|
طفل الحديقة الدمشقية... حيث لا مكان
الساعة السادسة صباحًا من آخر يوم جمعة من شهر آب عام 2012. حديقة من حدائق مركز مدينة دمشق. بقايا مرج أخضر، ومساحات ترابية ضيقة تتداخل لترسم ثوبًا مبرقعًا يخفي وجه الأرض. على هذه الأرض، وبين كثير من أكياس النايلون التي لم تصل هنا لتلوين المشهد، كتل بشرية مستلقية، لا تفاصيل لها، كأنها ضربات ريشة خشنة وزَّعها، فوق لوحة الحديقة، رسام فوضوي. فجأة، وفي طرف المشهد، ينتصب جسد صغير، كل ما فيه يوحي من بعيد بأنه جسد طفل خطا نحو المراهقة. تسع سنوات أو عشر، ليس مهمًا أن نعرف، بل ربما لم يعد ممكنًا أن نعرف لأن الوثائق التي تثبت ميلاده راحت في جملة ما راح في ذاك الذي كان بيتًا في مكان ما من ضواحي دمشق المدمرة. أدار الطفل النائم – الواقف رأسه بحركة كسولة. لم يكن يستطلع المكان، كان يبحث عن نقطة ارتكاز، عن معلم ما يطابق صورة مختزنة في ذاكرته. لم يوفَّق في المحاولة الأولى، فألحقها بأخرى تحمل قدرًا أكبر من الإرادة، إرادة الكشف عن معلم أليف. يبدو أنها أيضًا لم تنفعه، فأجهش ببكاء كامد لا صوت له لكن ارتعاش الجسد وبعض الشهقات فضحته. رفع إلى وجهه رسغين عاجزتين وضغط بهما على عينيه، وحين رآني أشاح بوجهه، ثم تهاوى إلى مكانه السابق، كتلةً ضئيلة من بين تلك الكتل المستلقية على أرض الحديقة. يحكي هوميروس في الملحمة اليونانية الشهيرة الأوذيسة قصة إيلبينور Elpinor، وهو شاب من رفاق "أوليس" في طريق عودته إلى موطنه بعد انتصار طروادة. وذات صباح، وبعد أن خمر الجمع احتفالاً بالخلاص من مفاعيل الساحرة "سيرسيه"، استيقظ إيلبينور النائم فوق مصطبة ثملاً، وبما أنه لم يكن قد ألف معالم المكان الذي كان ينام فيه سقط عن المصطبة ودقت عنقه. وقد استثمر علم النفس هذه الحكاية الأسطورية لتوصيف مجموعة من الأعراض أطلق عليها اسم "تناذر إيلبينور" تعبر عن اضطراب نفسي يتجلى بحالة تغيُّم وعي تمحي خلالها الذاكرة المَعلَمية للمريض، فيفقد توازنه ويهوي، ويمكن أن يقدم أحيانًا على ارتكاب فعل جرمي. أغلب الظن أن طفل الحديقة الدمشقية سقط عند إفاقته غير المكتملة لأنه لم يتعرف إلى المكان الذي وجد نفسه فيه، إذ لا شيء مما يحيط به في فضائه المؤقت هذا يجد له في ذهنه صورة راسخة يتطابق معها. فضاؤه المؤقت هو الخواء ذاته. لا جدار يحمل صورة الأب الشهيد أو إيقونة أو آية الكرسي. لا نافذة تتسلل عبرها أشعة الشمس، ورياح الشتاء، ووعود العصافير. لا سقف يمنحه الشعور بالأمان... أما الأثاث فإما "نُقِلت" قطعه لتملأ زوايا وغرفًا فارغة في بيوت أخرى، في مناطق أخرى، وإما اختلط ركامها مع ركام البيت المدمَّر أو احترقت في النار التي عصفت بالبيوت. في المكان الذي جاء منه الطفل، كانت كل هذه الأمور (الجدار والنافذة والسقف والأثاث...) حاضرة، ماثلة، ولد الطفل وكبر بينها. وتشكلت ذاكرته البصرية والمعلَمية اعتمادًا عليها. لو أفاق الطفل في عتمة الليل لما احتاج هناك إلى ضوء ليعرف طريقه في زحمة الأشياء، أما هنا في الفضاء الخاوي فهو لا يعرف كيف يتجه فيسقط حيث يقوم. في المكان الذي جاء منه الطفل كان ثمة مكان، وكان ثمة وجود، وكان ثمة ذاكرة. كان ذلك قبل أن يقرر عقل شيطاني يستخفُّ بالذاكرة ويهزأ بالوجود (ما عدا وجوده هو)، أن يدمر المكان ويشرد أهله ويقذف بهم إلى حيث لا مكان. كم هي مساحة الدمار في سورية الآن؟ وكم ستصبح غدًا؟ كم يبلغ عدد المواطنين المهجرين من بيوتهم؟ كم عدد البيوت التي لم تعد قابلة للسكن؟ كم عدد الأحياء التي لم يبق منها سوى اسمها؟ كم عدد العائلات التي أصبحت بلا مأوى؟ مجرَّد التفكير بهذه الأسئلة يبعث اليأس والألم، فما بالك إن عرفنا الأجوبة! لكن أين المهرب من التفكير في هذا الواقع الناشئ بفعل العقل الشيطاني؟ بل أين المهرب من تجاوز الأعداد المجردة والباردة، رغم كل ما تبعثه من حزن، للوصول إلى الإنسان، إلى الحقيقي في ذاك الواقع، إلى طفل الحديقة وعائلته، أو من تبقى منها. كيف يمكن له، لهم، أن يعيدوا بناء ذاكرتهم البشرية بشكل سويٍّ؟ "أن نكون بشرًا يعني أن يكون لنا مسكن" يقول باشلار. والمسكن، مرة أخرى، هو الجدار والسقف والنافذة والأثاث..، إضافة إلى "التاريخ" الذي نما في كنفها وبين تلافيفها، المسكن هو الذاكرة التي نسكن إليها. أما في الحديقة، حيث لا مكان، فلا يمكن لأحد أن يبني ذاكرة. الذاكرة لا تبنى على خواء. المواطنون السوريون المهجَّرون إلى الأبنية المدرسية ليسوا بحال أفضل من أولئك الباقين بلا مأوى، سكان الحديقة. لأنهم سكنوا إلى مكان وهمي، أرخوا روحهم على جدران ونوافذ وسقوف متهالكة، وهم يعرفون أنه لا يعوَّل عليه. زد على ذلك أن هذا المكان لا يمكنه أن يحتضنهم، فهو مرصود لحنان من نوع آخر. حنان عليه أن يغمر أطفالاً سيأتون ليتعلموا، في أمل أن يساهموا في بناء وطنهم. لكن الخوف كل الخوف ألا يجدوا هذا الوطن. وأن يصبح الجميع، أهلهم وهم ونحن، حيث لا مكان. *** *** *** |
|
|