غاندي المتمرد 15: خلاصة
جان-ماري مولِّر
كذلك
عاش موهانداس كارامشاند غاندي
Mohandas
Karamchand Gandhi
ومات. لا جَرَمَ أنَّ التاريخَ أقلُّ مثاليةً وأكثرُ مأساويةً من
الأسطورة. فالمهاتما، في "خبرات الحقيقة" هذه، قد عرفَ نجاحاتٍ، ولكنه
عرفَ إخفاقاتٍ أيضًا، وسعى سعْيَه إلى الأولى كما سعى إلى الأخرى على
حد سواء. إلاَّ أنَّ غاندي، حتى وإنْ بدا أكثرَ هشاشةً، لم يكنْ أقلَّ
عظَمةً في التاريخ منه في الأسطورة. لا شكَّ أبدًا في أنَّ غاندي في
مسعاه اللاعنفي قد نجحَ في صياغة حكمة عملية تُعَبِّرُ عن أسمى حقيقة
في الإنسان. وعرفَ كيف يقيْم مواطَنةً سياسيةً أتاحت لجميع الهنود،
مهما كان ظرفُهم الاجتماعي وانتماؤهم الطائفي، أنْ يتغلَّبوا على
انقساماتهم وخلافاتهم بهدف بناء مستقبل مشترك معًا. لقد كان حقًا صانعَ
تحرُّرِ الشعب الهندي الذي أعادَ له عزَّتَه وكرامتَه، لقد كان بحقٍّ
أب الأمَّة الهندية التي أعاد لها شرفَها بنزع الشرعية عن سلطة المحتل
البريطاني. لقد قدَّمَ للهند استراتيجيةَ مقاوَمةٍ تقوم على اللاعنف،
فكانت هذه الاستراتيجيةُ قادرةً على إفشال السيطرة الإنكليزية بدون
إهانة الإنكليز.
لكنَّ المجتمعَ الهنديَّ، وخلافًا لما تقوله الأسطورةُ، كان أقلَّ
استعدادًا بكثيرٍ لتقبُّلِ رسالة اللاعنف التي أراد غاندي أنْ
يقدِّمَها له. لذلك يُظهِرُ لنا التاريخُ أنَّ اللاعنف الذي سعى جاهدًا
لتطبيقه كان عليه في الغالب أنْ يواجهَ في داخل الشعب الهندي نفسِه قوى
العنف التي أفشلَتْه. إنَّ مفهومَ اللاعنف الذي وضعَه غاندي مستوحىً في
وقتٍ واحدٍ من الجاينية [اليانية]
jaïnisme
ومن البوذية ومن المسيحية، إلاَّ أنه كان غريبًا عن الموروثات
التاريخية لكبرى الديانتين السائدتين في الهند، ألا وهما الهندوسيةُ
والإسلام. وينبغي ألاَّ نُخطئَ في هذا الأمر: فخلافًا لأقوال غاندي، لا
البهاغاﭭـاد-غيتا
Bhagavad-Gîta
ولا القرآنُ يُعَـلِّمان اللاعنفَ. وبذلك، عندما أكَّدَ غاندي على أنَّ
اللاعنفَ هو الطريقُ الوحيد الذي يمكنه أنْ يأخذَ الإنسانَ نحو الحقيقة
فإنه لم يتكلَّمْ بلغة يتكلَّمها عادةً الأغلبيةُ الساحقة من الهنود.
بالمقابل، كانت الدعواتُ التي أطلقَها غاندي لمقاومة المحتل البريطاني
تُلاقي قبولاً واسعًا في قلب المجتمع الهندي. لكنَّ أكثرَ ما كان ينقص
غاندي حتى تظلَّ المقاومةُ لاعنفيةً هو تنظيم مبنيٌّ بناءً كافيًا لكي
يتسنَّى للهنود العملُ جماعيًا بطريقة مرتَّبة ومنَسَّقة ومنظَّمة.
خلالَ ما يقارب الثلاثين عامًا، لم يتوقَّفْ غاندي عن "التبشير"
باللاعنف ساعيًا إلى جعل الهنود يشاركونه في إيمانه الفردي، ولكنْ لا
بدَّ من الاعتراف بأنه في نهاية المطاف فشِلَ في هذا المسعى فشلاً
كبيرًا. وفي الوقت نفسِه، لم يعرِفْ كيف يعطيهم الوسائلَ التنظيميةَ
اللازمةَ لكي يتمكَّنوا من تطبيق استراتيجية محدَّدةٍ تطبيقًا جماعيًا.
فلِكَيْ تستمرَّ أيةُ حركةٍ جماهيريةٍ في التقيُّد بمتطلَّبات العمل
اللاعنفي، لا يمكن أنْ يكفيَ أنْ يُطلَبَ من كلِّ فردٍ أنْ يتقيَّدَ
بنظام فردي صارم. لقد أكَّدَ منذ عام 1920 ما يلي: "يحتاج اللاتعاونُ
لكي يكونَ فعَّالاً إلى تنظيم تام."
لكنْ ينبغي الإقرارُ بأنَّ تنظيمَ بلاد يبلغُ تعدادُ سُكَّانِها قرابةَ
350 مليون نسَمة تحكمهم خصوصياتٌ ثقافية متعددة هو مهمة لا قِبَلَ لأحد
بها. إنَّ تمَكُّـنَه في تلك الظروف من إنجاح حملة العصيان المدني التي
تلَت مباشرةً مسيرةَ المِلْح هو أمر مُلْفِتٌ للنظر حقًا. أمَّـا فيما
يخصُّ باقي الأعمالِ فإنَّ إخفاقاتِ غاندي لا تُثبِتُ عدمَ فعالية
العمل اللاعنفي، بل على العكس تتيح لنا تحديدَ شروطِ فعاليته.
ليس مِن شأنِ هذه الإخفاقات، بصورة خاصة، أنْ تطعنَ في حقيقة اللاعنف
التي كانت سببَ حياةِ غاندي وموتِه. ولا يمكن إلقاءُ المسؤولية عليه في
عدم تمَكُّنِه من هداية جميع الهنود إلى اللاعنف. يمكن للخطأ أنْ يصيبَ
الحقيقة فينالَ منها، ولكنَّ ذلك لا يمنع من أنْ تكون الحقيقةُ على
صواب. فهُمْ أنفسُهم الذين كانوا عاجزين عن التغلُّب على رغبتهم في
العنف هم الذين لم يكونوا على صواب، وليس غاندي الذي أراد إقناعَهم
باختيار اللاعنف. كذلك فإنَّ إخفاق المسيح لا يمكن أنْ يطعنَ في حقيقة
تعاليم اللاعنف التي أرادَ تقديمَها للعالَم عندما ألقى عظةَ الجبل.
إنَّ الذين لم يكونوا على صواب هم الذين خيَّبوا أملَ المسيح من خلال
الحكم عليه بالموت. لقد كتبَ رومان رولاَّن
Romain Rolland
إلى غاندي بتاريخ 2 أيار/مايو 1933 يقول:
إذا لم يُخَـلِّصِ الصليبُ العالَمَ – للأسف! – فإنه قد أظهرَ للعالَم
الطريقَ من أجل الخلاص، وأضاء بشعاعه ليلَ ملايين التعساء.
في نهاية القرن العشرين هذه، أَلَمْ يَحِنِ الوقتُ لكي يدركوا مع غاندي
أنَّ "العنف انتحار"؟
وفي كلِّ يومٍ يأتي العنفُ بدليل على أنه عاجز تمامَ العجز عن بناء
التاريخ. فهو لا يمكنه إلاَّ أنْ يدمِّرَه. وبهذا المعنى، يكون العنفُ
هو «يوطوبيا»
«utopie»
وليس اللاعنفَ. فكلمةُ يوطوبيا [يو-توﭙـي]
u-topie
[مُحال، غير منطقي] تشير بحسب معناها الاشتقاقي إلى ما لا يوجد في
أي مكان. إلاَّ أنه بتعبيرٍ دقيقٍ، إذا كان العنفُ موجودًا في كل
مكان فإنه لم يبلُغْ في أي مكان الغايةَ التي يدَّعي تبريرَها، ولم
يحقِّقِ أبدًا العدالةَ بين البشر ولا في أي مكان، ولم يأتِ أبدًا
بحلٍّ إنساني للنزاعات الإنسانية ولا في أية لحظة. وبهذا المعنى فإنَّ
الإنسان العنيف يسعى وراء يوطوبيا [وهْم].
لم يقدِّمْ لنا غاندي أجوبةً لكي نُردِّدَها، بل دعانا إلى أنْ نطرحَ
معه الأسئلةَ الأساسيةَ التي يتعلَّقُ رِهانُها بالمعنى نفسِه لوجودنا
ولتاريخنا. وكما حاول هو أنْ يفعلَ في عصرِه فإنَّ علينا هنا الآنَ أنْ
نبتكرَ أفضلَ الأجوبة الممكنة. فلدينا القناعةُ العميقةُ في أنَّ
الفلسفةَ السياسيةَ التي ستتيح لنا بِناءَ ديمقراطيةٍ مواطَنيةٍ في
المجتمع المتعدِّد الثقافات الذي أصبحَ هو مجتمعَنا ينبغي أنْ تتبنَّى
الأحاسيسَ الداخليةَ الأساسيةَ لغاندي. إنَّ الفريضة الأساسية لهذه
الفلسفة السياسية هي الاستناد إلى العالَميِّ. واللاعنفُ وحدَه يتيح
للفلسفة الانفتاحَ على العالَمي.
في مواجهة الثقافات التي تحصل في كل مكان في العالَم وفي كل مجتمع من
مجتمعاتنا، يمكن لرسالة اللاعنف التي أراد غاندي تقديمَها إلى العالَم
أنْ تكونَ أساسيةً. فالبشرُ والشعوبُ يستندون على الدوام، لتأكيد
هويتهم، إلى القِيَم التي تؤسِّسُ ثقافتَهم الخاصة وحضارتَهم الخاصة.
وكلٌّ منهم يؤكِّد على أنَّ هذه القِيَمَ تتوافقُ مع الفرائض الأعمق
للإنسانية فيزعم عندئذٍ أنَّ هذه القِيَم مدعوَّةٌ إلى نيل الاعتراف
بها عالميًا. ويَنتُجُ عن هذه المَزاعم المتناقضة خصوماتٌ وخلافاتٌ
وصِدامات. فتاريخُ الأمسِ واليومِ يُظهِرُ لنا أنَّ هذه النزاعاتِ يمكن
لها بسهولة أنْ تصبحَ دمويةً وقاتلة. لأنَّ كلَّ واحد، باسمِ قِيَمِه
هو، يميلُ إلى خوض معركة ضدَّ الآخرين.
ومن أجل تهدئة هذه النزاعات وإرساءِ أساسِ حياةٍ سِلْميَّةٍ بين
الطوائف والشعوب فقد دعا رجالٌ ذَوُو نيَّةٍ صادقةٍ إلى التسامح مع
الثقافات الأخرى. وبيَّنوا أنه إذا ما بذَلْنا جهدًا لكي نَتعرَّفَ على
هذه الثقافاتِ تعرُّفًا أفضلَ ونفهمَها فهمًا أفضلَ فسوف نكتشف ما
يتضمَّنُه كلٌّ منها من عظَمةٍ ونبل. وأكَّدوا على أنه ينبغي علينا
قبولُ اختلافاتنا ليعيشَ بعضُنا مع البعض في سلام.
هذا صحيحٌ، لكنْ في جزء منه فقط. لأنه في الواقع، أليست تشابهاتُنا
بالحَريِّ هي التي تُولِّد خصوماتِنا ونزاعاتِنا ومعاركَنا؟ أليس لأننا
نقلِّد أغلاطَ بعضِنا بعضًا وأخطاءه نجد أنفسَنا دائمًا محتربين بعضُنا
ضد بعض؟ وبعبارةٍ أدقّ، أليس لأنَّ حضاراتِنا جميعًا متشابهةٌ من حيثُ
تشرُّبُها ثقافةَ العنفِ يكاد على الدوام أنْ يجرحَ بعضُنا بعضًا وأنْ
يُبَـرِّحَ بعضُنا ببعض؟
في الواقع، تسعى إيديولوجيا العنف الضروري والشرعي والشريف التي تسيطر
على جميع الثقافات إلى محو جميع الاختلافات وإلى إبراز التشابهات
المرعبة. مُذْ ذاك، ليس مُلِحَّـًا، لبناء مستقبل سِلْميٍّ، قبولُ
اختلافاتنا بقدر ما هو مُلِحٌّ رفضُ تشابهاتنا.
إنَّ حكمة اللاعنف التي أراد غاندي أنْ يختبرَها في الحياة اليومية
وكذلك في الحياة السياسية على حد سواء تدعونا إلى أنْ نعيدَ النظرَ في
ثقافتنا وأنْ نُميِّزَ فيها بين كلِّ ما يشرِّعُ ويشرِّفُ العنفَ ضدَّ
الإنسان الآخر من جهةٍ وبين كلِّ ما يقضي أنْ يكون الإنسانُ الآخرُ
محترَمًا ومحبوبًا. يُبرِزُ هذا التمييزُ المزدوجُ فريضةً مزدوجة:
فريضةَ قطيعةٍ مع جميع العناصر الموجودةِ في الإيديولوجيا والتي
تبرِّرُ القتلَ بادِّعائها خدمةَ قضيةٍ عادلة؛ وفريضةَ وفاءٍ
للـ"قِيَم" التي تضفي على الإنسانِ كرامةً وسموًا ونبلاً. وهذه
القِيَمُ في ذاتها تُعاكِسُ العنفَ الذي يدَّعي التسلُّطَ على حياة
البشر والمجتمعات. وسيتمكَّنُ كلُّ فردٍ منا، بوفائه لهذه القيم، أنْ
يكتشفَ في ثقافته الخاصة أُسُسَ حكمةِ اللاعنف.
مِن التناقضِ، ومِن المُريبِ في بعض الأماكن، الاستغرابُ مِن جنْيِ
العنف بعدَ القيام بزرْعِه. إنَّ زرْعَ [تثقيفَ] العنفِ يعني جعْلَه
قضاءً وقدَرًا، ولكنه قضاءٌ وقدَرٌ مِن صُنْعِ يدُ البشر بالكامل. لذلك
فإنَّ التحدِّيَ الذي يواجهُنا هو زرْعُ [تثقيفُ] اللاعنف. وبدون ذلك،
لا بدَّ علينا أنْ نخشى من ألاَّ نتمكَّنَ مِن تعليم أطفالِنا الرجاءَ.
ترجمة: محمد علي عبد الجليل
*** *** ***