التوعية الإيكولوجية
فريتيوف كابرا
تعني
إعادة الارتباط بشبكة الحياة بناء وتأثيث مجتمعات مستدامة نستطيع ضمنها
أن نلبي حاجاتنا وطموحاتنا من دون إهدار فرص الأجيال المستقبلية. ولأجل
هذه المهمة، نستطيع تعلم دروس قيِّمة من دراسة المنظومات الإيكولوجية،
وهي المجتمعات المستدامة المكونة من نباتات وحيوانات وأحياء دقيقة. وكي
نستوعب هذه الدروس، نحتاج إلى تعلم المبادئ الأساسية للإيكولوجيا.
نحتاج أن نصبح، كما كنا، مثقفين إيكولوجيًا. هذا يعني استيعاب مبادئ
التنظيم في المجتمعات الإيكولوجية (المنظومات الإيكولوجية) واستخدام
هذه المبادئ لإبداع مجتمعات إنسانية مستدامة. نحتاج إلى إحياء
مجتمعاتنا – بما فيها مجتمعاتنا التربوية ومجتمعات الأعمال ومجتمعاتنا
السياسية – بحيث تتجلى ضمنها مبادئ الإيكولوجيا كمبادئ تربية وإدارة
وسياسة.
تقدم نظرية المنظومات الحية إطارًا مفهوميًا للرابطة بين المجتمعات
الإيكولوجية والمجتمعات الإنسانية. فكلٌّ منهما منظومات حية تُظهر
مبادئ التنظيم الأساسية ذاتها. كما أنها شبكات مغلقة تنظيميًا، لكنها
مفتوحة على دفق الطاقة والموارد، وبنياتها محددة بتواريخها وتغيراتها
البنيوية، وهي ذكية نظرًا للأبعاد الاستعرافية المتأصلة في سيرورات
الحياة.
وثمة، بالطبع، الكثير من الفروق بين المنظومات الإيكولوجية والمجتمعات
الإنسانية. فليس ثمة وعي ذاتي في المنظومات الإيكولوجية، ولا لغة، ولا
وعي، ولا ثقافة، ولذلك ليس ثمة عدالة أو ديمقراطية، ولا جشع أو خداع
أيضًا. فلا نستطيع تعلم أيِّ شيء عن هذه القيم والعيوب الإنسانية من
المنظومات الإيكولوجية. لكن ما نستطيع تعلمه ويجب تعلمه منها هو كيف
نعيش على نحو مستدام. فطوال أكثر من ثلاثة مليارات سنة من التطور نظمت
المنظومات الإيكولوجية في الكوكب نفسها بطرق معقدة وحاذقة بحيث تعظٍّم
استدامتها. إن حكمة الطبيعة هذه هي جوهر التوعية الإيكولوجية.
واعتمادًا على فهم المنظومات الإيكولوجية كشبكات صنع ذاتي وبنى مبددة،
يمكن أن نصوغ مجموعة من مبادئ التنظيم التي ربما نعرِّفها بالمبادئ
الأساسية للإيكولوجيا ونهتدي بها لبناء مجتمعات إنسانية مستدامة. وأول
هذه المبادئ هو التواكل. إذ يرتبط جميع أعضاء المجتمع الإيكولوجي
بواسطة شبكة واسعة معقدة من العلاقات، إنها شبكة الحياة. وهم يستمدون
خصائصهم الجوهرية، وفي الواقع، وجودهم الحقيقي، من علاقاتهم مع الأشياء
الأخرى. فالتواكل – أي الاعتماد المتبادل لجميع سيرورات الحياة على
بعضها بعضًا – هو طبيعة كل العلاقات الإيكولوجية. فسلوك كل عضو حي في
المنظومة الإيكولوجية يعتمد على سلوك أعضاء آخرين كُثُر. ويعتمد نجاح
المجتمع بأكمله على نجاح أعضاءه المفردين في الوقت نفسه الذي يعتمد فيه
نجاح كل عضو على نجاح المجتمع ككل.
إن فهم التواكل الإيكولوجي يعني فهم العلاقات. ويتطلب هذا الأمر نُقلات
في الإدراك مميزة للتفكير المنظوماتي – أي من الأجزاء إلى الكل، ومن
الأشياء إلى العلاقات، ومن المضامين إلى النماذج. والمجتمع الإنساني
المستدام يكون على دراية بالعلاقات المتعددة بين أعضائه. وإنماء
المجتمع ما هو إلا إنماء تلك العلاقات.
