الأبَدِيَّة
إلى الأحلام والخوف
مسرحية من فصل واحد

 

علي جازو

 

(يفضل مكان صغير للعرض. في الخلفية ثمة مرآة كبيرة تعكس الخشبة وقسمًا من الجمهور إن أمكن. تقوم المرآة مثلها مثل الماء بمضاعفة الحجم وتكبيره، فنرى المرأة والرجل في"لهب مزدوج"؛ حقيقي ومزيف. ثمة أيضًا ظل أزرق عريض، خفيف ودافئ، منعش ومرح، بسكينة ولطف يغمر المقعد والسرير طوال العرض دون تغيير. على اليمين مقعد خشبي "يماثل تمامًا مقاعد تلاميذ المدارس الحكومية". في جهة أخرى، سرير معدني طويل قليلاً، يغطيه، في انثناء وتجعد، مخدة وشراشف بيضاء. يفضل أيضًا وجود ستارة حمراء مسدلة على صمت قوي. "يرجى تنبيه الحضور، بصيغة مهذبة، إلى ضرورة الصمت لأجل راحة الموتى..." يبدأ العرض بسماع صوت الرجل.

على المرأة والرجل التكلم ببطء وحذر، دون انفعالات زائدة أو صراخ معتاد. لا حاجة للمبالغة في أمور صادقة وغريبة بالآن ذاته. "لا صدق بلا غرابة. لأن الصدق ابن الدقة، وكلما ازددنا دقة؛ على وتيرة طفولة متألقة، ازددنا نأيًا وغرابة". حركاتهما، على قلتها وزهدها الإباحي، توازي وتساير بطء كلماتهما وحساسية نطقها الأقرب إلى الهمس. على الممثل والممثلة، كلاهما، أن يذوق الكلمات... أن يشمها، ينحتها بشفتيه، يصقلها ويرهفها إذ يمنحها، لمرة واحدة فقط، زهرة الولادة عبر أنفاسه الصامتة. بعد عبارتين أو ثلاث تنزاح الستارة ببطء ثقيل. الإضاءة ثابتة خافتة. عدا الظل الأزرق الذي ينبغي التعامل معه برقة ابتسامة طفل حزين. نشعر أحيانًا أن الممثل يخاطب نفسه. ثمة وهم مشترك بين الاثنين، الرجل والمرأة؛ إنهما يصنعان بعضهما، يحفران بئر نفس مريضة بالغيوم، مثلما يكسو مخمور نسيانه بالهذيان، أو يحلم سجين الموت بهدايا ماضٍ غير موجود.

تتبع العبارات أجزاء غامضة، يرد إكمالها في عبارات أخرى. ثمة "حشو وإقحام"، يمكننا لهذا بتر أقسام من الحوار وزرعها في أماكن أخرى من المتن الناقص. لا أوصاف، لا تفاصيل حول العمر أو الملابس)

*

الرجل: كانت جميلة ومخيفة مثل آلهة عارية. نعلم أن لا جمال بلا خوف مثلما لا غابة بلا أشجار. أبوسعي الآن مداعبة شعرها؟ (صمت)... أي طفل يبصق في وجهي الآن! برد غامض يوحش فؤادها الرقيق؛ فؤادها الذي من هواءٍ كتساقط أوراق الدلب. يا للأسى! إنها في عزلة واسعة تئن وتتلوى. مفاصل جسمها رنين كلماتها. (صمت). أيها الفجر، يا هبة الشمس، رفقًا بالحالمين يا هبة الشمس. (صمت). عساها تتكلم. فلنسألها تذكر أغنية رقيقة. (صمت). لكن الكلمات، كنزها وحريتها، تأسرها وتزيدها أسى وألمًا؛ تبعدها عن روحها. ألا ترون أن الصمت أجملُ الصوت؟ أيكون وجهي الآن حلمًا صامتًا؟! إنه البرد يرعبها. ظلام مياه راكدة تعيد كلماتها إلى دم الغيوم. ما أضيق نور الصوت!! لكن الكلمات، الكلمات ما أضعفها؟ كلماتها، رغم قوتها الروحية، لا تغلق باب جسدها المسكين.

المرأة: آه، لقد نسيت الأمر كله. آمل النسيان. (صمت). أتكلم لأنسى أنني صامتة. كلما تكلمت كلما ازددت صمتًا... آااه إنني أزداد صمتًا وهلعًا. (صمت). صوتي لا يفتح أي نافذة حولي، إنه يضغط ويتثاقل داخل جسدي. أتكلم، أجل إني أتكلم الآن. الآن أسكن صوتي مثلما يتنفس جنين في رحم أمه، الآن أتخلص من خوفي بقائي هكذا بلا صوت يحميني ويحملني. ويحلم بي، ينشرني كضوء على حبات الندى الصامت. هل بوسعي أن أهدأ قليلاً لتهدأ الأشياء والكلمات من حولي؟ ثم... ماذا في وسع الكلمات أن تفعل؟! هل لي أن أرى وجهي الآن. "الوجه الذي كان لي قبل أن يخلق العالم". (صمت). لكنني خرساء... خرساء كمرآة فارغة لا أرى فيها غير الخوف والصمت.

الرجل: حَمَلُ صوت قديم جمَّد الخوفُ حليبَ لسانه الصغير. ما نفع كل هذه الثرثرة العمياء! أيها الفجر يا هبة الشمس، رفقًا بالحالمين يا هبة الشمس.

المرأة: لكنني خرساء الآن... خرساء ولا أنفع لأي شيء... (يقاطعها الرجل)

الرجل: غيمة وحيدة. أبسبب الحب شعرت بأنك غيمة وحيدة؟

المرأة: تخليت عنها. تركتها وحيدة في وقت صعب وبريء كأي وقت آخر. (صمت). فقط لو تأملت عيونهم. لو رأيت اللهفة والحزن كيف التمعا كرجاء دامع ضعيف. هذا ما حدث ويحدث دائمًا. (صمت). أما من فرح عفويٍّ، أما من بيت واسع كبير وقريب كالأنفاس؟ كنت مرآة الزهور في صباحاتهم الطرية الغائمة الزاحفة كالنمل. لقد أحبوني، لكنني رغم عاطفتهم الجميلة، تركتهم. كيف يترك المرء من يحب؟! هل من الحب كل هذا النأي، كل هذه الآلام؟ لا زلت أحبهم مثلما تتوسط شجرة هرمة حقل زهور بيضاء. ماذا... يمكن لضعيفة مثلي... لقد تعفنت روحي؟! آه تخليت عمَّن بصفاء أحبني؛ تركتهم للبرد والخوف. أكثر من البرد يخيفني التذكُّر! أليس هذا مخيفًا ومؤلمًا أكثر من البرد.

الرجل: لذلك ربما. لذلك الإحساس القديم تشعرين أنك غيمة تخاف البرد؟

المرأة: ماذا تعرف عن الغيوم؟ لماذا تلح...

الرجل: نعم... رغبت حقًا لو أصير غيمة. (صمت). إني أتذكر: كنت كمن... (تقاطعه المرأة)

المرأة: وجدتني غيمة زرقاء... فوق عشب كساه الندى ألقًا عجيبًا. ولأصدق نفسي المسحورة بالغيوم، شعرت مثلما تشعر غيمة يرفعها هواء خفيف. بطيئة مضيت ومضيت... تأرجحت وعلوت مثل أغنية تتلاشى في سماء صامتة... تشبه قاعة دروس فارغة. إنني أشبه ذلك الفراغ البارد المريع... الفراغ الذي تركته يومًا ما. أنا التي صنعت ذلك البرد المخجل؛ البرد الذي يجلب الخزي والعجز!

الرجل: إني أشبهك في هذا الشعور. سأصير غيمة مثلك؛ غيمة لا تعرف ولن تعرف أبدًا أنها امرأة... محض امرأة حلمت بغيمة تدخل جسمها البارد.

المرأة: ثمة من يشبهني. (صمت). من يدعي التشبه بي. (صمت). لكن ما حاجة الغيوم إلى المعرفة؟!

الرجل: (ليساعدها على اقتفاء فكرتها عن الغيوم) كم آمل أن تتكلم غيمة يومًا مثلما تتكلمين أنت الآن.

