كل
شيء ينطلق من التبادل المستحيل. إن لايقين العالم هو أنه لا معادل
équivalent
له أبدًا ولا يمكن مبادلته بشيء. كذلك فإن لايقين الفكر هو أنه لا يمكن
مبادلته لا بالحقيقة ولا بالواقع. هل الفكر هو من يُوقع العالم في
اللايقين أم العكس؟ هذا أيضًا يُعد جزءًا من اللايقين.
لا يوجد معادلٌ للعالم. وهذا بالضبط تعريفه، أو لا تعريفه. لا معادل،
لا آخر، لا تمثُّل، لا مرآة. فأي مرآة ستشكل جزءًا آخر من العالم. لا
يوجد مكان للعالم ولآخَره معًا. وبالتالي، من غير الممكن التحقق من
العالم – ولهذا السبب، الكلامُ عن "الحقيقة الواقعية"réalité
تضليل.
فمن تحققٍ ممكنٍ يتحول العالم إلى وهمٍ أساس. وعلى الرغم من إمكان تحقق
جهوي ما، يبقى لايقين العالم في مجمله أمرًا لا شك فيه. لا وجود لحساب
متكامل للكون – ربما هناك حساب تفاضلي؟ "الكون على الرغم من كونه
مجموعات لا تُحصى، إلا أنه هو ذاته ليس مجموعة". (دينيس غيدج،
Denis Guedj)
يقضي
العالِم قسطًا كبيرًا من وقته في دراسات يحاول أن يستبعد منها الأحكام
الأخلاقية، لكن هذه الحقيقة لا تعني أن العالِم ونشاطه سوف لن يكون خاضعًا
للحكم الأخلاقي. هكذا يشير كاتب هذا المقال.
يحتوي هذا المقال على أصداء عديدة من الجدال حول
طبيعة العلم. لقد ناضل الجيل الأبكر للإجابة عن السؤال التالي: "هل يخبرنا
البحث العلمي أي شيء حول القيم والإلزامات الأخلاقية؟ ووصل إلى نتيجة مشكِّكة
جدًا. فمنذ خمسة عشر عامًا بدا لكثير من العلماء والفلاسفة أن الدراسات حول
اللغة ومنطق العلم قد حسمت السؤال: فأنت لا تستطيع أن تقفز منطقيًا من
التوكيدات حول ما هو كائن أو ممكن إلى توكيدات حول ما يجب أن يكون. ثم حدثت
الحرب العالمية الثانية ومشروع مانهاتن، والكثيرون ممن قبلوا الطلاق بين العلم
والأخلاق أصبحوا مكرهين على إعادة النظر في القضية. فإذا لم يكن للعلم ما يقوله
حول القيم والواجبات فإن ذلك سيء جدًا له يجب أن يكون ثمة ارتباط بين العلم
والأخلاق. ومهما تكن المعضلات الدلالية، فإن شيئًا ما مطلوب فعله كي نمنع
الاستخدام الانتحاري للعلم. فمنذ العام 1945 عقدت مؤتمرات وندوات كثيرة تعيد
النظر في العلاقة بين الحقيقة والقيمة، أي العلاقة بين العلم والأخلاق. وعلى
الرغم من براعة تلك المناقشات فإنني رأيتها، وعلى العموم، مخيبة للآمال وغير
حاسمة.
كان
الفيزيائيون طوال سنوات كثيرة ينكرون أن يمثل الأداء غير الأخلاقي مشكلة في
مهنتهم. لكن التآكل في الثقة والمسؤولية المهنية أو التغاضي عنهما يمكن أن يهدد
مشروع البحث العلمي، وغالبًا بطرق ملتوية.
إن البحث العلمي، مثله مثل المساعي التعاونية الأخرى، يتطلب الثقة كي يزدهر.
وتوضح الفيلسوفة المميزة أنيتا بايير
Annette Baier
أن الثقة هي تعويل على الأمانة. فكلا العنصرين، الأمانة
والتعويل عليها، حيويان.
عندما لا تكون البدائل متاحة ربما نضطر للاستمرار في التعويل على أناس وأشياء
فقدنا الإيمان بهم. لكن التعويل بدون أمانة يقود إلى سبيل لولبي منحدر من
التوقعات الدنيا والسلوك الدفاعي والتعاون الضعيف. وتلك هي الحالة المؤسفة في
بعض ميادين البحث العلمي. على سبيل المثال، أعرف باحثين فقدوا الإيمان في صدق
وعدالة المحكِّمين. وكي يمولوا بحوثهم ويُعرِّفوا بمنجزاتهم يجب على هؤلاء
الباحثين أن يواصلوا التعويل على تقديم اقتراحاتهم إلى المجلات والنشر فيها.
ولكن، بما أنهم يخشون محاولة المحكمين سرقة أعمالهم فإن بعضهم يعمد إلى حجب
معلومات أو حتى وضع عبارات غير صحيحة في مخطوطاتهم المقدمة إلى المحكمين، ويكون
القصد من ذلك الانتظار حتى مرحلة الاختبارات النهائية لمقالاتهم قبل تدقيق
العبارات غير الصحيحة. لكن هذه السلوكيات، ومثيلاتها، تعرقل عمل المحكمين
والمحررين المحترمين وتخلق مخاطر جديدة على سجل البحث وتجعله بالتالي أقل جدارة
بالثقة.