ترانيم العشق
محسن السراوي
هذا
السرُّ الذي يأخذني إلى التغني بالوفاء، هذا الحب الذي لم تقتل
عذريته مقصات الفراق، هو حصيلة انبلاج دم الماضي الرقيق الذي
كلما حل ضيفًا على الذاكرة أصاب المشاعر بدغدغة تلطف واء
الحياة ، يأخذني على بساط الريح إلى لفحة الربيع الملازمة لكل
خريف، لأزهارٍ وأشجارٍ أغصانها القلب تنبت في أي موسم من حديقة
الإنسان للإنسان، تلك الفترة التي أحببتك فيها هي ذخيرتي
للأمام، لا تصيبني بأجواء الندب والحزن إنْ حضرت كالنسمة على
شريط الذاكرة، بل بفخرٍ مبعثر التكوين من تراب وهواء ونار
وماء.
إن الإخلاص آيةٌ مقدسة أحفظها عن ظهر قلب، فمهما ابتعدتِ فأنا
باقٍ على كل جميل أمطرَ القدرُ رذاذه الليموني عليه، غلبتني
قسوة الفراق بينما عجزت أن تغلب قدسيتك المرصنة بأقفال
اللازورد والمختومة بشمع الليالي الأخيرة.
تعلمت حقًا من حبك أن أخلع عباءة الشرقي المنسوجة بكل حبال
الوعيد والتهديد بندمِ خرافي المجاز، كما تعلمتُ احترام الظروف
التي لم يقوَ فأسها يومًا على هزيمة عقلك المملوء بالحياة.
أطلال من الأعذار أسكبها أمامك - أنا فعلاً الذي لم يستطع
إعادة تكوين الطبيعة لأجل قلبك، ولم أستطع أن أصارع ثيران
التقاليد لأجل أبدية الوجود معك.
يأكلني الفكرُ، كل ليلة يصب الحنينُ جمره على شغاف قلبي، لكني
أقاوم أي وجع ولا أغتاب ذكرك ولا أشوهُ شيئًا من حكايتنا التي
ستصيبها شيخوخة العائلة يومًا.
هذا الذي أحبكِ، لا يفقه من حبكِ سوى حبًا يجند فيه الملائكة
قلبه ليحرس قلبك الدافئ.
كان الجواب قريبًا من قلبها بعيدًا عن عقلها، يترنحُ بين
الاعتراف فالضعف أو الانكارِ فالعذاب، كأن تكون حرًّا في
اختيار أيِّ موتٍ تعيش؛ كانت تستغيث بذاتها الصوفية، تناضل،
تقاتل، وتمشي بقدميها على قلبها كي لا تعترف أنه حب.
لكن ماذا إذا كانت جذور متأصلةٌ في نفسها كشَجرة زيتونٍ، أو
كجدور الزيزفون!!؟
عادة ما يحدثها الحب قائلاً: لقد هرمنا، لقد هرَمنا الحب،
هرمنا من أجله فلا أمل فيه!
بعد منتصف الليل، كان ينصت لسحر الاختلاف وتثاؤب القمر الذي
يضفي على وجهه السكينة.
تناول هاتفه مستندًا إلى طرف السرير، وكتب رسالة مفادها "هل
تشتاقين إليّ؟ هل لي مكان في قلبك؟ هل فعلاً تنتظرين في
غيابي؟". هي رسالة تنعش ماضي الذكريات، توقظ الحبَّ الذي عاش
معه منذ الطفولة، حبٌّ أبدع الشاعر الفلسطيني محمود درويش في
وصفه بثلاث كلماتِ وحرف: "رُزقتُ مع الخبز حُبك".
لم تكن غايته مضمون الرسالة، بقدر ما كانت تفجيرُ زوبعةٍ من
الأفكار ليثير فيها عواطف كعواصف تحرك المياه الراكدة.
بالرغم من اختلاف إجابتها سيظل مقتنعًا أن في جانب من قلبها
بصيص أمل من عبق الحب المزهر بلمسات العبق الفواح.
ذلك العشق الذي كتب عليه أن يحتضر في زخم شبابه، لو اعترفوا
يومًا بالحب، لصار أمل اللقاء ميعاد كفر.
قسم نصف الليل نومه بحدة التفكير، هكذا يستولي الحب المحرم
والذي تتأرجح فيه الأحلام، ما بين ممكن ومستحيل.
استيقظ بعد ليلةٍ ذبحت بطولها صبره، أخذ هاتفه المحمول مسرعًا
ليرى إن كان هناك من شيء يبرد قلقه، لكنه لليوم الثالث لم يجد
أي رد منها.
كان كل ما يجول حوله يمسها، تلاحقه كسحابة تائهة في حضن الصيف،
تلقيه على صفحة الأرض التي ترغب. تدق باب قلبه كقطرة ماء تنساب
بهدوء على جلمود جسده. أدرك أن لصموده نهاية. قرر أن يخرج لعل
الهواء يرضيه. كان يمشي بلا هدف حتى وقع نظره على سنابل قمح
تنبت بين مفاصل الأرصفة، كئيبة تلوكها المأساة بين فكيها،
تنفعل لكنها تبقى أسيرة الساق في جوف الأرض، داعبتها نسمة هواء
فدارت قِبلتها عليه كأنها تناديه ليمنحها الحرية، تحسبه رسولها
المنتظر.
ابتسم بأمل يرمم الموت في أجساد الجثث الحية لتبعث من جديد.
تنهد في كلمات بدت متقطعة نمَّت عن الارتباك. فهاهنا شجرة ولدت
على الرصيف قبل ميلاد أجداده، عاشت عصور النصر والإظلام
والانتقام والانهزام، رجلٌ ينام على كرسيٍّ أمام البيت،
متوحدًا.
هكذا الحياة، فنحن نرى الأشياء بصورة تعكس حالتنا المزاجية.
مشى إلى البيت مكتنزًا ما مضى للتو من ذكرى ستغدو عالمًا.
"في أمل... إيه في أمل، أوقات بيطلع من ملل"
هناك أمل حقًا.
*** *** ***