مدرسة المستقبل
أديب
الخوري
3 - التربية مسؤوليَّة جماعيَّة تجاه المستقبل، إنها تحكم مستقبل
العالم، الأهل، المعلِّمون وكلُّ الكادر التَّعليميِّ، الجمعيَّات،
العاملون والعاملات في مجال التَّواصل، الفنَّانون، وعمومًا كلُّ
النَّسيج الاجتماعيِّ، يمارسون معًا هذه المسؤوليّة.
إنَّ "المشروع التَّربويَّ" هو عمل الجميع في المجتمع وعلى كلِّ شخصٍ
أن يساهم فيه.
23- الصف الذي يحوي مجموعةً متجانسةً من التَّلاميذ، ومن نفس المستوى،
ليس سوى طريقةً من الطُّرق لتنظيم المدرسة. لا بدَّ اليوم من تنويع طرق
تجميع التَّلاميذ من أجل تقديم ما هو أفضل بحسب احتياجاتهم: مجموعات
بحسب الحاجة والمستوى، مجموعات أنشطة، مجموعات انتماءات، مجموعات
متابعة، الخ. ولا بدَّ أيضًا من تنويع مواقف العمل: تعليمٌ جماعيٌّ،
عملٌ ضمن فرقٍ صغيرة، بحث وثائقيٌّ، عمل فرديٌّ، ورشات إبداع، الخ..
(فيليب ميريو[1])
شيئًا
فشيئًا، وعبر ملايين السنين، طوَّر الإنسان الأوَّل، بدءًا من الحجر
وغصن الشجر، أدواته الأولى.. ورويدًا رويدًا شذَّبها وحسَّنها...
وجيلاً بعد جيلٍ بعد جيل، ومن أبٍ لابنه ومن أمٍّ لابنتها، وفي مسيرةٍ
متأنيَّة شاقَّة، في عتمة الكهف وفي برد الخيمة أو الكوخ الخشبيِّ، في
إطار العائلة وفي حدود القبيلة، علَّم الإنسان وتعلَّم كلَّ خبرة
ومعرفة واكتشافٍ جديد.
أمس فحسب، منذ ثلاثة أو أربعة آلاف عامٍ على الأكثر، انفصل مكان
التَّعلُّم في دول المدن التي ازدهرت هنا وهناك، عن البيت. وصار هذا
المكان مؤسَّسةً تلعب دورًا رئيسًا ازداد على مرِّ القرون أهميَّةً
وأولويَّةً في المجتمع، إلى أن صار اليوم، كما يرى فيليب ميريو وغيره
الكثيرون: "يحكم مستقبل العالم".
يعيش العالم اليوم مرحلةً جديدة لعلَّها تشبه، بما هي مرحلةٌ مفصليَّة
في تطوُّر البشريَّة، تلك المرحلة التي نشأت فيها المدارس الأولى..
بمعنى أنَّ الإطار الذي يجري فيه التَّعليم لم يعد كافيًا للقيام
بمهمَّته، وأكثر من ذلك أيضًا: إنَّ مفهوم التَّعليم قد تجاوز نفسه
بطريقةٍ ما... ذلك أنَّ الإنسان ما يزال مستمرًّا في صنع أدواتٍ جديدة،
وفي تحسينها، وفي اكتشاف ظواهر وتحليلها، وفي بلوغ معارف وفي تعديلها،
وأهمُّ من كلِّ ذلك، وفي أسِّ كلِّ ذلك: في التساؤل الذي منه كلَّ
معرفة.. يعني هذا من جهةٍ أخرى أنَّ تناقل كلِّ هذه الخبرات الجديدة
يستوجب أطرًا أجدَّ. إنَّ ما تقول به نظرية الشَّواش، وما يفتحه أمامنا
الميكانيك الكموميُّ (على سبيل المثال) من رؤيا جديدة للعالم ولموقعنا
منه ودورنا فيه يحتِّم علينا تناول التعليم بطريقةٍ جديدة.
ليس في الوسع هنا استعراض الكثير ممَّا يُطرح من البدائل، من
النظريَّات، من التَّجارب، وحتَّى من الأحلام... إنَّما يبدو ممكنًا
بالنَّسبة لي أن أحاول تلمُّس القواسم المشتركة بين طروحاتٍ كثيرة من
بين طروحاتٍ أكثر وأن أحاول تجريدها من سياقها العمليِّ وأن أحاول
(مرَّة أخرى) صياغتها في حلمٍ جديد.
من بين الأشياء التي تستفزُّني في التربية والتعليم وتجعلني أشعر
بأنَّني والمجتمع على طرفي نقيض، عبارةٌ تُستخدم كثيرًا على سبيل
التَّرويج للمدارس الخاصَّة: "مدرسةٌ نموذجيَّة"... والمشكلة التي
أراها هي أنَّ المدرسة تكون أفضل كلَّما كانت أبعد عن النَّموذج...
تعني صفة نموذجيَّة لمدرسةٍ بالنسبة لي: مدرسةٌ محدودة، مدرسةٌ جامدة،
مدرسةٌ بلا آفاق، مدرسةٌ تحصر الطفل... عن أيِّ نموذجٍ في التربية يمكن
أن نتحدَّث؟!... أليس غرض التَّربية الحياة؟! أليست الحياة هي المدرسة
الكبرى؟ وهل يمكن حصر الحياة في نموذج؟!
أتخيَّل مدرسة المستقبل مدرسةً خارجةً عن كلِّ نموذج. يعني هذا أنَّ
مدرسةً في المستقبل يجب ألاَّ تشبه مدرسةً أخرى. وكلَّما ذهبت المدرسة
أبعد في الاختلاف، في الأصالة، في الانفتاح، في التكيُّف، في
التَّلاؤم، في الحيويَّة، في الدِّيناميكيَّة، في المرونة... كلَّما
كانت بحقٍّ مدرسة المستقبل.
ولذلك لا أقبل، لنفسي على الأقلِّ، أن أضع تصوُّرًا لمدرسةٍ نموذجيَّة
أو حتى لمدرسةٍ مثالية. وإذا طرحتُ في ما يلي بعض الأفكار، أو بعض
الصُّوَر، فهي على سبيل المثال، وهي حالاتٌ واحتمالاتٌ من بين حالاتٍ
واحتمالاتٍ أخرى.
مدرسة المستقبل لا سور لها ولا جدار يفصلها عن الشَّارع، أو عن
الحديقة، أو عن الحقل، أو عن البرِّيَّة، أو عن الغابة... ولا سور
معنويَّ لها يفصلها عن المجتمع، وخصوصًا عن الأهل الذين يشكِّلون، عبر
لجان، عبر منتديات تواصلٍ على الشَّبكة، عبر زياراتٍ حرَّة.. جزءًا
أساسيًّا فاعلاً من المدرسة.
مدرسةٌ ليست من جدران وصفوف ومقاعد، بل بالأولى من أشخاص. حين يذهب
ولدي، أو ولد ولدي إلى مدرسة المستقبل، فليذهب للقاء معلِّمته وأستاذه
قبل أن يذهب إلى هذه المنطقة أو تلك، إلى هذا البناء أو ذاك. تخيَّلوا
أنَّنا ما نزال حتَّى اليوم نقول "مدرسة" فيتخيَّل السَّامع شكل بناءٍ
محدَّد في مكانٍ محدَّد. هل يأتي يومٌ يقول فيه قائل "مدرسة" فيتخيَّل
السَّامع نشاطًا ما أو شخصًا ما أو مجموعة أشخاص، أو حالةً جماعيَّة
قبل أن يفكِّر بمكانٍ بعينه، قل بمجرَّد بناء؟!
مدرسةٌ كلُّ ما فيها: من ورود، من أشجار، من مزروعات، من ألعاب، من
مقاعد، من تجهيزات، من قاعات، من كتب ودفاتر، من مراجع ومصادر، وكلُّ
من فيها: من معلِّمين ومعلِّمات، من مديرةٍ أو مدير، من موجِّهين
وموجِّهات، ومرشدين ومرشدات، وعاملين وعاملات... من أجل الطَّالب، من
أجل التِّلميذ، من أجل الطِّفل.
مدرسةٌ تستقبل في معظم الأسابيع إن لم يكن كلَّ أسبوع، بعض الضيوف:
عالمٌ كبير أو رسَّامٌ معروف أو موسيقيٌّ مبدع أو ممثِّل محبوب أو
رياضيٌّ ذائع الصِّيت، أقلَّه على مستوى البلد.. يلتقي مع معجبيه من
الأولاد يقدِّم محاضرةً أو يرسم أو يلقي قصيدةً أو يشاركهم مباراة كرة
قدم.
مدرسةٌ تُعنى بفرح الأولاد، بلهو الأولاد، باهتمامات الأولاد، بحاجات
الأولاد، باستكشافات الأولاد، بفضول الأولاد، بأسئلة الأولاد، بأفكار
الأولاد، بمغامرات الأولاد، بعبث الأولاد، بكسل الأولاد... مدرسةٌ
تهتمُّ بإضاعة الوقت لا بكسبه!
مدرسةٌ لا تنفصل عن الطَّبيعة، أو عن بيئة طلاَّبها: وسط حقل، قرب
غابة، على سفح تلَّة، ضمن بيتٍ أثريٍّ تتوسَّطه بحرة من رخام... وليس
غريبًا أن يقوم الطُّلاَّب فيها بتقليم شجر، أو قلب تربة، أو حلب ماعز،
أو إصلاح درَجٍ خشبيٍّ!
مدرسةٌ لا تنفصل عن محيطها القريب [كما اعتدنا أن نرى على سبيل المثال
أبنية كبيرة مسوَّرة في أماكن خارج المدينة، تستقبل طلاَّبًا من أماكن
مختلفة بعيدةً على العموم من المكان الذي تتواجد فيه المدرسة فهي من
جميع النَّواحي منفصلة عن محيطها البشريِّ الجغرافيِّ القريب] فهي لا
تتواصل باستمرار مع أهالي طلاَّبها فحسب، بل مع الأهالي على نحوٍ عام،
مقيمةً علاقاتٍ طيِّبة، وشراكاتٍ إيجابيَّة مع الجمعيَّات الأهليَّة
للمدينة مثلاً، مشجِّعةً أولادها على العمل التَّطوُّعيِّ، مستفيدةً من
الإمكانيَّات التي يوفِّرها المجتمع المحلِّيِّ، بحيث تتفاعل وتلعب
دورًا إيجابيًّا في حياة المجتمع الذي تتواجد فيه بدل أن تكون مجرَّد
كيانٍ منعزلٍ وسط محيطٍ غريب.
مدرسةٌ لا تنفصل عن الواقع وتتصالح مع وسائل الاتصال الحديثة ولا
تعاديها. فحمل الهاتف الجوَّال ليس ممنوعًا، ولكنه منظَّم، وإمكانيَّة
الوصول إلى الشَّبكة داخل المدرسة متاحةٌ لمن يشاء في الأوقات والأماكن
المناسبة وضمن حدٍّ كبيرٍ من المرونة.
مدرسةٌ أسُّها المعلِّم، وأصرُّ هنا على كلمة معلِّم، مستبعدًا
الطروحات الجديدة: منسِّق، أو ميسِّر أو منشِّط، الخ... لا بدَّ لمدرسة
المستقبل أن يكون المدرِّسون فيها، والموجِّهون والمديرون.. "معلِّمين"
بالمعنى الأصيل والرَّفيع للكلمة. مدرسةٌ تقوم على الإنسان، الحاضر
المتمكِّن، المؤهَّل، الواثق، المثال، القدوة، الموهوب، المربِّي،
المصغي، المهتمِّ، المحبِّ والأهمُّ من هذا كلِّه: المتواضع.
مدرسةٌ فيها صفوف ومقاعد، لكن المكتبة فيها هي لا تقلُّ أهميَّةً عن
قاعة الصَّفِّ، والمسرح لا يقلُّ أهميةً عن قاعة الصَّفِّ، والملعب لا
يقلُّ أهميةً عن قاعة الصَّفِّ، وصالة الرِّياضة لا تقلُّ أهميةً عن
قاعة الصَّفِّ، وقاعة الفنون والأشغال لا تقلُّ أهميةً عن قاعة
الصَّفِّ... والصَّفُّ وعلينا أن نذكِّر ليس قاعة الصَّفِّ وهو أهمُّ
من كلِّ القاعات! وهو صفٌّ لا يفتتحه المدرِّس بعبارة: افتحوا دفاتركم،
بل يبادر طلاَّبه بطرح الأسئلة أو حتى بعرض ما لديهم، قبل أن يأتي دور
المعلِّم.
مدرسةٌ تحمل مفهومًا جديدًا للصَّفِّ وللسَّنة الدِّراسيَّة، فأن يكون
الطالب في الشُّعبة الثانية في الصَّف العاشر (مثلاً) لا يعني (دومًا)
أنَّه موجودٌ بالضرورة في مكانٍ معيَّن في وقتٍ معيَّن.
مدرسةٌ يجد كلُّ تلميذ وطالبٍ فيها بدائل مختلفة لما يمكن أن يقوم به
في وقتٍ أو في آخر من اليوم المدرسيِّ، فما كلُّ الطُّلاَّب مجبرون على
حضور برنامجٍ واحدٍ بإيقاعٍ واحد يتكرَّر كلَّ أسبوع.
مدرسةٌ تنطلق من مناهج موضوعة، شرط أن تكون مناهج مرنة وطيِّعة، وأن
تشكِّل مجالاً رحبًا للتلاميذ كي يبحثوا فيها عن إجاباتٍ لتساؤلاتهم،
لا معلومات عليهم حفظها وترديدها... ومناهج تتيح للمعلِّمين فرص
الإبداع بدل أن تحدَّهم وتحصرهم مع التلاميذ في مجالات ضيِّقة لا يمكن
الخروج منها ولا عنها.
مدرسةٌ لا تعاقب التلميذ أو الطَّالب إذا تأخَّر صباحًا، لأنَّ
التَّأخُّر سيكون هو العقوبة.. لأنَّ الطلاَّب سيسعون بفرح إلى المدرسة
كلَّ يوم، دون أن يدفعهم صراخ والدة أو خوفٌ من الوالد، ودون أن تخطر
ببالهم فكرة عقابٍ بسبب تأخُّر، اللهمُّ إلاَّ ما سيفوتهم إن
تأخَّروا..
مدرسةٌ تشبه، مع بقائها مدرسة، مجموعةً كبيرةً من الأندية المختلفة
التي يختار كلُّ طالبٍ من طلاَّبها ما يمارس فيه أكثر من غيره، مع وجود
حدٍّ مناسب من نشاطاتٍ أساسيَّة تُطلَب من الجميع.
لن أدخل في تفاصيل أو تصوُّراتٍ أكثر تحديدًا. لقد بدأت حقيقةً بذلك
لكنني تراجعت... لأنَّني اكتشفت: أنَّ مدرسة المستقبل، كما أرجوها
لأحفادي على الأقلِّ، فيها الكثير من الحياة، بحيث يمكن أن تسيء إليها
أي محاولةٍ لرسمها في صورةٍ ثابتة.
*** *** ***