المرأة: أوتراني غيمة؟ ما ألطف مشاعرك وما أغباها... أين أثداء الغيوم؟ أين أفخاذها؟ (تبتسم بإغواء ظاهر) أيبدو كل أمل غريب غبيًا في بدايته؟ لكن... نعم، هذا ما يشهده من يغلق عينيه عن الأيام المظلمة. لا شيء غريب عن بهجة السماء: غيمة ترسل كلمات بدل الظلال.

الرجل: لا أعرف. (صمت). ربما تهبط يدها العشبية على كتفي مثل نسمة مليئة بالنور. غيمة زرقاء كامرأة هجرها حبيبها تحيطني بذراعها وتهمس كلمات غريبة في أذني؛ كلمات هي أحاسيس الكلمات نفسها، الأحاسيس التي لا تحتاج إلى الكلمات. ثمة قلب يشهد حلمًا كاملاً كالفراغ. كوني غيمة أيتها الغيمة. غيمة فحسب. كل حلم ينتهي بمأساة تترك حلمًا. أيها الفجر يا هبة الشمس رفقًا بالحالمين يا هبة الشمس.

المرأة: أتكون الأبدية ذلك الإحساس بالكمال؟ الإحساس بأن كل لحظة زائلة هي لحظة خالدة؟! ألا ترى يا هبة الشمس أن الأبدية مرعبة؟ أليس من الحكمة أن ينتهي الوجود بالفناء؟

الرجل: ثمة نقص فيما أتذكره. ثمة نقص فيما أرغب. خيالي يأكل من ذاكرتي! لا أعرف. ربما تكون الأبدية رأفة العاجزين عن الحياة. ربما تكون نقصًا في عمل الشمس أو حيرة قلوب خاسرة. الأبدية نعم... إنها حلم كامل... لأنها نقصان كامل. (صمت). لو رأيتها مرة واحدة مرة واحدة فقط لدفنت نفسي في أرضها.

المرأة: كانت على وشك البكاء. بكيتُ لأنها غنَّت وغادرت. (صمت قصير). لم أسمع صوتها كما تسمع الأغنيات، لكنها جعلتني مطرًا ناعمًا. ملأني بكاؤها بأمنية طفل كئيب. بكيتُ مثلها. ضاق الصباح عن ذلك التعاطف البارد. شعرت تحت جلدي بتعرُّق ساخن. سكون الضوء كاد يخنقني. لقد رحلتْ مثل أغنية في الهواء. هل من سماءٍ تقتني حنانًا جامدًا كالنجوم التي تنثر ضياءً بلا طائل؟! ما أضعف الأرض. ما أضعف أشياء الأرض! رحلت بخطواتها الصغيرة. تألقت مثل لمعان الدموع بين جفنيها، مثل ألمها الضعيف كورقة نبات ناعمة؛ تركت دفء أصابعها بين يدي. (صمت). أخبرني يا هبة الشمس كيف يكون الغياب متألقًا إلى هذا الحد؟ هل التألق جوهر الحياة؟. (صمت). البرد... يفتت عظامي البرد.

الرجل: (ليستفزها ويدفعها إلى التذكر المؤلم) حياتي أسوأ من موتي. أبحث عما لا أعرف. مثل أبله أنظر إلى الأرصفة والبيوت. أمضي وأمضي كأن لا شيء يخصُّني. (صمت). حقًا لا شيء يخصني في هذا العالم المسكين. أعلم أن مرور الوقت يقوِّيني ويخيفني... ثم ما يلبث يتملَّكني ويفزعني، يعرِّيني ويجرفني. هكذا أغدو أجوف... إنسان فارغ لا يعرف ما يريد. أتردَّد في كل شيء... حتى رغباتي وأحزاني لم تعد تعنيني. كأن شخصًا آخر بداخلي يحيا بدلاً مني "سعيدًا يتفرَّج على العالم".

المرأة: أنت هنا... هنا حيث أنت. أنظر إلى الأمام. أمام رَهْ. أمام رَهْ... اللحظة التي تحل الآن. ألا تراها؟ إنها تتفتح كبرعم داخل جسمك. أغلق عينيك حتى تراها. لا يرى من لا يغلق عينيه. لم ترها... لقد عبرتك وتركت نفقًا مظلمًا بين عينيك. إنها تعبرك وتتركك خلفها كما أنت... روحًا عمياء. أنت لاترى بذرة الحياة كيف تتفتح من قلب الحياة. (صمت). أو ربما تأخذك البذرة وتبقى هي كما هي. لأنك لا تمس الأشياء بقلبك لا تحس بتحولاتها المبهجة. كم هو حزين من يتفرَّج على العالم! لقد ذهبت المودة ولن تعود. أنت فارغ الآن ولا زمن يعنيك. أين أنت؟ هل تعرف أين تسكن، ولمَ لمْ تمض مع حياتك؟! تظل ثابتًا حيث تثرثر؛ متجمِّدًا في روح يابسة! ألم تكن هنا منذ قليل حين تفتح الوقت أمام عينيك؟ لمَ لمْ تدخل الوردة؟ لماذا تركتها وحيدة تمضي؟ لم تكن هنا حين عبرتك وسيجتك بعبيرها، فلم تمضي معها حيث تلاشت. الآن وأبقتك شيئًا بلا مذاق، فاترًا بلا رغبة. لكنك هناك... هناك في زوال الوردة وانتشار عبيرها الزائل. هناك وهنا. كيف يحدث هذا وذاك في الوقت نفسه؟. (صمت). لستَ في أي مكان ولا يعنيك أي شيء. أنت محض وهم... وهمٌ تافه. وهم بهيئة رجل وديع. ما أودعك... ما أشد غباءك! إنك لا تقوم بأي عمل جميل إلا بعد انتهائك من كل عمل قبيح. أنت وهم. محض وهم...

الرجل: أنت إذًا تتحدثين إلى وهم؟ (صمت طويل نسبيًا). كل ما تشعرين به أوهام. يأسك وهم. حزنك وهم... حياتك كلها أوهام.

المرأة: (تبدو كمن تذكر أمرًا هامًا) دون وهم لا تساوي حياتي شيئًا. ربما تكون حلمي الصافي الطويل. دونك، حتى ولو كنت في الحقيقة وهم امرأة تحلم بالغيوم، لا أقوى على البقاء وحيدة. غيابك يخيفني. ألا تعلم أن لا سحر لامرأة بلا رجل يغذي خيال أنوثتها؟ (صمت). سأصير مثلك إن خسرتك؛ طيفًا بلا هالة، وجهًا بلا ملامح... ما نفع وردة زجاجية على إفريز نافذة مغلقة؟! لأنك تخصُّني فحسب. لأنك شعلة موتي الثمين، عسل رغباتي الفاحشة. لأنك كنزي وحريتي التالفة... تتحوَّل وتبزغ كالشمس أمام عيني أحرسك وأرويك مثل شجرة صغيرة. ألا يغريك أن تكون شجرة صغيرة وأكون ملاكك الحارس... مثل قصص الجنيات؟ أنت من صنع ذاكرتي ورغبتي. (صمت). لكنك لست نفسك. أنت... لسسسسـت... أنت!

الرجل: (في تعجُّب وتبسُّم) لست نفسي؟... أنا لسسسسسـت... أنا. (صمت عميق كالضحك).

المرأة: أنا... وجهك... الآخر. وجهك المنسي خلف قناع وجهك الفارغ. أنا روحك الشاحبة؛ أنا أنت الذي ضيَّعته يومًا ما... أنا... أنت.... أنت... الذي لا تراه!

الرجل: (بهيئة جادة) كلُّ هذا بسبب الفراغ. نعم الفراغ. إننا ثمرتا يأس وفراغ. أجل... نعم، إنها البطالة، وحدها، تجلب الأفكار الحزينة والوساوس التافهة. نلغو بكلمات جوفاء عن أشياء بلا معنى. أشياء لا نعرفها. إننا لا نفعل شيئًا سوى أننا نتخيَّل ثم نتصرَّف حسب صور خيال مريض. (صمت، يعود فيه الرجل إلى التصنُّع). لكنني... لا أنفع لأي شيء. كسول أنا وطفيلي. ماذا يمكن أن أفعل دون ثرثرة كلَّ يوم؟

المرأة: ث... ر... ث... ر ة... خيال مريض. كيف نُمرض ما ليس موجودًا؟ هل الأشياء التي لا نعرفها هي أشياء بلا معنى؟ الملاهي. (صمت). من وعد إلى آخر، الحبُّ كلمة جميلة. الملاهي جميلة. أليس كذلك؟ (صمت). يحتاج اللَّهو إلى وعي رفيع. اللذة جناح الروح. بعكس ما هو شائع. كانت جميلة حقًا وجذابة. تحتاج الملاهي إلى أناس أقوياء مثل الجبال. (صمت). الإنسانية هي الحاجة إلى اللعب...

الرجل: (يحرِّف الحديث من اللعب إلى الموت) اخترتُ الموت فرفضني. الموت... قال لي: أنت ميت. إن لحظة عناقي للأحياء لحظة واحدة، وقصيرة لكنها تقبض حياتهم كلَّها. أنا ميت. انظري. فكِّري بكلماتي. الموت يحب الأحياء الموت يريدنا أحياء؟

المرأة: لكننا موتى. لن نموت أبدًا. الموتى لا يموتون.

الرجل: لن نموت أبدًا. (صمت). لن نموت أبدًا. لقد حلَّت الأبدية الآن. أوه... إننا خالدون... خالدون.

المرأة: الخلود!

الرجل: أجل... الخلود.

المرأة: لا أعرف ما هو الخلود. تمامًا مثلما لا أعرف ما هي الحياة. ألن يكون الخلود مضجرًا مثل الحياة؟ أحسُّ بمعنى غير مكتمل في هذه الكلمة. ربما... (صمت). أعتقد أن الخلود كلمة ناقصة. بالنسبة لي يكفيني النقص الذي في عقلي. لكن، هيا، هيا لنمض قدمًا. اسمع: نحن موتى. لقد اتفقنا على هذا الأمر. لم تحل المشكلة بعد. لا أبدية دون أحياء. أليس كذلك؟ ونحن موتى لن نرى الأبدية.

الرجل: (بصوت بطيء) لسنا أحياء. لن نلهو بالأبدية. كيف يمكننا العيش دون متعة! لن نراها إذًا. كنت أعلم منذ البداية أن لا أبدية بلا أحياء. يجب أن نعود إلى الحياة حتى نذهب إلى الأبدية.

المرأة: ذهاب... إياب... ذهاب إياب واحد اتنين... واحد اتنين. لكن الأحياء يموتون. سنموت ولن نرى الأبدية.

الرجل: لقد ضاعت علينا فرصة الأبدية من جديد.

المرأة: الحياة عمياء... الأبدية نور بعيد... بعيد ووحيد كالشمس. ماذا ترى في الأبدية يا هبة الشمس؟ (صمت طويل). مهلاً مهلاً أيها النور. أيها النور، دعني أودعك مثلما يودع طائران حزينان فصلاً راحلاً. (صمت). ثمة ما لا يضيع... الصوت. الصوت لا يضيع. لا يضيع أبدًا. إنه ينحرف ويضعف، يعلو ويبتعد، لكنه يتحوَّل، ينمو في مكان آخر يزدهر ويدوم. الزمن نفسه ينمو ويزيد. ثمة فائض من الأبدية لا يضيع أبدًا. كلاهما، الصوت و الزمن، لا يضيع ولا ينقص. إنهما يشفَّان ويرقَّان. يتراكمان كبتلات الورود ويمنحان أبدية زاهية. ما نحسبه ضعيفًا وزائلاً، لا يمَّحي... إنما يعود، يكبر ويزداد جمالاً وقوة. ما نخسره يغنينا وموتنا يبدع حياتنا.

الرجل: هل فكرت يومًا بحياة أخرى يحياها غيرك؟ ثمة الحمام مثلاً، أو الحرب ونجومها، ثمة آخرون لا ينظرون إلى الحياة بمثل كآبتك الأنانية. لمَ تحسبين الأمور كلها بصورة واحدة؟ ثمة مشكلة لم تفكري بها. (يفكر بمسألة تعيدها إلى ماضيها)

المرأة: تقصد الموت ثم العودة إلى الـ... (يقاطعها)

الرجل: لا... لا أنا لم أفكر أبدًا بهذيانك عن الأبدية. (تتغير ملامح وجه المرأة). كنت أفكر بتلك الآنسة المريضة، ما اسمها؟ تعرفينها. أليس كذلك؟ أقصد معلمة المدرسة. تلك التي... إنني واثق أنك تعرفينها. ألا تعلمين أنها لم تعد قادرة على متابعة عملها. كلُّ يوم يزداد عدد تلاميذها. هواء القاعة يفسد ويخنق الأنفاس. يحشر التلاميذ في مقاعد ضيقة. لقد بدؤوا يخافون من انتشار الأمراض. لا يدرك الصغار خطورة الوضع. لكن هذا ما يحدث بالفعل. يكفي مريض واحد حتى يمرض الجميع. لا تدفئة جيدة ولا نظافة. تقف المعلمة قرب الباب، ثم تبدأ بإلقاء شروح لا يفهمها أحد غير الله. أنى لتلميذ صغير أن يفهم دروسًا عن الشهادة والثورة والنضال؟! ثم إن تلاميذ المقاعد الخلفية يتشاجرون بسبب بعد اللغة عن مداركهم الغضَّة، دون أن تراهم المعلمة الذكية التي لا يصل صوتها إليهم على كل حال. لكنها تكذب، وتدعي أن تلاميذها يحبونها، وأنها تبادلهم ذات الشعور. لقد أصبحت هذه الكلمة زائفة وبلا معنى كحديثك عن الغيوم وأفكارك حول الأبدية. تصوَّري... حاولي أن تتخيَّلي ما يحدث هناك. لاشكَّ أنها مريضة مثلهم. يقال إنها ترسم أشياء لا وجود لها في الهواء. وتقوم... و... تأكل (تقاطعه المرأة)

المرأة: أحلم بالأبدية. أفكر بلغز الوجود، وكنز العدم الفاتن... فيما أنت تثرثر كلامًا سخيفًا عن معلمة مدرسة سخيفة.

الرجل: لكن المعلمة أيضًا تعاني من الأبدية. إنها تشبهك في هذا الأمر على الأقل.

المرأة: لا تشبه الأبدية سوى نفسها.

الرجل: المعلِّمة كذلك لا تشبه سوى نفسها.

المرأة: أجل. هذا ما أقوله أنا أيضًا: كل الوجوه نادرة وجميلة. كل الوجوه نادرة ولا يمكن أن تتكرر أو تتشابه.

الرجل: كل الوجوه نادرة! (تتغير نبرة صوته وطريقة كلامه). إلى أين يمضي صوتك، أين ترقد نظراتك الساحرة الكثيفة كالرؤى السريعة؟ أنت يا صاحبة الوجه الخائف الجميل أين يمضي صوتك؟ أيصادق هذا الهواء الرائق الشفاف؟ يمضي لكنه لا يندثر ولا يموت؟ أيتقدَّم ويظل يتقدم دون توقف؟ لن يضيع أبدًا، سيأتي وقت هو الآن نسمع فيه الكلمات نفسها: كل الوجوه نادرة وجميلة.

المرأة: أجل هذا... ما أراه... أيضًا. (صمت). في الصوت عطر من جسم الملائكة عديمي الأجسام. ثمة أغصان عارية، أرجوك لا تحمِّلني المسؤولية دائمًا. هل كان البرابرة دائمًا على خطأ؟ أما من رأفة في عقل واضعي القوانين؟ هل الحقيقة تشير إلى العدالة؟ ثمة كلمة عظيمة تنقص الوجود... إننا لا نسمع غير صرخات الاتهام والحقد. يبدو أننا رغم كل البهاء البشري، لم نتعلم سوى الفن الرديء؛ الطريقة التي نضع الآخرين عبرها في حقل ألغام مكشوف. الفنون تتعب كثيرًا حتى تجعل البديهة سهلة وعميقة. فيما السخافة والعهر الروحي لا يحتاجان سوى عقول بلا ضمير. أعتقد أننا متساوون في الانحطاط والجمال، لأننا لم نؤمن بشيء أبدًا، فقط حافظنا على حياة تافهة، مقابل قتل ومنع كل فكرة جميلة. هل الحياة كيفما كانت أهم من أحلامنا عن الحياة؟! لكن الإنسان لم يُسحق بعد، رغم قسوة الآلهة التي لم نفكر بعد في ضرورة وجودها على الأرض، ثمة أغصان عارية تحمل نبوءة حرة كالنسيم مبهجة وساذجة – أليس الفن ذروة السذاجة – أليس الجمال ابن الأخطاء المتَّقدة كالنجوم؟! إنها أخطاء... أقصد أغصان تتثاقل تحت ذلك الصوت العريق. أغصان من رغبات الملائكة عديمي الرغبات. ستورق وتبهج الناظر إليها حينما تحلُّ الأبدية. (حزن وجمال). لكنني لست سوى وهم. (صمت). جسدي من جسد الريح. بين يديَّ الفارغتين، جسدي التائه يأكل روحي التائهة.

