العدالة، الدولة، الإرهاب

 

دارين أحمد

 

ما هو الفرق بين الثأر والنظام القضائي الذي يسمى "عدالة القانون"؟ هل عدالة الثأر أقرب إلى المعنى المجرد لكلمة العدالة من عدالة النظام القضائي؟ هل ينحصر النظام الاجتماعي للإنسان في هذه الثنائية الاستبدالية حيث أن أي مؤشر لانهيار النظام القضائي متزامنًا مع انهيار الدولة يستدعي حلول الثأر بمعناه البدئي الأول "العين بالعين" بشكل فوري، بل يمكن القول إن الثأر يبدأ بالتمدد من أول ثغرة في جدار صلابة الدولة – محتكر العنف – ساعيًا إلى الحلول محل ما أنتجته الدولة من شكل متعالٍ له ممثلاً بالنظام القضائي؟ هل الثأر هو حس العدالة البدائي في لاوعينا؟ وهل صيغة العدالة الحضارية بشكلها الحالي صيغة قشرية فشلت في التجذر في الإنسان الحديث، إنسان المدنية والتقنية، إنسان الحقوق؟

يتركز الفرق بين العدالة والثأر في الهوية الفردية؛ ففي حين تقوم العدالة على القصاص من المجرم ذاته بعد التأكد من قيامه بالفعل الإجرامي يقوم الثأر بدمج هوية الفرد بهوية أولية سابقة، سواء كانت العائلة أو القبيلة أو الدين أو العرق، وإلغاءها كليًا لصالح هذه الهوية الأولية، وفي هذا الفرق تتهدم الثقافة الحضارية التي تُعد الدولة أعلى تجلياتها حالما يصبح الثأر قائمًا على أرض الواقع. ولا يصبح الثأر واقعًا اجتماعيًا متفشيًا إلا باجتماع عاملين: الأول فشل عدالة الدولة ممثلة بنظامها القضائي في التحقق لعوامل فساد واستبداد وغيره، والثاني انهيار في سلطة هذه الدولة وانفلات للعنف من يدها.

يرى رينيه جيرار في كتابه العنف والمقدس النظامَ القضائي كمزيج غريب بين العنف واللاعنف، ويعده وسيلة علاجية ناجعة لوقف مد العنف عبر استخدامه العنف بسلطة وقوة يستحيل معهما القيام بفعل انتقامي مقابل، ما يعني قطع حلقة الثأر. هذا يفسر عودة حلقة الثأر حالاً ومباشرة عند ظهور أول بادرة ضعف في سلطة وقوة النظام القضائي، أي الدولة. ولو عدنا إلى الواقع (المُنتج ثقافيًا) الذي يقول إن الدولة هي محتكر العنف وهي القوة المخولة باستخدامه لأغراض الصالح العام المتمثلة أساسًا بتقنين العنف ومنع استشراءه؛ وإن عنف الإنسان فطري وأخلاقه المقيِدة لهذا العنف مكتسبة – ترتبط هاتان الفكرتان وتتواشجان بشكل كلي، إذ لا قيامة للدولة بما هي عليه الآن إلا بتأكيد فطرية العنف عند الفرد، ولا قيامة للفرد ككائن خيِّر فطريًا إلا بتغيير أسس الدولة المتعارف عليها -؛ لوجدنا أن هذا الفكر يتسق تمامًا مع هذا الواقع، ولوجدنا أنه لا مفر من استشراء العنف والثأر في حال تخلخل أسس الدولة الحالية لأنها قائمة أصلاً على تنمية العنف عند الفرد وتهيئته لاستخدامه في حال فشلها في احتوائه.

دافع تولستوي عن الغاء الدولة واعتبر هذا الإلغاء رغم ما قد يحيق به من خطر انفلات العنف طريقًا إلى صيغة أخرى لا تقوم على العنف في جوهرها كما هو حال الشكل الحالي للدولة، مقترِحًا أن المسيحية هي الحل* - المسيحية انطلاقًا من تعريفه لها بأنها ميزت بوضوح بين الخيِّر والشرير من خلال قيمة اللاعنف:

وفق تعليم المسيحي، الأخيار هم الودعاء الصابرون الذين لا يقاومون الشرَّ بالعنف، وينفرون من الإساءة، ويحبون أعداءهم؛ والأشرار هم المتكبِّرون الذين يتسلَّطون، ويقاتلون ويقهرون الناس، وبالتالي ما من شكٍّ – بموجب تعليم المسيح – في موضع الأخيار والأشرار بين الحاكمين والمحكومين. بل حتى من المضحك الحديث عن حكَّام مسيحيين.

في حين يقف مفكر لاعنفي كبير، يَعتبر تولستوي أحدَ ملهميه الكبار، وهو اللاعنفي الفرنسي جان-ماري مولر على النقيض من خلال اعتباره تعزيز قوة الدولة وقوة أجهزتها الأمنية الحل الأمثل لمكافحة الإرهاب بسبب طبيعة الإرهاب المناقضة لطبيعة الحرب، ولأن هذه الطبيعة:

تقضي بمكافحته [أي الإرهاب]، لا بأعمال حربية، بل بتدابير أمنية. وينبغي إعمالُ هذه التدابير مع اجتناب وقوع أيِّ شطط أمني، وبغية ذلك، احترامُ معايير القانون احترامًا صارمًا. وضمن الإطار الصارم للقانون، لا يجوز توفير أي جهد لاكتشاف الشبكات الإرهابية وفرط عقدها. ولهذا الغرض، ليست الجيوش هي التي ينبغي تعبئتها، بل أجهزة الاستخبارات. ينبغي اعتقال عناصر هذه الشبكات ومحاكمتهم حالما يتم التعرف إليهم من غير لَبْس[1].

فهل مرد الاختلاف بين اللاعنفيَين هو تحول الحامل الأساسي للعنف من الحرب إلى الإرهاب، أم مرده تفاؤل مولر بإمكانية إصلاح الدولة والثقة بالقائمين عليها رغم كل شيء مقابل تشاؤم تولستوي من إمكانية اجتماع السلطة والخير في مكان واحد، أم أنه اختلاف ثالث له علاقة بالإيمان؟ من جهتي أرى العوامل الثلاثة حاضرة في هذا الاختلاف، وبما أن العاملين الأخيرين ذاتيان ولهما موقع آخر للحديث فإن التركيز هنا هو على العامل الأول الذي قلب المعادلات وصار تهديدًا للدولة على قدر ما هو مثبت لها ومبرر لتغولها.

قامت الدولة الحديثة على الحرب أساسًا، على تقسيم العالم إلى دول قوية ودول ضعيفة، واعتماد هذا التقسيم قاعدة لا غنى للاقتصاد الذي أخذ شكلاً نهائيًا قائمًا على استغلال القوي للضعيف والالتصاق بالدولة ليشكلا كلاً واحدًا فصامي الخطاب؛ فمن جهة تقوم الدول القوية بتعميم نموذجها السياسي مع اغفال كامل لعلاقته باقتصاد هذه الدول واعتماد هذا الاقتصاد على بقاء الدول الضعيفة على ما هي عليه. يعيدنا هذا إلى رينيه جيرار مرة أخرى في توصيفه العميق لمشكلة العنف وجوهرها القائم على ثلاثية: الراغب-المرغوب فيه-والمنافس، حيث يلعب المرغوب فيه دورًا ثانويًا في الواقع أمام الدور الأساسي الذي يحكم العلاقات البشرية إجمالاً بين الراغب والمنافس، وقيام هذا الدور على مبدأ الإكراه المزدوج الذي لخصه رينيه جيرار بالتناقض التالي: "اقتد بي" "لا تقتد بي"، وهو إجمالاً شبكة الأوامر المتناقضة التي تحيط كل فرد فينا. عندما تقدم الدول العظمى نفسها كقدوة للدول الضعيفة وتقوم في الوقت نفسه بأي شيء للحيلولة دون اقتراب هذه الدول الضعيفة من إمكانية أن تكون دولاً عظمى، في الوقت الذي لا يحتمل الواقع فيه أساسًا تحقق مثل هذا المطلب، لا يمكن أن يكون الحال إلا عنفًا قائمًا أو قادمًا. الآن وبما أن الحرب بمفهومها التقليدي كصراع جيوش متقابلة غير ممكنة بسبب الهوة التكنولوجية والاقتصادية الهائلة التي حصلت في العقود الأخيرة وبسبب وصول التقسيم العالمي للدول إلى حده الأقصى كان لابد من استبدال الحرب التقليدية كحامل للعنف بالإرهاب. الإرهاب الذي يمثل الآن الوسيلة الوحيدة الممكنة لبقاء الشكل الحالي للدول رغم أنه موجه بشكل أساسي ضد مبدأ الدولة ذاته. ولذلك يمكن أن نقول إن اعتماد هذا الحامل هو بمثابة انتحار مفجع للدولة القائمة على العدالة، أي على الوقف الانتقائي، زمانيًا ومكانيًا، للعنف.

ما الذي يعنيه هذا الكلام؟ في عودة إلى الأسئلة التي استلهينا بها الافتتاحية نقول إن النظام الاجتماعي الحالي بكل ما أنتجه من ثقافة وسياسة اقتصاد جعل ثنائية "الدولة وعدالتها" و"الثأر وانفلات العنف" ثنائية استبدالية حتمية من خلال ترسيخه العنف وفطريته وطفولية الإنسان الأخلاقية وحاجته الأبدية إلى أب حامٍ يمثل التحريم والقدوة معًا، أي أنه نظام لم يسع إلى تربية الإنسان ليصبح إنسانًا ناضجًا أخلاقيًا يكون التزامه بالقانون التزامًا داخليًا متسقًا وانتسابه للدولة انتسابًا نديًا وبنَّاءً، مما يعني حتمية حلول الثأر مع أول بادرة على انهيار الدولة.

ويبقى سؤال أيهما أفضل: القضاء على الدولة وقبول انفلات العنف وحلول الثأر محل العدالة حتى يعيد هذا الانفلات العنفي إعادة صياغة شكل عالمي جديد للنظام الاجتماعي للكائن البشري في حال نجاحه في البقاء والخروج من دوامة الثأر؟ أم تعزيز استخبارات الدولة وتعزيز استبدادها المعلن أو المستتر لمواجهة العدو الذي أنتجته بنفسها؟ [يبقى السؤال] سؤالاً مفتوحًا يجيب عليه الواقع ذاته.

*** *** ***


 

horizontal rule

*  تركز السيدة سحر أبو حرب في كتبها على النقطة ذاتها بخصوص الإسلام من خلال اعتمادها الأصل اللغوي لكلمة إسلام أي السلم، وقول الرسول محمد مثلاً: المسلم من سلم الناس لسانه ويده، وأحاديث أخرى. الأمر الذي يجعلنا نرى إمكانية تأويل دين إسلامي لاعنفي على غرار المسيحية اللاعنفية التي تحدث بها تولستوي رغم الاختلاف الجوهري للمسيحية عن كلا الديانتين التوأمين اليهودية والإسلام.

[1]  قاموس اللاعنف، جان ماري مولر، ترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر للنشر بالتعاون مع الهيئة اللبنانية للاعنف. انظر الرابط: http://www.maaber.org/nonviolence_a/Terrorisme_a.htm

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني