«أناشيد مالدورور» للوتريامون: للكلمات أيضًا عنفها وشرورها
إبراهيم العريس
حين
مات ايزيدور دوكاس، في العام 1870، كان في الرابعة والعشرين من عمره.
أي في السن التي يكون فيها المرء خارجًا لتوه من سن المراهقة ليبدأ
الحياة. لكن دوكاس كان أنجز كل شيء في تلك السن، وبالأحرى، كان قد قال
كل شيء. قال ما كان يمكن لأي شاعر أو كاتب آخر أن يقوله خلال حياة
طويلة عريضة. وسيكون هذا الأمر من الغرابة إلى درجة أن الحياة الأدبية
الفرنسية، التي انتمى إليها دوكاس طوال سنوات عمره القصير، أصرت لزمن
أن الرجل لم يوجد أبدًا وأن الاسم الذي عرف به ايزيدور دوكاس، وبه
وقَّع كتابه الوحيد الكبير الذي خلده إلى الأبد، وهو الكونت لوتريامون،
إنما هو اسم يغطي أي واحد آخر من الشعراء أو الأدباء الذين عاشوا في
ذلك الزمن. ولقد عزز من قوة هذا الاعتقاد أن الرجل لم يخلِّف ما يشير
إلى حياته الشخصية، وأن أحدًا لم يصوِّره أو يلتقيه حقًا، وأن كل الصور
التي يزعم أنها له، كانت تقريبية. لا أحد يعرف شيئًا عن الكونت
لوتريامون. وهو حين مات بمرض الزهري، شابًا يافعًا، بالكاد انتبه أحد
إلى ذلك الحدث، على رغم أن كتابه الذي يعنينا هنا، أناشيد مالدورور،
كان صدر قبل عام من ذلك وأقام الأوساط الأدبية - وغير الأدبية - ولم
يقعدها. على رغم أن كثرًا كانوا بدأوا يحفظون مقاطع من أشعار الكتاب،
عن ظهر قلب. وهنا قد يكون من المهم أن نذكر أن أناشيد مالدورور
بعد فترة الاهتمام الأولى، والتي تلت صدوره في أول طبعة (1869) ثم في
الطبعة الثانية (1870)، وأعقبت رحيل كاتبه الشاب، طُوي لفترة طويلة في
نوع من «نسيان» متواطئ، حتى كان عصر السوريالية في بدايات القرن
التالي، فإذا بالسورياليين يخرجون الكتاب من غياهب الصمت ليجعلوه أشبه
بإنجيل لهم: يقرأه شعراؤهم ويتأثرون به في ثورتهم على الوجود وعلى
اللغة، ويرسم رسَّاموهم مشاهده، ولا سيما منهم البلجيكي رينيه ماغريت
الذي حقق للكتاب رسومًا أضافت إلى رعبه رعبًا وإلى غرابته غرابة!
ولكن هل كان أناشيد مالدورور في حاجة إلى مثل تلك الأبعاد
الإضافية؟ وألم يكن قادرًا في حد ذاته، ومن دون أية زينة، على خلق تلك
الأجواء الكئيبة المؤلمة المرعبة المقلقة، التي كانت قراءة الكتاب تكفي
لبعثها لدى قارئ سرعان ما يجد نفسه متواطئًا مع ذلك الشاعر «الملعون» -
سلف رامبو وبقية ملعوني نهاية القرن التاسع عشر، من الذين استخدموا
اللغة أداة للثورة على وجود عدمي قاس -؟ بالنسبة إلى كثر من الكتاب
والباحثين يعتبر أناشيد مالدورور صورة للشر المطلق. وبالنسبة
إلى البعض هو صورة للجنون المطبق. ولئن كان البعض يرى تطابقًا بين هذا
النوع من الشر وهذا النوع من الجنون، فإن الباحثين يتفقون اليوم على
أنه لا يمكن لكتاب مثل أناشيد مالدورور أن يعبِّر عن أي جنون،
ذلك إنه ينطلق من توازن في اللغة ومن إيقاع مضبوط انضباطية
«الكونشرتو»، متصاعدًا من موضوعته، متوقفًا عند فروع واضحة، راغبًا في
نهاية الأمر في أن يكون صارمًا في ثورته البرومثيوسية التي يعلنها من
دون مواربة، على الكون وما وراء الكون، ولكن دائمًا من خلال الحديث عن
الإنسان، محط هجومه النهائي، ذلك
الحيوان المترهل الذي لا فائدة منه ترتجى سوى الخنوع والتبذل.