وإن حقيقة كون النموذج الأساسي للحياة هو نموذج الشبكة تعني أن
العلاقات بين أعضاء المجتمع الإيكولوجي هي علاقات لا خطية تتضمن حلقات
التلقيم الراجع المتعددة المستويات. فالسلاسل الخطية للسبب والنتيجة
نادرة الوجود في المنظومات الإيكولوجية. لذلك فإن الاضطراب لن يكون
محصورًا بتأثير وحيد بل من المحتمل انتشاره وفق نماذج متوسعة. وربما
يتضخم بواسطة حلقات التلقيم الراجع المتواكلة التي ربما تحجب تمامًا
المصدر الأصلي للاضطراب.
والطبيعة الدورية للسيرورات الإيكولوجية مبدأ هام في الإيكولوجيا.
فحلقات التلقيم الراجع في المنظومات الإيكولوجية هي المسالك التي يتم
في سياقها تدوير متواصل للمواد المغذية. ولكونها منظومات مفتوحة، فإن
جميع المتعضيات في منظومة إيكولوجية تنتج نفايات، لكن ما هو نفاية
بالنسبة لأحد الأنواع الحية يعدُّ غذاء لدى نوع آخر، بحيث تبقى
المنظومة الإيكولوجية ككل بلا نفايات. وقد تطورت مجتمعات المتعضيات
بهذه الطريقة طوال مليارات السنين، مستمرة في استخدام وتدوير نفس
الجزيئات المعدنية والمياه والهواء.
والدرس الذي ينبغي للمجتمعات الإنسانية تعلمه يبدو واضحًا. فالصدام
الرئيسي بين الاقتصاد والإيكولوجيا ينجم عن حقيقة أن الطبيعة دورية في
حين أن منظوماتنا الصناعية خطية. فمشروعات الأعمال تأخذ الموارد
وتحولها إلى منتجات ونفايات ثم تبيع المنتجات إلى المستهلكين الذين
يطرحون المزيد من النفايات عند استهلاك المنتجات. لذلك تتطلب النماذج
المستدامة في الإنتاج والاستهلاك أن تكون دورية وتحاكي السيرورات
الدورية في الطبيعة. ولتحقيق مثل هذه النماذج الدورية نحتاج إلى إعادة
تصميم جذرية لأعمالنا واقتصادنا.
تختلف المنظومات الإيكولوجية عن المتعضيات الفردية لأنها منظومة مغلقة
إلى حد كبير (ولكن ليس تمامًا) بالنسبة لدفق المادة، بينما تكون مفتوحة
بالنظر إلى دفق الطاقة. إن المصدر الرئيسي لدفق الطاقة هو الشمس.
والطاقة الشمسية، المحوَّلة إلى طاقة كيميائية بواسطة التركيب الضوئي
في النباتات الخضراء، تقود أغلب الدورات الإيكولوجية.
إن مضامين الحفاظ على مجتمعات إنسانية مستدامة واضحة أيضًا. فالطاقة
الشمسية بأشكالها العديدة – من أجل التدفئة الشمسية والخلايا
الكهرضوئية وطاقة المياه والرياح والطاقة الحيوية – هي النوع الوحيد من
الطاقة الذي يتصف بأنه متجدد وفعال اقتصاديًا وحميد بيئيًا. وإن إهمال
هذه الحقيقة الإيكولوجية يضع زعمائنا السياسيين وأصحاب الشركات مرَّة
بعد مرَّة في موضع التهديد لسلامة ورفاه ملايين البشر حول العالم. فعلى
سبيل المثال، إن حرب الخليج عام 1991، التي قتل فيها مئات الآلاف
وأفقرت الملايين وسببت كوارث بيئية غير مسبوقة، تجد جذورها وإلى حد
بعيد في سياسات الطاقة المضلِّلة التي اتبعتها إدارات الرئيسين
الأمريكيين ريغان و بوش.
ووصف الطاقة الشمسية بالكفاية الاقتصادية يفترض أن أكلاف إنتاج الطاقة
تعتبر بسيطة للغاية. لكن الحال ليست كذلك في معظم اقتصاديات السوق في
أيامنا. إذ لا تزود السوق الحرَّة المستهلكين بالمعلومات الدقيقة، لأن
الأكلاف البيئية والاجتماعية للإنتاج ليست جزءًا من النماذج الاقتصادية
الحالية. إذ توضع هذه الأكلاف تحت بند متغيرات «خارجية» وفق ما يفعله
اقتصاديو الحكومات والشركات لأنها لا تلائم إطارهم النظري.
وليس الهواء والماء والتراب ما يعتبر سلعًا مجانية من قبل اقتصاديي
الشركات، بل أيضًا شبكة العلاقات الاجتماعية الدقيقة التي تتأثر بحدَّة
بالتوسع الاقتصادي المستمر. فالأرباح الخاصة تُستحصل على حساب أكلاف
عمومية كتدهور البيئة ونوعية الحياة عمومًا وعلى حساب الأجيال
المستقبلية أيضًا. وببساطة، يقدم لنا السوقُ المعلومات الخاطئة. إذ ثمة
افتقار إلى التلقيم الراجع، وبالتالي إن التوعية الإيكولوجية هي التي
تخبرنا أن مثل هذه المنظومة غير مستدامة.
إن الإصلاح الضريبي الإيكولوجي سيكون أحد أكثر الوسائل فعالية في تغيير
هذه الحالة. وسيكون مثل هذا الإصلاح الضريبي محايدًا على الدخل، وينقل
العبء الضريبي من ضرائب الدخل إلى «الضرائب الإيكولوجية». ويعني هذا أن
الضرائب سوف تضاف إلى المنتجات وأشكال الطاقة والخدمات والمواد بحيث
تعكس أسعارُها الأكلافَ الحقيقية على نحو أفضل. ولكي ينجح، يتطلب
الإصلاح الضريبي الإيكولوجي سيرورة بطيئة وطويلة الأمد تفسح وقتًا
كافيًا لتكيف نماذج جديدة من الاستهلاك والتقانات، وتتطلب الضرائب
الإيكولوجية تطبيقًا قابلًا للتنبؤ بحيث يشجع هذا الأمر التجديد
الصناعي.
إن مثل هذا الإصلاح الضريبي الإيكولوجي البطيء والطويل الأمد سوف يدفع
إلى خارج السوق نماذج الاستهلاك والتقانات المؤذية والمتلافة. ومع
ارتفاع أسعار الطاقة، بالتوافق مع تخفيضات على ضريبة الدخل لموازنتها،
سوف يتحول الناس بشكل متزايد عن السيارات إلى الدراجات العادية،
ويستخدمون وسائل النقل العامة في طريقهم إلى العمل. ومع تصاعد الضرائب
على البتروكيماويات والوقود، مع تخفيضات موازية أيضًا على ضرائب الدخل،
لن تصبح الزراعة العضوية الأكثر ملائمة للصحة وحسب، بل الوسيلة الأرخص
لإنتاج الغذاء.
تخضع الضرائب الإيكولوجية الآن لنقاش جدِّي في عدة بلدان أوروبية ومن
المحتمل إدراجها في جميع البلدان عاجلًا أم آجلًا. وكي يحتفظوا بقدرتهم
التنافسية في مثل هذه المنظومة، يحتاج المدراء والمقاولون إلى التثقُّف
إيكولوجيًا. وعلى الخصوص، ستكون المعرفة التفصيلية بدفق الطاقة والمادة
عبر الشركة ضرورية، وهذا السبب الذي يجعل «التدقيق-الإيكولوجي»
للحسابات ذو أهمية فائقة. يهتم التدقيق الإيكولوجي للحسابات بالعواقب
البيئية لتدفقات المواد والطاقة والناس عبر الشركة وبالتالي بالأكلاف
الحقيقية للإنتاج.
والشراكة
partnership
سمة جوهرية للمجتمعات المستدامة. فالتبادلات الدورية للطاقة والموارد
في المنظومات الإيكولوجية تكون مستدامة بفعل التعاون الشامل. وبالفعل،
لقد رأينا أنه منذ خلق أولى الخلايا ذات النواة قبل أكثر من ملياري
سنة، تتابعت الحياة على الأرض عبر المزيد من ترتيبات التعاون والتطور
المشترك الدقيقة. فالشراكة – أي الميل للاتحاد وتكوين الروابط والعيش
مع الآخرين والتعاون – إحدى العلامات المميزة للحياة.
في المجتمعات الإنسانية، تعني الشراكةُ الديمقراطيةَ والتفويضَ الشخصي،
لأن كل عضو في المجتمع يلعب دورًا هامًا. وبالتأليف بين مبدأ الشراكة و
دينامية التغير والنمو، ربما نستخدم مصطلح «التطور المشترك» مجازيًا في
المجتمعات الإنسانية. فمع تقدم الشراكة، يفهم كل شريك على نحو أفضل
حاجات الآخر. وفي الشراكة الحقيقية الواعدة يتعلم كلا الشريكين ويتغير
– أي يتطوران على نحو مشترك. هنا نلاحظ مرَّة ثانية التوتر الأساسي بين
تحدي الاستدامة الإيكولوجية والطريقة التي تبنى بها مجتمعاتنا الحالية،
بين الاقتصاد والإيكولوجيا. إذ يشدد الاقتصاد على التنافس والتوسع
والسيطرة، بينما تشدد الإيكولوجيا على التعاون والمحافظة والشراكة.
إن ما ذكرناه من مبادئ الإيكولوجيا – أي التواكل، والدفق الدوري
للموارد، والتعاون، والشراكة – هي وجوه مختلفة لنموذج التنظيم عينه. أي
للكيفية التي تنظم بها المنظومات الإيكولوجية نفسها بحيث تعظِّم
استدامتها. وما إن نفهم هذا النموذج حتى نتمكن من طرح أسئلة تفصيلية
أكثر. مثلًا، ما مدى قدرة هذه المجتمعات الإيكولوجية على التعافي؟ وكيف
تردُّ على الاضطرابات الخارجية؟ تقودنا هذه الأسئلة إلى مبدأين آخرين
في الإيكولوجيا – أي المرونة
flexibility
والتنوع diversity
– يمكِّنان المنظومات الإيكولوجية من البقاء في وجه
الاضطرابات والتكيفَ للشروط المتغيرة.
تنجم مرونة المنظومة الإيكولوجية عن ما تحتويه من حلقات تلقيم راجع
متعددة تميل إلى إعادة المنظومة إلى التوازن حالما يحدث انحراف عن
المعيار الطبيعي نظرًا لشروط بيئية متغيرة. فعلى سبيل المثال، إذا
أدَّى صيف دافئ على غير المعتاد إلى تزايد نمو الطحالب في بحيرة، فإن
بعض أنواع الأسماك التي تقتات على هذه الطحالب قد تزدهر وتتناسل أكثر،
بحيث تتزايد أعدادها وتبدأ في استنفاد الطحالب. وعندما ينخفض مستوى
موردها الغذائي الرئيسي، تبدأ الأسماك بالموت تدريجيًا. ومع تناقص عدد
جماعة الأسماك، تستعيد الطحالب الوضع السابق وتتوسع من جديد. بهذه
الطريقة، يولِّد الاضطراب الأصلي تقلبًا متماوجًا في حلقة تلقيم راجع
تعيد في آخر المطاف منظومة السمك/الطحالب إلى حالة التوازن.
وتحدث الاضطرابات من ذلك النوع دومًا، لأن الأشياء في البيئة تتغير
دومًا، ولذلك فإن المفعول الشبكي يتقلب باستمرار. وجميع المتغيرات التي
يمكن ملاحظتها في منظومة إيكولوجية تكون عرضة للتقلب الدائم – ككثافة
الجماعات، ومُتاحية
availability
المواد المغذية، ونماذج الطقس، وإلى ما هنالك. هذه هي الكيفية التي
تحافظ من خلالها المنظومات الإيكولوجية على نفسها في حالة مرنة جاهزة
للتكيف مع الشروط المتغيرة. إن شبكة الحياة شبكة مرنة دائمة التقلُّب
وكلما استمرت المتغيرات في التقلُّب وازدادت دينامية المنظومة، كلما
تعاظمت مرونتها وقدرتها على التكيف مع الشروط المتغيرة.
تحدث جميع التقلبات الإيكولوجية ضمن حدود تحمل مسموحة. وهناك على
الدوام خطر انهيار المنظومة ككل عندما تتعدى التقلبات تلك الحدود بحيث
لا تستطيع المنظومة معادلتها. ويصح هذا الأمر في المجتمعات البشرية. إذ
يعبِّر نقص المرونة عن نفسه بالإجهاد. وعلى الخصوص، سوف يظهر الإجهاد
عندما يُدفع واحد أو أكثر من متغيرات المنظومة إلى حدوده المتطرفة مما
يولد صلابة متزايدة عبر كامل المنظومة. فالإجهاد المؤقت وجه أساسي من
وجوه الحياة لكن الإجهاد الممتد يكون مؤذيًا ومدمرًا للمنظومة. تقودنا
هذه الاعتبارات إلى إدراك هام فحواه أن إدارة منظومة اجتماعية – شركة،
أو مدينة، أو اقتصاد بلد ما – يعني إيجاد القيم الأمثلية لمتغيرات
المنظومة. وعندما يحاول المرء أن يُفاقم أحد المتغيرات بدلًا من وضعه
الأمثل، سيقود هذا الأمر على نحو ثابت إلى تدمير المنظومة ككل.
يقترح مبدأ المرونة أيضًا استراتيجية مماثلة لتسوية المنازعات. ففي كل
مجتمع، ثمة على نحو دائم تناقضات ونزاعات لا يمكن حلُّها لمصلحة طرف
دون الآخر. فعلى سبيل المثال، يحتاج المجتمع إلى الاستقرار والتغير،
وإلى النظام والحرية، وإلى التقليد والتجديد. فبدلًا من اتخاذ قرارات
جامدة ينبغي حلُّ هذه النزاعات التي لا يمكن تجنبها بترسيخ دينامية
التوازن. تشتمل التوعية الإيكولوجية على معرفة بأن كلا طرفي النزاع
يمكن أن يكون ذا أهمية ويعتمد ذلك على السياق، وبأن التناقضات ضمن
المجتمع علامات على تنوعه وحيويته ولذلك فهي تسهم في قابلية المنظومة
للحياة.
إن دور التنوع في المنظومات الإيكولوجية وثيق الصلة بالبنية الشبكية
للمنظومة. فالمنظومة الإيكولوجية المتنوعة تكون مرنة أيضًا لأنها تحتوي
على أنواع حية كثيرة ذات وظائف إيكولوجية متداخلة يمكن جزئيًا استبدال
إحداها بأخرى. فعندما يهلك نوع حيٌّ خاص، نتيجة لاضطراب حاد، ويؤدي ذلك
إلى تحطم إحدى الروابط في الشبكة، سيكون المجتمع المتنوع قادرًا على
البقاء وإعادة تنظيم نفسه لأن الروابط الأخرى في الشبكة تستطيع، جزئيًا
على الأقل، تأدية وظيفة النوع الحي الهالك. بكلمات أخرى، كلما كانت
الشبكة أكثر تعقيدًا، كانت نماذج الترابطات ضمنها أكثر تعقيدًا أيضًا،
وكلما كانت أكثر مرونة.
ففي المنظومات الإيكولوجية، يعدُّ تعقيد الشبكة نتيجة لتنوعها الحيوي،
ولذلك فإن المجتمع الإيكولوجي المتنوع هو مجتمع مرن. وفي المجتمعات
الإنسانية، قد يلعب التنوع الإثني والثقافي الدور ذاته. يعني التنوع
علاقات مختلفة عديدة أو مقاربات مختلفة عديدة للمشكلة نفسها. والمجتمع
المتنوع هو مجتمع مرن وقادر على التكيف مع الأوضاع المتغيرة.
ولكن التنوع يعتبر ميزة استراتيجية فقط في المجتمع النابض بالحياة حقًا
والذي تعززه شبكة من العلاقات. أما إذا كان المجتمع متشظيًا إلى أفراد
ومجموعات منعزلة، فإن التنوع يصبح بسهولة مصدرًا للتحيز والخلاف. ولكن
عندما يعي المجتمعُ التواكلَ بين جميع أعضائه فإن التنوع يثري العلاقات
وبذلك يثري المجتمع ككل وكل عضو مفرد فيه. وفي مثل هذا المجتمع تسري
المعلومات والأفكار بحرية عبر الشبكة ككل، وسوف يثري تنوعُ التأويلات
وأنماطُ التعلم – بل حتى تنوعُ الأخطاء – المجتمعَ بأكمله.
إذن، هذه بعض المبادئ الأساسية في الإيكولوجيا – التواكل، والتدوير،
والشراكة، والمرونة، والتنوع، ثم الاستدامة كحصيلة لكل ذلك. مع اقتراب
القرن العشرين من نهايته، نتوجه إلى بداية ألفية جديدة، وسوف يعتمد
بقاء البشرية على توعيتنا الإيكولوجية، أي على قدرتنا على استيعاب هذه
المبادئ الإيكولوجية والعيش وفقًا لها.
ترجمة: معين رومية
*** *** ***