الرجل: (يقلدها في طريقة كلامها) لست سوى كلب نافق، تضغط عليه فلا يتحرَّك، تسأله الحياة فلا يجيبك بغير الصمت. أنا بيت الريح التي لا تجد بيتًا. أنا... شجرتك الصغيرة يا غصن الأبدية العارية. (صمت، يليه تبدُّل مفاجئ في ملامح الرجل). تذكَّري قشرة الموز. تذكَّري الطراوة واللمعان. جلد الموز اللين الدافئ، اللون الأملس الشهي. هل نسيته؟ لا تلعبي مرة أخرى. سنخسر، كلانا، إذا عدت إلى الأبدية. تذكري الموز؛ كيف التهمته أمام أعين التلاميذ الجائعين... (صمت). الموز... كنت تدخلينه بين فخذيك، وتحرِّكينه كمن يفتعل حبًّا ممنوعًا. يتقلَّص ويتأوَّه من شدة الكبت والشبق. كيف سمحت لنفسك بكل تلك الخلاعة؟!

المرأة: لماذا تنظر إليَّ هكذا؟! لستُ الوحيدة التي تريدها غيمة. محض غيمة تحرِّكها مثل ريح تضرب ثيابًا على حبل غسيل. إنك شهوانيٌّ وكاذب و محتال. تنظِّف عقلك على حساب خوفي وضعفي. ليكن معلومًا للجميع بأنني لستُ تلك المعلِّمة الخليعة التي فُصلت من المدرسة لأسباب... لا أعرف إن كانت تحفظ الآداب أم تفسد العقل؟! أنا النجمة التي تقلِّد الظلام، الغصن الطري الذي يجلد أرواح الموتى. أنا... أفكِّر بالأبدية الرائعة، المغرية كقشرة موز ناضج. (يمتلئ جسد المرأة بدموع كالنور)

الرجل: للأبدية جمال قشرة موز.

المرأة: حروب أبدية بسبب موز رخيص!

الرجل: دائمًا ثمة فكرة حرب.

المرأة: حرب بسبب إلـ... حربٌ... أبدية. (صمت)

الرجل: إنك منسية ومرمية كقشرة موز. مجعَّدة ومعوجَّة غبراء كركام حرب عفنة.

المرأة: (في بطء شديد، خدرةً تهذي). تقصد الأبدية. المعلمة المريضة بالأبد الكريه...

الرجل: أقصد جمال الموز بين يدي معلمة خليعة.

المرأة: مسكينة تلك المعلمة المجنونة. لماذا يدفع المرضى ثمن أخطاء الأقوياء؟ لا أستطيع أن أفهم ما جرى لها، لكنني حقًا أرأف لحالها وأرغب في مساعدتها.

الرجل: كوني مثلها إذا كنت حقًا ترغبين بمساعدتها.

المرأة: تريدني مريضة، تريدني مجنونة؟

الرجل: لا... فقط... أريدك أن تعودي معلِّمة مدرسة.

المرأة: بعنقود موز أعلِّم الأطفال دروسًا ماجنة!

الرجل: تلاميذ جائعون أمام سلَّة موز مغرية...

المرأة: إنهم كثيرون... كثيرون جدًا. (ضحكة صغيرة). سيتزاحمون ويتدافعون... س... يتزحلقون على الأبدية...

الرجل: إنهم جائعون. سيأكلونك إن لم يكفهم الموز.

المرأة: تلاميذ يعضُّون الأبدية بنهم. يعصون الآداب العامة. يراقبهم المدير ويخشاهم. يا لجمال الصورة آااه...

الرجل: يا للبؤس! جوع في وجه الأبدية. لا نفع... لا جدوى أيها الفجر. أيها الفجر يا هبة الشمس رفقًا بالحالمين يا هبة الشمس... (صمت). لا جدوى. جوع في وجه الأبدية. ستتحوَّل الأبدية إلى براز...

المرأة: نضرةً ستكون وجوه التلاميذ. والمعلِّمة تفرح لمرآهم الجميل.

الرجل: وتشتري الموز لتلاميذها ساخرةً من مدير المدرسة البخيلة.

المرأة: فرحانة بالأبدية سترقص المعلِّمة بين أوراق الشمس...

الرجل: يغادر التلاميذ قاعات الأبدية الضيقة.

المرأة: منتشرين مع دفء الألوان الجميلة التي تنثرها الأبدية الواسعة...

الرجل: بالحبِّ يملؤهم الحماس. (بصوت خفيض): ما الشبه بين الأبدية والموز؟ ما الذي يجمع الشمس إلى الخراء؟

المرأة: سلَّة موز... تلاميذ، ومعلِّمة. يحوِّلون المدرسة إلى حبٍّ كالأنهار وأبدية كاللعب. (صمت مفاجئ)

الرجل: دعينا من موز الأبدية وتلاميذها. (صمت). إنني "كيف أقولها أيتها الشمس"... إنني أحبك.

المرأة: أ.. نْ.. ت... تُ ح بني. أنا... لستُ... سوى وهم. "كيف أقولها أيتها الشمس". لا تعد إلى الأوهام لئلا تخسر براز الواقع.

الرجل: أحبك. أحبك... حالمًا بلا إرادة ومتعطِّشًا بلا رغبات. أحبك بشكل... بموضوع... بشكل... بشكل لم أعرفه فيك من قبل. س... سس سنحيى سعادة لن تزول، ولن نطلب شيئًا آخر. لن نسأل عن أي شيء... أي شيء. الأبدية السعيدة هي ألا نريد شيئًا.

المرأة: لماذا تريدني إذًا؟

الرجل: أنا لا أريدك، لكنني أحبك.

المرأة: ما الفرق؟ (بسخرية) كيف ستقولها يا هبة الشمس؟

الرجل: كالفرق بين الأشجار وظلالها.

المرأة: الظلال. "إني مريضة بالظلال". عليَّ الاعتراف... وعليك تركي لحالي. أتركني يا شجرتي الصغيرة. أترك ظلَّك الضعيف. سأعترف الآن... أعترف: لقد هربت، لم أقو على البقاء. كانوا يتزايدون بوجوه رقيقة حدَّ الرعب. (صمت). تلك الباحة الفارغة كالسماء، آه تلك الظلال الداكنة كأرواح تختنق بالغد المشرق؛ الغد الذي لم يتحوَّل إلى الحاضر أبدًا. ثم الأناشيد الحاقدة ورفرفة الرايات كجثث في الهواء. (تنتحب). ألن يغفروا لي خوفي وقلقي؟ (صمت). أيها الأطفال المنسيون المهملون، أيها المتروكون بلا أمل: سامحوني. لقد غفرت للجثث والأناشيد. سامحوني. اتفقنا؟ الرعب منعني البقاء معكم.(صمت). لكن، من سيرأف بك أيتها الأبدية؟!

الرجل: ألهذا الحدِّ هي الأبدية مرعبة؟

المرأة: مرعبة... مرعبة.

الرجل: لكننا نكره الموت. ألا تكرهين الموت؟

المرأة: نكره الموت. نعم نحن نكره الموت. (صمت). لكننا مع مرور الوقت، وبسبب الخوف والعناء، نعتاد ما نكره. وكعاطفة عميقة، بطيئًا... ننسى ما نحب. ما نحسبه مختلطًا بدمائنا، يصير غبارًا على أحذية المستقبل. غبار ناعم ننفضه بنعومة نزع صورة قديمة عن جدار مائل. كم هي شاحبة وباردة صور الأيام القادمة، تراه... تعفُّن هذا الذي ندعوه الزمن؟! أتظن أنك تمتلك عينين سليمتين؟ ما نفع الرؤية إذا كنت بلا لسان؟! نقول هكذا... هكذا بنصائح هي السخافة والعجز، أننا شبعنا من الكلام. كيف أخبرني يا هبة الشمس. هل شبعت من الكلام؟ أرني تخمة لسانك البدين. وحدهم الموتى شبعوا من الكلام. لقد ملُّوا كل حديث لأن رؤية الموت أرتهم كلَّ شيء. أما نحن الذين لم نر شيئًا فنحتاج ألسنة العالم كلَّها. لكن، أخبرني يا هبة الشمس، ما نفع الكلمات بلا ألم؟ أتظن الكلمات مجرَّد أنفاس في الهواء؟ أخبرني أرجوك أخبرني، ما هي الكلمات؟! إنها أمل العاطلين عن العمل، أليس كذلك؟ إنها أشباح بيضاء في ليلة واحدة لا نهاية لموتها! الكلمات طرق الغيوم على الأرض. أبوسعنا العيش دون غيوم؟ إنها مقبرة جميع الأحلام. لقد عرفتني الآن. أما زلت تحبُّني؟ أيها العالم انظروا إلى هذا الرجل المجنون. إنه يحبُّ مقبرة! (صمت من بكاء...). نعتاد ما نخافه حتى نفقد القدرة على فعل ما نريد.

الرجل: لكن الموت مظلم، بارد وموحش. أتكون الأبدية أيضًا مظلمة.. موحشة وباردة؟

المرأة: لست أدري كيف هو الموت. ما أعرفه أن الموتى يتوقَّفون عن الكلام لفترة طويلة...

الرجل: تقصدين أن الأبدية هي الصمت؟

المرأة: كيف يمكننا الغناء ونحن صامتون؟

الرجل: ربما يكون صمتنا غناءنا!

المرأة: لكننا صامتون الآن. أليست أجسادنا زمنًا صامتًا؟ ألسنا ثلج الزمن العريق المتوِّحد القاسي في هذه الحياة الغريبة؟ ما الذي يحدُّ أجسادنا غير السماء الميتة؟! أريني روحك يا شجرتي الصغيرة. أريني بذرة الربِّ... أريني الأقنعة الذهبية كلَّها. آآآه سنموت من البرد في هذا البلد المليء بالشمس. غدًا سنموت من البرد في هذا البلد المليء بالشمس. مالك تيبَّست يا هبة الشمس! ألسنا أبديين لأننا أطفال الشمس! ألسنا أبديين بسبب ذلك العناء؟ هل من أحد يسمع غناء الفجر الرقيق؟ هل من أحد يقبِّل التراب الآن لأنه المجد الوحيد للإنسان! ما من أحد يسكن عشب المقابر... ما من أحد. ما من أبدية دون عشب ميت! ما من أبدية دون غناء... لكننا، يا للحيرة، نصمت حتى حينما نتكلَّم!

الرجل: أيعقل أن تكون كلُّ هذه الكلمات صمتًا؟!

المرأة: تجد الكلمات طريق صمتها مثلما يعثر الحيوان على درب موته. بلا جهدٍ تمضي وتجلس في سكونها الهادئ العجيب. وبلا جهد، كريشةٍ بلا وزن، تعود مثلما ذهبت، تورق، تشعُّ، تتجدَّد كأنَّ أيَّ شيءٍ لم يولد من قبل. إننا في ألف الحياة. ألسنتنا لم تتعلَّم النطق بعد. إننا نثغو فحسب! اثغُ... أثغني... (صمت كالثغاء). مالك لا تثغي؟ (يتشاركان الثغاء والضحك والبكاء الحارق في نبضات بطيئة مؤلمة)

الرجل: كأنَّ الأبدية خلفنا؛ على رسومٍ نائيةٍ، كوجهٍ واحد يسكن ألف غيمة متحوِّلة، تلوِّح، تتباعد، تلتمُّ... تطير ثم تذوب في السماء.

المرأة: كأنها أمامنا طوال الوقت. تتكشَّف عن جدولٍ يسيل من صخرة باردة. كأنها ماء صغير ينساب بلا اكتراث بالحياة كلِّها، في تناغمٍ لا يتكرَّر أبدًا، طفلاً بلا حكمة وبلا اسم. أتكون الأبدية هذا الانسجام الأعمى مع الحياة كيفما كانت؟ (صمت). أتكون الأبدية انعدام الأسماء؟ ألا يحمل كل اسم قتلاً لاسمٍ آخر؟!

الرجل: كأنها هناك في البعيد البعيد... فيما لم يُرَ بعد؟

المرأة: كأنها هنا في القريب القريب... داخل عيوننا التي أذهلها الخوف، على ألسنتنا التي تقاسي الأمل؟ (صمت)

الرجل: في كل ثانية خلود فاتن. في كل مكان جمال ساحر... لكنه الموت... الموت حيثما مضت بنا خطواتنا! ما الموت؟ أخبريني يا غصن الأبدية.

المرأة: (ببطء وسكينة) وردة ندخلها فلا نعلم كم من الزمن مضى... وكم من حبٍّ ينتظرنا لنتحوَّل إلى عطر يغمر العالم.

الرجل: إننا نهذي أيتها الوردة! الموت يخلف النتانة لا العطر...

المرأة: إننا نموت أيتها الشجرة! (صمت طويل). لا تحزن. الحزن كالزنا. أتحلم برؤيتي عارية كالشمس؟ إنني أخشى على عينيك من شدة ظلام النور. أم إنه من السهل أن تضحي بعينيك في سبيل من تحب؟ (صمت)

الرجل: كفِّي عن الهذيان. أرجوك كفِّي عن الهذيان.

المرأة: لست أهذي. إني أقرأ كتاب حلمي.

الرجل: بسبب الفراغ. كلُّ هذا بسبب الفراغ. الأبدية فكرة العاطلين عن العمل. (صمت)

المرأة: الأبدية... (صمت كالنوم). يا ربَّ الأرض والسموات، أرني وجهك، أرني إصبعًا من أصابعك، أرني قدميك، أرني باطن قدميك. (صمت قصير). قذرة كانت المراحيض، والقاعات والممرات. قذرة كانت أسنان المدير ذي الناب الذهبي والابتسامة الكذبة الباردة. لا مدافئ ولا مياه نظيفة للشرب. ألا يجدر بالتعليم أن يكون فرصة ذكية لاكتساب القدرة على التأمل؟ لم يألف أحد من التلاميذ، عديمي الحظ، جمال أغنية، ولم يُهيأ أبدًا لتذوق شكل ما، أي شكل كان. إن الأطفال الذين حرموا من الموسيقى، هم ذاتهم الذين أجبروا على الكذب. لقد أُمروا أن يرقصوا ويبتسموا ويهتفوا للعمال والفلاحين وصغار الكسبة، فخرجوا وهتفوا في مسيرات زاعقة مثل دواب تائهة في شوارع كالحظائر. لقد تكلموا بما لم يعرفوه من قبل. بعيون مندهشة بلا سبب، ونظرات تجمَّدت في محاجرها. إنها لمشاعر بلا صفة أو قيمة سوى الإهانة والذل. لم يعد يبنيهم شيء سوى الخوف. لقد شوَّه الخوف الأبدي تلك الوجوه الصغيرة الناعمة. كانوا هلعين ويابسين كغصن ميت. وكنت واحدة من أولئك الذين أحسُّوا بموتهم. وكنت خائفة مما يحدث حولي. لقد تحوَّلت إلى مقبرة آمنة لأولئك الأطفال، ولذلك ربما أحبوني، وأحببتهم. هل تفهم الآن لماذا أفكر بالموت دائمًا؟ لماذا أفكِّر بالآلهة التي أجبرتني على الخنوع للأبدية؟ خفت وارتبكت وضعفت إرادتي تمامًا مثل مريض، لشدة ضعفه، يخسر إحساسه بالألم. (صمت). فليغفروا لي ضعفي وهربي. ليغفروا لي تخاذلي وحيرتي وبلادتي. ليغفروا لي، يا رب السموات والأرض، ...

الرجل: لا شيء يمسني من هذه الذكريات! الحياة واحدة والإحساس كعدم الإحساس. (صمت) "إن الأرض هي نفسها في كلِّ مكان، صغيرة جدًا" مثل تلاميذك البؤساء.

