عن حَواف الحكايات، عن رائحتها الضالة

 

مؤمن سمير

 

(1)
الحَكَّاء الضال

لا زلتُ هاربًا من أن أقول ما جرى، أن أنفجر وأُلوِّنَ أوهامي وأصير حَكاَّءً أحمل على ظهري عدة حواديت كبرى، أمشي بهم واستمع لدبيب آلامي تحت وطأتهم دائمًا دائمًا... في الشتاء يُغيِّمونَ الرؤية في عيوني وفي الصيف تلتف الحكايات على عنقي فيضيق تنفسي ويَزْرَقُّ وجهي وتتشاءم مني أمي وتخفي حبيبتي خوفها لكنني أُحس.

ورغم ذلك أجري بعيدًا كلما بدَأَ لساني في العَدْوِ. أهلي من الحَكَّاءين المشهورين كانت نهاياتهم مرعبة، بعدما صاروا هم أنفسهم حواديت أو أبطالاً في الفضيحة المتحركة أو بالأحرى بالونات، ريشٌ مُلَّون يطير مع دخان السجائر في المساءات التي يبحث فيها كل وحيدٍ عن شَبيهْ، يمضغ لحوم الأبطال في شَرَفِهِ وتحت مظلته. لماذا أسبحُ في هذا المصير؟ لماذا أعيشُ تحت هالةٍ تسلبُ حريتي؟ القديسون محجوبون عن زمانهم وعن أنفسهم، مربوطون بسلاسل الضوء والبريق. اعتدتُ على آلام حكاياتي وعلى كوني معذبٌ أصيلٌ بها للأبد، واعتدتُ كذلكَ على كَوْني لا أسمع بكاءها.

والحق أنني أتجاهل توقها إلى الحرية

أقتله وأمسح الدماءَ عن أسناني

أنا ضحيةٌ وجلادٌ في اللحظة ذاتها

أنا الذي عندما أنام تطلُعُ حكاياتي وتملأ الوسادة

فأصرخ وابتسم معًا

وعندما أصحو وأنا ألهث

أَلمُّها في حِجْري بسرعة

وبكل هِمَّة...

(2)
مرايا الوزير

* الرسول:

حالة أن تصادق روائيًا يعني أن تشارك وتحيا وتتنفس، حتى لو لم تظهر على الورق. يسألك دائمًا عن رأيك في هذه الشخصية وأهميتها في سير الأحداث وتقول نعم أو لا، ثم عن الحدث وهل نتركه يؤثر هكذا أم نحذفه ونحذف تأثيراته وتجلياته وتسرح وتقول نعم أو لا. وبالطبع تقرأ كل جزء يُكتب، ثم تنتقل منطقة الثقل إلى عندك أنت فتنصح وتشير ويقول هو نعم أو لا، وهكذا. أهم من هذا أنك تعود إلى بيتك كل يوم مملوءًا وثقيلاً وتحلم بالأبطال ومصائرهم لتدلي بدلوك صادقًا ومخلصًا بعد أن سكنت وحدك مكان المتلقين جميعًا، وتقمصت نزواتهم. أين وعيك وسط غابات الوعي، وعي المؤلف ووعي الشخصيات ووعي المتلقين، وراء الجبل أم أنه في القلب؟ ليتكَ لم تكن الصديق الوحيد المخلص الصادق لروائي. ليتكَ لم تكن مرآةً تهتز بعض الأحيان فيسندها هو بمقولات من قبيل "لا أحد لي غيرك"، "أنت الأقرب والأصفى والمَجْلَى". أو باستثارتك بهاجس المجد بعبارة "صفحة الإهداء ستزدان باسمك وبعرفاني الصادق". إذًا أنت في اللعبة، أساسي، وأنت من داخلك سعيد، تتبادل المواقع مع الخالق، وتراقب المخلوقين وتقسو وترحم، تسمح وتمنع مثله تمامًا. لكن الحقيقة أنك أيضًا واهم، لست خالقًا إلا بمقدار. أنت الوصيف الذي لا يتنفس ويحيا وينتصب فاعلاً ومؤثرًا إلا أن سمح هو لك. وهل يملك إلا أن يسمح؟ هو المستفيد الحقيقي وما أنت إلا واحد من الجوقة التي ترفع بصوتها الأجش ليظهر جمال ولمعان صوته هو، الذي لا حياة لنا جميعًا إلا بعبقريته ونوره. فابق في موقعك المرآوي لأن داخلك – حقًا - ينحني للكبير.

أي كبير...

الذي يشيله لنا وفينا القَدَر

أو بالأحرى

لأنه هو القَدَر...

* المُخَلِّص:

حالة أن تصادق روائيًا في بلدتكم الصغيرة يعني أن تزوغ عيناك كلما خرجت من غرفتك، أن تتلفح بالحذر كي لا يظهر عليك الأمر ثم يظهر عليك وفيك من شدة رعبك أن يحدث.

