٍ لأحد ما أننا نفكر: "حسنًا أعتقد أنني قمت بذلك أيضًا في بعض
الأحيان". ونقول شيئًا لطيفًا بدلًا من النقد. ونكتم غيظنا عندما يأخذ
من يقفنا أمامنا في الدور الكثيرَ من الوقت. ولتوضيح الأمر بمزيد من
الأمثلة عمد أحد أصدقائي إلى مصافحة سارق سيارات معروف وسأله إن كان
يحتاج بعض المال ثم تركه يتابع طريقه.
يعمل اللاعنف كطاقة أساسية وبشكل هادئ طوال الوقت كالجاذبية. وننحى
لاستخدام مصطلح اللاعنف فقط عندما ينفجر صراعٌ من نوع ما، خاصة بين شعب
ما وحكومته. ولكن اللاعنف يعمل بشكل غير ملحوظ في العديد من الجوانب
الأخرى ويمكن استخدامه في أي موقف بدءًا من القرارات الوطنية وحتى
العلاقات الشخصية. بالتالي، ورغم تركيزي في الأمثلة التي أوردها على
الناس ممن يجدون أنفسهم في حركة ثورية، يمكننا جميعنا أن نستفيد من فهم
آليات هذه القوة. وباستطاعة من يواجه شكلًا أو عدة أشكال من العنف في
عالمنا (سواء كان قوة بحتة أو حالة لامساواة موجودة في منظومة ما)
ويشعر بأنَّه مدفوع إلى حماية كرامته البشرية في مواجهة ذلك العنف
الاستفادة من اتخاذ موقف لاعنفي من كل الأشياء الحيَّة. وآمل أن يساعد
هذا الكتاب، بالتعاون مع وسائل مختلفة مذكورة في آخر الكتاب، الناشطين
في فهم المبادئ الأساسية الراعية لآليات العمل اللاعنفي، ولكن مع قليل
من التخيل يمكن للمرء أن يستخدم هذه المبادئ في حياته اليومية ويمكن أن
تصبح أسلوبًا في الحياة.
يحتاج تحقيق هذا الانعطاف نحو اللاعنف أولًا إلى تكبير الصورة الحالية
عن ذواتنا كأفراد مستقلين وماديين وتنافسيين. تخيلوا أننا نسعى لتأسيس
الطريق الثالث في مجال العلاقات الدولية لمواجهة الأحداث المؤسفة، كما
يحدث في رواندا وسوريا على سبيل المثال، فعندما يعتقد المجتمع الدولي
أن الخيارات الوحيدة هي قذف أحدهم بالقنابل (الحرب) أو عدم القيام بشيء
(الهرب) لن تظهر مجموعة كاملة من الخيارات المختلفة إلا عندما يفهم
موظفون حكوميون متنورون أن المعنى الحقيقي للاعنف هو القانون الدولي
والمكاتب والدبلوماسية الجيدة ولجان المصالحة وما إلى هناك. ويمكن
للعاملين في المجال المدني أو غير الحكومي القيام بما هو أكثر مثل
القيام بتدخلات لاعنفية حيادية، وحاليًا قد بدأوا بإدراك هذا. ليس هناك
طريقة سريعة وسهلة لنصبح لاعنفيين، فالأمر يستدعي جهودًا مستمرة وهو
تحدٍ طويل. وتعلُّم كل شيء عنه مفيد جدًا ولكن هذه البداية فقط فالتعلم
مع الممارسة أمرٌ أكثر فاعلية.
لحسن الحظ يقود اللاعنف إلى طرق عديدة تخلق تغييرات إيجابية طويلة
الأمد ودائمة. وستساعدنا هذه التغييرات في إعادة بناء المؤسسات
الاجتماعية على أسس أكثر إنسانية واستدامة. لا تحتاج كل هذه المناهج
إلى أن نكون في موقع المواجهة كما سنرى. ويمكن لكل واحد منا مهما كان
موقفه في الحياة أو علاقته بالنشاط أن يقوم بهذه "التجربة العظيمة
مع الحقيقة" وأن يعيد صياغة ما تكلم عنه غاندي، وذلك وفق قدراتنا
والمواقف التي نواجهها.
ولأنَّ مبدأ أو طاقة اللاعنف قابل للتطبيق بطرق عدة ومن قبل ممارسين
مختلفين وفي مواقف مختلفة سأركز هنا على المبدأ أو الطاقة بحد ذاتها
دون محاولة الاسهاب في التوضيح حول كيفية تحقيق التطبيق الأمثل. إن
وجود بنية تحتية صالحة وقليل من المخيلة يُمكِّن من تبني هذا المبدأ في
أي موقف، وعندما نفهم المبادئ الأساسية سنخرج بأفضل تطبيقاتنا.
الساتياغراها: مصطلح جديد لمبدأ أبدي
قد تمنحنا قراءة "التاريخ" الانطباع بأنَّ الحياة عبارة عن سلسلة لا
تنتهي من المنافسات والصراعات والحروب. ولكن بالعودة إلى العام 1909
أشار غاندي إلى أن التاريخ الذي نختبره
سجل لكل إعاقة لأي عمل ينتج عن قوة الحب أو الروح.. القوة الروحية
ولأنها طبيعية لا تُذكر في التاريخ.
لاحظوا هنا أن غاندي لا يستخدم كلمة "اللاعنف" (كترجمة للكلمة الهندية
ahimsa)
التي لم تكن متداولة بعد. ورفض غاندي أيضًا استخدام مصطلح "المقاومة
السلبية" المُضلِّل. في تلك الفترة كان عليه أن يأتي بمصطلح آخر وهو
مصطلح الساتياغراها الذي يعني حرفيًا "التمسك بالحقيقة" - ويستخدم
مصطلح الساتياغراها للإشارة إلى اللاعنف بشكل عام كما في الاقتباس
الأخير ولكن في أحيانٍ أخرى يشير إلى اللاعنف على أنه نضال فعّال
ومقاوم.
من خلال صوغ مصطلح الساتياغراها من الكلمة السنسكريتية (sat)
التي تعني "الحقيقة" أو "الواقع" و"الصالح" أيضًا أوضح غاندي أنّه يرى
اللاعنف واقعًا إيجابيًا والعنف ظل أو غياب هذا الواقع. وهكذا لابد أن
ينتشر اللاعنف على المدى البعيد:
يقوم العالم على حجر أساس "الساتيا" أو الحقيقة. تعني أساتيا "Asatya"
الباطل وهي تعني أيضًا "العدم" بينما "ساتيا" أو "سات" تعني "الموجود".
وإن كان الباطل عدمًا فإن انتصاره غير وارد، بينما الحقيقة التي تعني
"الموجود" وهي لذلك لا يمكن أن تُهزم".
هذه هي عقيدة الساتياغراها بكل إيجاز.
رغم أن الساتياغراها تعني حرفيًا "التمسك بالحقيقة" لكنها تُترجم عادةً
وبشكل غير مناسب إلى "قوة الروح". جميعنا نملك تلك القوة في داخلنا
وعندما تتوفر الظروف الملائمة سنخرج بنتائج مذهلة. وهذا يتضح بشكل جيد
فيما يدعى بالحركة اللاعنفية وذلك عندما يواجه طرفٌ بكل "القوة
العظيمة" للاعنف طرفًا آخرًا يتمسك بشدة بالعنف إذ سيكون النجاح
حليف الطرف اللاعنفي دومًا. وقد يكون أحيانًا نجاحًا واضحًا وفوريًا أو
يتحقق في المستقبل.
على سبيل المثال في عام 1963 في برمنغهام، ألباما وجد متظاهرون سود
أنفسهم وقد ألهمتهم النية "بالفوز بحريتنا وفي طريقنا لتحقيق هذا
سنحرر أخوتنا البيض" كما جاء في كلمات أحد قادتهم، في مواجهة غير
متوقعة مع خط من رجال الشرطة والإطفاء مع كلاب وأحصنة. ركع المتظاهرون
ليصلوا، وبعد برهة أصبحوا "منتشين روحيًا" كما روى ديفيد ديلنغر (David
Dellinger)
ثم نهضوا وكأنّ أحدهم قد أعطاهم اشارة ومشوا بخطى وئيدة نحو رجال
الشرطة والإطفاء. وعندما أصبحوا على مرمى سمعهم قال بعضهم: "لن نعود
فنحن لم نقم بأي شيء خاطئ. فكل ما نريده هو حريتنا. كيف تشعرون وأنتم
تقومون بهذه الأمور؟". ورغم الصراخ المستمر لمفوض الشرطة المشهور
بعنصريته: "افتحوا الخراطيم!" تجمدت أيدي رجال الإطفاء وتابع
المتظاهرون السير على نفس الوتيرة وقد تجاوزوا خطوط رجال الشرطة
والإطفاء. وتمت رؤية بعض رجال الشرطة والإطفاء يبكون.
ويعطي غاندي الذي شهد فاعلية هذا كثيرًا شرحًا جميلًا للكيفية التي يتم
فيها التحول:
والذي تفعله الساتياغراها في هذه الحالات ليس قمع السبب بل تحريره من
القصور الذاتي وتأكيد تفوقها على الأحكام المسبقة والحقد وعواطف أخرى
أكثر انحطاطًا. إن أراد المرء أن يعبر عن الأمر بطريقة مختلفة
فالساتياغراها لا تستعبد بل تمنح سببًا للتحرر.
ومن الأفضل توصيف هذا "السبب" كما يدعوه هنا بالوعي الفطري
بأننا جميعًا مرتبطون ببعضنا وبأنّ اللاعنف "قانون نوعنا". وكما
أشرنا فإن هذا الوعي كامن في كل واحد منا، وهو حالة طبيعية مهما حجبها
ضباب الكره. مبدئيًا يجب أن نكون قادرين على إيقاظ هذا الوعي في كل فرد
عندما يتوفر الوقت والطريقة لفعل هذا. فعندما يستيقظ الوعي سيتغلب بشكل
اتوماتيكي على "المشاعر الأدنى".
وأن تمتلك الكائنات البشرية القدرة على ألا تكون عنيفة وتستجيب للاعنف
عندما يحدث يعني أنها تملك صورة أرقى مما نقدمه عبر وسائل الاعلام وفي
ثقافتنا الحالية. ولكن بسبب هذه الثقافة بحد ذاتها لا يمكننا توقع
ماهية قدرتنا على اللاعنف على التعبير عن ذاتها. وحتى تثمر هذه القدرة
علينا أولًا أن نحاول فهمها بشكل أفضل والاعتياد على استخدامها بإبداع
في علاقاتنا ومؤسساتنا وثقافتنا. لكن حتى نستخدمها في مواقف الصراع
الشديد كما في مثال برمنغهام هناك مكونان أساسيان يجب توافرهما حتى
يبدأ الفعل السحري للاعنف:
1.
أن نقارب مواقفنا بنوايا سليمة. فنحن لسنا ولا نحتاج أن نكون ضد سلامة
أي شخص.
2.
أن نوظف الأدوات المناسبة. فلا يمكن للأدوات الخاطئة كالعنف أن يحقق
النتيجة المرجوة على المدى البعيد.
يكمن مصدر تمكننا وقوتنا في الساتياغراها في امتلاكنا لنوايا سليمة
واستخدامنا للوسائل المناسبة. لو عملنا بدافع من الغضب أو الحسد أو
الجهل حينها لن يهم أبدًا إن كانت قضيتنا محقة ما لم نقاربها بشكل
صحيح. فلتلاحظوا أن متظاهري برمنغهام طرحوا السؤال التالي: "ما الذي
تشعرون به حيال هذا؟" وهم بمعنى آخر منحوا خصمهم وعيًا أخلاقيًا
وبالتالي ساهموا في إيقاظ وعي الخصم من أجل صالحه.
وبالمثل فإن استسلمنا للعنف فنحن لا نستخدم الوسائل الملائمة. لذلك
دعونا ننظر في كل خط من الخطوط العريضة التالية تباعًا.
ترجمة: عزة حسون
*** *** ***