المرأة: نعم... أنا أيضًا، أراها كذلك. صغيرة جدًا بحيث لا يمكننا الإمساك بها! بل لا نقدر ربما على رؤيتها كما هي.

الرجل: لقد كبر صغارك الآن وصار من الحكمة أن يشفينا الغفران؟

المرأة: الغفران!... ماذا تقصد بالغفران؟ (صمت)

الرجل: ربما تكون الأبدية هي الغفران، الغفران الذي يجلبه اليأس.

المرأة: جشعًا كان المدير... جبارًا وخبيثًا. إنه الغرور يزيد من قسوة القلب. إنها الحكمة تضعف العقل! أخيرًا نتشابه؛ فارغين من الحب وعاطلين عن العمل. أيكون الحب هو العمل نفسه؟ إنها الأبدية لها إنصافها الغريب!

الرجل: الأبدية... الأبدية، تبًا لهذه الكلمة. (صمت). الأبدية هي أن نتوقَّف عن العمل. أن نتوقَّف عن الشكِّ. إنها عطلة الأعياد. مائدة رب الأرباب. إنها عيد كلِّ يوم، العيد الذي لانهاية لشبابه...

المرأة: مللتُك يا حمار الأبدية. مللت الادعاء والكذب. سئمتُ الغد المشرق والأمل السكران.

الرجل: (يسرد حادثًا يشبه الذي صادف المعلِّمة ليساعدها على التذكُّر والنسيان.) لم تكن مدينة ولا قرية، كانت خرابًا هادئًا يشبه الغروب الجاف في أماسي الصيف. رأيتها على طريق عودتها من المدرسة. وجه صغير بارد ورقيق. عينان لامعتان كزجاج نقي يعكس سماء صافية. إنها قرب والدها الآن. جدْيٌ وليد بارك عائلتهم اليوم. صبيٌّ بالغ الوداعة والجمال. يكاد يتكلَّم من فرط رقته. جدي أبيض محنَّى عند الرقبة، لسانه زهرة صغيرة بلون نهد وردي. آه من قال: "إنَّ الحبَّ يبدأ من اللسان"؟ يا لجمال أذنيه الطويلتين! تلهَّفتْ للعودة إلى البيت، وامتلأت عيناها بلمعات ساخنة. بكت لشدة السعادة، وأسرعت أكثر لتحضن الوليد الجديد. أيها الفجر، يا هبة الشمس، رفقًا بالحالمين يا هبة الشمس؟

المرأة: عمَّن تتكلَّم؟!

الرجل: عن الأبدية. عن التناسل السعيد. (صمت). الأبدية... الأبدية التي لا تعني شيئًا لأحد.

المرأة: طفلة المدرسة – التلميذة بيديها الصغيرتين الساخنتين كوجه دوار الشمس! أنفها الجميل وسمسم خدِّيها! آه إني أتذكَّر الآن: فراغ المقاعد، ومرآة المدير المبقعة بطباشير الجوع، وأحمر شفاه الآنسات المحافظات... (يقاطعها الرجل)

الرجل: الطفلة المريضة؛ الطفلة التي أحببتها كما تحبِّين نفسك. (تلتفت المرأة إلى شمس روحها الميتة، تسير مثل نائمة، إلى المرآة ثمَّ تمضي لتجلس في المقعد كطفلتها الغائبة. يطفئ الرجل الشموع المعلَّقة قرب سلَّة الموز "إذا وجدت". قرعٌ باليد على باب خشبي. تقوم المرأة، على هيأتها الأولى. تتقدَّم نحو السرير وتستلقي عليه. عيناها داخل قلبها)

المرأة: في حظيرة ذهبية حلمتُ بكلب يلحسني. كلبٌ أبيض، في عينيه زهرتان من لهب بلون البحر. لم أر لسانه الرطب الدافئ. (صمت قصير). لم يكن لسانًا ما تدافع بين فخذيَّ. كانت ثلاث كلمات حول إكليل أحمر؛ ثلاث كلمات هنَّ عزاء المرعوب. حسبت الإكليل لسان الكلب ورأيت الكلمات تدخلني بهيئة ثلاث سمكات برتقالية صغيرة. ما من سعادة ذقتها كتلك السعادة. لم أسمع الكلمات، لكني رأيتها على جدران الحظيرة التي تحوَّلت بأثر الكتابة إلى ورق أصفر قديم. واضحةً كانت الكلمات، حيَّة ومؤلمة... الخوف، الموت والجمال. كانت الموت والجمال والخوف. أية سكينة غمرتني حين أنزل الطفل لسانه عن حلمة عقلي!! لا أظن أنَّ تلك الانفعالات ستزول. أحسستُ أنه آخر يوم لي على الأرض، وأن الغد لن يأتي أبدًا. رأيت حياتي كلها من ضوء نهار واحد طويل، ورأيت الحظيرة باب العالم الوحيد. (صمت). لم يفعل أحدٌ ما فعله ذاك الكلب الملائكي الذي وهبني نار الحيوان البريء، نار الخوف النقية كجمال ميت. لقد أنقذني من روحي العفنة. محروسة بذهب غامض، تركني وحيدة في بكاء كالفرح.

الرجل: ربما يكون رجلاً أحببته، فرأيته في منامك على هيئة كلب أحبك؟

المرأة: ربما تكون كلبًا تائهًا في شكل رجل يدَّعي حبَّه لامرأة أصلها غيمة تائهة؟

الرجل: لست أحلم... إني أحبك. (صمت). أما كنت ترغبين البقاء؟ لماذا لم تحاولي أن تكوني بذرتين في ثمرة واحدة؟

المرأة: أترغب في بقائي مريضة كما كنت؟ أدَّعي القوة والتماسك في الوقت الذي تنهار فيه روحي أمام عيني! سبق وأخبرتك أنني قد يئست من العالم، وفقدت كلَّ أمل بحياة أفضل. ثم، لم أكون اثنتين أو ثلاث؟ لماذا ينبغي عليَّ أن أتفتَّت وأتناقض وأنكسر لأرضي الآخرين! متى كانت الأقنعة حلاً؟ أفضِّل الوجود حرة وبلا عبء على الوجود مقيَّدة ومهادنة مع حشود لا أحبها ولا أتحمَّل طريقة حياتها.

الرجل: عزيزتي المثالية... دفاع جيد دفاع ممتاز. مالك تنظرين بحزن إلى كلمات بريئات؟ الحزن كالزنا أليس كذلك؟ الحزن علاقة مثلية. أليس من الأدق أن نصفه كعلاقة مثلية شاذة مع الوجود الذي لا تحبينه؟! لم لا تحاولين التفكير؟ لم تعتبرين وجود حياتين لشخص واحد أمرًا متناقضًا؟ هل من المرض أن تكوني اثنتين أو أكثر؟ لست مجرد كلب في هيئة رجل. ربما أكون امرأة في دم عاشق، أو غيمة في سماء أبديتك الحزينة! ربما ثمة الآلاف؛ لا نراهم ولا نسمح لهم بالعيش معنا. إننا نهملهم ونتناساهم متوهِّمين حياةً أفضل بدونهم! بسبب الاعتياد الكريه والسأم الكسول، لا نقوى على حمل أحاسيسنا الحقيقية. إننا لا نرغب أصلاً تأمُّل أفكارنا غير المعلنة. هكذا تمر المياه بين أصابعنا ولا نبتل يومًا بسرِّ حياتنا، فلا نعلم إذا كنا نريد أم نرفض، نحب أم نكره! أما من أحد يولد مثل نبات متواضع؟ ينمو كضوء حرٍّ!... لنفترض أنك غير نادمة لأنَّ ثمة حقًا ما يبرر غيابك. لماذا تصرِّين إذًا على طلب الغفران؟! لماذا لا تتوقَّفين عن تذكُّر أولئك التلاميذ الذين لم يعد أحد منهم يذكرك الآن؟

المرأة: لأني أخطأت... لأني أخطأت...

الرجل: إنك تطلبين الغفران من نفسك لا منهم. تطلبين الغفران لتتخلصي من إحساسك بالذنب. إنك لا تبالين بأي شيء لأنك أنانية وقاسية، لكنك في أعماق نفسك لست سوى قناع. الألم الذي تدَّعينه ليس سوى قناع تخفين خلفه أشد الشهوات قذارة! إنك لا تقدرين الوقوف عارية أمام روحك السوداء. تتوهمين أن الغفران المستحيل سيخلصك من آلامك المزيفة.

