الأصوليات والأقدار
حسان يونس
إن
التدبيرية أو القدرية استنادًا إلى نصٍّ مقدس يحدد القدر الإلهي في
مستقبل قريب أو بعيد أصبحت على ما يبدو هي "الصفائح القارية" الحاملة
لكثير من الأحداث بتشعباتها المختلفة.
أن يكون بحكم المصادفة التلاقي بين الأقطاب المالية والتكنولوجية
والعسكرية وبين الفكر القدري فذلك أمر يستحق التدقيق، في الولايات
المتحدة مثلاً ورغم ما يبدو عليه النظام الأمريكي من العقلانية والشغف
بمراكز البحث التي تقف خلف الستار في كثير من السياسات والقرارات إلا
أن هذا الفكر القدري حاضر بقوة كما يشهد بعض أفراد البيت الأمريكي،
فالاعتقاد بأمور متفق عليها من قبل تفسيرات خاصة مستحدثة للنصوص
التوراتية، هذا الاعتقاد هو أحد العوامل الذي تتحرك بموجبها جيوش
الولايات بين أفغانستان والعراق وليبيا والخليج العربي والتي تتحرك
بموجبها السياسات والرساميل الضخمة لحصار هذا البلد وإنعاش ذاك البلد
وتتخذ بموجبها قرارات تعزيز الترسانات المختلفة.
حسب كثير من المراجع تعتقد النخب الحاكمة في الولايات المتحدة بعودة
المسيح وأن عودته تتطلب المرور بمراحل تحقق بعضها كقيام إسرائيل عام
1948 وتفوقها عام 1967 (وهو كان حدثًا شديد الأهمية في تكريس النظرة
الدينية لدى الأمريكيين إلى إسرائيل) والبعض الآخر في طور التحقق
كمرحلة يهودية إسرائيل ومن ثم مرحلة بناء الهيكل اليهودي في جبل الهيكل
بعد إزاحة الصروح الإسلامية. وعند هذه النقطة فإن السياسة الأمريكية لا
بد أن تستجيب للقدر الذي لا بد أنه سيتحقق من خلال دعم "يهودية
إسرائيل" وهو مصطلح ظهر في الخطاب الأمريكي على يد جورج بوش الابن
عندما زار إسرائيل والضفة الغربية لتقديم رؤيته حول بناء الدولة
الفلسطينية في العام 2008م، ثم عاد باراك اوباما وتبنى هذا المصطلح في
زيارته الأخيرة لإسرائيل والضفة الغربية 2013م، وخلال حديثه أيضًا عن
بناء السلام وحل الدولتين. وللمفارقة فإن بعض قادة الدول الإسلامية
كرجب طيب أردوغان تلقفوا هذا المصطلح فتحدث أردوغان مثلاً عن " الأهمية
البالغة التي يوليها للصداقة بين الشعب اليهودي والشعب التركي"
في تعليقه على المصالحة بين إسرائيل وتركيا بوساطة أمريكية في 4/2013م.
إن الحديث عن
يهودية إسرائيل من قبل قادة النظام العالمي والاستجابة لهم من قبل بعض
القادة الإقليميين المرتبطين بهذا النظام، إن ذلك يستتبع أن يحدث
المحظور المتعلق بالصفاء العرقي لإسرائيل، فعرب إسرائيل والفلسطينيين
هم عبء على يهوديتها، وتكريس يهودية إسرائيل يفترض ترحيلهم من الدولة
اليهودية، وربما نشاهد ذلك قريبًا في منطقة حبلى بالتطورات السريعة وفي
زمن متسارع تحدث فيه التطورات الكبرى خلال عقد بينما كانت تحدث خلال
القرن الماضي خلال عقود.
في مجمل
الحديث هناك توأمة بين الخرافة والتقنية، وعندما يتحرك نظام ضخم (أصبح
ديناصوريًا نتيجة اعتلاء الخرافة لمقاعد الحكم فيه) كالولايات المتحدة
التي تشمل فيما تشمل جميع حلفائها المنضوين ضمن بنيتها الاقتصادية
والعسكرية والاستخباراتية (فالرئيس التركي رجب طيب لم يكرر الكلام عن
يهودية إسرائيل عبثًا)، عندما يتحرك هذا النظام بناءً على إيمان توراتي
أعيدت كتابته حديثًا فماذا ننتظر؟
على المقلب
الآخر من التلاقي بين الكتل المالية والتكنولوجية وبين الإيمان القدري،
هناك إيران القنبلة البشرية والتكنولوجية والعقائدية المتفجرة وهي
محكومة كما هو معروف برؤيا تنتظر عودة المهدي المنتظر وربما يكون
الرئيس الإيراني احمدي نجاد النموذج الأكثر سطوعًا في هذا المجال، ومن
المعروف أن إيران تكرر الحديث عن حتمية زوال إسرائيل استنادًا إلى النص
القرآني الوارد في مطلع سورة الإسراء وإلى كثير من المرويات المتواترة
في المذهب الجعفري. والقوة الإيرانية تتطور باضطراد. والأفكار
المتصادمة عندما تمتلك أدوات الصدام لن تظل في حيز التفكير. وعلى هذا
يسير انتقال الصدام إلى الواقع على قدم وساق، فالرغبة والطرح الإيراني
المؤمن بتحطيم إسرائيل يحيط بها من الشمال في جنوب لبنان ومن الجنوب في
قطاع غزة وهنا يقف القدر على مفترق طرق فالمسيحيين الإنجيليين في
الولايات المتحدة متفقين مع الصهاينة على دعم إسرائيل وصولاً إلى تحقيق
يهوديتها وإعادة بناء الهيكل لكن ما سيحدث بعد ذلك هو أمر مختلف عليه،
حيث ينتظر المسيحيون الإنجيليون عودة المسيح التي ستتكرَّس بحرب كبرى
بين إسرائيل وأعدائها يذهب ضحيتها غالبية اليهود كأضحية تتقدم لعودة
المسيح، أما اليهود فلديهم إيمانهم بأن المسيح سيعود ليحكمهم وليحكموا
هم بدورهم العالم. في مفترق الطرق هذا تلتقي الرؤى الإيمانية لدى
الشيعة في إيران مع الرؤى الإيمانية لدى المسيحيين الإنجيليين في
الولايات المتحدة والتي تنتهي جميعها إلى أن إسرائيل ستُدَمر، لكن
لكلاهما قراءة مختلفة لما بعد دمار إسرائيل بين سيطرة المسلمين
المؤمنين على مسرح الحدث أو سيطرة المسيحيين المؤمنين بعودة المسيح
بالإضافة إلى الكتلة المتبقية من اليهود بعد أن تكون أعلنت إيمانها
بالمسيح. هذا الاختلاف في تقديرات ما بعد عودة المسيح وما قبلها لا
ينفي حقيقة أن هناك نقطة تلاقي، وهي نقطة تلاقي مهمة تسلط الضوء على
ذلك التلاقي الأمريكي الإيراني الغامض في العراق والمتمحور في هذه
اللحظة السياسية حول دعم حكومة المالكي من كلا الجانبين وكذلك تسلط
الضوء على الحرب الإيرانية الأمريكية التي تكاد تكون في طور لا يراد
لها أن تحدث الآن بل هي أمر مؤجل في طيات الأحداث المبهمة، فكلا
الطرفين يجري المناورات ويطور المنظومات العسكرية بانتظار ماذا؟ أن تتم
يهودية إسرائيل؟! ويعاد بناء الهيكل؟!
إن كلا
المسيحيين الإنجيليين والشيعة يؤمنون أن إسرائيل هي أضحية لعودة المسيح
علمًا أن التاريخ التوراتي يذكر أن المعبد اليهودي دمِّر مرةً على يد
نبوخذ نصر البابلي العراقي 586 ق.م (والآن يقع العراق في دائرة النفوذ
الإيراني) ودمر مرة على يد الإمبراطور الروماني تيتس 70 م. وتعتبر
واشنطن هي وريثة روما.
الأمر لا
يتوقف هنا والمشهد أكثر تعقيدًا فهناك الإسلام السياسي بتنظيماته
المتدرجة بين القاعدة إلى الإخوان المسلمين وما يحمل هذا الإسلام من
فكر قدري يقول بقيام دولة الخلافة وتطبيق حكم الشريعة.
وصل الإسلام
السياسي إلى السلطة في تركيا في 2003 م. وتدريجيًا أزاح الجيش عن
ممارسة السياسة واستولى على القضاء، وهو استمر في التقدم إلى السلطة في
تونس ومصر وليبيا مع مرحلة ما يسمى بالـ "الربيع العربي" مدفوعًا
بالكتلة المالية الضخمة الموجودة في دول الخليج العربي إما مباشرة من
خلال بعض الدول كقطر أو من خلال شبكة واسعة من التبرعات وجمع المال كما
في السعودية والإمارات والبحرين، وفي سائر هذه الدول استبدلت الولايات
المتحدة تحالفها مع أنظمة عسكرية متحالفة مع الثروة بالأنظمة الإخوانية
الجديدة، وهذا التحالف الجديد الناشئ جعل حركات الإسلام السياسي تحاول
استعادة التاريخ حين توسعت الدولة الإسلامية الأولى باتجاه الشرق بعد
معركة القادسية في العصر الراشدي على أنقاض الدولة الفارسية. وفي حدث
مشابه لما حدث في ذلك التاريخ نجد حركات الإسلام السياسي على مختلف
تلاوينها اجتمعت على خوض حرب مقدسة في كل من سوريا والعراق اللتان
تقعان على خط النفوذ الإيراني حيث يتدفق المال والسلاح والرجال والنساء
والإعلام ويجري استحضار التاريخ وإيقاظ الأموات أي حشد كل عناصر القوة
في صراع غير مباشر اختلطت فيه الأطراف بين الأصولية السنية والأصولية
المسيحية الإنجيلية وبين الأصولية الشيعية، وهي أطراف كما سبق تختلف
على ما قبل وما بعد دمار إسرائيل وتتفق على دمار إسرائيل في صراع مباشر
لا يبق ولا يذر كأضحية تفترضها العودة المباركة لشخص مجهول هو القدر.
*** *** ***