والحقيقة أن الربط بين الإنسان، وأدنى أنواع الحيوان، في أناشيد
مالدورور ليس مصادفة، ولا هو من نوع الكناية أو الترميز. ذلك أن
«بطل» الكتاب، المدعو مالدورور - والذي هو في نهاية الأمر صورة أخرى من
الشاعر/الكاتب نفسه -، شخص واع تمامًا، لكنه في الوقت نفسه يائس
تمامًا، وهو في خضم حياته الغريبة المرعبة، يتحول طوال المسار من شكل
إنساني خالص، إلى شكل هلامي يعتبر تجسيدًا للشر، في أبشع حالاته. إنه،
مثل شبح شيطاني «وحش كريه له وجه ضبع». وهو يتجول فوق سطح الكرة
الأرضية مثيرًا الهواجس والرعب، زارعًا الخوف والقرف، ويتحول بين الحين
والآخر، إلى حشرة أو حيوان قميء، وبشكل لا يمكن لأحد - حتى ولا له هو
نفسه - أن يتوقعه سلفًا، فنراه تارة بقة وتارة عنكبوتًا، مرة سمكة قرش
ومرة صرصارًا، حينًا في أعالي الشجر وحينًا في المجارير. وهكذا، على
مدى الأجزاء الستة التي يتألف منها الكتاب - والذي لم ينجزه الشاعر
أبدًا على أية حال - ليطالعنا مالدورور على صورة 185 حيوانًا، غالبًا
ما يصفها لوتريامون بطريقة متواطئة حيث يجد القارئ نفسه واقفًا في صف
الوحش ضد النوع الإنساني كله. فإذا أضفنا إلى هذا كل تلك الأفعال
الحيوانية التي يمارسها «بطلنا»، ولا يقل عددها في الكتاب عن أربعمئة
فعل، نجدنا في نهاية الأمر أمام «حيوانية تكمن في قلب عمل لوتريامون
هذا»، وفق تعبير ريمي دي غورمون، الذي كان واحدًا من المهتمين
بلوتريامون ودارسي عمله.
غير أن هذا كله ينبغي ألا يُغيِّب عن بالنا واقع أن الكتاب في حد ذاته،
ليس على تلك الكآبة التي يمكن أن تلوح من خلال وصفه، بل العكس، نراه
حافلاً بنوع من المرح الساخر، بل أكثر من هذا: بنوع من الهزء من الذات.
فإذا كان لوتريامون في هذا الكتاب، يسخر من كل ما في هذا الوجود
ويهاجمه، من الواضح أن السخرية من الذات هي المفتاح الأول للوصول إلى
أقصى درجات السخرية... المُرة. ولوتريامون يقول على مدى كتابه إنه لم
يرد أبدًا أن يبدو مخدوعًا بالآخرين، ولا حتى بذاته، مضيفًا: «من
الطبيعي أن أكون قد بالغت بعض الشيء، من أجل إدخال جديد في هذا النوع
من الأدب المؤمثل». أما الباحثون الذين لطالما اهتموا بهذا الكتاب
وأشبعوه تحليلاً، ولا سيما في مجال التحليل النفسي، فلقد أشاروا دائمًا
إلى أن أناشيد مالدورور عمل «رومنطيقي يسخر من الرومنطيقية،
وملحمة تهزأ من النصوص والمسارات الملحمية، وهذيان قسوة منتظمة
ومعقلنة»، ما يجعل من هذه «الأناشيد» عملاً عصيًا على التصنيف، وفريدًا
من نوعه في الأدب الفرنسي. وربما في الأدب العالمي كله»، بكل ما فيه من
عنف وشر... إضافة إلى قدرته الهائلة - بعد كل شيء - على تحرير الإنسان،
في داخله، من طغيان ذلك الجانب الليلي المظلم على حياته، الجانب الكامن
في أحلامه ولا وعيه واندفاعاته الغريزية الأكثر حيوية. وفي اختصار، ألا
يعبر لوتريامون بهذا كله عن وحدة الإنسان وعزلته أمام كون لا يفهمه ولا
يدرك مراد قواه الخفية، وألا يجد الحل الوحيد لمأساته في تحطيم العقل
لترك المجال أمام اليأس يعبِّر عن نفسه؟
وفي هذا كله ألم يكن لوتريامون الأب الشرعي لبعض أقسى فنون وأشعار
نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؟ مهما يكن، فإن
لوتريامون لم يعش ليشهد نتائج صنيعه... أو هل تراه عاش أصلاً؟ ذلك هو
السؤال المطروح دائمًا. خصوصًا وأننا لا نعرف عن هذا الشاعر سوى اليسير
من المعلومات المتداولة، وفي مقدمها أنه ولد العام 1846 في مونتيفيديو،
لأبوين فرنسيين، وكان والده ديبلوماسيًا يعيش آنذاك في تلك المدينة
الأميركية اللاتينية. وكان اسمه حين ولادته، كما أشرنا، ايزيدور دوكاس.
أما اسم الكونت دي لوتريامون فقد اتخذه لاحقًا اسمًا مستعارًا له،
مقتبسًا إياه - في تحريف بسيط - من اسم رواية «لاتريومون» للكاتب أوجين
سو. ولقد وصف لوتريامون بأنه كان نحيلاً، محدودب الظهر بعض الشيء، عاش
كل حياته وهو يعاني دوخة عنيفة لم تبارحه حتى الموت. وهو تلقى علومه في
جنوب فرنسا، ثم اتجه إلى باريس حيث فُقدت آثاره - تمامًا - لمدة سنتين.
ثم راح ينشر بعض القصائد، فكتابه الأشهر أناشيد لوتريامون ثم
قضى في العام 1870، وسط صمت مطبق.
*** *** ***
الحياة