المرأة: يا للحكمة يا للحكمة! دفاع جيد دفاع ممتاز. أنا روح سوداء. يا لنقاء روحي! هل الألم فقط صفة الإنسان حتى إذا ما تخلَّص منه فقد إنسانيته؟!

الرجل: لا غفران بلا خطيئة تسبق الغفران. لا غفران بلا آلام. لكن الغفران لا يمحو الآلام ولا يعوِّض الخسارة. ما من غفران أبدًا... ما من غفران. (صمت)

المرأة: الأبدية وهمٌ كالغفران؟

الرجل: على العكس تمامًا، على العكس. جميع الأرواح تحتاج الأبدية... (تقاطعه المرأة)

المرأة: جميع الأرواح. (تضحك بإغواء سافر). لتدخلني جميع الأرواح، أنا الأبدية، أنا الغفران.

الرجل: كفي عن مقاطعتي... يا غصن الأبدية الميتة. لا حاجة إلى الغفران في حياة بلا آثام. لكن لا حياة بلا قسوة. أنها دائرة جحيم. الغفران طريق إلى الجحيم! لكن ثمة من تخلَّصوا من الأبدية والغفران، ثمة من دفنوا قلوبهم في الشمس. إنهم يعيشون في نقاء نادر. الموت بالنسبة لهم سبب للبهجة كالولادة والحبِّ...

المرأة: لأستعيد حياتي كلها عليَّ نسيانها كلها! سيكون مصيرًا غريبًا أن نعثر في النسيان على الأبدية!!

الرجل: أبدية تشبه النسيان. نسيان يجعلك تخسرين أوهامك!

المرأة: بدأت أخاف. إني خائفة، كيف يمكنني العيش دون ذاكرة؟ إن النسيان يماثل الموت. النسيان فصل البرد والجوع والآمال المسحوقة. إني أحاف البرد... إني أخاف البرد...

الرجل: لكن ذاكرتك نار من الأخطاء والعيوب والخيبات.

المرأة: لا خوف من العار. الخوف من نسيان العار. عليَّ حملها نعم عليَّ حمل النار كما يحمل رجل طفولته إلى أبنائه. أعلم أن آلامي ستشعل آلامي، لكن لا سبيل أمامي سوى العيش في قذارة ماض لن أتخلَّص منه أبدًا. (صمت). ماضيَّ حظيرتي. ما من أحد يستطيع لمسها أو تغييرها. ماضيَّ أبديَّتي، هناك سأعيش من ذاكرتي. (تضحك عن عدم اكتراث). حظيرتي أبديَّتي... ينبغي ألا أتوقَّف عن البكاء... ينبغي ألا أتوقَّف عن الغناء. (تدندن لحنًا غريبًا وتنتحب... يختلط دمعها مع كلمات أغنية غير مفهومة). ينبغي أن أفرح. ينبغي أن أفرح لكل ما حدث ويحدث! (تبتسم وتحاول أن ترقص أمام صورتها في المرآة). غير آبهة بأي شيء سأغنِّي فرحي الخاص وبهجتي. لكن ما الذي يفرح من لا يريد شيئًا؟ لاشيء يفرحني، لا شيء. ربما يكون الألم رغبتي... نعم إنني حزينة لأني أرغب أن أكون حزينة. (صمت). ينبغي أن أحلم... وأحلم... وأحلم حتى يعود الموت نفسه حلمًا مثل الحياة. (صمت). هل الألم أم الفرح فطرة الإنسان؟ على أيِّ مائدة نضع أرواحنا؟ أأكون حقًّا بحاجة إلى البكاء ولا أعرف! ماذا حلَّ بي لأصل إلى كل هذه الأبواب المغلقة؟ ماذا كنت أفعل طوال تلك السنوات، كيف كنت أفكر وأعيش؟ أتراني توهَّمتُ حياتي مثلما كنت أحس بوجود ملائكة صغار خلف الأبواب وبين الأشجار؟ الأبواب وحدها هي الأوهام، أما الملائكة الصغار فحقيقيون ومخلصون. لكن الأشجار... ماذا تكون الأشجار؟؟ إنها قبور حيَّة؛ أكفان خضراء مثمرة، سماء زرقاء تزيِّنها حلماتٌ كالنجوم. أيتها السماء أرضعي موتاك الرضاع الأخير. لقد هلَّت الأبدية ولم تعد لأحد حاجةٌ إلى خبز السماء الفقير. (صمت). لماذا أتعلَّق بما يزول؟ لماذا أحب الخاسرين؟ لماذا أركض وراء ما أعرف أني سأخسره؟ لماذا أدافع عن خراب العالم؟ هل الخراب بيتي الوحيد؟ هل الخسارة بنت الأبدية القاسية؟ أتكون الآلام جواب الحاضر عن ماضٍ أهملتُه فكافأني بالخوف والبرد؟؟ أتراني لم أكن جديرة بالحياة لأحصد كلَّ هذا الموت!؟

الرجل: أيتها المرأة المسكينة. أيتها الوردة الحزينة. أنت مريضة، خيالك أتعب روحك. مريضة وستشفين. وحدهم فاقدو الحب يجدون الحب.

المرأة: أنت وهم. لست سوى وهم. طوال حياتي وأنا أتحدث إلى أوهام.

الرجل: جميل وسعيد من يكون وهم الوردة.

المرأة: لست الوردة. أنا ترابها اليابس. أراني ميتة حيثما نظرت. أما أنت فلست غير وهم يتخيَّل امرأة كلما نظر إلى غيمة... ثم يحسبها وردة بين يديه.

الرجل: أنت وجعي وأغنيتي.

المرأة: أغنيتي... وجعي. كلام فارغ... كلام فارغ. (تصمت. تتذكر أمرًا ما، ويلمع مرحٌ مخيف في عينها). تفسَّر حلمي بكسل وإهمال. ألا تدرك أن الكسل بذرة الشر؟ لقد أذنبت وأسأت إلى خيالي. لقد أخطأت وكنت تقصد ذلك. (تتضاحك بإغواء متكلف). أقول ما بين فخذي؛ هنا بستان اللذة والعار، فضَّتي... أيها الأعمى، لؤلؤتي وحتفي يا هبة الشمس الباردة، زبدة جسدي التالف كروحي. تقول: كنت تلعبين مع رجل. ألا يوجد غير الرجال بين أفخاذ النساء؟ أقول لك: رأيت كلبًا أبيض بزهرتين تشعَّان في عينيه، فتراه رجلاً. كيف تجرؤ على تحويل كلب أحلامي إلى رجل مثلك؟! لمَ تفصل كلبي عن رغبتي؟... وتجعله رجلاً يحمل رغبتك وحدها؟ (صمت. تتابع دفاعها بانسجام وهدوء). فرجي كهف عقلي. تحسبني مجنونة. أليس كذلك؟ لا تكذب هذه المرَّة، أرجوك. فرج المرأة عقلها، فلم تسيء إلى عقلي؟ كم مهانة عشتُ بلا عقل، لكنني استعدته الآن. كلب أحلامي أعاد وعيي إليَّ. إيه يا أخي الأبيض الجميل، كنتَ تحرث عقلي، تمصُّه مثل حليب. آه يا طفلي الرضيع الذي لم ألده، ولن أجده أبدًا. أيها الطفل يا قلبي وأمنيتي، كيف دخلتني بلغتك، كيف بلا يد كتبت حياتي على جدران الحظيرة الرائعة! في ذلك النهار المبهج الطويل... أي سخاء وافر أشعل الكلمات الثلاث داخل رأسي!! أضاءتني لوحتك أيتها الريح القلقة، أسرتني في الصمت والظلام... (صمت قصير). أيها الحكيم الكذاب، البارد مثل نصيحة مجترة: كيف تراني بكل هذا الحزن؟ ما الذي يجعلك حزينًا لهذا الحد؟ أهي الوحدة يا هبة الشمس؟ أهو الفراغ والخوف؟ يا لك من رجل مسكين... لقد رأيتُ إيماني كلّه، رأيتُ جوهر إيماني في تلك البرهة السريعة الراقصة كالشهب. كنتُ متوترة ولاهثة وسعيدة بأي شيء. بلا ذاكرة، ولا رغبة؛ مثل التي تراها أنت، رأيتُ حقيقتي. رأيتُ الحقيقة التي تحرس مرض الحياة، وما كان ينقصني سوى تلك الكلمات لأصرخ بها في وجه العالم. كنت أدوخ من النشوة والسعادة. حسبتني أرقص وأطير وأتمدَّد وأتَّسع وأتناثر وألتمُّ وأغفو وأستيقظ في اللحظة نفسها. لا، لا. أبدًا لم أرغب بالصراخ. ما كان ينقصني أي شيء سوى الصمت! لقد دفنتُ الحياة بين فخذيّ، فغبتُ في نهاية ذهبية عالية، كنتُ أموج وأتأرجح، أغمض عينيَّ فأرى الكون كلَّه يتأرجح معي، يخفُّ ويشفُّ، يدقُّ ويرقُّ إلى غيمة زرقاء بحجم راحة اليد!! فقط في غيمة واحدة بحجم راحة اليد. كلُّ العالم داخل تلك الحظيرة. كلُّه، كلُّه على لسان الكلب وبين عيني! (صمت). آه ما أصغر الأرض حيث نعيش لنموت. آه ما أضعف الأحلام!! "بالسفر نحلم، وننام في راحات أيدينا؟"

الرجل: أوَ يعيب الرجل أن يرى نفسه بين فخذي امرأة؟ إنه لمكان محبَّبٌ، دافئ ولطيف. لماذا تحطين من شأن ملاك فخذيك؟ نعلم، متأخرين كالعادة، أنَّ الملائكة تحضر الألعاب الحميمة وتباركها. قد يكون كلبك العاشق ملاكًا نادرًا، يأتي إلى العالم مرة واحدة، ويغيب. قد تكون الحياة بحثًا قاسيًا عن ذلك الضيف الغريب. نعلم أنَّ الروح "شيءٌ" غريب على الأرض. لكننا ما زلنا على ثقة بالغيوم. إنها "عذابات" الضيوف الغرباء. (بحزم بعد صمت قصير). لا تظني أبدًا أنني أجاريك أو أجاملك، لأخفِّف من تعاستك. إنني أصدق خيالك، لكنك تفتقرين إلى الهدوء النفسي. أنصحك بالسكينة حتى تقدري على تحمُّل الأبدية. (صمت). إنه لخبر مبهج شهادة حيوان مخلص في معلف السماء الحرَّة.

المرأة: السماء الحرة! (صمت). كان صباحًا هادئًا. بثوب أزرق قصير، يرويه ضياء الشمس، سارت على ظلِّ خطواتها فوق غبار الممر الرمادي. لا، ليس بتلك الصورة تولد النجوم بين أوراق العشب. لم يكن لجسمها ظلٌ، ولا لخطوها صوتٌ. كانت الطيف الذي فيه رأيت نفسي! حزينة ومطمئنة أودعتني نظراتها الأخيرة. ها أنذا منذ وداعها الصعب، لا أحس بغير الموت والنقاء، ولا أسمع سوى أغنيةٍ راحلة.

الرجل: أنت مريضة، يجب عليك الاتصال بأخصائي نفسي.

المرأة: لا تحس بما أراه؟ لن تحسَّ أبدًا ما أعانيه. إنَّ من لم يسمع أغنيتها لن يرى السماء الحرَّة. (صمت). من لا يمضي إلى الحظائر لا يصل إلى الأبدية.

الرجل: كلب أبيض في حلم صامت. إنه علامة موت.

المرأة: إنه النقاء الخالص، والدفء الساحر. البياض بداية بلا عبء، وصمت الكلب مرآة لعنف الأبدية.

الرجل: تفسيرك أشدُّ غرابة من حلمك نفسه! إنك تهذين. كفِّي عن الأوهام، إنني أرجوك رأفةً بقلبك الضعيف.

المرأة: ليس حلمًا ذاك الذي لا يترك خلفه حلمًا آخر. إننا نزداد فقرًا إذا ما رضينا بأحلام فقيرة. الوفرة، الثراء، الغناء الغامض... هي إشارات الغيوم إلى التراب. التراب الظليل دربي إلى السماء. (صمت). أرى فحسبُ. أرى ما تظنُّ أنني أتوهَّم رؤيته. تحسبني عمياء لإفراطي بعزلتي؟ (صمت). إن من يرغب بمساعدتي، لا يمنع عنِّي كلام عينيَّ. فلا تمنعني إذا كنت حقًا تحبني.

الرجل: عليك التخلُّص من أوهامك إذا كنت حقًا تصغين إلي.

المرأة: لا شيء لديَّ غير الأوهام. لم يترك الواقع الذي تؤمن به سوى الأوهام التي أدافع بها عن خوفي من الحياة وحبي لها.

الرجل: لا شيء سوى ظلام الكلمات؛ ترينه في ظلام صمتك الطويل. (يستمر الرجل في كلامه دون أي فاصل). إنك تفسرين عينك بلسانك. هكذا بسهولة مخيفة، تقولين إن "الحب يبدأ من اللسان". ثمَّ تحوِّلين الصور إلى كلمات جديدة، لا تلبث أن تصير صورًا أخرى. دائرة مغلقة تفتحينها على دائرة مغلقة، هي الأخرى تنفتح على سواد كبير. إنك تخلطين عمل الحواس وتدمرينها. صورك هذه ليست سوى مرايا صاخبة تعكس الخوف واليأس. المرايا فارغة أيتها المرأة الهاذية، المرايا... كل المرايا فارغة. الأبدية محض خيال، محض خيال. ثم إن كلمات المرآة ليست صور المرآة. انظري... انظري ثمة فرق شاسع بين ما نقول وما نراه. إنك تقومين بعملٍ مستحيل. تحسبين أنك رأيت ما ينبغي أن تقوليه، ثم تتحدَّثين بيقين كامل عمَّا تحسبين أنك رأيته. كلماتك عن نفسك لا تعود إليك. لقد أدخلت جسدك في دوَّامة من المخاوف المتخيَّلة، وما عدت تقدرين على الخروج منها. الكلمات رمادُ صورٍ زائلة. كيف تثقين برمادٍ زائل؟ إن الكلمات تحبسك في جوفها، وتزيدك أسى وألمًا. كلماتك عن الأبدية تبعدك عن الحياة الطبيعية... إنها بقايا وساوس وهذيانات. إنها أخيلةٌ مريضةٌ تراءت لك وأنت وحيدة وباردة. إنها العز (تقاطعه المرأة)

المرأة: لمست السخونة في وجهها ويديها، ورأيت على شفتها العليا قطرات عرق صغيرة، بدأت تبرد مثل زجاج رقيق تحت ضوء صباح شتائي. (تشير إلى فمها ووجهها)... احمرَّ وجهها وتوهَّج بأثر السخونة الزائدة فصار أجمل وأدقَّ وأكثر مدعاة للشفقة، وهو يتورَّد بين النمش الأملس المضيء، النمش المتناثر بحبات دائرية صغيرة على خدِّيها وأنفها. لم تتكلَّم، كانت ترغب بعودة سريعة إلى البيت... لمحتُ تألقًا دامعًا في عينيها. من خوف وحنان التمعتا وغدا تألقهما نورًا فاتنًا مثل عشب نابت تعكسه ألف مرآة صغيرة. إليَّ رنت وكأنها تنظر في ألمها الشديد. كم كانت وحيدة وهي مطرقة الرأس، تغيب عن نفسها وعني. ظلت على هذه الحال ثم التفتت حائرة مثلي صوب بوابة المدرسة الحديدية. بطيئة مضت، وخلتها تلاشت فجأة أمام عيني الذاهلتين. (صمت)... كانت جميلة ومخيفة كآلهة عارية، مثل وردة أضناها عبيرها مضت وراء روحها الهشة... واختفت مثل غيمة تذوب في حرارة شمس ساخنة. (نسمع رنين جرس مدرسة نائية. تخطو المرأة صوب المرآة حتى نحسبها ستتوحَّد مع صورتها المنعكسة فيها طوال العرض. ينظر الرجل إلى قدميه كمن يعزِّي نفسه أو يندبها، خجلاً من عدم قدرته على فعل أي شيء. يبقى الضوء على حاله. بصمت وبطء تعود الستارة الحمراء مثلما كانت قبل بدء العرض.

2005/2007

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود