استعادة تاريخ اللاعنف
ماسييج برثوفسكي
إن عنف القلة لا يصمد في وجه سعي الكثرة نحو الحرية
الرئيس الألماني السابق كريستيان وولف، متحدثًا في ذكرى بناء جدار
برلين، 13/08/2011
ينظر
معظم الناس إلى الروايات التاريخية ليفهموا كيفية نشأة أممهم ونضالها
في سبيل حريتها. وعادةً ما تتحدث مثل هذه التفسيرات - سواء وجدت في
الكتب أو انتقلت عبر الاحتفالات العامة أو إحياء الذكريات الوطنية - عن
معارك عنيفة أو عصيانٍ مسلحٍ أو انتصاراتٍ وهزائم في الحروب أو عن
أبطال صرعى في الصراعات المسلحة. حيث تدعم هذه الروايات الاعتقاد
الشائع بأن العنف هو السلاح الذي لا يمكن الاستغناء عنه لنيل التحرر من
الخضوع للأجنبي، بيد أنها تغفل قوة المقاومة اللاعنفية التي يقودها
المدنيون والدور التاريخي الذي لعبته في الكثير من المساعي الوطنية نحو
التحرر.
يسلط هذا الكتاب الضوء على وجود تنظيمٍ لاعنفي وعلى أثر هذا التنظيم،
إضافةً إلى أنه يشير إلى وجود مواجهاتٍ لاعنفية لم تكن ملحوظةً على
نحوٍ شائع. حيث يجادل الكتاب بأن عددًا من الكفاحات التاريخية في سبيل
تقرير المصير على الصعيد الوطني ربما لم تكن بالضرورة لتحظى بالنصر
أصلاً من خلال العنف. بل إن هذه الكفاحات شنَّت عبر طرقٍ متنوعةٍ من
المقاومة اللاعنفية بقيادةٍ ناس عاديين. علاوةً على ذلك وخلال عملية
فضِّ المقاومة المدنية كانت قوَّة الحشد اللاعنفي المقادة من قبل الشعب
من قاعدة الهرم إلى قمته هي التي شكلت الهويات الجمعية للأمم (أي
القومية) وصاغت المؤسسات والسلطات الوطنية الوليدة (أي الدولة). كانت
هذه العمليات حاسمةً بالنسبة للدولة القومية المستقلة - حيث كانت أكثر
حسمًا من التغيرات البنيوية أو الثورات العنفية التي سادت تاريخ
الكفاحات الثورية وبناء الأمم.
استعادة المقاومة المدنية
يكشف هذا الكتاب تواريخ غير معروفة، ولكنها مهمة، للمقاومة المدنية
إبان الكفاحات القومية الساعية نحو الحرية والمناهضة للهيمنة الأجنبية
في أنحاء العالم في السنوات المائتين السابقة. وغالبًا ما أسيء تفسير
هذه التواريخ أو مسحت تمامًا من الذاكرة الجمعية ودفنت تحت العنف الذي
كان ينال المديح على المستوى الوطني وتحت شعائر تمجيد الموت والأبطال
الشهداء والعصيان المسلَّح الرومانسي. يوضح هذا الكتاب، في استعادته
للقصص الخفية عن المقاومة المدنية التي تنضوي على أنواع متنوعة من
المواجهات المباشرة إضافةً إلى الصيغ الأكثر براعةً للصمود ورفض الخضوع
بلا هوادةٍ اليوم، كيف قوَّضت أعمال الناس العاديين سلطة قوى الهيمنة
الأجنبية وسيطرتها - من مستعمرين ومحتلين - وكذلك العملاء المحليين
لتلك القوى. وبالرغم من القمع الشديد، غالبًا ما ساعدت ذخيرة الفعل
اللاعنفي المجتمعات على الحفاظ على النسيج الاجتماعي والثقافي وتقويته
وبناء المؤسسات الاقتصادية والسياسية وتشكيل الهويات القومية وتمهيد
الطريق نحو الاستقلال. ينضوي هذا الكتاب في سرده على تحقيقٍ كشفي حول
رواياتٍ منسيةٍ أو مهملةٍ عن المقاومة المدنية، حيث يوضح كيف يتم توليد
معرفة الأحداث والعمليات التاريخية وتشويهها أو حتى أدلجتها لصالح
التأويلات المقادة بالعنف أو الهيكلية أو المتمحورة حول من يمسك
بمقاليد السلطة.
إن تمجيد العنف الذي يزخر به تاريخ الأمم، والطبيعة الذكورية لهذا
العنف الذي يمارسه الرجال، وكذلك النظرة إلى أن استقلال الدولة قد تأسس
إلى حدٍ كبيرٍ على العنف (وهي نظرة يدعمها احتكار الدولة للعنف كوسيلة
للحفاظ على ذلك الاستقلال) إضافةً إلى اهتمام الناس وتركيز الإعلام
(والمتمركزان على قصصٍ مثيرةٍ ومذهلةٍ عن العنف وعن الإنجازات البطولية
الفردية للأشخاص) كلها تغضُّ الطَّرف عن المقاومة الهادئة واللاعنفية
للملايين. وإن هذا النوع من الكفاح لا يلفت اهتمام عناوين الصحف ولا
يتغلغل في ذاكرة الشعوب ما لم يثر ردًا من قبل النظام، بل ردًا عنيفًا
على الأغلب.
لقد اعتمدت نتائج الكفاحات العنيفة ظاهريًا مع الخصوم الأجانب إلى حدٍ
كبيرٍ على استخدام الوسائل السياسية اللاعنفية - بدلاً من الأسلحة. حيث
منيت إمبراطوريات ودول قوية ماديًا وعسكريًا بالهزيمة على أيدي خصومٍ
ضعيفي أو معدومي التسليح نهائيًا، وليس ذلك لأنهم واجهوا قوةً عنيفةً
بصورةٍ لا تقاوم، بل لأن الأمم وجدت مصدرًا آخر للقوة، ألا وهو التعبئة
الإجمالية للسكَّان عبر أدواتٍ سياسية وإدارية وإيديولوجية. وهكذا شكل
التنظيم السياسي المكوِّن الرئيسي في ثورات الشعوب، والذي ساعد الطرف
الأضعف عسكريًا على تحدِّي الأعداء الأقوياء بنجاح. تتضمن أمثلة ذلك،
من بين غيرها، الانقلابيين الأسبان ضد نابليون والثوار الصينيين ضد
الجيش الياباني وكذلك الثوار الفيتناميين الشماليين ضد الولايات
المتحدة وضد عملائها الجنوبيين. وقد خضعت الأدوات العسكرية في كل هذه
الصراعات التي يسودها العنف افتراضًا لكفاحٍ سياسيٍ أوسع نطاقًا من قبل
"عقول الناس العاديين وقلوبهم".
يعارض هذا الكتاب، من خلال استعادة قصص الأعمال اللاعنفية، التيار
الجامح من الآراء السائدة حول الكفاحات ضد الهيمنة الأجنبية والتي لا
تعترف بمساهمة المقاومة المدنية ولا تأخذ دورها بالحسبان.
السلطة والبنية والوكالة
تمثِّل دراسة المقاومة المدنية المعروضة هنا تحولاً نمطيًا في فهم
الكفاحات القومية وصنع الدولة القومية، حيث أنها تنأى عن التركيز
التقليدي على البنى والشروط والعمليات والقوة العسكرية والعنف والنخب
السياسية. يقارب هذا البحث المعرفة التاريخية بأسلوبٍ جديد، حيث يعترف
بأن القوة التي تشكِّل الأمم وتدفع مقاومتها تكمن في أفعال التحدِّي
المنظمة والهادفة للسكان العزل. وهو يعارض، من خلال فهم القوة السياسية
القائم على بديل اللادولة، الشريعة الويبرية الراسخة الخاصة بالسلطة
السياسية من قمة الهرم إلى قاعدته والتي تتسم بالمركزية والثبات
والمادية والمتمركزة حول مؤسسات النخبة. وبدلاً عن ذلك، يشدد منظور قوة
الشعب على هشاشة القوة السياسية وطبيعتها المشتتة وكذلك منشأها الخارج
عن نطاق الدولة إضافةً إلى وكالة الناس العاديين. وإن الحفاظ على
الأنظمة لا يتم عبر القوة المادية بما فيها آليات القسر فحسب، بل أيضًا
عبر إهمال عامة الشعب واللامبالاة بهم في المقام الأول. تَظْهِر قوة
الناس الساكنة عبر كسرٍ جمعي مفاجئٍ أو تدريجي لعصى الطاعة وعبر عصيانٍ
شامل. حيث تكتسب قوتها حسب المهاتما غاندي من الحقيقة القائلة بأن
"الزمرة الأقوى لا تقوى على الحكم دون تعاونٍ من الزمرة المحكومة".
يوضح هذا الكتاب حالاتٍ متعددةً لتعبئة قوة الوكالة في الكفاحات
الساعية للتحرر. أولاً؛ ثمَّة موارد للقوة تفضي إلى ظهور المقاومة
وتسييرها، وتكمن هذه الموارد في الثقافة، وهي تستخدم من قبل الناس
المحليين لمقاومة الإخضاع. وهي تلجأ إلى الاستعارة من الرموز والشعائر
والعادات القائمة بغية ابتكار إستراتيجيات وتكتيكات أكثر فعاليةً ضد
المعتدي وخاصةً إن كان أجنبيًا. حيث تصبح الاحتفالات الدينية أو
الثقافية مناسباتٍ للاجتماع والتنظيم ضمن حيزٍ لا يسيطر عليه النظام
على نحو كامل. وأثناء انخراط الناس في المقاومة المشحونة ثقافيًا فإنهم
يخلقون أيضًا أنواعًا جديدةً من الفهم والمعاني والهويات، والتي تدعم
بدورها وحدة الثلة المجتمعة وصمودها، وتؤدي إلى تعبئةِ جماعاتٍ أخرى
وتنشر الوعي وتساعد في عملية بناء الأمة. ثانيًا؛ يمتلك الناس قوى
تفعيل مؤسسات اللادولة الجديدة أو المؤسسات المدنية القائمة أو خلق هذه
المؤسسات (كالجماعات الدينية والمنظمات العمالية والمؤسسات التعليمية
ومؤسسات المجتمع المدني). تنقلب عمليات بناء البنية هذه إلى سلاحٍ ماضٍ
بيد الناس العاديين في شنِّ كفاحٍ طويل الأمد في سبيل تحوِّل مجتمعهم
وتحرره في نهاية المطاف من سيطرة المعتدي الأجنبي - غالبًا بدون التحدي
المباشر لهذا المعتدي أو إثارة حفيظته دون داعٍ ويستمر ذلك حتى بلوغ
الحركة لحظة الاختيار الخاصة بها. وبالرغم من أن هذا الكتاب يؤكد دور
الوكالة وتأثيرها، فإنه لا يغفل الهياكل، كونها يمكن أن تشكل جزءًا
حاسمًا من الإستراتيجيات اللاعنفية. ومع ذلك تبقى الهياكل مهمةً طالما
لا تؤخذ أفعال الوكالة بالحسبان. وفي نفس الوقت فإن المقاومة المدنية
ومساراتها وحتى نتائجها ليست ظرفية. بل إنها تقاد وتتشكَّل من خلال
قرارات الناس وأفعالهم.
التحقيقات الرئيسة في هذا الكتاب
تلقي دراسات الحالة في هذا الإصدار الضوء على الكثير من الأسئلة
الرئيسية، ومنها: ما أشكال التكتيكات اللاعنفية التي استخدمت في
الكفاحات الوطنية؟ ما الذي أفضى إلى نجاح بعض الحملات اللاعنفية بالرغم
من الشروط غير المواتية وما الذي أفضى إلى فشل غيرها أو تحقيقها نجاحًا
جزئيًا فحسب؟ ما كان أثر أفعال المقاومة المدنية المتنوعة خلال الفض
اللاحق للنزاعات وما كانت نتائجها النهائية؟ كيف أثرت الأفعال
اللاعنفية في الأمم أو في هوياتها الجمعية أو في المؤسسات الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية إبان الكفاحات الوطنية؟ هل كان للمقاومة المدنية
نتائج طويلة الأمد على التطور التاريخي لهذه البلدان؟ وأخيرًا لماذا
تهمل السجلات غالبًا وجود دورٍ للمقاومة المدنية؟
تجيب دراسات الحالة على هذه الأسئلة عبر تعريف أحداثٍ وحقبٍ وحملاتٍ
محددةٍ للمقاومة اللاعنفية والتي شكلت في نقاطٍ زمنيةٍ محددة مكونًا
مسيطرًا أو وحيدًا للكفاح الوطني الساعي للتحرر، كما أنها تشجع أيضًا
على إثارة حوارٍ جديدٍ عن طبيعة المقاومة اللاعنفية ومكانها ودورها في
تشكيل الدولة والأمة.
المقاومة المدنية كخلافٍ سياسي لاعنفي
يستخدم هذا الكتاب مصطلحات المقاومة المدنية، والمقاومة اللاعنفية،
والكفاح اللاعنفي للإشارة إلى ذات الظاهرة الأساسية التي تعرف على أنها
صيغة من الصراع السياسي يختارها الناس العاديون للوقوف في وجه البنى
المعتدية، سواء أكانت احتلالاً أم استعمارًا أم ممارساتٍ ظالمةً من قبل
الحكومة، مع استخدام تكتيكاتٍ متنوعةٍ للفعل اللاعنفي كالإضرابات
والمقاطعة والاحتجاجات والعصيان المدني. ولا تشمل هذه الأساليب الأربعة
أفعال المواجهة العلنية، بل إنها تشمل أيضًا الصيغ الأكثر براعةً
للمقاومة الثقافية أو أعمال بناء الجمعيات المستقلة والمؤسسات الموازية
اللاسياسية ظاهريًا. وسواء كانت صيغ المقاومة اللاعنفية علنيةً أم خفية
فإنها بمثابة تعبيرٍ شعبيٍّ عن الإرادة الجمعية للشعب بالكفِّ عن
التعاون مع السلطات القائمة. حيث يمكن للناس أن يرفضوا اتباع النظام
القائم على الإكراه أو المنضوي على الأكاذيب والخداع وبذلك فإنهم
يرفعون عن قصد كلفة الرقابة الرسمية. كما يمكنهم أيضًا تشجيع
الانقسامات في الأركان الداعمة للمعتدي (في صفوف قوى الأمن والجيش على
سبيل المثال) واستغلال نتائج العنف القمعي ضد المقاومين العزَّل عبر
تحويلها إلى مزيَّةٍ إستراتيجية تصبُّ في مصلحة شنِّ حركةٍ ما.
يأتي مفهوم المقاومة المدنية والمرتبط بالطبيعة اللاعنفية بمثابة صيغةٍ
منفصلةٍ للمنافسة السياسية. ويعود ذلك إلى أنَّ المبادرين بالفعل
يخوضون معركةً أفكارٍ تنشد فيها الحركة الفوز بالشرعية الشعبية بينما
تكافح السلطات للحفاظ على ولاء قوى الأمن وحياد السكان أو لامبالاتهم.
إن الأفكار السببية الكامنة وراء المقاومة المدنية هي أفكار وتعابير عن
واحدٍ أو أكثر من المظالم والطلبات الملموسة يُنصُّ عنها في مقالاتٍ
وكتيباتٍ ونشراتٍ وخطبٍ ومواعظ أو تبثها وسائل الإعلام الاجتماعية أو
غيرها من وسائل الاتصال. وإن الأفكار والحركات التي تروِّج لها قد تحشد
تأييدًا شعبيًا شاملاً، لكنها تواجه أيضًا قمعًا وحشيًا بما في ذلك
القمع الجسدي من قبل الجيش أو أجهزة النظام الأمنية. وفي هذا السياق،
واقتباسًا لكتابات بعض الكتَّاب في هذا الإصدار، يتبقى أن نرى إن كان
يمكن للمقاوم اللاعنفي كالكاتب أو الرسام أن يكون أقوى من الطاغية الذي
يرزح السكان تحت نيره.
صياغة النسيج الوطني
يمر بناء الدولة المستقلة من خلال الأفعال الخلاقة المتنوعة الهادفة
إلى مقاومة الهيمنة الأجنبية بمشاقٍّ كبيرة، سواء كانت هذه الأفعال
سريةً وصامتةً أم صريحةً وعلنية مع الاستثمار البارع للحيز القانوني
والسياسي المتاح والمتوفر. حيث تخلق أعمال العصيان المتعددة والمتكررة
التي تتسم بأنها تشاركية وبنَّاءة يمارسها ناس عاديون وتعيد خلق بنيةٍ
من الممارسات والمعايير الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية
البديلة التي تنتشر عبر البلاد، وغالبًا ما تترافق وتدعم صيغًا أكثر
مباشرةً وقسريةً من التكتيكات اللاعنفية.
تشترط ممارسة المقاومة المدنية أيضًا، إلى جانب بناء الدولة قوةً
تحولية أخرى؛ ألا وهي إعادة تصوير المجتمعات وتوعيتها إلى قيمها
المشتركة وتاريخها الواحد وفهمها الجمعي، إضافةً إلى توحيد الرؤية
الخاصة بجذورها الثقافية واللغوية والاجتماعية والسياسية فضلاً عن
الحياة والمصير الجمعيين ضمن مساحةٍ عامةٍ معرَّفة. وبذلك فإن المقاومة
المدنية هي وسيلة تساعد في تطوير شعور الناس بالتضامن وتمسكهم بالخط
الزمني جديد النشأة من الذكريات والعلاقات والأحداث التي تصوغ نسيج
الأمة المتصوَّرة، ولا تكون هذه المقاومة واضحةً بالضرورة للمحتل
الأجنبي أو مفهومةً من قبل أولئك الذين يمارسونها.
الكفاحات التحررية من خلال حملات المقاومة المدنية
يبحث هذا الكتاب في حالاتٍ يمكن تصنيفها على أنها كفاحات تنشد التحرر
أو الحكم الذاتي، وتتضمن النضال في سبيل الاستقلال أو تقرير المصير
ومناوأة الاحتلال أو السيطرة الاستعمارية أو الهيمنة الأجنبية، وغالبًا
ما تتمثل الأخيرة بحكومة محليةٍ خاضعةٍ لمصالح خارجية. بخلاف ذلك، ربما
تشترك هذه الحالات في قضاياها (كحالات حشد الناس العزل وتحدي الأنظمة
القمعية والعنيفة) مع غيرها من الكفاحات المرتكزة على الحقوق أو حكم
القانون. ولكن هذين النوعين من الكفاح الذي يضم أيضًا الانتفاضات
الأخيرة في العالم العربي ضد الديكتاتورية يقعان خارج نطاق اهتمام هذا
الكتاب.
لم تكن كفاحات التحرر أو الحكم الذاتي التي شكلت المقاومة المدنية فيها
طريقةً مسيطرةً لشنِّ المقاومة مألوفةً عبر التاريخ. فعلى سبيل المثال
وحتى كتابة هذه السطور تعرِّف مجموعة البيانات الخاصة بالمقاومة
المدنية والتي تتسم بأنها الأكثر تنظيمًا ودقةً منهجيةً (بيانات
الحملات اللاعنفية والعنفية ونتائجها 106 كفاحات شاملة لاعنفية ضد
الدكتاتوريات والاحتلال وتقرير المصير حدثت في الحقبة بين عامي 1900
و2006. من بين هذا العدد يمكن تصنيف إحدى وعشرين حملةً فقط، تبعًا
للمعايير المذكورة في هذا الكتاب، أنها تنتمي إلى الكفاحات الشعبية أو
كفاحات الحكم الذاتي. يصف هذا الكتاب بالتفصيل أربعةً من هذه الحالات،
ويضم إضافةً إلى ذلك عددًا من الأمثلة الأخرى الأقل شهرةً تعود إلى
القرن الثامن عشر وذلك من خلال إجراء تحليلٍ معمَّقٍ لحملات مقاومةٍ
لاعنفيةٍ لبلدانٍ محددةٍ استغرقت أحيانًا بضعة عقود. حيث تبرز لدينا
تشكيلة من الحالات المتنوعة دينيًا وزمنيًا ومكانيًا لم يخضع دور
المقاومة المدنية وتأثيرها لقدرٍ كافٍ من الدراسة والفهم تاريخيًا. إن
التغطية الموضوعية لهذا الكتاب تتجاوز حدود التخصصات المفردة، ويخاطب
البحث فيه عددًا من التيارات العلمية. حيث أنه يخضع الحالات للبحث من
خلال عدساتٍ تحليليةٍ وتجريبيةٍ تتناول تاريخ الكفاحات الثورية
والاستقلالية، والدراسات القومية، وسوسسيولوجيا الحركات الاجتماعية،
والسياسة المقارنة والجدلية إضافةً إلى الصراع الإستراتيجي اللاعنفي.
يخاطب هذا الكتاب الطلبة والباحثين المهتمين بتفسير الوكالة الهادفة
للناس العاديين الذين ينظمون الحركات الاجتماعية، إضافةً إلى البعد
الإستراتيجي لاستخدام العمل اللاعنفي في الصراعات السياسية. إضافةً إلى
ذلك يلفت هذا الكتاب انتباه المختصين بالسياسة وممارسيها والناشطين
السياسيين إضافةً إلى غير المختصين الذين يبحثون عن فهمٍ تاريخيٍ أكبر
لظاهرة الثورات الشعبية اللاعنفية بغية تحسين استيعاب الانتفاضات
اللامسلحة التي حدثت في السنوات الأخيرة والبحث عن الدروس والعبر التي
يمكن استخلاصها من التاريخ اللاعنفي لبلدانهم أو للبلدان الأخرى.
بنية الكتاب
بعد نهاية هذا الفصل التمهيدي يتناول الكتاب كيف يمكن للمقاومة الشاملة
اللاعنفية أن تخلق وتعيد خلق هوياتٍ وطنيةٍ وكيف يمكن للهويات الجمعية
القائمة أن تعزز ذخيرة حركة الأساليب اللاعنفية أو تقيدها. وبينما يركز
هذا الفصل على العلاقات المتبادلة بين المقاومة اللاعنفية وبين عملية
تشكيل الهوية الوطنية وتأثيراتهما المتبادلة فإنه يربط بين اختصاصين
متمايزين ومنفصلين نموذجيًا وهما: الحركات الاجتماعية والصراع اللاعنفي
الإستراتيجي. وهذا يفضي إلى خمس عشرة حالةً تجريبيةً مصنفةً تبعًا
للمناطق الجغرافية على النحو التالي: منطقة جنوب الصحراء الكبرى في
أفريقيا، شمال أفريقيا والشرق الأوسط، آسيا وأوقيانوسيا، أوروبا
والأمريكيتين. ويتم عرض الحالات في كل منطقة زمنيًا. إن اختيار دراسات
الحالة يركز على الأمثلة التاريخية التي لم تخضع للقدر الكافي من البحث
نسبيًا وذلك من وجهة نظر المقاومة المدنية. وهذا هو سبب عدم وجود فصلٍ
يتناول المثال الأكثر شيوعًا للكفاح من أجل الاستقلال والمرتبط
بالمقاومة اللاعنفية، ونقصد هنا الهند. ولا يعني ذلك أن حركة الاستقلال
الهندية لا تستلزم المزيد من الدراسة، إلا أن مؤلفي هذا الكتاب يعتقدون
أن الحاجة تدعو إلى إلقاء الضوء على الأمثلة الأقل شهرةً للمقاومة
اللاعنفية بغية تشكيل معرفةٍ نظريةٍ وتجريبيةٍ وتوسيع نطاق هذه المعرفة
وبغية تعريف المزيد من المجالات التي تعوز المزيد من البحث. تتضمن
حالات الكفاح اللاعنفي الأخرى من أجل الاستقلال والتي لم يتم عرضها في
هذا الكتاب الكفاح في دول البلطيق ضد الإتحاد السوفييتي والتي تناولتها
مراجع أخرى. كما لا يعرض هذا الكتاب على نحو كافٍ حالة أمريكا
اللاتينية – بخلاف كوبا - حيث ثمة حاجة واضحة للبحث مستقبلاً بهدف
التحقق من دور المقاومة اللاعنفية ضد الاستعمار في تلك المنطقة أثناء
نيلها الاستقلال. يضاف أيضًا إلى الدراسات التي لم يتناولها هذا
الكتاب، في ظل استمرار العنف في تلك المنطقة، والتي تحظى بأهمية كبيرة
للبحث مستقبلاً حالة البشتون الذين قاموا بتنظيم ميليشيا غير مسلحة
قوامها مائة ألف شخص بقيادة خان عبد الغفار خان تعرف باسم "القمصان
الحمر" قاومت البريطانيين بطريقةٍ لاعنفية خلال ثلاثينات القرن الماضي
وذلك في فيما يعرف اليوم بالمناطق القبلية الغربية من باكستان.
من المعايير الهامة الأخرى التي استخدمت في اختيار الحالات في هذا
الكتاب وجود رواياتٍ تمجد القوة العسكرية والتمرد العنفي في المجتمع.
حيث تشير عدة فصولٍ إلى أن وجود رواياتٍ مبالغٍ فيها عن المقاومة
العنفية هو بمثابة سببٍ هام يفسر وضع الكثير من روايات المقاومة
اللاعنفية طي النسيان. لقد اتضحت عواقب مثل هذا التهميش والنسيان
المحيطين بالتاريخ اللاعنفي حين أسدى أحد كتاب الأعمدة المحترمين في
إحدى وسائل الإعلام الرئيسية بتوصياتٍ للمقاومة اللاعنفية إلى
الفلسطينيين تحديدًا. لقد كانت هذه التوصيات صادقةً لكنها ساذجة،
فالشعب الفلسطيني كما يوضح الفصل التاسع يحظى بتقاليد عريقة من الكفاح
اللاعنفي الشعبي وبتجربة تاريخيةٍ من المقاومة السلمية أعرق بكثير مما
يتصوره الكثير من المعلقين المعاصرين الذين فتنهم الربيع العربي عام
2011. يقف الفصل التاسع الخاص بالفلسطينيين والفصل الثاني عشر الخاص
ببابوا الغربية شاهدين على الصراعات المستمرة الزاخرة بسجلاتٍ خفيةٍ من
المقاومة اللاعنفية. وتستدعي بابوا الغربية المزيد من تحليل المقارنة
مع الكفاح الذي ينشد الاستقلال في إندونيسيا ولا سيما تيمور الشرقية في
إقليم آتشيه.
اختيرت الحالات في هذا الكتاب أيضًا في محاولةٍ لتمثيل المناطق
الجغرافية الرئيسة والفترات التاريخية المختلفة والثقافات المتنوعة
والديانات المتمايزة وأنظمة الحكم المتباينة إضافةً إلى السيطرة
السياسية التي تتراوح بين هيمنة مجموعةٍ إثنيةٍ ما ضمن الدولة متعددة
الأعراق في البلدان التي خضعت للغزو والاستعمار والاحتلال والتقسيم
والهيمنة الأجنبية وكذلك أشكال الحكم الأجنبي غير المباشرة من خلال
وكلاء محليين متواطئين أو مكرهين.
وفي النهاية تتوسع الخاتمة في سرد الأفكار المستقاة من الدراسات
التجريبية على نحو يتعدى ما تذكره المقدمة، بما في ذلك مسألة الذكورة
والطابع العابر للوطنية، وديناميات المقاومة اللاعنفية والحجج
الاستشرافية حول دور المقاومة المدنية وتأثيرها وتطورها كممارسة ومجال
للدراسة. ويتضمن الملحق التالي للخاتمة خلاصاتٍ حول الصراعات تدرج طرق
الأفعال اللاعنفية التي نوقشت في فصول الكتاب وتأثيرها.
استعراض لدراسات الحالة
أفريقيا- جنوب الصحراء الكبرى
تلامس الفصول 3 و4 و5 الخاصة بغانا وزامبيا وموزمبيق على الترتيب
بإيجاز حركةً مناهضةً للاستعمار تمتد لعدة عقود وتنتشر عبر أفريقيا
وتعرف بالوحدة الأفريقية. وقد كان لهذه الحركة دور أساسي في رفع الوعي
حول القمع الإمبريالي وفي مناصرة التحرر الوطني للشعوب المقهورة وفي
خلق منصةٍ عابرة للحدود من المؤتمرات التي ناقشت وصاغت مواضيع من قبيل
إستراتيجيات وتكتيكات تحقيق الاستقلال. وخلال المؤتمر الأفريقي الخامس
في مدينة مانشستر بإنكلترا عام 1945 دعا المشاركون الأفارقة، بما فيهم
كوامي نكروما (زعيم النضال من أجل الاستقلال في غانا ورئيسها
المستقبلي) إلى أفعال شعبية شاملة كأول الوسائل وأكثرها ملائمةً للكفاح
من أجل الاستقلال. وقد لعبت الوحدة الأفريقية والتضامن والدعم الذي
ولَّدته دورًا هامًا في ترويج وسائل المقاومة اللاعنفية وشددت على
النضال من أجل تقرير مصير الدول الأفريقية.
من العناصر الهامة للتحدي اللاعنفي في غانا وزامبيا وموزمبيق والتي
تجاوزت الصيغ المنفتحة وغير المباشرة للمقاومة اللاعنفية تنظيم القاعدة
الشعبية على هيئة جمعياتٍ وتعاونياتٍ ونقاباتٍ تطوعيةٍ ومهنيةٍ قائمةٍ
على الاعتماد على الذات. وحتى خلال الكفاح الوطني في موزمبيق والذي
هيمن عليه ظاهريًا العصيان المسلح مارست جبهة تحرير موزمبيق (فريليمو)
إستراتيجياتٍ واسعةً شاملة لتنظيم المؤسسات وبنائها، حيث طبقت هذه
الإستراتيجيات في المناطق المحررة. ويمكن إرجاع أصل هذه النشاطات إلى
عقودٍ من التعبئة المدنية اللاعنفية ومن الفعل المباشر ومن استخدام
المؤسسات الموازية على هيئة تعاونياتٍ للمساعدة المتبادلة سبقت
المقاومة المسلحة. يقر الفصلان الثالث عن غانا والرابع عن زامبيا الدور
الرئيسي للقائدين كوامي نكروما وكينيث كاوندا واللذان أصبحا رئيسين
لاحقًا في تأمين الانضباط اللاعنفي وتنفيذ تكتيكاتٍ لاعنفيةٍ شاملة،
ولكن هذين الفصلين يؤكدان على نحو أكبر على الأفعال الجمعية التي
يقودها مئات الآلاف من الناس العاديين والتي أعطت زخمًا لعمل القادة
الثوريين.
شمال أفريقيا والشرق الأوسط
يشير رالف كرو وفيليب غرانت إلى أن "الكثير من العرب يعتقدون أن
تقاليدهم قائمة على تثمين الرجولة والشجاعة والمواجهة المفتوحة مع
خصومهم، [ولذلك] يتساءلون كيف يمكن عدُّ نظم المقاومة الرافضة لاستخدام
الأسلحة جزءًا من تراثهم". في الواقع يوضح الفصل السادس عن الجزائر
والسابع عن مصر إلى أي مدى شكلت المقاومة اللاعنفية سمةً متكررةً
للحياة العربية، وهي سمة تتوافق مع النماذج المختلفة للإسلام وعنصرٌ لا
غنى عنه في النضال ضد الغزاة الأجانب. وعلاوةً على ذلك تؤكد الثورات
الشعبية الأخيرة والتي يشار إليها باسم الربيع العربي والحركة الخضراء
التي سبقتها في إيران على أهمية السوابق التاريخية في مصر والجزائر
وإيران وفلسطين والتي يعيد هذا الكتاب النظر فيها. وفي الحقيقة فإن هذه
الأمثلة التاريخية تساعد في فتح المجال لمزيد من الفهم للسياسة الحالية
للنظام إضافةً إلى التنظيم المدني بالرغم من الظروف المثبِّطة.
لقد عززت الروايات التي تمجد العنف السياسي التي روج لها نظام الشاه
والجمهورية الإسلامية وإعلامهما الخاضع للرقابة افتقار عامٍ إلى
الاعتراف في الخطاب الإيرانيِّ التاريخي والسياسي بالوسائل المشروعة
للنضال غير العنفي. ومع ذلك فإن الإيرانيين العاديين لطالما لجؤوا إلى
استخدام المقاومة السلمية الشعبية. وقد حدث ذلك مؤخرًا (كما في الحركة
الخضراء أو الثورة الإيرانية عام 1979) وكذلك منذ حوالي قرنٍ من الزمان
في حركة التبغ بين 1891 و1892 والثورة الدستورية بين عامي 1905 و1907
لمناهضة الهيمنة الأجنبية وعدم استجابة الحكام لمطالب الشعب. وكما هو
الحال في الصراعات الأخرى، استقى الكثير من الإيرانيين إلهام مقاومتهم
السلمية من العوامل الدينية المؤثرة. حيث استخدموا أفعالاً لاعنفيةً
بصورةٍ مدروسةٍ ومخططة لتيسير بناء تحالفٍ وصياغةٍ وحدةٍ بين الطوائف
والاختصاصات والمهن والفئات لإلغاء امتيازاتِ التبغ الممنوحة للأجانب
بغية الضغط لاحقًا في سبيل تغييراتٍ سياسيةٍ ودستورية أوسع نطاقًا.
يتحدى الفصل التاسع عن فلسطين الحكمة التقليدية عبر إظهار أن المقاومة
اللاعنفية ضد الاحتلال كانت لا تستلزم جلب دعم أطرافٍ دوليةٍ ثالثة بل
إحداث تغييرات سياسيةٍ واجتماعيةٍ لدى الخصم (أي إسرائيل). وكما توضح
الانتفاضة الفلسطينية الأولى فإن افتقار الخصم للاستجابة البناءة يمكن
أن تضعف أنصار الأفعال اللاعنفية وأن تقوي الدعوة إلى صيغ النضال
العنفية. وحتى الآن لم يُتعلَّم تحذير جون كينيدي الشهير على نحو كامل
حين قال:
من يجعلون الثورة السلمية مستحيلة يجعلون الثورة العنفية حتمية.
في الخامس عشر من أيار عام 2011 ذكرى النكبة الفلسطينية والذي يصادف
يوم الاستقلال الإسرائيلي، سارت حشودٌ من الفلسطينيين العزَّل نحو
الحدود الإسرائيلية من سورية ولبنان والضفة الغربية وقطاع غزة لمواجهة
العنف فحسب. إن رد الفعل العنيف يمكن أن يرتدَّ على مرتكبيه - كما توضح
بعض الأمثلة في هذا الكتاب - ولكن الاعتقاد بأن الأعمال اللاعنفية تعجز
عن تغيير سياسات الخصوم يمكن أن يسبب خيبة أملٍ في صفوف الناشطين
اللاعنفيين ويعطي أهميةً أكبر للدعاة إلى الكفاح المسلح. وإن تعنُّت
الخصم وعناد الفريق الثالث الذي يدعم الخصم يصبح بمثابة الوقود الذي
يذكي نيران أولئك الذين يؤيدون المقاومة المسلَّحة في الكثير من
الكفاحات اللاعنفية. وتزداد المسألة تعقيدًا حين يساء تفسير تأييد
الكفاح اللاعنفي (على نحو مقصودٍ أحيانًا) على أنه إنكار لحقِّ الشعوب
في اختيار وسيلة الكفاح الخاصة بهم. يبين الفصل التاسع الفعالية
النسبية للإستراتيجيات اللاعنفية بالمقارنة مع الفعل العسكري، وخاصةً
عند وضعها في إطار الحكم الذاتي للمجتمع وحقوق الإنسان الأساسية.
لقد شكَّلت روايات حروب الاستقلال الموقّرَة وصورها – والمروية في
الفصل الخامس والعاشر والحادي عشر والخامس عشر والسادس عشر الخاصة
بموزمبيق وبورما وبنغلادش وكوسوفو والولايات المتحدة على الترتيب -
التفكير والكتابة حول الكفاح الجزائري لتقرير المصير الذي يقدمه الكتاب
في الفصل السادس. ويكمن تاريخ المقاومة الجزائرية في الصيغ الخفيَّة من
التحدي اللاعنفي كنشاطات المقاطعة الاجتماعية، والانسحاب الفردي
والجماعي من المحيط العام/ والنشاط الثقافي والديني المستقلين وفي
الصيغ المباشرة الأكثر وضوحًا من المقاومة اللاعنفية والتي أحسن الشعب
استخدامها قبيل حرب الاستقلال. وقد تمكَّن الجزائريون - مثلهم مثل
البولنديين - من خلال انتهاج العمل اللاعنفي وبالرغم من الظروف غير
المواتية تمامًا من الحفاظ على ثقافتهم المميزة بل وتوسيعها وتنمية
شعور الانتماء إلى الجزائر ولو أن الكفاح المسلَّح أزاح المقاومة
اللاعنفية جانبًا كما في موزمبيق أو كوسوفو أو إيران أو الولايات
المتحدة.
حين أسقطت ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني عام 2011
اللاعنفية في مصر الدكتاتور، وذلك باستخدام الأساليب المماثلة والملفتة
للنظر التي استخدمها الأسلاف بين 1919 و1921، أصبح تاريخ المقاومة
المصرية ضد الهيمنة الأجنبية والاحتلال الاستعماري البريطاني يشكِّل
إرثًا أكثر أهميةً ورمزية. حيث ثمَّة ممارسات هامة وواضحة بجلاء للنشاط
اللاعنفي استخدمها المصريون العاديون لتحدي القمع ومقاومة الاستعمار
خلال القرن التاسع عشر. وكما وفرت الأشكال المتعددة للمسيحية (كما في
زامبيا وغانا وبابوا الغربية على سبيل المثال) الإلهام (كما في صورة
المسيح الذي ناهض الظلم على نحو لاعنفي) أو الأسس المعيارية (المطالبة
بالمساواة بغض النظر عن العرق أو اللون أو الإرث الإثني) للتحدي
اللاعنفي فإن التعليمات الإسلامية لعبت بصورةٍ مشابهةٍ دورًا في تشكيل
المقاومة اللاعنفية في بعض البلدان كمصر والجزائر وإيران. ويلقي الفصل
السابع الخاص بمصر، وفي نفس سياق باقي الفصول، الضوء على التأثير
التكويني المحتمل للمقاومة المدنية على الهوية الوطنية والدولة
المصرية.
لقد مجد المجلس العسكري الحاكم في بورما بغية تعزيز مصداقيته، كما يذكر
الفصل العاشر، دور الجيش والمقاومة المسلحة في الحركة القومية
التاريخية المناهضة للاستعمار ضد الحكم البريطاني. وقد شهدنا هذه
العملية أيضًا في أماكن أخرى كما في البروباغندا الخاصة بجبهة التحرير
الوطني الجزائرية التي استحضرت كفاحها المسلَّح المظفَّر لإضفاء
الشرعية على استمرار قيادتها غير الديمقراطية. ولكن غالبًا ما يتم
تجاهل الطريقة التي قوَّضت بها حملات البورميين اللاعنفية وبرامجهم
البناءة الحكم الاستعماري البريطاني بين عامي 1910 و1940 وشكَّلت
الهوية الوطنية البورمية. استوحى الشعب في بورما الإلهام وواصلوا
نشاطاتهم من خلال محاكاة حركة الاستقلال الهندية التي قادها غاندي،
وتلك حقيقة لا تزال مجهولةً نسبيًا في بورما. وقد نسج البورميون حالهم
حال الهنود وارتدوا رداءً خاصًا بهم (يدعى بيني) وذلك كرمزٍ للمقاومة
ضد الحكم البريطاني. وقد أطلق غاندي في الهند على الرداء المنسوج في
البيوت اسم "كسوة الحرية" لأنه كان ينوي من خلال ذلك توحيد الهنود
جميعهم في الكفاح في سبيل الاستقلال بما فيهم الفئات الأكثر فقرًا.
ينطبق الحال نفسه أيضًا على كفاح بورما المناهض للاستعمار وكذلك على
بابوا الغربية إضافةً إلى المقاومة المدنية للمستوطنين الأمريكيين ضد
البريطانيين والتي سبقت في الحقيقة الحالتين السابقتين زمنيًا بكثير.
كما أن المقاومة الوطنية البورمية في العشرينات والثلاثينات من القرن
الماضي شنَّت باستخدام ذخيرةٍ من التكتيكات اللاعنفية الشبيهة على نحو
ملفت للنظر لتلك التي نظَّمتها المعارضة البورمية ضد الدكتاتورية
العسكرية منذ عام 1988.
تقدم حالة باكستان الشرقية (بنغلاديش) في الفصل الحادي عشر روايةً عن
حركات مقاومةٍ مدنيةٍ لا تزال مجهولةً نسبيًا للقارئ غير البنغالي.
فحتى نشوب الحرب الدامية التي لفتت أنظار العالم واستمرت تسعة أشهرٍ
وأفضت إلى تحرير بنغلاديش في ديسمبر/كانون الأول من عام 1971 كان
النضال في سبيل حق التعبير عن الذات الوطنية وتقرير المصير قد شنَّ من
خلال استخدام طرق المقاومة المدنية وإستراتيجياتها. وهنا تجدر الإشارة
تحديدًا إلى اثنتين من حالات الكفاح اللاعنفي وذلك لما تتمتعان به من
تعبئةٍ وتأثير ألا وهما حركة اللغة البنغالية في الأربعينات والخمسينات
من القرن الماضي والانتفاضة الوطنية اللاعنفية في مارس/آذار من عام
1971. حيث رفعت حركة اللغة الوعي الوطني للبنغاليين وأذكت مقاومتهم
المستمرة، بينما أفضى أقلُّ من شهرٍ من المقاومة المدنية
الوطنية التي أخذت شكل التنظيم المدني والمظاهرات والإضرابات والعصيان
المدني الشامل في مارس/آذار 1971 إلى الاستقلال الفعلي لباكستان
الشرقية قبيل اندلاع الحرب - وهذه النتيجة كانت مشابهةً لنتائج الكفاح
الأمريكي اللاعنفي ضد البريطانيين.
يصوِّر الفصل الثاني عشر عن بابوا الغربية مشهدًا جديدًا تمامًا عن
المقاومة في سبيل تقرير المصير. فعلى عكس الصورة الرومانسية "الرمزية"
لزمرةٍ من السكان الأصليين المجهَّزين بأسلحةٍ بدائيةٍ يواجهون بها
العدَّة الحديثة للشرطة والجيش الأندونيسيين، طوَّر سكان بابوا الغربية
فلسفةً وممارسةً لمقاومة الظلم ومحاربته في سبيل المزيد من الحكم
الذاتي والاستقلال وذلك باستخدام وسائل لاعنفية للعمل.
وقد غذيت هذه المقاومة المشروعة ثقافيًا ودعمت من خلال حسِّ الهوية
الوطنية لسكان بابوا الغربية. حيث توضح حالة بابوا الغربية وعلى نحو
مشابهٍ للفصل التاسع الخاص بفلسطين أنه إذا ما أطِّرت المقاومة
اللاعنفية في سبيل الاستقلال بالقيم الديمقراطية العالمية وبحقوق
الإنسان فإنها يمكن أن تحظى بصدىً أقوى لدى المجتمع المدني وأنصار حقوق
الإنسان في البلدان المحتلة ولدى المجتمع الدولي. وهذا يساعد بدوره
الشعوب المضطهدة على بناء تضامنٍ مع جماعاتٍ أخرى وجلب تعاطفها مع نضال
هذه الشعوب.
أوروبا
يصف الفصل الثالث عشر المقاومة المجرية ضد إمبراطورية هابسبورغ
النمساوية بين الخمسينات والستينات من القرن الثامن عشر والتي أخذت
هيئة مواجهةٍ وطنيةٍ لاعنفيةٍ مباشرةٍ وقسرية. يتناقض هذا الواقع مع
مصطلح المقاومة السلبية الذي كان يستخدم على نحو شائعٍ وبطريقةٍ مهينةٍ
أحيانًا لوصف هذا الكفاح. وتلقي الحالة الهنغارية كما في غانا وزامبيا
الضوء على دور القائد الوطني – فيرينك يزلي ديك - في صياغة المقاومة
اللاعنفية وتعبئتها وإدامتها. وحتى في غياب قيادة ديك كان الهنغاريون
في كل الأحوال سيشنون نضالاً لاعنفيًا، ولو أن قيادته ساعدت في السلامة
والاستقامة الداخلية للحركة وضمنت أيضًا قوتها وانضباطها باللاعنف لعدة
سنوات. وقد أتت قوة التحدِّي الهنغاري تحديدًا من خلال استنادها إلى
الشمولية واللامركزية وعدم اعتمادها على قائدٍ مفردٍ للعمليات من شأن
اعتقاله أن يعرض استمرار الحركة للخطر. وكما أثار الكفاح اللاعنفي
لغانا حماس دولٍ أفريقيةٍ أخرى شكَّلت المقاومة الهنغارية اللاعنفية في
سبيل نيل المساواة السياسية في إمبراطورية هابسبورغ مثالاً شهيرًا تخطى
الحدود القومية إلى الحركات الوطنية الأخرى بدءًا من أيرلندا وفنلندا
ووصولاً إلى الهند.
تتناول الحالة البولندية المعروض لها في الفصل الرابع عشر فكرةً عامةً
عن المقاومة اللاعنفية الخاضعة لعنفٍ متزايد وتوضح هذه الحالة الحقيقة
التي تجلِّيها الكثير من فصول هذا الكتاب، وهي أن تكوين الأمة ليس
عمليةً تحدد على نحو مسبق وخاصةً في ظل الاحتلال والتقسيم والاستعمار.
فقد فشلت محاولة التجريد من الصفة القومية عبر التقسيم المفروض من
الخارج، وذلك حين قامت إمبراطوريات ثلاثة (بروسيا والنمسا وروسيا)
بتقاسم بولندا فيما بينها، ويعزى ذلك الفشل إلى أن الشعب اختار
المقاومة من خلال التنظيم الاجتماعي الثقافي والحملات التعليمية
والاحتفالية جنبًا إلى جنب مع العمل المباشر كالعرائض والعصيان المدنيّ
والإضرابات والتظاهرات. وكما توضح الأمثلة الخاصة بأفريقيا والولايات
المتحدة وآسيا استخدمت المقاومة المدنية إستراتيجيًا للدفاع عن المجتمع
البولندي وتدعيم التضامن الاجتماعي وتعزيز عملية تكوين الهوية الوطنية
وبناء الدولة.
وننوه هنا على نحو مقصود إلى المقاومة الوطنية في كوسوفو والمذكورة في
الفصل الخامس عشر من الكتاب بسبب انتهاجها للكفاح المسلح بقيادة جيش
تحرير كوسوفو. حيث تشبه هذه الحالة الكفاح في موزمبيق والجزائر.
وبالرغم من أن المقاومة اللاعنفية هناك حالت دون اندلاع حربٍ في وقتٍ
لو قدِّر لها الوقوع فيه لكانت نتائجها كارثية - وذلك قبل الحروب
الأخرى التالية لليوغوسلاف وحين كانت كوسوفو معزولةً دوليًا، تمكَّن
ألبان كوسوفو خلال مقاومتهم اللاعنفية التي استمرت عقدًا من الزمن من
الحفاظ على مجتمعهم في وجه القمع الصربي ومن تنبيه الرأي العام الدولي
حول حقوقهم. وقد وضعت المقاومة اللاعنفية التي انتهجت في كوسوفو كما في
كوبا وبنغلاديش وفلسطين الأساس لظهور المجتمع المدني ونشوء الثقافة
الديمقراطية الوليدة على الرغم من أن هذه الإنجازات قوضت بعد ذلك
سريعًا من خلال التحول من الفعل اللاعنفي الجمعي إلى الكفاح المسلح.
ومع ذلك ونظرًا للتفوق العسكري للجيش الصربي كان الشك يحيط بإمكانية
نيل الاستقلال عبر العنف الذي انتهجه البوسنيون وذلك لولا التدخل
العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو). علاوةً على ذلك، فقد جلب قيام
كوسوفو المستقلة عبر التمرد المسلح والحرب تحدياتٍ سياسيةً واجتماعيةً
واقتصاديةً جمَّة. وقد شهدت كل من موزمبيق والجزائر وبورما مشاكل
مماثلة ما بعد الصراع.
الأمريكتان
يتناول الفصل السادس عشر والسابع عشر عن الكفاح لنيل الاستقلال في
الولايات المتحدة وكوبا على التوالي نسخةً تاريخيةً أسطوريةً تمجد
العنف. حيث تطمس هذه النسخة الروايات التي تتحدث عن دور الأشكال
اللاعنفية للمقاومة وأهميتها. ففي حالة الثورة الأمريكية أخفى التشديد
على الكفاح المسلَّح إلى حدٍّ كبير عن العيان حقيقة وجود مقاومةٍ
مدنيةٍ استمرت عقدًا من الزمن في وجه الضرائب والمراسيم البريطانية
سبقت اندلاع العنف. أما في كوبا فقد قاد تمجيد حرب العصابات البطولية
إلى وسم الحركات الإصلاحية المدنية بأنها رجعية وتفتقر إلى الوطنية
ناهيك عن أنها تقوِّض قضية الانتفاضة المسلحة. حيث يلقي الفصلان الضوء
على التعبئة المدنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية
اللاعنفية إضافةً إلى استخدام الأفعال الجمعية المباشرة كالعصيان
الشعبي والمقاطعات والمسيرات العامة والاحتفالات والتظاهرات وغيرها من
أشكال التحدِّي. وقد كانت هذه الأفعال في الولايات المتحدة فعالةً في
تحرير معظم المستوطنات من السيطرة البريطانية قبل اندلاع الحرب كما
أنها ساعدت في وضع أساس المؤسسات السياسية والمدنية المستقبلية خلال
حقبة ما بعد الاستقلال. بينما حققت هذه الأفعال في كوبا حقوقًا
دستوريةً واستقلالاً سياسيًا أكبر ووضعت أسسًا هامةً لظهورٍ مجتمعٍ
مدني متماسك. وفي كلا المثالين قوَّضت الحماسة الثورية العنفية
النجاحات التي رافقت المقاومة الشعبية اللاعنفية، حيث أضعفت المشاركة
الشعبية وأدت إلى استقطاب المجتمع وأسفرت عن قدرٍ أكبر بكثير من
الضحايا والدمار المادي من المقاومة اللاعنفية.
مساهمة الكتاب
يقدم هذا الكتاب مساهماتٍ أكاديميةً وفكريةً هامةً في عدة مجالات:
1.
المقاومة المدنية، بما في ذلك أعمال المقاومة الصغيرة وأشكال التحدي
الأقل ظهورًا عبر بناء المؤسسات والتفاعل بين الأساليب المباشرة وغير
المباشرة للعمل اللاعنفي.
2.
الكفاحات التحررية، بما فيها التحليل النقدي لروايات النضال في سبيل
الاستقلال والتي تتمحور حول العنف ولنتائج العنف المصور بطريقة
رومانسية.
3.
تشكيل الهوية الوطنية وصنع الدولة، وذلك من خلال تضمين المقاومة
المدنية في إطارٍ مفاهيمي.
يطرح هذا الكتاب أيضًا عددًا من الأفكار والقضايا الأخرى
التي لا تقل أهميةً عن غيرها.
حيث تتناول الخاتمة هذه الأفكار والقضايا بقدرٍ أكبر من التفصيل، وهي
تتضمن وكالة الناس العزل التي تتغلب على الظروف القاهرة من خلال أعمال
لاعنفية، وهيمنة الروايات الذكورية التي تطمس دور المقاومة المدنية
والمقاومة النسوية تحديدًا، وتأثير أطراف الفريق الثالث والشبكات عبر
الوطنية، والنشر التاريخي للمعرفة الخاصة بشن الصراع اللاعنفي، ومجموعة
الطرق والابتكارات التكتيكية المتنوعة، والتأثير المستمر للمقاومة
المدنية إضافةً إلى بروز المقاومة المدنية بمثابة مجالٍ جديدٍ للدراسة.
دراسة المقاومة المدنية
لقد فتحت ممارسة المقاومة المدنية فرصًا جديدةً أكثر تنوعًا للتغيير
السياسي استبعدها الكثير من الخبراء الإقليميين وغيرهم من المنظرين
السياسيين أو فشلوا في التنبؤ بها مرارًا وتكرارًا، كما في حالة الربيع
العربي، ويعود ذلك إلى عدم أخذ إمكانيات العمل الجماعي للشعب على محمل
الجدِّ. وفي هذا السياق تشكِّل ظاهرة الاعتراف المتزايد بالمقاومة
المدنية خلال السنوات الأخيرة انتصارًا للواقع على الأفكار المسبقة عن
النخبة أو الأفكار المرتكزة على الهيكل أو المتمحورة حول العنف والتي
تزخر بها فروع علم الاجتماع التقليدي.
منذ أن نشر جان شارب كتابه شديد التأثير سياسات العمل اللاعنفي
عام 1973 شهد النتاج الأدبي الخاص بالصراع اللاعنفي توسعًا كبيرًا.
ويضم هذا الكتاب في نهايته سردًا مختارًا للمنشورات المرتبطة بالمقاومة
المدنية والمواضيع المتصلة به باللغة الإنكليزية. وإن هذا النمو الكبير
للمنشورات في هذا المجال يأتي جزئيًا بمثابة استجابةٍ لبعض الأحداث،
ويضم كتاب روبيرتس وغارتون آش الذي يحمل عنوان المقاومة المدنية
وسياسات القوة (2009) دراسات حالةٍ كثيرةٍ عن المقاومة المدنية في
التسعينات وبعد العام 2000، ومع ذلك فإن أعمال التحدي غير المسلحة في
وجه حكم الفرد في شمالي أفريقيا والشرق الأوسط أثارت الحاجة إلى المزيد
من الدراسات التحقيقية حول الحالات في العقد الأخير.
كما تم أيضًا تناول مواضيعَ بارزةً أخرى بقدرٍ أكبر من التعمق منها:
دراسة الإستراتيجية والتكتيكات والتنظيم في المقاومة اللاعنفية، دراسات
حالة تاريخية وروايات حول الحركات اللاعنفية، آليات ارتداد القمع على
من هم في السلطة وكيف يمكن للمقاومين تضخيم تأثير ذلك بالرغم من
محاولات خصومهم توهين هذا التأثير، وصيغ التضامن العابر للحدود ودوره.
وقد عالجت بعض الأبحاث الحديثة الأخرى الدراسة الكمية للفعالية النسبية
للحملات اللاعنفية والمسلحة، والتحليل النوعي والمقارن للحركات
اللاعنفية الناجحة منها والفاشلة، والهوَّة الانضباطية بين نظرية
الحراك الاجتماعي وتحليل العمل اللاعنفي.
يسهم هذا الكتاب في هذه المنظومة من النتاج الأدبي بعدد من الطرق، منها
التشديد على دور الأشكال غير المباشرة وغير السياسية للمقاومة
اللاعنفية وتأثيرها في الكفاحات الوطنية. كما تكشف الدروس المستقاة من
دراسات الحالة فيه عن صورةٍ معقدةٍ للطريقة التي واجهت بها الشعوب وجود
الأجنبي ونفوذه. حيث لم تتمحور مقاومة الشعوب دائمًا حول الأشكال
المباشرة والمفتوحة للنضال، بل غالبًا ما كانت تقوم على أفعالٍ
لا تحظى بقدرٍ كبيرٍ من البريق والإثارة وكان يتعذر أحيانًا تمييز هذه
الأفعال على أنها مقاومة، بل كانت تعتمد على نشاطاتٍ اجتماعيةً
وثقافيةٍ يوميةٍ تتَّسم بالتواضع ولا تنمُّ عن التحدِّي، لكنها مع مرور
الزمن زعزعت حكم المغتصب وهزَّت أركانه مهما كان هذا المغتصب يتمتع
بالقوة والشمولية.
الأساليب المباشرة وغير المباشرة للمقاومة
يكشف التحليل المتأني لطرق المقاومة اللاعنفية في كلٍ من دراسات الحالة
التي يضمها هذا الكتاب عن طرقٍ غنيةٍ وخفيةٍ للتحدي. وغالبًا ما تكون
هذه الطرق كامنةً في الحياة اليومية، حيث أنها تبدو ظاهريًا على شكل
أفعالٍ بشريةٍ عادية، لكنها تمثل شكلاً قويًا من أشكال رفض الواقع
السياسي السائد. لقد قاومت الكثير من الشعوب الهيمنة الثقافية والتجريد
من الحقوق الوطنية عبر تكتيكات يصحُّ تصويرها على أنها صمودٌ يتَّسم
بالعناد والصبر الشديد، حال الشعوب فيها كحال النمل، وذلك لضمان الحفاظ
على الجماعة قيد الحياة في خضم الظلم الشديد وفي ظل ضيق الحيِّز العام
المتاح للنشاطات السياسية. يكافئ هذا الرأي ما يشير إليه الفلسطينيون
بالصمود، ويقصد به الثبات والمثابرة أو ما يعرف بـ "الوجود مقاومة"؛
فمجرد البقاء في المكان أو على نفس الأرض في وجه القمع يصبح بحدِّ ذاته
شكلاً من التحدِّي. يقتصر هذا النوع الثانوي من المقاومة، والذي يسلط
عدد من فصول الكتاب الضوء عليه، على النطاق الخاص أو العائلي أو الفردي
أو يأخذ شكل أفعالٍ أقل مخاطرةً وأكثر تواضعًا تبدو غير سياسيةٍ في
الظاهر وتتسم بالخيرية كالاحتفاء بالشخصيات الثقافية وارتداء الملابس
محلية الصنع وتنظيم مسارح الشوارع والعروض العامة والمعارض الفنية أو
إنشاء النوادي أو الدوائر الاقتصادية أو الثقافية أو الرياضية أو
الموسيقية أو الأدبية أو تعاونيات لمساعدة المتبادلة. ويصف بعض
المراقبين هذا النوع من الأفعال بـ "صيغ المقاومة اليومية" أو "أفعال
المقاومة الصغيرة".
تعرف إحدى صيغ هذا الشكل من التحدي بالسفيكية- نسبةً إلى أفعال الشخصية
الخيالية التي تحمل اسم سفيك الذي كان جنديًا تشيكيًا في صفوف الجيش
النمساوي-الهنغاري. كان هذا الجندي ينفذ الأوامر بطريقةٍ حمقاءَ يلتبس
على المرء تمييز ما إن كانت نابعةً عن عدم الكفاءة أو عن العصيان، وقد
استعار العاملون في المؤسسات السياسية والعسكرية هذه التسمية وأطلقوها
على التحدِّي الخفيِّ محدود المجال. تظهر أيضًا صيغة أخرى للمقاومة
اليومين في مصر والجزائر الواقعتين تحت نير الاستعمار، حيث أصبح ارتداء
الحجاب بصورةٍ ظاهرها البراءة رمزًا قويًا للصمود ومعارضة السلطات
الأجنبية. ويسرد جورج أورويل – الذي لم يكن يؤمن سوى قليلاً بقوة
الأفعال اللاعنفية - في مقالته "إطلاق النار على الفيل" تجربته الشخصية
في العيش في بورما في العشرينات من القرن الماضي. حيث كان يتعرض بوصفه
ضابط شرطة بريطاني لبعض أفعال المقاومة التافهة المثيرة للسخط والتي
كانت تأخذ غالبًا شكل إساءاتٍ لفظية تنمُّ عن الاستهزاء والازدراء. حيث
يقول أورويل بلسان الراوي: "كان السكان الأصليون يتصيَّدون الإساءة
كلما بدا من الآمن القيام بذلك". ويتوسع في شرح ذلك قائلاً:
حين كان أحد البورميين الحاذقين يطرحني أرضًا في ميدان كرة القدم
والحكم (وهو بورمي آخر) يغض الطرف ناظرًا في الاتجاه الآخر، كان الحضور
يطلقون ضحكاتٍ شنيعة. لقد حدث ذلك أكثر من مرة. وفي النهاية كانت وجوه
الشبان الصفراء الساخرة التي كنت أصادفها أينما حللت والشتائم التي
تكال إليَّ حين أكون على بعدٍ كافٍ منهم تثير أعصابي إلى أبعد حدٍّ. و
كان صغار الكهنة البوذيين أسوءهم على الإطلاق. فقد كانوا عدَّة آلافٍ
في البلدة وبدوا وكأن لا شغل لهم سوى الوقوف عند زوايا الطرقات
والسخرية من الأوروبيين. [يختتم الراوي النص قائلاً: لقد كانت حياتي
بكاملها في الشرق، بل حياة كل رجلٍ أبيض هناك، صراعًا طويلاً لا يحسد
عليه].
وبعد مرور عقودٍ من الزمن شهد بلد آخر احتجاجاتٍ خيِّرةً بارعةً تنمُّ
عن التحدِّي الحياتي اليومي وذلك في شوارع مدينة مينسك ضد النظام
الفاشستي للرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو. وقد شكَّلت التجمعات
الصامتة دون فعل أي شيء، والتصفيق في العلن، وقرع الهواتف في أوقات
محددة وتحميل دمى الدبب والأرانب المحشوة إشاراتٍ احتجاجيةً عند أحد
مواقف الباصات في العاصمة أو رمي هذه الدمى من السماء، كلها كانت
تعابير عن المعارضة أثارت بدورها أفعالاً غريبةً من الشرطة (كاعتقال
دمى الدببة المحتجة) ضد النشاطات العادية وغير المؤذية، مما جعل
السلطات تبدو سخيفةً وفاقدةً للشرعية. وخلال كفاح السوريين للحفاظ على
الانضباط اللاعنفي (الذي تحول إلى عنفي لاحقًا) وتنويع إستراتيجيات
مقاومتهم المدنية وتكتيكاتها، انتهجوا نشاطًا إبداعيًا منخفض الخطورة؛
من قبيل صبغ النوافير العامة باللون الأحمر للرمز إلى دماء المحتجين
المدنيين الذين قتلوا عبر البلاد منذ أن بدأت الثورة في آذار/مارس من
عام 2011، أو إطلاق بوالين تحمل رسائل الحرية أو دهن أقفال أبواب
المكاتب الحكومية بالصمغ. بينما كان الشبَّان عبر العالم وفي المجتمعات
الأكثر انفتاحًا في تشيلي والفيليبين يتظاهرون ضد حكوماتهم عبر تبادل
شاملٍ للقبل أثناء الاحتجاجات، أو الهرولة حول الساعة أو تطويق القصر
الجمهوري أو فرش الطرق السريعة والمؤسسات الحكومية بالألواح الخشبية.
لا تعد أنواع العمل هذه مقاومةً في الأوقات الطبيعية. ومع ذلك فإن هذا
النوع من التحدي الواضح ولكن غير الاستفزازي في ظل ظروف المعارضة يمكن
أن يؤكِّد وجود معارضةٍ عميقةٍ ومتواصلة ويوقع الحكومة في دوامة لأن
قمع هذه الأفعال من شأنه أن يكشف وحشية أولئك الذين بيدهم مقاليد
السلطة وشذوذهم واستبدادهم. وبالرغم من أهمية هذه الأفعال وقوتها فإن
الذاكرة الخاصة بها تتلاشى، وكما يشير الفصل السادس عن الجزائر فإن مثل
هذه الأعمال لم تخلِّف سوى قدرٍ ضئيلٍ من السجلات التاريخية. وربما
يعود ذلك إلى أن هذه الصيغ اليومية من الثورة اللاعنفية الخفية لا تعدو
غالبًا كونها كالكلب الذي لا ينبح، فهي تفتقر إلى المواجهة العلنية
والإثارة ومشاهد الصراع العنيف.
ثمة عنصر هام من عناصر صيغة المقاومة غير المباشرة الموصوفة في عددٍ من
فصول الكتاب ألا وهو تطوُّر مجتمعٍ مستقل يحظى بالحكم الذاتي في كل
مناحيه قبل نيل الاستقلال الرسمي تمامًا. وقد كان يأخذ على الأغلب شكل
المنظومة التعليمية أو التعاونيات الاقتصادية المدارة ذاتيًا أو منظمات
الخدمات الاجتماعية أو المؤسسات القضائية أو شبه الحكومية في المجتمع.
إن الفكرة لم تكن تكمن في الانتقال بالمعركة مباشرةً – باستخدام
الأفعال الجمعية - إلى الخصم الأكثر قوةً ووحشيةً، بل كانت تكمن في
تحويل المجتمع أولاً ثم تحريره من سيطرة المحتل الأجنبي. وقد كانت هذه
مقاومةً تجري خلسةً أكثر من كونها مواجهةً مفتوحة. وكان ينظر إلى
المجتمع باعتباره كائنًا بوسعه النمو وتحدي السلطات الأجنبية والدفاع
عن نفسه من خلال تنظيمه الذاتي ومكتسباته الذاتية وتحسنه الذاتي. وقد
كان هذا النوع من المقاومةِ يتمتع بالقوة ولكنه تدريجي وطويل الأمد.
وبالتالي لم يمكن فقط قياسه بنتائج تقويضه العدو بل أيضًا من خلال
العمل المجتمعي عبر بناء المؤسسات البديلة التي تغرس قدرًا أكبر من
الوحدة والتضامن والتعبئة والمرونة في المجتمع. إن هذا النوع من
المقاومة غير المباشرة، القائمة على تشكيل مؤسسات متعددةٍ قانونيةٍ أو
شبه قانونية أو مؤسسات تخصُّ القاعدة الشعبية المحظورة وتعمل بصورةٍ
غير سياسيةٍ ظاهريًا في المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية أو
التعليمية، أصبح يمثل شكل المقاومة الصامتة والبارزة في نفس الوقت
والتي تتوافق مع مقولة آصف بيَّات "الزحف الهادئ للعاديين". لقد كانت
هذه الأفعال قسريةً لكنها غير عنفية في خضم الصراع طويل الأمد الذي
انتهجته الشعوب المعدمة ضد القوى الأجنبية أو وكلائها المحليين أو
كليهما.
كثيرًا ما ساعد هذا النوع من أنواع بناء المؤسسات البديلة أو ما يسمى
(الديموقراطية التشاركية)
في خلق قاعدةٍ أسلم لشنِّ أعمالٍ لاعنفيةٍ أكثر مباشرةً ضد عدوٍّ أكثر
قوةً تتطلَّب قدرًا أكبر من التعبئة والوحدة. وفي ذلك السياق أصبحت
المقاومة غير المباشرة عبر مؤسسات التنمية المجتمعية وعبر التعليم
أداةً عدَّها الإصلاحي العربي ذائع الصيت عبد الرحمن الكواكبي المولود
في سوريا الخطوة الأساسية لإعداد الظروف الملائمة قبل شنِّ مواجهةٍ
كاملة النضج مع الطغيان. كانت تلك أيضًا وسيلة المقاومين المدنيين
لتعديل كفَّة التباين الهائل في القوة بينهم وبين عدوهم عبر جعل تفوقه
العسكريِّ عقيمًا عند مواجهة مجتمعٍ منعزلٍ ذاتي التنظيم.
ثمة سمة أخرى للمقاومة غير المباشرة للمؤسسات البديلة ذاتية التنظيم
أيضًا؛ ألا وهي إيجاد رابطٍ عضوي بين الحياة العادية والعمل من جهة
وبين المقاومة من جهة أخرى. حيث لم تكن المقاومة منفصلةً عن الحياة ولم
تكن الحياة منفصلةً عن المقاومة. وغالبًا ما
كانت تطلعات الناس العاديين منصهرةً ضمن تطلعات الحركة والنضال، مما
أسَّس وحدةً وجوديةً بينهما. وأخيرًا لعبت أعمال المقاومة غير
المباشرة، على هيئة حياةٍ مؤسساتيةٍ ذاتية الإدارة قوَّت الشعب وولدت
المقاومة ضمن نسيج الأمة، دورًا هامًا في تحويل ضحايا القمع إلى أفراد
واعين لذواتهم ومدركين لقواهم يعلمون ما هي مصادر عبوديتهم.
كان الكواكبي يعتقد أن الناس
هم المتسببون لما حل بهم فلا يعتبون على الأقدار ولا على الأغيار إنما
يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل.
تعكس وجهة النظر تلك أيضًا وجهة نظر الفيلسوف البولندي الذي عاصر
الكواكبي وكان أكبر سنًا منه. حيث يشير إلى أن ذنب الوقوع في براثن
القوى الأجنبية المفترسة يكمن في المجتمع المقموع، وبالتالي ينبغي أن
ينبع الحلُّ والتحرر من ذات المجتمع بعد تحوِّله من خلال عمله وتعليمه
ومدنيته. وبذلك يصبح أولئك الضحايا الذين يبدون فاقدي القوة هم نفسهم
المحررين إذا ما انتهجوا التنظيم الذاتي وتحقيق الذات وعملوا على تنمية
مجتمعاتهم.
توضح فصول هذا الكتاب أيضًا ديناميةً ملفتةً بين الصيغ المباشرة
للمقاومة والصيغ الخفية للتحدي، حيث تضافرت أعمال المقاومة المدنية
اليومية التي كانت بالكاد ملحوظةً على نحو وثيقٍ مع الصيغ الملموسة
والأكثر مباشرةً للأعمال اللاعنفية أو مهدت الطريق لها. وغالبًا ما كان
ينم التطور الأخير عن تنامٍ في توطيد الهوية الوطنية وعن تقييم موضوعي
لتكاليف الأنشطة التخريبية وعن تحسنٍ في مهارات التخطيط والتنظيم
الجمعي، كما أنه يعكس أيضًا ذكرى العصيانات المسلحة الخاسرة، أو بروز
فرصٍ جديدةٍ ناتجةٍ عن التغيرات الجيوسياسية الخارجية (أي الحروب
الدينية أو العالمية) أو تطور وسائل اتصالٍ جديدةٍ ورواجها (التطورات
الحاصلة في أزمنة متعددة كتقانة الطباعة والتلغراف والراديو والتي سبقت
ثورة الاتصالات في السنوات الأخيرة). لقد بدأت الشعوب بمساعدة هذه
التغيرات بالابتكار والتخطيط بصورةٍ منهجيةٍ وبالتالي تطويرهم
لإجراءاتٍ أكثر مباشرةً وقوةً بغية الضغط العلني على السلطات. وقد كانت
هذه الإجراءات التي تتسم بقدرٍ أكبر من المواجهة بمشاركةٍ متناميةٍ
لقطاعاتٍ أوسع في المجتمع تحدَّت مباشرةً وفي الحال السلطات وسيطرتها
على الأرض والسكن. وبهذه الطريقة اتَّسع الكفاح اللاعنفي ليتعدى صيغ
التنظيم الاجتماعي الخفية وتنظيم الحملات التي كانت تنشد مزيدًا من
الاستقلالية والحريات السياسية فحسب، ليشمل أعمالاً أكثر شموليةً تنضوي
على طلباتٍ صريحةٍ بالحكم الذاتي والاستقلال تغطي كامل الصعيد القومي.
دراسة كفاحات التحرر
يقدِّم هذا الكتاب دراسةً تاريخيةً معمقةً عن حركات التحرر والاستقلال
من خلال مناقشة العلاقة بين الكفاح المسلح وغير المسلح أثناء الكفاح
لإقامة الدولة.
تتباين علاقة الكفاح المسلحة مع المقاومة المدنية لتأخذ أشكالاً عديدةً
باختلاف السياق وباختلاف أطوار الصراع. ففي بعض الحالات يتواجد شكلا
المقاومة هذين بصورةٍ مشتركة كما في الجزائر بعد عام 1952 وكما في
موزمبيق بعد عام 1960. أما في حالات كوبا وإيران ومصر
كانت المقاومة المدنية تنقطع من وقتٍ لآخر عبر حالات انفجارٍ لتمرد
عنيف. بينما حلَّت المقاومة المدنية محل الكفاح المسلح في المجر
وبولندا وبابوا الغربية، بينما بدأت المقاومة في الولايات المتحدة
وبورما وكوسوفو والجزائر سلميةً لتنقلب إلى تمرُّدٍ عنيف. وبعيدًا عن
فصل سياق أشكال النضال اللاعنفية عن المقاومة العنفية يقدم هذا الكتاب
وجهة نظرٍ دقيقةً وواقعيةً عن الحركات الوطنية والكفاحات التحررية. وقد
اعتمدت هذه الحركات والكفاحات على ذخيرةٍ هائلةٍ من حملات المقاومة
المدنية التي كان يتخللها العنف زمانيًا ومكانيًا في بعض الأحيان،
بينما كانت في حالاتٍ أخرى على تنافسٍ مع التمرد المسلَّح أو انقلبت
تمامًا إلى تمردٍ مسلَّح.
تناولت إحدى الدراسات الكمية الرائدة عن الفعالية النسبية للكفاح
المسلح والمقاومة المدنية تقييم نتائج الحملات العنفية واللاعنفية في
سبيل الاستقلال والانفصال ومناهضة الديكتاتورية بين عامي 1900 و2006.
وتوصلت بالنتيجة إلى أن نسبة نجاح حملات المقاومة المدنية أعلى بمرتين
ونصف من نسبة فشلها وأن نسبة النجاح هذه تفوق بمرتين نسبة نجاح نظيرتها
المسلَّحة. حيث تتحدَّى هذه البيانات إلى جانب الدراسات النوعية التي
يسردها هذا الكتاب وجهة النظر الشائعة التي تمجد دور السلاح في نيل
البلدان حريتها والتي غالبًا ما يكون مبالغًا فيها. تولدت وجهة النظر
هذه بفعل تأثير المؤرخين العسكريين في الأفكار القومية إضافةً إلى
الإرث الدائم للأدب الهوميري لدى المؤسسات التعليمية السياسية الغربية،
ناهيك عن رفض طبقة النخبة الاعتراف بتأثير الناس العاديين في أحداث
التاريخ الوطني المحورية.
بعد تحقيق إنجاز الدولة غالبًا ما كانت سيرة الشهداء
أثناء الكفاح المسلح تخدم القوى العسكرية والسياسية المنتصرة في تضخيم
دورها لجلب الاستقلال وفي تبرير ارتقائها إلى السلطة وتقلِّدها إياها.
ولكن إذا ما كانت سيرة الشهداء مرتبطةً على نحو وثيقٍ بالكفاح المسلح،
فإن الواقع الحاضر والماضي أكثر تعقيدًا كون مأثرة التضحية بالحياة
ربما تشكل جزءًا من المقاومة المدنية أيضًا. فعلى سبيل المثال يوضح
مثال بنغلاديش المذكور في الفصل 11: خلَّدت سجلات التاريخ الوطنية
ناشطي حركة اللغة البنغالية العزَّل الذين قتلوا أثناء الدفاع عن حقهم
باستخدام البنغالية ناعتةً إياهم بالشهداء. واليوم يريد الفلسطينيون
والمصريون والسوريون والبحرينيون واليمنيون أيضًا الاعتراف بقتلاهم من
النشطاء العزَّل على أنهم شهداء. يمكن النظر إلى سيرة الشهداء
على أنها إستراتيجية لتعبئة الداعمين وعلى أنها استجابة بشرية عاطفية
للاعتراف بقيمة شجاعة الناس العاديين – سواء أكانوا مسلحين أم غير
عنفيين - الذي قاوموا خصمًا أكثر قوةً وقسوةً، وبالتالي أصبحوا مصدر
إلهام يحثُّ الآخرين على الانتفاض.
التحرر الوطني عبر النضال العنفي
تقترح الكثير من الفصول في هذا الكتاب أن الروايات والخطب ونشاطات
المناسبات التاريخية الوطنية تقصِّر في الاعتراف بدور المقاومة المدنية
في حركات تقرير المصير. حيث يتم ربط الكفاح من أجل الاستقلال من
الاحتلال أو السيطرة الأجنبيةِ على نحو وثيقٍ بالعنف الذي تغذي القومية
جذوته، وبالأبطال العسكريين الموقَّرين وبأساطير التضحية والشهداء
الممجدين الذين ناضلوا ضد خصومٍ وحشيين عادةً ما كانوا أشد قوة. وهذا
بدوره دعَّم الافتراض الشعبي الذي قلَّما شابه الشكُّ بأن القوة
العسكرية هي الوسيلة المهيمنة أو الحاسمة في شن الكفاح من أجل
الاستقلال.
إضافةً إلى أن الميل لاستخدام مصطلح الثورة كمرادفٍ للكفاح من أجل
الاستقلال وحصر تعريف الثورة بالعنف (حتى أن بعض الموسوعات الأكاديمية
الشهيرة تعرِّف "الثورة" بأنها "تغيير جذري وعنفي") يوحيان بوجود تراثٍ
ثوريٍ قائمٍ على الهيمنة يؤدي إلى تناسٍ متعمدٍ لوجود وسائل بديلةٍ
للكفاح غير العنف وإنكارٍ لشرعية هذه الوسائل وجدواها. متى وأينما ظهرت
مقاومة مدنية خلال الكفاح الوطني نظر إليها غالبًا على أنها محاولةٌ
أقل رجولةً وأهميةً وأدنى وطنيةً من التمرد المسلح. ولم تقتصر هذه
النظرة الاستنكارية تجاه المقاومة المدنية بأي حالٍ من الأحوال على
الثوار العنفيين. حيث ينتقد أحد المنظرين السياسيين البارزين وهو مايكل
والزر على سبيل المثال المقاومة اللاعنفية ويحطُّ من قدرها واصفًا
إياها بأنها "شكل مقنَّع من أشكال الاستسلام" و"وسيلة متواضعة لصون
القيم الجماعية بعد الهزيمة العسكرية".
لذلك ينبغي ألا نستغرب نشر وسائل الإعلام التقليدية على نحو مقصودٍ أو
غير مقصود تأويلاتٍ للاستقلال ترتكز على العنف. فعلى سبيل المثال يذكر
أحد كتاب الأعمدة في جريدة الغارديان ذائعة الصيت مدافعًا عن حجته بأن
الاستقلال يأتي عشية تطوراتٍ سياسية هامة وليس من خلال تطوراتٍ قانونية
قائلاً :"لقد أتى الاستقلال الأمريكي عام 1776 من فوَّهة البندقية لا
من خلال دعوى قضائية ضد جورج الثالث".
يعالج الفصل السادس عشر الخاص بالولايات المتحدة على نحو ملائمٍ هذا
الاعتقاد الخاطئ من خلال إظهاره أن معظم المستعمرات الأمريكية نالت
استقلالها الفعلي قبل بدء الحرب من خلال استخدام اللجوء إلى استخدام
أعمال مقاومةٍ غير عسكريةٍ والاعتماد عليها. لم تكن هذه الأعمال دعاوى
قضائية، فقد عدَّها التاج البريطاني غير شرعية، ولكنها لم تكن أيضًا
تعتمد على تبادل إطلاق النار أو المعارك العنيفة، بل قامت على عدم
الانصياع الجمعي للقوانين والأعراف البريطانية وعلى تأسيس جمعياتٍ
ومؤسساتٍ جديدة.
تقول الحكمة التقليدية أنه أثناء الكفاح من أجل الدولة تكون الأمور على
المحك بالنسبة للسكان المحليين الأصليين وكذلك بالنسبة للمحتل الأجنبي
أو المغتصب صاحب الهيمنة. فالطرف الأول يقاتل في سبيل بلده، بينما يريد
الطرف الثاني أن يحافظ على وحدة أراضيه وهيمنته الإمبريالية. وبالتالي
فإن الكفاح في سبيل الاستقلال هو صراع متطرف أو وجودي بالنسبة للشعب
المحتل الذي يقاتل في سبيل النجاة من فناءٍ محتملٍ ثقافي أو سياسي، إن
لم يكن فناءً جسديًا. وعلى النقيض من ذلك كانت القوى الأجنبية على مرِّ
التاريخ توظِّف قدرًا كبيرًا من رأس مالها السياسي ومواردها
الاقتصادية، ناهيك عن الأرواح، في احتلال بلدٍ ما، لدرجة أنها ترى في
احتمال انسحابها أو فقدانها للنفوذ على الأرض إهانةً وطنيةً لا تحتمل
وتهديدًا للهيمنة العالمية أو الإقليمية من شأنه أن يشجع آخرين خاضعين
لسيطرتها الاستعمارية على التمرِّد.
في ظلِّ هذه المصلحة الشديدة والراسخة يصبح التحريض على العنف وارتكابه
من قبل كلا الطرفين أمرًا متوقعًا؛ بل إنه شائعٌ ومحتوم. وبما أن حركات
الاستقلال تشتمل على النضالية، وبما أنه ينظر غالبًا إلى العنف على أنه
بمثابة أقوى تعبيرٍ عن تلك النضالية، فإنه يتعذر على البعض أن يحوِّلوا
تركيبتهم الفكرية والوجودية من العنف نحو وجود مقاومةٍ لاعنفيةٍ ونحو
التأثير التاريخي المحتمل لهذه المقاومة.
علاوةً على ذلك تشير الحالات التي يتضمنها هذا الكتاب إلى التطبيق
المقصود والاستخدام الإستراتيجي للمقاومة اللاعنفية وذلك قبل أن
يستخدمها غاندي بوقتٍ
طويل. لقد استوعب الكثير من المقاومين المدنيين الطبيعيين قبل القرن
العشرين بوضوحٍ - عبر اختيارهم لوسائل الكفاح اللاعنفية - عبثية
الانتفاضات المسلحة أو عواقبها الوخيمة مع استشعارهم لفوائد الاعتماد
على طرقٍ لاعنفيةٍ للكفاح في وقتٍ محددٍ من تاريخ بلدهم.
مخاطر الكفاح المسلح
إن التمرُّد المسلَّح في حقيقة الأمر أكثر قابليةً للتسبب بعواقب مهلكة
للقضايا الهادفة من المقاومة اللاعنفية. فالتمرد المسلح طالما اختطف ما
قد سبق وأنجزته المقاومة المدنية وعرَّض إنجازاتها للخطر. فحينما حلَّت
الخيارات العسكرية محلَّ المقاومة اللاعنفية أو ساندتها نتجت عواقب
عكسية تضمنت زيادة التسليح والاستقطاب في المجتمع وتدمير البنية
التحتية الاقتصادية والاجتماعية وإضعاف المؤسسات السياسية وتشرّب
السياسة والمجتمع بثقافة العنف خلال الكفاح الذي يستمر حتى وإن تحقَّق
انتقال الحكم. فالمقاومة المسلحة يمكن أن تقوِّض التعبئة اللاعنفية في
صفوف فئات المجتمع والتضامن فيما بينها، وأن تهدد التقدم الاقتصادي
والاجتماعي، وأن تعرقل تطوُّر المؤسسات الديمقراطية المستقلة الوليدة
والمجتمع المدني أو تسبب تراجع هذا التطور (كما في كوبا وكوسوفو
والجزائر وفلسطين). وإضافةً إلى الضريبة الاقتصادية للكفاح العنفي
تتعدى تكلفته الإنسانية والاجتماعية في كثير من الحالات تكاليف
المقاومة المدنية، كما في الولايات المتحدة. إن التمرد العنيف يقدم
ذريعةً لارتكاب القمع من قبل خصوم الحركة، كما أنه يقلل من ضريبة
الشرعية السياسية التي يتكبدها أولئك الخصوم. علاوةً على ذلك، غالبًا
ما يتخلى الكفاح المسلَّح، باسم الضرورة العسكرية الملحَّة، عن القيم
الأساسية التي يزعم هذا الكفاح أنه يستوحي الإلهام منها (من أمثلة هذه
القيم تمثيله للشعب وكونه مسؤولاً أمامه). وهذا بدوره يولِّد نوعًا من
السلوك والممارسات التي تفضي إلى ظهور الأنظمة الفاشستية (كما في بورما
والجزائر وموزمبيق). نادرًا ما يحلِّل أولئك الذين يلجؤون إلى العنف
مخاطر نهجهم وتكاليفه على نحو موضوعي، كما أنهم لا يعترفون بأنَّ إنهاء
الكفاح المسلَّح أصعب بكثيرٍ من بدئه. وهم يخطئون أحيانًا في رؤية
السلاح بمثابة طريقٍ مختصرة ولا يقدرون ما قد حققته المقاومة المدنية
حق قدره؛ على سبيل المثال الدرجة الملفتة التي حررت بها بعض الأعمال
اللاعنفية المجتمعات من سيطرة المحتلين (كما في الولايات المتحدة
وبنغلاديش وبورما).
تشير بعض دراسات الحالة هذه أيضًا إلى احتمال أن المقاومة المدنية
استخدمت أيضًا بصورةٍ مساعدة - على نحو عفويٍ أحيانًا وعلى نحو مقصودٍ
أحيانًا أخرى – وذلك بمثابة تمهيدٍ للمقاومة المسلحة (كما في بولندا
وكوسوفو) أو بمثابة وسيلةٍ مكملةٍ لتلك المقاومة (كما في موزمبيق
والجزائر). ولكن حتى في هذه الحالات ينبغي الاعتراف بتأثير المقاومة
المدنية. ففي بعض الحالات كان للمقاومة المدنية دورٌ مباشرٌ في إجبار
السلطات الأجنبية على منح هذه الدول الاستقلال الرسمي (غانا وزامبيا
والجزائر) أو منحها المساواة السياسية ضمن الإمبراطورية (كالمجر).
وغالبًا ما سرَّعت هذه المقاومة اللاعنفية عملية التحرر التدريجي من
الهيمنة الأجنبية وذلك تبعًا للإخضاع الخارجي المفروض والذي صمد
السكَّان أمامه مسبقًا (كما في معظم الحالات التي يتضمنها هذا الكتاب).
إن المقصد من هذه التواريخ ليس الإشارة إلى أن البلدان ما كان لها أن
تحصل على استقلالها بدون الكفاح اللاعنفي أو الإشارة إلى أن المقاومة
المدنية هي المسؤولة وحدها عن هذا الاستقلال. بل إن الاستقلال أتى في
أقرب وقتٍ ممكن، ويعزى ذلك جزئيًا إلى الاعتماد على المقاومة المدنية
التي كان لها بالغ الأثر في بناء الأمة والدولة - وغالبًا ما سبق ذلك
تطوير للمجتمعات ولمؤسسات الدولة والمؤسسات الناشئة مما جعلها أكثر
استعدادًا للاستقلال. (لتوضيح هذه النقطة الأخيرة اطلع على الفقرة
الفرعية التالية حول تشكُّل الهوية الوطنية وصناعة الدولة، وعلى فقرة
تحليل أثر المقاومة المدنية على الهويات الجمعية في الفصل الثاني، وعلى
الفصلين الرابع عشر والسادس عشر عن بولندا والولايات المتحدة على
الترتيب، إضافةً إلى غيرها من الفصول).
تشكُّل الهوية الوطنية وصناعة الدولة
إضافةً إلى ما يضمه هذا الكتاب من تفسيرٍ لديناميات المقاومة المدنية
في الكفاح التحرري فإنه يحلل أثر هذه المقاومة في بناء الدولة. ويجب
فهم قوة الصراع اللاعنفي على نطاقٍ واسعٍ كون المقاومة المدنية بحد
ذاتها تتعدى كونها مجرد جملةٍ من التقنيات الجسدية أو المادية أو أنها
الاستخدام المساعد لتكتيكات محددة. وإن تجربة شنِّ كفاحٍ لاعنفي يمكن
أن تكون بحد ذاتها قوة تحويلٍ اجتماعية على مستويات متعددة، اقتصادية
واجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية. علاوةً على ذلك، يبتكر المقاومون في
الكثير من الأحيان أعمال لاعنفية بصورةٍ غريزية أثناء اعتمادهم الحدسي
على معرفتهم وخبرتهم وتأويلهم للمجتمع المحيط بهم - مما يجعل مقاومتهم
أكثر ارتباطًا عضويًا بالناس الذين يحتشدون بجانبهم. وإن هذه الصورة
غير الآلاتية للمقاومة المدنية المنغرسة في البيئة الاجتماعية، كجزءٍ
لا يتجزأ منها مع كونها تلقائيةً وبناءة، شرطٌ أساسيٌّ لفهم أثرها في
الوعي الجمعي والهوية الوطنية.
ارتبط نشوء الدول القومية الجديدة إما باضطراباتٍ كبيرةٍ ومتقلبة أو
بتغيراتٍ هيكليةٍ طويلة المدى. وتبعًا لذلك تشكلت بعض الدول القومية
الحديثة من خلال انفجاراتٍ داخليةٍ عنيفةٍ ضمن الدولة - كالثورات أو
الغزو الأجنبي أو الحروب أو تراجع الإمبراطوريات وتفككها. بينما ظهرت
دول أخرى نتيجةً للآثار التراكمية للثورة الصناعية والتمدّن ونشوء
الرأسمالية والهجرة الجماعية إضافةً إلى اختراع تقنياتٍ جديدةٍ للاتصال
والنقل. وثمة أيضًا دولٌ نشأت نتيجةً لسياساتٍ محلية داخلية كالتجنيد
الشامل أو التعليم الإلزامي المجاني باللغة الوطنية أو نمو
البيروقراطيات الوطنية أو سياسات الأحزاب العاملة.
مع ذلك طالما نظر إلى قوى تشكيل الدول هذه على أنها قوىً على المستوى
الكلي من قمة الهرم إلى أسفله تقاد من قبل النخبة وأنها قطعية في
الغالب.
وعلى النقيض من ذلك تقترح الفصول التجريبية في هذا الكتاب أن عددًا من
الدول المقهورة خضعت غالبًا لتغيراتٍ تحوليةٍ غير ملحوظة لكنها هامة من
القاعدة إلى الهرم. تقاد هذه التغيرات من خلال تعبئةٍ وتنظيم ونشاطٍ
مستمر يرتكز على المدنيين ويجري في الخفاء أو العلن بالرغم من الهيمنة
الأجنبية المباشرة أو غير المباشرة، ومن التجريد من الحقوق القومية على
أساسٍ إثنيٍ أو ثقافي ومن الاندماج أو التوحيد القسري.
كان تشكيل الدولة تحت الوطأة الثقيلة للسيطرة الأجنبية بعيدًا كل البعد
عن كونه مجرد تحصيل حاصل، وذلك كون القوى الأجنبية كانت تحظر عمليات
تعزيز القومية كإنشاء جيشٍ وطنيٍّ أو بناء بيروقراطيةٍ وطنية أو إنشاءِ
تعليمٍ وطنيٍّ، بينما كان الدعاة إلى الوطنية يتعرضون للقتل أو السجن
أو النفي. ففي ظل مثل هذه الظروف القمعية كان يمكن للدول المقهورة
ببساطة أن تختفي كما كان مصير الكثير من الدول الأولى. لقد أدى الناس
العاديون (أكثر من كونهم قوى مجردة أو غير محسوسة) عبر المقاومة
المدنية الشاملة وخلقوا شعور "الدولة". حيث أنهم منحوا شرعيتهم الجمعية
لصيغٍ جديدةٍ من النشاطات والمنظمات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية
والسياسية البديلة، وبذلك حرفوا السيطرة السياسية بعيدًا عن قبضة الدول
الأجنبية أو وكلائها المحليين. وخلقوا بذلك وعيًا أكبر عن الجماعة
الوطنية المشتركة وعن أحقيتهم في امتلاكها
مع إيمانٍ قويٍّ بأنهم قادرون على التطور والازدهار فقط في دولةٍ
مستقلةٍ وخاليةٍ عن التدخل الأجنبي.
وهكذا دأب المقاومون على تحدي من بيدهم مقاليد السلطة من كانوا من خلال
نشر ذخيرةٍ غنيةٍ من التكتيكات اللاعنفية. وبذلك عززوا شعورًا بالذات
الوطنية، وأنشؤوا مؤسساتٍ مستقلة، وأسسوا بنىً شبه مستقلة غالبًا
بعيدًا عن نطاق سلطة القوى الأجنبية. لقد مكنت التعبئة والمشاركة
اللاعنفية الشاملة المجتمعات من رفض سطوة الأجنبي وأوامره مع ممارستها
الحكم الذاتي وبنائها نواة مجتمعٍ مدنيٍ جديد. لقد أصبح الناس بفضل
المقاومة المدنية يعون إلى حدٍّ كبيرٍ انتمائهم وهويتهم ولغتهم
وثقافتهم - وقد أشار جورج لاكي المحاضر البارز في مجال التغيير
الاجتماعي اللاعنفي إلى هذه العملية بـ"التحضير الثقافي" بينما ينقل عن
باولو فرير تسميته إياها بـ "التوعية" التي يمتزج من خلالها مصير الفرد
بمصير حياة الجماعة. وفي هذا السياق كانت المقاومة المدنية تؤدي من
خلال قوتها التحويلية دور أداةٍ لصناعة الدولة قبل الإعلان الرسمي
للدولة بكثير. لقد وضعت المقاومة المدنية أساس نشوء مواطنين يتمتعون
بالوعي الوطني والسياسي ومؤسساتٍ وطنيةٍ تحظى بالسلطة الاقتصادية
والمدنية والسياسية اللازمة لتسيير شؤون البلاد بعد استقلالها، ولو أن
التغييرات الديمقراطية في هذه الدول حديثة الاستقلال لا يزال أقل بكثير
مما هو مطلوب.
ساهمت المقاومة المدنية في نشوء الهوية الوطنية وتشكيلها خلال انتشار
القومية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد عززت الإستراتيجيات
اللاعنفية المستخدمة للدفاع عن المجتمع وتقويض الظلم والسيطرة الأجنبية
انتساب الناس وتطلعهم إلى دولهم التي يُنتظر أن تنال الاستقلال، والذي
قوَّى بدوره مقاومتهم الجمعية. يتوسع الفصل الثاني في سرد هذه العلاقة
المتبادلة المتكررة، والتي أدت في بعض الحالات وعن طريق الخطأ إلى فهمٍ
ضيقٍ للقومية يركّز على الإثنية واستبعاد الآخر. تتضمن أمثلة ذلك أمة
البولنديين مع تقييد الحقوق السياسية للأوكرانيين أو اليهود أو
البيلاروسيين، وكذلك أمة الكوسوفيين دون الصرب، وأمة الهنغاريين مع
استبعاد الأقليات الإثنية الأخرى التي تعيش ضمن الإمبراطورية
النمساوية-الهنغارية، وأمة المستعمرين الأمريكان التي لم تكن تضم حيزٍ
ضيقً للأمريكيين الأصليين، أو أمة بنغلاديش التي لم تتح سوى مساحةٍ
عامةٍ محدودة للأقليات الهندوسية والمسيحية، ناهيك عن الحرمان المتواصل
للبيهاريين. لطالما عززت أساليب المقاومة غير العنفية كالتعليم القومي،
أو إنشاء منظمات عرقية، أو الإفراط في إحياء الذكريات والاحتفالات
القومية ثقافة الأمة المقموعة ولغتها وتاريخها وأعلت شأنها، علاوةً على
أنها مجدت تاريخها العسكري. ومن المفارقة أنه تبعًا لما تذكره بعض فصول
هذا الكتاب ربما يلام هذا التأثير غير المقصود للمقاومة المدنية على
طمسه حكاياتٍ عن المقاومة اللاعنفية على نحو يثير الاستغراب.
هل كان للهويات الوطنية لهذه الأمم أن تنشأ دون اللجوء إلى طرق
المقاومة المدنية؟ ربما، ولكن تلك العملية كانت ستستغرق وقتًا أطول،
كما ستكون نتيجتها النهائية أقل تأكيدًا ويقينيةً في وجه قوى التجريد
من الهوية الوطنية التي شنتها السلطات الأجنبية المهيمنة. يوفر هذا
الكتاب دراسةً هامةً، لكنّها أولية، عن الدور التاريخي للمقاومة
المدنية كأداةٍ محفزةٍ للذاكرة تساعد في استعادة الوعي القومي الكامل
وترسيخ الهوية الجماعية.
إن اندلاع الانتفاضات اللاعنفية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، والذي
بدأ في تونس خلال شهر ديسمبر كانون الأول من عام 2010 جعل هذا الكتاب
يأتي في الوقت المناسب نظرًا لصلته القريبة بهذا الموضوع، فهو يقدِّم
للقراء دروسًا تاريخيةً عن المقاومة المدنية على مرِّ الأيام ضد القوى
الوحشية. إن المقاومة المدنية من حيث التطبيق لا تعرف الحواجز الثقافية
أو الاقتصادية أو الإثنية أو الجغرافية. ولطالما أثبتت فعاليتها ضد
المحتلين والمستعمرين بقدر ما تثبت الآن ضد الحكام والطغاة المحليين
القساة والمستبدين والفاشستيين. ولفهم أحداث الربيع العربي والمقاومة
اللاعنفية المعاصرة على نحو عام فإننا نشجع القراء على الخوض في الماضي
المخفيِّ والمنسيِّ غالبًا للمقاومة المدنية.
ترجمة: محمد الطبل
*** *** ***