من أجل استعادة
"بدويّ الجبل"
علاء الدين عبد
المولى
قبل
أيِّ كلام عن "بدوي الجبل/محمد سليمان الأحمد"، لابدَّ لي من
توجيه الإدانة للنقد العربي الذي لم يتنازل ويفسح المجال
المناسب لهذا الشاعر في نصوص الدارسين والأكاديميِّين، مع
معرفة الجميع المضمرة بما يعنيه هذا الشاعر من قيمةٍ فنيَّةٍ
بارزة في تاريخ الشعر العربي. وقد اكتَفَتْ بعضُ الدراسات على
قلَّتها بتصنيف الشاعر ضمن المدرسة "الكلاسيكية الجديدة"، أو
الحديث عن "موضوعات" الشاعر ومواقفه السياسية والقومية، التي
كان بعضُها سببًا مباشرًا في التَّعتيم على أهمية هذا الشاعر،
أو إهماله!
ومن اللافت للنَّظر أنَّ أبرزَ مَن الْتقَطَ أهمية الشَّاعر في
سياق الشعر العربيِّ، كان شاعرًا حديثًا، معروفًا بتجريبيَّته
الدائمة وريادته في تحديث الشِّعر العربيِّ، وهو "أدونيس"،
وذلك في أكثر من مكان. فهو القائل عنه:
وكان
بدوي الجبل الصَّدرَ الذي يحتضن جسد الشعر العربيِّ، ويعيد
تكوينَهُ في اللغة وبها، أنيقًا، مترفًا، بهيًّا. عرفتُ في
شعره كيف تكونُ الذاكرةُ ذِكْرًا، وكيف تتداخل فيها أصواتُ
الشعراء القدامى وتتآلف، قريبةً بعيدة، في صوتٍ واحد. وعرفت
فيه كيف يصير الماضي حاضرًا، دون أن يلبس الثَّاني ثوب
الأوَّل، ودون أن يدير الأوَّل ظهره للثَّاني. وعرفت كيف يكونُ
الشعر سلكًا ينتظم فيه العقلُ والقلبُ، الغضب والحبُّ، المرارة
والطمأنينة. كان بدوي الجبل جبلاً، لكنَّه كان في الوقت نفسه
موجًا.
إنَّ موقف "أدونيس" من بدوي الجبل يجعلنا نتساءل أكثر عمَّا
اكتشفه الشاعر "الحديث" في تجربة شاعرٍ يصنَّفُ على أنه
"كلاسيكيٌّ". فهذا الموقفُ صادرٌ عن قامة شعريَّةٍ بارزة ولها
فرادتُها في النِّتاح الشعري الحديث عربيًّا وعالميًّا.
والأساسيُّ هنا علاقةٌ قائمةٌ بين الحداثة وبدوي الجبل. وذلك
على الرغم ممَّا يبدو ظاهريًّا من تضادٍّ بين ما يمثِّلهُ كلٌّ
من الموقعين. وهذا بالضبط ما نحاول تحديد الصياغة النقدية له
هنا.
فهل كتابةُ بدوي الجبل ليست حديثةً؟ وإذا لم تكن حديثة فهل هي
تقليديَّة؟ في الحقيقة تتأبىَّ كتابة بدوي الجبل على هذين
التَّصنيفين كما هما في واقعهما المباشر. فهو ليس شاعرًا
حديثًا بمقدار ما هو ليس تقليديًّا. وإنَّ "كلاسيكيَّته" لا
تدخل في أي وجهٍ من وجوهها في خانة التَّقليد. لأنه لا يكفي أن
يكون نظامُ الوزن الخليليِّ أداة الشاعر، حتَّى نحشره في هذه
الخانة كيفما اتَّفق. فالتقليديَّة حكمٌ فنِّيٌّ يخصُ المستوى
الإبداعيَّ للشِّعر، سواء أكان موزونًا على بحر الخليل أم على
نظام التَّفعيلة. ثمَّ إن شعر بدوي الجبل يخلو في واقع الحال
من أي مبرِّر مهمٍّ يتيح لنا وسمَهُ بالتَّقليدي. وهذا أوَّل
ما يجب تحديدُهُ لكي نتفهَّم قيمة البدوي في سياق المدرسة
الإحيائيَّة التي اشتغلت في استنهاض أسس الشعر العربي القديم،
وكان كثيرٌ من رموز هذه المدرسة ذا علاقةٍ تقليديَّة مع
الذاكرة الشعرية العربيَّة، بحيث كتبوا شعرًا استنادًا إلى هذه
الذاكرة المحتشدة بتقنيَّات ووسائل تعبيرية مستقرَّة عبر قرون،
لم يستطيعوا تثويرها ولا الخروج عليها، حتَّى في سياقها ذاته،
أي أنهم ارتموا في حضن هذه الذاكرة واستكانوا لها، معتقدين
بأنها هي التي ستحدِّد لهم هويَّتهم المطلقة. وممَّا اختلف فيه
البدويُّ عنهم، أنه أشعل النَّار في جوف هذه الذاكرة ولم
يجعلها المنطلقَ النهائيَّ والدَّائري له، بحيث يبقى يدور فيها
ويدور. وليس صحيحًا أنَّه يمكن إحالة شعر بدوي الجبل إلى أسلوب
أحدٍ من القدامى مهما كان صاحب هذا الأسلوب. ومن المُجدي أن
نتفحَّص ما يمكن أن يكون أصداء للقصيدة العربيَّة القديمة في
شعر بدوي الجبل بأسلوبه ولغته، على أساسٍ من هذه الملاحظات
التي ارتأينا أن تكون مدخلاً إلى قراءة تجربة هذا الشاعر من
جديدٍ، لنتلمَّس مقدار أهمَّيته لنا.
لقد كان التراث الشعري واللُّغويُّ عالمًا قائمًا بذاته في
المناخ الثقافي الذي ولد فيه البدويُّ وتشكلَّت شخصيَّتهُ من
خلاله. فهو صدر عن هذا العالم مع كامل الإحاطة بقيمته، فانتمى
إليه بحكم التكوين والتَّأسيس. لكنَّ هذا الانتماء كان انتماءً
إلى ما هو ديناميكيٌّ وحيويٌّ في قلب هذا التراث، وما هو بؤرٌ
إبداعيةٌ مهمَّةٌ. كان انتماءً يضع يده على جمال اللغة العربية
على أنَّها إمكانيَّاتٌ تعبيريَّةٌ وجماليَّةٌ غير مستنفدة،
ولم ينغلق مجالُها الحيويُّ على يد شعراء التُّراث. لهذا
فللشَّاعر الحقُّ في السِّباحة في بحر هذه اللغة على طريقته،
وعلى حجم موهبته الفرديَّةِ. من هنا كان البدويُّ عندما يجدِّد
في طرق التعبير، فإنه كان تجديدَ العارف المتفقِّه في أعماق
هذه اللُّغة. فكان يؤصِّلُ تجربتَهُ من جهة، وينطلق حسب بوصلته
الخاصَّة في داخله من جهة ثانية. لذا فاللغة عند بدوي الجبل
لغة متحرِّكةٌ متدفقةٌ، أو قُلْ هي عجينةٌ من الأسرار يحرِّكها
بيديه كيفما شاء، ويمنحها الأشكال التي يراها موائمةً لعوالمه
الخاصةِ. لم تكن اللغة – وهي عنصرٌ أوَّليٌّ مهمٌّ في تقييمنا
لتجربة أيِّ شاعر – لغةَ النصوص ولا المعاجم، بل لغة تخرُج من
تبصرٍّ في أغوار تاريخها وباطنها، لكي تحتضنَ العالم وتستوعبه
وتسميه من جديد، دون أن يضطرَّ الشاعر – من أجل إثبات معرفته
بتاريخية هذه اللغة – إلى الاتكاء على القاموس كحالة ثقافيةٍ
جامدة تنتهي فيها دلالاتُ العالم وإشاراتُه ورموزه، وتُختَصَرُ
أبعاده إلى كلماتٍ تحدِّد المعنى وتؤطِّره تأطيرًا سرمديًّا.
إن بدوي الجبل من الشعراء الذين يمارسون عملية خلق اللغة،
وإعادة الاعتبار لطاقتها. ولا يمكن الوصول إلى هذه القناعة في
شعره إلا من خلال قراءةٍ عُمْقيَّةٍ لهذا الشِّعر. وهو بهذه
الميزة يؤكِّد أنَّ أهميَّة قصيدة البيت الواحد أو عدم أهميتها
لا تكمن في أحشاء هذه القصيدة بصورةٍ قبْليَّة مسبقة، بل هي
موجودة كمشكلة تخصُّ قدرةَ الشاعر وأدواته ومستواه. ومن
المهمِّ هنا التأكيد على أنَّ هذه الميزة لم تكن لتتأتىَّ
لبدوي الجبل لولا أنه كان يشكِّل في مسار الشِّعر العربيِّ
حالةً مزدوجةً في معناها، فهو من جهة استيعابٌ وتمثُّلٌ للشعر
العربيِّ القديم، ومن جهةٍ ثانية هو خروجٌ نحوَ ما هو مغايرٌ.
وبلغةٍ أخرى، كان يشكِّل اتَّصالاً مع التُّراث وانفصالاً عنه
في اللحظة نفسها، وذلك في لحظةٍ تاريخيةٍ كانت القصيدةُ
العربيةُ فيها تبحثُ عن ملامحها وهويَّتها. وبلغة المجاز كان
بدوي الجبل شجرةً أصلُها ثابتٌ في أرض التُّراث وفَرْعُها كان
يشقُّ الهواء بحريَّةٍ تدلُّ على أن لهذه الشجرة اسمًا خاصًّا
بها وحدها ولم تكن أبدًا شجرةً تشبه قطيع الأشجار في الغابة.
وفي هذا الإطار يمكن فهمُ رأي أدونيس في مكان آخر حيث يقول:
في
هذا ما يؤسِّسُ عظمة بدوي الجبل. فأنت كشاعر لا تقدر، سواء
كنتَ، شعريًّا، معه أو عليه، إلاَّ أن تشهد لدوره الكبير
وقيمته الفريدة. ذلك أنَّه القطيعةُ أيضًا، فيما هو الوصل
بامتياز. ففي نتاجه ما يكتنز المفارقةَ الإبداعيةَ: لقد ختَمَ
تاريخًا شعريًّا بكامله، وهو في الوقت نفسه، وبالقُّوة نفسها،
يفتَحُ للشعر العربي أن ينعطف، فيبدأ بنبضٍ آخر، تاريخًا آخر.
لقد كان البدويُّ مدركًا من خلال شعره، بأنه شاعرٌ سلَّمتْ له
اللُّغة زمامها، فسيطر عليها وقادها بترفٍ وأناقةٍ وعظمةٍ.
ممَّا وفَّر له أن ينتج قصيدة غير خاضعةٍ لماضويَّة اللغة ولا
واقعة تحت سلطتها، وكذلك ليست نازلة إلى المستوى العاديِّ.
فيمكن بكل وضوح أن نقرأ عند بدوي الجبل لغةً متعاليةً على
الواقع، تعاليًا بمسافةٍ تتطلَّبها شروط الممارسة الإبداعية.
وتعاليها وضَعَ الشاعر في موقف مَنْ يعاني في خلق قصيدته على
أنها شأنٌ إلهيٌّ جليلٌ. لهذا كثيرًا ما نراه يرفع الأشياء
والمواضيع إلى مرتبة "المثال" المفارِقِ للواقع، أو، بتعبير
أدقٍّ، إلى "المطلق". فهو من جهة كونه خلاَّقًا للُّغة،
وباللُّغة، لا يقف في منتصف الطريق، ولا يقبل بأنصاف الحلول.
يقول:
يا
وحشةَ الكونِ لولا لحنُ سامرِنا
على النّديِّ المصفّى من حميّانا
نشاركُ اللهَ – جَلَّ اللهُ – قدرتَهُ
ولا نضيقُ بها خَلْقًا وإتقـانا
وأين
إنسانهُ المصنوع من حمأٍ
ممَّنْ خلقناه أطيابـًا وألحـانا
لولا
جلا حسنَهُ إنسانُ قدرتنا
لوَدَّ جبريلُ لو صغناه إنسانا
وأيُّ
نُعمى نرجّيها لدى بشرٍ
والله قرّبَنا منه وأدنـانـا
وفي مكان آخر يرى أنه المترَفُ الأنيقُ الذي صاغ الرَّحمنُ
فنَّهُ. إن البدويَّ مسكونٌ بهاجس الخَلق دائمًا، والخالقُ لا
يرضى لمخلوقاته إلاَّ أحسن صورة وأعظمها. على هذا نزعم أنَّه
ذو شعرٍ "جليل". ولا يمكن أن تكون علاقة القارئ بشعرٍ كهذا
محايدةٍ. إنه شعرٌ يدهش ويُبهرُ، ويقذفُ الرَّوع في قلب قارئه
لهذا الجلال المهيب الذي يتميَّز به عالمُهُ الشِّعريُّ. وكلُّ
هذا يعني أنَّ لحظة استقبال القارئ لشعره هي لحظةٌ مليئةٌ
بالجمال. من هنا نخلصُ إلى أنَّ شعره ذو (جلالٍ) من جهة،
و(جمالٍ) من جهة ثانية. وهاتان الصِّفتان في منظور المعايير
النَّقديَّة المؤسسة على علم الجمال، هما صفتان لازمتان ولا
غنى لأيِّ نصٍّ شعريٍّ عظيم عنهما. وعظمةُ النصِّ الشعري لا
تتحدَّد كقيمةٍ معطاةٍ من خارج، أي لا يلعب الشَّكلُ الخارجيُّ
للنصِّ دورًا حاسمًا في تحديدها، وإنَّما هي صفةٌ تتشكَّل من
داخل فضاء النصِّ وقدراته الكامنة ومحمولاتهِ الغنيَّة، وما
ينطوي عليه من إقناع فنِّيٍّ لاستثارة كوامن القارئ ومباهجه
وآلامه. فهو نصٌّ لا تُسْتوفى أبعادُهُ من القراءة الأولى. وقد
أثبت كلُّ النصوص العظيمة على مرِّ العصور أنه لا يمكن قراءتها
مرةً واحدةً ولا مرَّتين ولا ثلاثًا. وهكذا يندرج شعر بدوي
الجبل في هذا الحكم.
هل وصلنا إلى استكمال مفهومنا عن شعر البدويِّ؟ لا شكَّ أننا
إذا أعدنا تحليل مفاهيم الجليل والجميل والعظيم، نكونُ قد
وصلنا إلى ما نريده بمفهوم الكلاسيكية التي نريد أن نعطيها
بعدًا آخر عند بدوي الجبل. إنَّ كلَّ نصٍّ تلك صفاتُهُ أصبح
حكمًا في منزلة الكلاسيكيِّ من جهة أنَّ الكلاسيكي صفةٌ
لارتقاء النَّصِّ وفرادته وما يحمله من مبرِّرات الخلود. وهكذا
يتبين لدينا أن بدوي الجبل يدور في فلك الإبداع الكلاسيكي
للأمَّة. هذا الإبداع الذي يحسم علاقتَهُ مع الرَّاهن، ولا
يتماهى مع شروطه الزائلة، لكي يدخل في رهانٍ مع الزَّمن،
ولعبةٍ مع الفناء. وبمقدار ما يتغلَّب النصُّ على الفناء ويكسب
عنصر الزَّمن، يكونُ نصًّا خالدًا، أي كلاسيكيًّا!
الكلاسيكي بهذا المعنى يدخلُ في رصيدِ وجدان الأمَّة، ويقدِّم
أنموذجًا يُحتذى سواء أكان شكلُه خليليًّا أم حديثًا. وهكذا
فالحداثةُ ليست رتبةً تُمنَحُ عشوائيًّا، بل هي وسامٌ لا
يُعلَّقُ إلاَّ على الصَّدر الذي يستحقُّه. والصدور قليلةٌ،
وبدوي الجبل واحدٌ منها.
*** *** ***