التصوف والفلسفة

 

معين رومية

 

إذا كان الحسُّ الديني يظهر في أعلى صوره عند كبار المتصوفين، فما هي حقيقة التصوف؟ وما هي هذه التجربة الصوفية التي تنبثق في ثقافات وأديان مختلفة عبر العصور؟

يشرِّح ولتر ستيس في كتابه التصوف والفلسفة ماهية التصوف مقدمًا دراسة فلسفية نسقية نادرة عن التصوف، وهدفه الأساسي الإجابة على السؤال التالي: ما أثر التجربة الصوفية على أكثر مشكلات الفلسفة أهمية مثل طبيعة الوعي وفلسفة المنطق ووظائف اللغة ودعوى الخلود وطبيعة الإلزام الخلقي ومصادره؟

في البداية يعرض المؤلف افتراضاته المسبقة للبحث. فالتصوف له قيمة خاصة في تاريخ الفكر البشري وهو بالتالي جدير بالدراسة، ثم إن من حق الفيلسوف العقلاني أن يسائل التجربة الصوفية من خارجها، كما أن المبدأ الطبيعي الذي يقول بسيطرة القوانين العلمية على الطبيعة لا يتناقض مع الإيمان بحقيقة مطلقة يحاول المتصوف الوصول إليها بطرقه الخاصة. وبعد أن يستبعد الزعم بأن العقاقير أو بعض النباتات قادرة على إحداث التجربة الصوفية، يفرق بين التجربة بذاتها وهي واحدة عند المتصوفة على اختلافهم، والتأويل الذي يقدم لها باعتباره إضافة عقلية إلى التجربة الصوفية ويتأثر بالخصائص الثقافية في محاولة شرحها وفهمها. والفرض الأخير يلزم فيه المؤلف نفسه بأن تكون الشواهد شاملة للتجارب الصوفية عند الأمم والأديان المختلفة وذلك كي تكون الأحكام جديرة بالثقة.

في الفصل التالي يبحث المؤلف في وجود محور كلي عام يميز التجارب الصوفية على اختلافها وبعد أن يستبعد منها ظواهر مثل الرؤى والأصوات وضروب الانفعال العنيف، يثبت لها مجموعة من الخصائص المشتركة مثل: الشعور بالغبطة أو النشوة، والإحساس بحقيقة واقعية ما، والشعور بالقداسة، وانطواء التجربة على مفارقة أو تناقض، ثم زعم المتصوف أن التجربة لا يمكن وصفها. لكن الخاصية الجوهرية أو النواة تكمن في الوعي الموحِّد أو الرؤية الموحِّدة للأشياء التي تأخذ شكل توحيد الكثرة الحسية في واحد وهذه هي التجربة الصوفية الانبساطية، أو طمس الكثرة حتى لا يبقى سوى الوحدة الفارغة الخالية وهذه هي التجربة الصوفية الانطوائية.

هنا يسأل المؤلف: هل ما تكشف عنه التجربة الصوفية بنوعيها هو واقع لا يمكن للناس العاديين الوصول إليه، أي هل ثمة موضوعية ما في هذه التجربة؟ يذهب المؤلف إلى أن إجماع الآراء واتفاقها ليس دليلاً كافيًا على الموضوعية، فقد يرى كل من يتناول جرعة من نبات السانتونين الأشياء مصبوغة بالأصفر ومع ذلك فليس هذا دليلاً على أن الأشياء في حقيقتها صفراء. إن المعيار المطلق للموضوعية برأي المؤلف هو الاطراد أو الترتيب وهذا ليس متوافرًا في التجربة الصوفية، ولكننا من جهة أخرى لا نستطيع وصفها بأنها ذاتية فهي غير مشتتة وغير فوضوية وليست خارقة لقوانين الطبيعة كما هي الأحلام والتخيلات. وإذن، ليست التجربة الصوفية موضوعية ولا ذاتية بل تتجاوز الذاتية وتعلو عليها وهذا العلو هو السبب الذي يجعل الصوفي على يقين مطلق من حقيقتها.

ولمَّا كان الوعي الصوفي في صورته الأكمل هو وعي موحد أو تجربة مباشرة بالواحد أو بالذات الكلية أو بالله فهذا يستدعي دراسة العلاقة بين الله والعالم فيناقش المؤلف نظريات وحدة الوجود والثنائية والواحدية ويعتبر أن وحدة الوجود تعتمد على مبدأ الهوية في الاختلاف وتضم في داخلها النظريتين الباقيتين فالتركيز على الهوية يعطينا مذهب الواحدية والتركيز على الاختلاف يعطينا مذهب الثنائية.

التصوف والمنطق واللغة

ينطوي مبدأ الهوية في الاختلاف على مفارقة باعتبار المنطق الصوري وقوانينه الثلاثة (الهوية، عدم التناقض، الثالث المرفوع)، مثلها مثل المفارقات الأخرى للتصوف كفناء الذات ودوام وجودها، أو تجربة النور الذي هو أيضًا ظلام أو غيرها مما يرد في أقوال المتصوفة وتعابيرهم، وهي تعبر عن تناقضات منطقية واضحة ثمة نظريات عديدة تحاول حلها. إحدى هذه النظريات ترى أن المفارقات هي "حيل بلاغية" يستخدم فيها المتصوف الجمال الشعري والإيقاع المطرد واللغة المنمقة للتأثير في الآخرين. وثمة نظرية الوصف الخطأ التي ترى أن المفارقات هي وصف خاطئ أو سيء للتجربة، فيما تقول نظرية الوضع المزدوج أن التناقض يزول إذا بيَّنا أن الكلمتين المتناقضتين في المفارقة إنما تصفان جانبين مختلفين لشيء واحد. وتذهب نظرية الالتباس إلى أن التناقضات ترجع إلى استخدام لفظ واحد بمعنيين مختلفين. لكن المؤلف يفند هذه النظريات ويرى أن التجربة الصوفية ومفارقاتها هي فعلاً غير منطقية لكن هذا لا يعني أنها غير معقولة فهي في النهاية تجربة واقعية مرَّ بها آلاف الأشخاص عبر العصور، ومن ثم يقدم حله الخاص الذي يقول بأن قوانين المنطق هي قوانين وعينا المألوف وتجاربنا اليومية المعتادة التي تتميز بالكثرة أما التصوف فيعتمد على فكرة الواحد أو الوحدة التي لا تمايز ولا كثرة فيها، ولهذا السبب لا ينطبق المنطق عليها ومن هنا تنشأ المفارقات.

واعتمادًا على هذه التفرقة بين الوعي الصوفي والوعي المألوف يعالج ستيس موضوع التصوف واللغة ويفسر مشكلة مالا يمكن وصفه أو التعبير عنه عند المتصوف، فالكلمات باعتبارها تصورات عقلية تصاغ منطقيًا تعتمد على تصنيف وفرز الكثرة وبالتالي لا يمكن لها أن تناسب أو تطابق تجربة قوامها الشعور بالوحدة المطلقة. ثم يفرق المؤلف بين استخدام التصورات (أي الكلمات) أثناء التجربة وهذا متعذر، واستخدامها بعد التجربة بالاعتماد على التذكر وهذا ممكن وهو الذي يشكل أقوال وعبارات المتصوفين.

التصوف والخلود

يرى المؤلف في الفصل الأخير أن التصوف لا يقدم أي دليل على البقاء بعد الموت، أما الإحساس بالخلود الذي هو سمة شائعة بين جميع التجارب الصوفية فيمكن قبوله على أنه شعور بالذوبان أو الاندماج في الواحد اللامتناهي وليس دوامًا في الزمان المستمر كما هو مطروح في فكرة الخلود.

إن التصوف ليس هروبًا من مسؤوليات الحياة وواجباتها الأخلاقية طمعًا بالسعادة الفردية كما يتهمه الكثيرون، بل إن الوعي الصوفي الذي يجد الكل واحدًا في الذات الكلية يتجلى أخلاقيًا في الحب الذي يشكل الأساس الوحيد والوصية الوحيدة للأخلاق الصوفية.

معلومات عن الكتاب
العنوان: التصوف والفلسفة

المؤلف: ولتر ستيس
ترجمة: د. إمام عبد الفتاح إمام
الناشر: مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999
الصفحات: 412 صفحة من القطع الكبير

*** *** ***

منارات صوفية

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني