|
الكتابة تُسقط النظام أيضًا
لا تتأخر الكتابة في الخروج على قيود الشكل ومقياس الموضوعة العامة، فتعيد تشكيل أبعادها الأخلاقية خارج الوحدة القاموسية التي، على كثرة التزود من محتواها، تبدأ بالنضوب. في مصر وتونس، أخذت الكتابة موقفًا احتجاجيًا من الحياة، وعبَّرت عن رغبتها في تبديل الواقع بعد هدمه. في حالة مصر، شاعت الكتابة الساخرة والمتهكمة التي لعبت دورًا أساسيًا في إظهار الخضوع الراسف تحتها بعدمية فاجعة، وفي رفض نظام الثقافة الموروثة، ونظرتها إلى القيم والمؤسسات. خلال ثورة تونس، اجتاحت الكتابة جدران الجامعات، المدارس، والشوراع، وكتب أحد الشبَّان بشعرية ثورية شعار "الكاتب الحقيقي هو الذي يكتب بقنبلة على جدران الشوارع". فالكتابة لم تعد أمرًا طارئًا على الشارع، بل تأخذ حيزًا مهمًا في إيقاف النظام عن تدجينه اللغوي وتماديه في تطبيق قواعده وقوانينه بحجج ترددها الأجهزة الدعائية، من محطات تلفزة، إلى جرائد رسمية، وكتب مدموغة بلغة السلطة. تلتزم كتابة النظام حقلاً دلاليًا واحدًا، تُخفي من خلاله العلاقة الجدولية بين مشاكلة الواقع ورموزه. ولكي تستر الفوضى في البنية الدلالية لا بد لها من سنِّ أنساق الـ"ممكن قبوله"، الـ"ممكن قراءته"، والـ"ممكن كتابته"، فتُحكم تاليًا السيطرة على نصها البوليسي، الذي يفرض صورة منقطعة عن الواقع، فيتبرأ من تهمة التواصل وعلاقتها باللغة. لذا تنغلق الكتابة في النص على نفسها، وتحمل التشويش كجوهر يعبر بها من حال إلى حال، من حقبة "القليل" إلى أخرى، يكون "الكثير" فيها قريبًا من أبدية المماطلة اللغوية. تحت سقف النظام الديكتاتوري، لا مدة زمنية للكتابة، لأنها لم تعد قائمة على التداعي، بل على فرض صور كلامية جاهزة ومعروفة الماهية سلفًا، إذ لا تجد فيها مساحة للخلق، فمصدر التدليل واحد، وموضوع الكلام متمثل مسبقًا بحكم التعيين اللغوي. هذا الأخير، يُمارس في أبعاد كل نص تجد فيه السلطة غرابة وتفخيخًا لمنظومتها الرمزية وسر تواصلها، كأننا أمام حروب نصية، على النظام أن ينتصر فيها حفاظًا على آلته الخطابية. يربط خطاب الحرب النصية بين التفخيخ والشغف اللغوي، كما في الكتابة الأدبية، أو بين التفخيخ والعقاب، كالكتابة السياسية، المشحونة بواقعية الأفعال، والمؤدية إلى نهايات مثالية، تحددها السلطة بلغة تجمع في معجمها الحكم والقيمة الأخلاقية، فتصير الكلمات رموزًا تثبت غياب المتهم وتحاكمه بالترهيب والتعظيم معًا. في ظل أحداث يصفها النظام بالحرب الأهلية أو بالفتنة مثلاً، تسرع السلطة إلى الانتقام بلغة أخلاقية وشعائرية. فبالنسبة إليها، كل انقطاع بين أي لغة والبنية الرمزية الرسمية، يعني انقطاعًا عدوانيًا عنها، تاليًا انتفاضة لغوية لا بد من التصدي لها بطرق شتى، منها مقص الرقابة الذي يخط الحدود بين لغة السلطة ولغة الكاتب، ويصنِّف الكتابات بحسب مكانها وزمانها، كي يحمي الدلالة الأخلاقية للاختيار اللغوي الذي يكشف ماضي حامله، ويعلن تاريخه وحالته، ويلزمه خطوطًا حمراء، لا يمكن تجاوزها. هذا بالإضافة إلى انتقال مقص الرقابة من المؤسسة إلى وعي الكاتب المأخوذ بالرمز المغلق. السياق التاريخي يصنع نص السلطة، يكبّل دواله بمدلولاته، ويدخله في مرحلة من الثبات، تكرِّسه السلطة وظلها اللغوي، إما كنص قانوني، وإما كنص غنائي متكرر. النشيد الوطني هو نص السلطة الأول وأكثر النصوص تعبيرًا عن فكرها. في لبنان، تشكل كلمات النشيد الوطني براديغمًا ذكوريًا، يرتبط بقوة أسطورية، فنلاحظ مثلاً، "منبت للرجال"، "شيخنا والفتى"، "أسد غاب"، "ربَّه". يحاول النشيد تشريع الهوية الذكورية، بالإضافة الى تحوُّله لازمة تمحو مدلولاتها في ذاكرة المجتمع اللغوية. أذكر يوم كنا في المدرسة، وبعد الصلاة الصباحية، كنا نقف مرددين النشيد الوطني اللبناني عاليًا، بأيدٍ مرفوعة نحو الراهبة التي تقف على منبرها وتنتظر توقفنا عن الإنشاد، لتحمل الميكروفون، وبصوت متقطع، تتلو علينا ملاحظاتها، المتشابهة في بداية كل أسبوع، من حلاقة الشعر حتى انتعال الحذاء الأسود والبنطال الكحلي، مرورًا بالتواصل الإجباري باللغة الأجنبية في وقت الاستراحة. من يخالف هذه الملاحظات يقاصَص حتمًا. الفترة "الوطنية" التي تسبق ملاحظات "الريِّسة" كانت تشكل لنا، كتلاميذ أشقياء، فترة من الكلام الأوتوماتيكي، من دون التفكير في معنى ما نقوله ونكرره صباح كل يوم. نبدأ بـ"كلنا للوطن للعلى للعلم" وننتهي بـ"كلنا للوطن"، وبين المقطعين ألم في اليد ووجع في الرقبة، لا سيما مع حقيبة تكتظ بالكتب والدفاتر، فيزداد الوجع أوجاعًا في الظهر، ننتقم منها بحرقنا الكتب على الطريق أمام المدرسة في نهاية كل عام دراسي. يمنع النظام كل كتابة لا تكون جافة وثقيلة الظل وبلا منفعة، لأن على صياغتها أن تجمع ما هو منتظر، بعكس الكتابة الخلاَّقة الحقيقية التي تصوغ ما لا يُنتظَر من الآخرين. في المجتمع العربي، نلاحظ التكرار الخطير في الخطاب، الأمر الذي يعبِّر عن غياب الحريات والقهر والحرمان، ما يمنع تطويره بما يناسب المعيش اليومي الحديث بكل تناقضاته وتشابكه. الوفرة الكلامية ينتجها الفراغ في المعنى، لأن الحرية وحدها تكفل إنتاج كتابة مفتوحة على معنى المجال الاجتماعي الجديد. في حين تراقب السلطة الحاكمة ألف الكلمة وباءها لاعتباراتها الأمنية، تظهر كتابة جديدة تقاوم القمع بأسلحة متعددة، كالتضمين والإستعارة والمجاز، وتحرر معناها من الآلة الكابتة، كما تهتك سر المسكوت عنه لتبلغ من الظواهر والأوضاع الاجتماعية والثقافية ما لا يمكن بلوغه بالكتابة المنتظمة في أنساق الزئبق البوليسي. لكي تقتل السلطة نصًا، تلحقه بمنهجها، فيصير "نفاية من نفايات الأعمال المهجورة". يأتي الخلق بأسماء مخالفة للأسماء المتعارف عليها، تكون في الغالب مهملة في السطح اليومي أو يُنظَر إليها على أنها من المسلَّمات التي تحكم التعاملات الاجتماعية وما يسمَّى بالثقافة الجماهيرية، حيث تختلط الكتابات والأجساد معًا في جوٍّ من التفخيم، لتفرض قراءة معينة شبيهة بالمسرح الإيمائي، الذي يخفي أسماءه وينتقل من الواقع إلى تمثيله المنسجم مع الحدث الجماهيري وغير المتساهل في تشويه الحياة العامة. تاليًا، لا تتوقف الكتابة الحرة عن رصد هذا التشويه وفضحه. بمعنى آخر لا يتوقف الكتَّاب "عن زرع عيون جديدة للناس"، على قول كافكا. تكمن خصوصية كل كتابة في إخراج نفسها من الممارسة القديمة للغة إلى ممارسة جديدة تتسع للإيحاء المتحول مدلولات غير متناهية. بعيدًا من الضغوط الذرائعية، التي تمنع "الارتعاش والهذيان"، يستخرج المكتوب الشعر من رتابة المضمون المنتشر في كل وحدة لغوية كلاسيكية، ولا يتوقف عند هذا الحد بل يولِّد قراءات تعدِّله وتفكِّكه وتصنعه من جديد حتى يتم تجاوزه. فلا تقنين في الكتابة ولا في القراءة بل تمرُّس في الخلق، حتى لو أصبحت العلاقة باللغة مشكوكًا فيها، فهي تأتي على فتح كوَّة في جدار الصمت. نتيجة الكتابة الخارقة هذه، يتم التعبير عن هواجس الوعي واللاوعي الخاص بكل فرد فاعل في قراءة الواقع على ضوء خياله الخلاق، فـ"الولد" الذي "أكل التفاحة" بحسب المثل التعليمي الدارج، لم يعد محض متلقٍّ للفعل بل يشارك مباشرة فيه كفاعل يكتب. وكتابته تُسقط النظام. *** *** ***
|
|
|