في المبتدأ تجلس بأمان مع الروائي الذي لا سبيل أمامه إلا اختيار أبطاله من شخصيات واقعكم أنتم، من الأقرباء والأصدقاء والبعيدين عن التعامل لكنكم تعرفونهم أو حتى تعتبرون ملامحهم جديرة بالنحت والحفظ. يختار فتوافق أنت لأن الأحداث التي تجري تعتبر عينةً إنسانية صالحة. وهكذا تصير خالتك هي الراقصة وأبوه هو القاتل وجاركم هو الشبح والشاعر هو شيخ الجامع! وينشغل هو بموقعه المتعالي كخالق وتمكث أنت وسط الأتون. هل ستعلم هي أنكم استعرتموها وأن حياتها تملك من البلاغة ما جعلكم تنقلونها كما هي؟ هل سيعلم هو أن مهابته قد تحولت بفعل نزواتكم إلى عبث؟

إن تناسوا رد السلام عليك يمتعض وجهك وتزيد دقَّاتك. وإن قاموا من جوارك في المناسبة السعيدة أو السيئة تكون الكارثة اقتربت. وترتعش، أنت الذي في المتناول لأنك الأقرب له ولهم.

أما هو، فالشك بعد نجاحه، وازدياد معارفه، وكونه صار مسنودًا، حتى من قرائه، يجعل التردد حالاً بإزائه. أما أنت يا مسكين فليس لك إلا الخوف والقلق، وليس عليك إلا أن تفرح له من قلبك:

وتقول الحياة أدوار

ثم تعطي خدك الأيسر.

(3)
الذراعُ ملتوٍ تحت التشاؤم

آه على المجاز الجبار المتساقط مني. إنها حقًا جملة مقعرة ومتكلسة وتشبه الجدران السميكة التي تضغط على الروح والذاكرة. جملة بنت ستين كلب!! أتفق معكم طول الوقت على أن نزف جمل كهذه دليل عدم القدرة على التعبير عن النفس بصورة أوضح وأبسط. لهذا يلجأ الفاشل للف والدوران والتخفي وراء الهيبة والجلال اللذان يطلان من أهاب المجاز. لكنَّ الحقيقة أن هناك سرًا هو أن فدادين الداخل عندي بلغت من التعقيد شأنًا يجعلها الأم الرءوم لحروف فخمة كهذه. قمت مفزوعًا في ليلة تشبه باقي الليالي من زاوية الكوابيس وارتباطها القسري بالرعب والفزع والثعابين والخفافيش التي تملأ الدماغ وتتسرب للسرير ثم للغرفة والدنيا بأسرها. قمت وأنا متفاجئ بأنني نائم وذراعي تحتي. نام جسدي كله، بأشباحه وأصواته المخيفة ورعشاته وذكرياته الثقيلة على ذراعي التي بت لا أحس بها ولا أستطيع تحريكها لأن الدم ضعف في الوصول إليها. ولم يكن الأمر مجرد "تنميل" كما يقال ولكن لأن سريان الدورة الدموية عندي ضعيف منذ ولادتي، يصبح الأمر أشبه بالكارثة حينما يأتي الخطأ من هذه الناحية. وكنت في الكابوس مربوطًا وألهث من العطش والعرق يعمي عيناي وأسمع قرع نعال آخر الموجودين في القبو وأحس لمعة ظهورهم وأقفيتهم وأقنعتهم وأن كنت لا أراها. وهكذا، وجدتني في الصباح أكتب بيدي الأخرى لأن الأولى ما زالت مشلولة، ميتة، الذراع تحت الفزع، الذراع يعدو بأقصى سرعة وهو منهدلٌ على ظلِّهِ.

أخي في طريقه للصلاة قال: "ما لعينيك حمراوين وشكلك مخيف... يا أخي تفاءل يومًا وتعالَ صَلِّ معي...". وضعتُ رأسي في الأرض فغادر وهو يهز رأسه ويحوقل.

غَيَّرتُ الجملة إلى الذراع ملتوٍ تحت التشاؤم.

وهكذا يأتي المجاز من ثم أتعجب منه معكم وأندم على اقترافه مثلما أندم على كل الأفكار الشريرة التي أرسمها وأفاجأ بها تحدث.

دائمًا أتفاجأ بالأمور

وأرتبك وأسأل.

لكني في الحقيقة،

في داخلي أعلم.

(4)
قَصَّاص الأثر

مكتبي في المصلحة الحكومية العتيقة، في آخرها، وكذلك هو واطئ وينزل سنتيمتراتٍ عن باقي الأرض، ومع السنين قَرَّ في يقيني أنَّ ذلك لم يكن بسبب هبوط الأرض الطبيعي وإنما بسبب سخونة الضجر الذي يصيب الخطوات من كثرة وتعدد واتساع دائرة السير واللف على المكاتب. القهر يجعل الإنسان بين خيارين، إما أن يستسلم فيكون سُمْكُ خطواته بسيطًا وإما أن يأخذ استسلامه شكلاً آخر هو أن يجمع آخر ما تبقى عنده من قوة ليكيل للأرض ضربةً تُظَلِّلُها أطنان السِباب والدعاء. أراقبها أنا وهي تصعد مصحوبة بألسنة اللهب للسماء.

أقبع في مواجهة الباب إلا قليلاً، بزاويةٍ ماكرةٍ تتيح لي أن أرى وأصيغ وأرسم وأسمع. لكن تسليتي الحقيقية هي الخطوات. أستطيع الآن أن أدرك صاحب الخطوة وَحَظَّه ونصيبه من اللحظة الأولى. الرجل الذي تكاد أقدامه لا تلمس الأرض ورومانسيته وأحلامه، وذلك الذي يدب بخطوات واثقة، والسيدة المشوشة صاحبة اللمسات التي لا خريطة تَحُدُّها. وهكذا...

ولأني وحيد صرتُ أُواربُ باب الشقة وأراهن نفسي على معرفةِ مشاعر ضيوف الجيران وخِفَّةِ كذباتهم أو ثقلها المقبض.

حتى الحيوانات والطيور... حتى الهواء

الذي يحمل أخبارًا سيئة وذلك الذي يملك

جعبةً فارغة...

محطة السكة الحديد... أعلم الآن عدد بلاطها

وحظ كل بلاطة من الضغط... والحيطان أشمُّ

كل ما جرى بين تلافيها...

الوحيدون الذين يأتون آخر الليل

وينظرونَ بعيدًا.

صرتُ أخوهم

وحامل أسرارهم وحارس خطواتهم الطائرة...

أنا قَصَّاص الأثر

صرتُ عدوًا للريح الغادرة التي تنتظر نومي

لتمسح بلاغة العابرين

وعندما رَبَيّْتُ ساعةً في عقلي تدور على قرع

الخطوات انضبطَ الكونُ لأول مرة

أنا الذي ملأتُ الدنيا بالناس لأكشفهم

ثم استفهم في دولابي

وأغذيهم ليصيروا أقوياء

في وجه المطر المستهتر

الذي يُفْسِدُ الأمورَ دائمًا

ولا يعيد رسم المصير...

(5)
خَالقونْ

صحوتُ يومًا فوجدتُ شَعْر جسدي كله قد صار أبيض. لم يصل الأمر لدرجة أنني صرتُ وحشًا أملك أظافرَ طويلةٍ وقذرة وجثةٍ تزيدُ وتخلقُ ظلالاً مرعبة كلما أتثاءب. الأمر أنني صرتُ عجوزًا أسرع من المفترض، فقط. وهكذا انحنى ظهري وضعف بصري مع أنني كنتُ بالأمس شابًا. الساعةُ الأكثر صعوبة في حياتي هي التي أقبع فيها حاليًا.

كيف أخرج للناس؟ ماذا أقول لهم، وكيف أبرر لهم كوني غير مستغرب ولا مندهش؟

لن يدركوا أنني في الفترة الأخيرة صرتُ أكثر يأسًا وأكثر تقبلاً لما يجري لي. مللتُ من الكوابيس والصرخات، ومللتُ من تدفق الحشرات من المنام إلى الوسادة... حتى تقبلتهم في النهاية وتَقَبَّلْتُ أي شيء. ماذا؟ نعم، نعم. الحل الوحيد هو أن أجلبهم إلى هنا فيصيروا ضيوفًا عَليَّ واللياقة تقتضي ألا يعترض الوافد على المقيم. أن أستثير مواهبي التي تَكَلَّست بفضل عدم الاستخدام. أن أبتكر وأنا في نهاية عمري حياة كاملةً تستمر بعدي فتكون المرآةُ هي كوبري المدينة، والسرير البيوت والدولاب المناسبات العامة، والسجادة المواصلات، والبلاط المدافن... أما أنا فأختفي، أصير ذكرى مكتنزة. لن أصير حاكمًا أو عمدة، ليس هذا في طموحي ولا أسعى إليه، يكفي أنني الخالق. الخالقون دائمًا أعلى من حواسنا العاجزة، فلا يليق أن يُرَوْا أو يُسْمَعوا. متسامون. كبار حقًا. لا يسكنون إلا في الأعالي تاركين السفوح للعَجَزة والنسبيينَ الذين يقضون أعمارهم في التطلع والانتظار.

مكاني الجديد في كل القلوب، سيعيدني لشبابي

حيث الخلودُ والمهابةُ والبهاء

شيءٌ واحد...

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني