|
مدونات الضمير أنا*
ما الحد الفاصل بين الواقع والخيال؟ قد يبدو على هذا السؤال أول وهلة ساذجًا لدرجة كبيرة، وهو حقًا ساذج لتلك الدرجة، لكن فقط بالنسبة لمن امتلأت قلوبهم بالغرور وعقولهم بالإجابات الجاهزة على كل شيء، ومثل هؤلاء (السعداء) غير جديرين بتحسس عمق المحنة، ولا هم معنيون بالرموز والإشارات التي يمتلئ بها فضاء هذا الواقع، الرموز والإشارات التي أجدها بوابات ونوافذ تُدْخِل الوعي على فضاءات معرفية هائلة، فضاءات غير قابلة للقياس أو السرد أو التشبيه، معارف لا يمكن أن يقال عنها إنها حقيقية ولا وهمية، ولا توصف أبدًا بأنها صادقة أو كاذبة. الحكاية التي أنا بصدد سردها الآن تقع في الحد الفاصل بين الواقع والخيال، وهي تنتمي إلى وعي لا يقال عنه إنه سليم، ولا يوصف بأنه مريض؛ لأنه وعي مفارق وغير منتم لعالم يخضع للقياس. إذن هل حدثت هذه الوقائع التي أنوي سردها؟ أعتقد لا... فهل هي من نسج خيالي؟ لا... بالتأكيد لا. فما هي إذن؟ أظن أن الإجابة على هذه الأسئلة أو ربما حتى العناية بطرحها ومن ثم الإجابة عليها هي التي تحدد المعني وغير المعني بقراءة مدونات الضمير أنا. ليلة البحث عن المسودة في ساعة مجنونة، وتحت تأثير شهية ليلية مشاغبة، دسست يدي في إحدى أدراجي القديمة، حيث أحتفظ بكثير من الأوراق. كنت مأخوذًا بسحر الليل، وكان الظلام، وهو ينتشر من حولي يغريني بحكاية مغزولة من خيوط الكذب والخيال والإثارة. أخَذَتْ يدي تبحث عن مسودة قديمة، اعْتَقَدْتُ بأنني سأجد فيها بعضًا من ذكرياتي اللاشرعية، تلك التي تنام دائمًا تحت اللاوعي، تختفي خلف أستار الخجل أو الخوف أو الرغبة. أَخَذْتُ أمنِّي النفس برجوع غير معتدل ولا بريء نحو مشاهد بلا قوانين وأخلاق، لحظات تنطلق عندما يكون الضمير مشاكسًا وفوضويًا، كأن لهفتي على المسودَّة أضفى على الدقائق رداءً سحريًا رائعًا ما جعلني أغيب عمَّا حولي، وأستغرق في عملية بحث مجنونة وطائشة. لهفتي للعثور عليها أخذت تزداد باضطراد، غير أن الأوراق كثيرة ومليئة بالذكريات، الأمر الذي جعلني أشعر بالضيق والقلق، وأبعثر بحمى جنونية مزيدًا من الأوراق. الأوراق التي نامت بدفئها الكثير من المشاهد، وسكنت وسط بياضها الكثير من الاضطرابات والمشاغبات. وكلما ازداد يأسي من العثور على تلك المسودة، رحت أبتعد في عملية البحث تلك لزمن أبعد. لقد بحثت في أدراج وصناديق تحتوي على أزمنتي القديمة والقديمة جدًا، صناديق لا يمكن لها بأية حال من الأحوال أن تحتوي على أيامي التي أعرفها الآن. لماذا فعلت ذلك؟ لا أعرف. لكن عبر مراجعة تلك الأوراق والمذكرات، سأقع على نهاية ما. (قلت لنفسي). هكذا استرسلت أُنَقِب. وهكذا أيضًا كنت قد أسقطت ليلتي في واد عميق من الحكايات والهموم والسنين الماضية. لقد شعرت وأنا أعاين تلك الأوراق كمن يسقط في بئر وبسرعة مرعبة، وهو بالرغم من سقوطه والسرعة التي يمر عبرها على الأشياء، غير أنه يراكم من خلال ما يسترجعه خياله مجموعة كثيرة من الصور والمشاهد التي تمر أمامه بذلك السقوط الهائل. هكذا كنت أسترجع مع الذات تلك الصور والمشاهد الغابرة، كانت بعض الأشياء تمر بسرعة، وبعضها ببطء، والبعض الآخر يسترجع معي الكثير من الغوايات التي لا أريد استرجاعها، جمل وكلمات وحروف كان لها معانٍ كثيرة وغريبة، مزعجة ومفرحة، قاسية وفوضوية. جنود يرتمون بملاجئ لا ترحم خوفهم من جنون القذائف. آخرون تتقيأ الملاجئ أوصالهم الملطخة بوحل الشتاء. أطفال بعصي. أطفال بحجارة. أطفال بسياط. عصابة أطفال يحاصرون صغيرين مهلهلي الثياب يحملان بخوف شديد مجلة "مجلتي". نساء كثيرات، صغيرات، عجائز، فتيات (مدرسيات) كن يتقافزن من على تلك الأوراق. بعضهن قاسيات حد الألم، بعضهن فرحات جدًا، أخريات كن ينظرن بنهم وخوف، أو بقرف، أو بترف. عجائز ينهمرن. أب يربت على كتف صبي سمين وجائع ويواسيه إثر التهام المستشفى لأمه. شيخ كبير وعميق يجلس كما الملك متوسطًا حاشية من الكوفيات الملتفَّة على الوجوه لتخفي ما بها من غضب وتحفز. أَخَوات كثيرات، كبيرات، يتجاوزن أعمارهن مرتهنات وخائفات. أخوات حبيسات. بيت يسقط في فراغ النسيان. بيت آخر لا يستطيع ترميم نفسه. كوخ من طين وقصب، ينزوي بخجل خلف بيوت (الطابوق) المغرورة. مرضى كثيرون، آخرون ميتون. أرض من مقابر تفتح ألف فم جائع. أصدقاء وأقارب وغيرهم كثيرون يسيرون ساهمين باتجاه مقبرة بألف فم. تنين كث الشعر يملأ سماء بغداد بزعيقه المخيف. مارد جبار يخفي جميع الأهوار بترهلات كرشه الهائل. فلسفات كثيرة تسقط. كلمات ليس لها معنى تنزلق من أفواه لا تمل من الهذر. جندي يستيقظ من نومه فزعًا ليجد خيام الكتيبة خالية إلا من الموت. مراهق يتلصص. آخر يستمني. رجل دين يجر عباءته جرًا ويسرع الخطى خلف موكب عزاء متعثرًا بكثرة الرؤوس وأصوات البكاء والنحيب. جندي يقفز من نومه على أمل أن يجد شيئًا وسط أزيز الرصاص، فلا يجد إلا طريقًا موحلاً للهرب. مئذنة تترنح. جندي ينام وسط الذكريات والأوراق المبعثرة. مراجيح بصبيان يأكلون العيد مع (لفات الفلافل). جندي يغرق بلعابه وهو يتخيل هيكل أنثى مشرفة على النضوج. أطفال يمضغون اليأس مع اعتذارات الأهل الكثيرة والمملة. نصل لماع يخترق قلب أنثى. سجادة صلاة تتمزق. رجل مسرع. مئذنة تسقط. حسينيات ومساجد. همهمات مريبة. قصف. طفولة معتمة. صراخ. أشياء ليس لها معنى. شجار عائلي يحفز صبيًا على الاغتراف من حقد لا يعرف أين يسكبه. (طابوق) يسقط. حمَّام يتنفس الدم. بقايا. نفايات. أكياس فارغة. جمجمة قطة مركونة على المنضدة. سائل منوي يرطب السروال. كتب ممزقة. شرطة. رجال بكوفيات حزينة. نساء يتوافدن على مأتم، أخريات يتساقطن، غيرهن مهدومات. شق أرضي يلتهم آلاف الضحايا. زنزانة. صورة للمارد يخطب. صورة للمارد ينفث دخانه. صورة للمارد يعبث بالرؤوس. صورة لطفل يعبث بأنفه. رجل بيت يتلصص من ثقب صغير. سيارة. بائع. مقبرة كبيرة وواسعة. زهور. حمى. مصائد. أوراق وأوراق وأوراق أخرى. أوراق تُمْهِل. أوراق تُهْمِل. أوراق تتحدث بإسهاب وأخرى توجز. ذكريات. ذات مسكوبة على الورق. عمر يترجم الزمن إلى مجموعة مدونات لا تفصح عن أشياء محددة. صناديق تحتجز السنين المرصوفة داخل طيات أوراقها. أدراج تحتضن التاريخ المفعم بالشظايا والضحايا والكسريات. ليال كثيرة. ليال تتوالى. سواد يهرب من نهاره. أيام يعبث بها الفراغ... أصبحت تلك الليلة غريبة حد الرعب، وكان ما يثير الجنون فيها حقًا هو كم الورق الذي وجدت أنني أتوسطه، كادت الأوراق تلك الليلة أن تتدلى من كل شيء، وصار كل شيء ينذر بعاصفة من الورق والذكريات، وكلما بدا أن تلك الليلة ستكون طويلة، كانت الأوراق تزداد إلحاحا على المضي بتلك المشاهد.. وراحت المشاهد على هذا الأساس تزداد انهمارا.. فجأة تتدلى امرأة تستحم بدماء أطفالها الشهداء.. ينبح كلب وهو ينهش جثة فتاة متفسخة.. مجموعة من الرغبات تهرب من نافذة مفتوحة على صدر أنثى مذبوحة على باب المدرسة (رمادية الجدران).. أخ مراهق يحلم بالقفز على غرائزه من خلال تلاوة عزائم لا تعده بتحقيق أي شيء.. أخت صغيرة وفتية مركونة على الرف.. رأس فتاة مفصول عن جسدها الملقى على باب مدرسة الطفولة. وسط كل ذلك الضجيج كان هنالك طفل سمين يبدو أكثر التصاقًا بحمى الورق تلك، وهو لذلك كان يكرر لعبته التي بدا عليها أول الأمر أنها ستكون مملة حقًا. فجأة يظهر وسط مشهد ضبابي، يقفز على ورقة قديمة، ينثر ترابًا دقيقًا ثم يسكب عليه الماء ليصنع منزلقًا من وحل كثيف. يفتح في أعلى المنزلق بابًا ضبابيًا على مصراعيه، فتأخذ الأشياء بالانزلاق، أشياء قديمة كانت تخرج عبر ذلك الباب وتنزلق باتجاهات مختلفة. حتى أنا خلت أنني كنت أخرج، وعلى نفس ذلك المنزلق، وأسلك أيضًا اتجاهات كثيرة غريبة وغير مرتبة. كائنات غريبة شاركت أيضًا في ذلك المشهد المرعب. كان كل شيء مختلف حقًا، حتى مصراعي الباب أخذا يختلفان عن بعضهما البعض، بل ويتغيران مع كل انزلاق جديد لكائن أو كلمة أو موقف، الشيء الوحيد الثابت في حمى الاختلاف كان هو الورق، الورق هو القاسم المشترك في ساعات اللااشتراك تلك. نعم... فجميع الكائنات والكلمات والضحايا من ورق، حتى الوحل كان ينزلق على سطح أملس وأبيض ورقيق. وبينما أصبح صخب الورق طاغيًا وشديدًا، كان هناك وفي أحد زوايا الغرفة المعتمة ثمة ما يبعث على السكون، كانت هناك لفافة من أوراق يبدو عليها النسيان والإهمال، تتكور بهدوء ولامبالاة وسط كل ذلك الركام الهائل من الضجيج. أول الأمر بدا أن تلك الأوراق لا تعني شيئًا، لذلك قررت أن أهملها، ليس من أجل أن يبقى البوح الذي تحتوي عليه طي الكتمان، وليس من أجل أن أمنحها فرصة لتلتئم الجراح التي تنز بداخلها، لكن فقط من أجل أن أنهي ذلك العصيان والتمرد الذي أخذ الورق يعلنه علي. كانت الأوراق ملفوفة بعناية خاصة تجعلها تشبه أنبوبًا أسطوانيًا من النحاس الذي يحتضنه حزام من الجلد المختوم بشمع بدائي، يتدلى منه حجر دائري، يتحرك بفضول فوق دائرة الختم الشمعية. كان النظر من خلال تلك اللفافة الورقية التي تصنعها مجموعة المدونات تلك، يجعل الروح ترتجف ويجعل القلب ينخلع من مكانه. ليس لأنه يوشك أن يأخذ الكيان إلى تلك الأزمنة الغابرة، الأزمنة التي شهدت لوحدها ولادة الضمير (أنا) وسط أرض لا أرض فيها، وتحت سماء صماء لا تتقن حتى المطر (النثيث). بل كان النظر من خلال تلك اللفافة مخيفًا لأنه يدخل العين بدلاً من أن يخرج بها إلى الفضاء الآخر، يدخل العين بسرعة خاطفة ومخيفة، ويوقظ لحظة دخوله كل ما من شأنه أن يخيف الروح أو يحاصر العقل أو يفسد الضمير ويتركه نهبًا مباحًا للرذيلة. هكذا كانت البداية، بداية المدونات. والتي كانت أوراقها لا تتبع نسقًا معينًا، ما يعني بأنها غير مرتبة بشكل يمنحها أي رصيد زماني، ولا حتى مكاني. كانت أشبه شيء بحبات العرق التي تنساب من على جسد يمارس الإجهاد، ثم تتجمع في زاوية ما لتعلن لا عن شيء غير كونها حبات عرق. أما ذلك الرحم الذي أفرزها، أما ذلك الجسد الذي انهمك بالممارسة التي أنجبتها، فأنها ستعجز عن تسميته أو مجرد الدلالة عليه. هكذا وببساطة بالغة. "إن الأوراق التي تسقط من شجرة تعترض جنون الريح، لا يمكن لها أن تُحَدِّث الرصيف عن غير كونها أوراق تساقطت في يوم عاصف". هذه العبارة تتكرر باستمرار أمامي وأنا أتصفح تلك المدونات. كانت زوجتي أمل تتعب دائمًا وهي تبحث عن نسق ما، تعيد ترتيب المدونات على أساسه، طبعًا بعد أن تجدها مبعثرة على أرض الغرفة، حيث أكون قد استسلمت لنوم عميق أثر ليلة البحث عن المسودة التي تتكرر باستمرار. عندما تتعب أمل وتيأس من إيجاد نسق يرتب الأوراق، تقرر التقاطها من على أرض الغرفة وهي مغمضة العينين، جاعلة من المصادفة نسقًا لائقًا بها. وهكذا تتخذ الأوراق نسقها الجديد، شكلها الذي يعني أن ذاكرة الذات أصبحت تختزن انطباعات أخرى مغايرة تمامًا لتلك التي أفصحت عنها في آخر ليلة من ليالي البحث. تتوقف أمل دائمًا عند آخر ورقة، تفتح عينيها، ثم وعلى مهل تتفحصها بدقة وتأن، مهملة جميع الأوراق الأخرى، ثم ودائمًا أيضًا تكرر السؤال نفسه: "لماذا لا أجد ملامحي وسط الأشكال التي تمتلئ بها أوراقك؟" وطبعًا كنت وأمام تكرار سؤالها ذاك، أعيد عليها الجواب نفسه "إن الأوراق التي تسقط من شجرة تعترض جنون الريح، لا يمكن لها أن تحدث الرصيف عن غير كونها أوراق تساقطت في يوم عاصف". ثم أكمل بعد ذلك: - ما يفوتك يا أمل، بل ما لم تعرفيه عن تلك المدونات أنها ليست كتاباتي، هي ليست من جنس الحكايات التي أدمن على سردها وتقرأينها بعد كل ليلة بحث. بالتالي ليس لك أن تحاسبني على وجود وعدم وجود ملامحك في مدونات الضمير (أنا)...
-
دائمًا تتهرب. أنت هارب من المواجهة بشكل مستمر، حتى ليخيل إلي بأنك ستضطر في نهاية
المطاف إلى الهرب من حياتك. صدقني أنا بانتظار الرسالة التي ستتركها لي يومًا ما
لتعلن لي أنك عازم على الهرب، وأنك تحبني، وأنك تتمنى أن أنساك، وأن ابتعادك عني
خير لي من بقائك بقربي، وأنك وأنك الى آخره...
-
هذه مبالغات غير مبررة يا أمل. الأمر ببساطة أن هذه الأوراق ليست أوراقي. حتى أنا
لم أفهم هذه المدونات. كان الأولى بك أن تبحثي عن ملامحي أنا. أن تتسائلي إن كانت
المدونات تحكي حكايتي وتسرد ضياعي، هل تشبهني هذه المدونات أم لا؟ هذا هو السؤال،
أنا غير موجود على تلك السرديات المبهمة. ولذلك كان عليك أن تفهمي أن هناك حدًّا
فاصلاً بين ظلين يسيران جنبًا إلى جنب بمحاذاتي؛ ظل يمثل الأشياء التي أختارها، وظل
آخر يمثل الأشياء التي تختارني. - عُدتَ من جديد إلى هذه الفلسفة الضبابية، الضباب بمثابة البصمة بالنسبة لك، فخ توقع به قرائك ومحاوريك على حد سواء. أنت لا تريد أن تكون مباشرًا وواضحًا. لذلك فالضباب هو الصورة الوحيدة الواضحة في ما تسرده مدوناتك. وها أنت تختلق فلسفة مراوغة فقط لتنكر أن المعضلة معضلتك أنت.
المدونات مدوناتك أنت، الأوراق أوراقك، الخط خطك، وحتى الحظ والمصير والحياة،
وهؤلاء الأطفال أطفالك، وهم بالنتيجة خياراتك التي اخترتها أنت. لا أريد إحراجك،
ربما أنا أسأل نفسي ولا أسألك، ربما أنني أواجه نفسي، أقول لها: لماذا وبعد هذه
السنين لم أستطع أن أحفر ملامحي على صفحات مدوناته. أو تدري؟ ربما أعرف السبب ولا
أواجهه، ربما أنا مثلك أدفن الحقيقة برمال الوهم، التهم الهواء وأدعي بأنه طعام
لذيذ، لكن الهواء لا يملأ المعدة. - يا إلهي، إن مبالغاتك تزداد بشكل لا يطاق!! على كل حال لن أبدد شكوكك هذه، ولن أحاول أن أثبت لك بأن المدونات لغيري، لشياطين ربما أو لملائكة، لن أنكر بأنني ربما طعنت ظلي حقًا وحقًا جعلتك أمام خيار واحد هو أن تكوني بديلاً لظل مطعون. لكن ما سأنكره هو اختياري لهذا المصير يا أمل. أنا لا أنكر الأخطاء، بل أتبرأ منها، أنا بريء، كما أن الذئب الذي يأكل شياه الرعاة بريء، لأنه لم يختر أن يكون ذئبًا. هل تعتقدين بأن الذئب لو خير بين مصير الراعي ومصير الذئب سيختار مصير الحيوان بدلاً من مصير الإنسان؟ بالتأكيد لا، لأن الإنسان يستطيع أن يأكل جميع الشياه ولا يكون مذنبًا، بينما الذئب يكون كذلك فقط لمجرد مطاردته شاة واحدة يريد أن يسد بها جوعه. هذه هي الحكاية، حكاية المدونات، حكايتي، حكايتك... عندما التفتُّ إلى زوجتي لأرى وقع كلماتي عليها، فوجئت بأنها كانت نائمة ملء عينيها، ربما لأنني أسهبت أكثر مما يجب، وربما لأنها كانت تعرف طبيعة السكَّة التي سيجري عليها قطار حوارها معي، وهي بالنتيجة تعرف تمامًا كامل المحطات التي سأتوقف عندها، بل وتحفظها عن ظهر قلب، لكثرة ما تكررت شكواها وتكررت أعذاري. ربما لهذا السبب فَضَّلت أن تنام بدلاً من أن تهدر وقتها باختبار محطات تعرف جيدًا جميع زواياها ومسافريها والمحلات التي تبيع التفاهات على أرصفتها العتيقة. بالنسبة لي، القضية قضية إيمان وعقيدة، فأنا أؤمن بأن الإنسان ليس أكثر من كائن آلي. دائمًا أقول بأن الكائن الذي يدخل إلى الحياة سحبًا من رأسه، جدير به أن يعترف بأنه دمية فقط وفقط. منذ اللحظة الأولى والإنسان يفتح عينيه على عالم من الحتم التام. هل يملك أن يُغَيَّر أمه، يختار مثلاً أمًا أكثر فتنة، أمًا يكون لحليبها طعم مختلف. هل يستطيع أن يختار قارَّة أخرى من قارات هذا الكوكب. لماذا يولد في هذه البقعة بالذات، وفي هذا النقطة الزمنية تحديدًا؟ لماذا عليه ومنذ اللحظة الأولى في حياته أن يفتح عينيه على عالمين فنتازيين، أولهما: يهرب من أمامه وهو عالم أحلامه، وثانيهما: يطارده، وهو عالم آلامه، وتنتهي أيامه وينقضي عمره وهو يدور داخل حلقة مفرغة، اسمها المصير؟! هذا هو إيماني، الإيمان الذي رفضت أمل التصديق به. من يصنع المصير؟ هذا السؤال طرحته على نفسي أول مرة وأنا أبكي كما الطفل الجائع، حدث ذلك يوم شاهدت طفلاً مقعدًا يراقب بحزن بالغ مجموعة من الصغار وهم يتقافزون أمامه كما الغزلان الصغيرة. يا إلهي لكم تمنيت أن أجلس أمامه وأبكي، لكم تمنيت لو أحمله بين ذراعي وأهرب به من هذا المصير المقيت والكريه. لكم تمنيت لو أستطيع أن أعيده إلى رحمه الذي أُخرج منه قسرًا. أنا أطرح على نفسي ذات السؤال كلما شاهدت مشلولاً يتسول، أو كفيفًا يضع يده على كتف قائده، أو كلما جمعتني مع أبي جلسة سمر استمع خلالها لأحاديثه الحكيمة، ثم فجأة اتذكر أن هذا الكائن البشري هو أبي، وأنني وبلحظة شهوة عابرة نزلت على شكل كائن مجهري عبر قضيبه إلى رحم أمي. ثم أقول بعد ذلك: إذًا كانت شهوة بريئة. وفي لحظة من تلك اللحظات العابرة قفز أبي، هذا الذكر البشري من سكونه، بعد أن أحس بدافع الشهوة يتنفس داخل كيانه، قفز منتصبًا هائجًا، واشترك بعد ذلك مع أنثاه بعملية صناعتي، ربما تحت أغطية الفراش، وربما في المطبخ أو خلف باب الحمام، لا يهم، المهم أنه أراد أن ينفس عن الضغط العاطفي الذي كان يلتهب داخل جسده وفعل ما فعل. لكن وفي تلك اللحظة وبموازاة الشهوة التي كانت تسيطر على إرادة أبي، كانت هناك إرادة معزولة وغريبة وهي بالتأكيد بلاشهوة، تلك الإرادة أو الفكرة أو المصير الذي كان بصدد التخطيط لإنزال دودتي المجهرية من حاضنتها الأولى إلى حاضنتها الأخيرة، (رحم أمي). أمي التي أتطلع دائمًا إلى عينيها الحزينتين وأتسائل عن ذلك المصير المجهول الذي جمعني بها، لماذا تكون هذه المخلوقة بالذات هي أمي؟ أي مصير تَحَّكم بنا نحن الاثنان وقرر أن يجمعنا داخل علاقة عائلية مشتركة؟ هذه أمي وهؤلاء أخوتي، وهذا بيتي وذلك الرجل الأشيب الجميل العميق والمتواضع حد الخرس، هو أبي. المشكلة أن هذا الضياع يتكرر دائمًا معي. فهكذا أنا دائمًا أفاجأ بالأشياء ولا أعرف كيف حدثت أو تحدث. وكأنني أراقب مصيري فقط ولا أشترك به أبدًا. سحرٌ ما يسبح بي خارج إطار الصورة، بل ويجعلني مقابلاً لها ومدهوشًا إزاءها. الأشياء تتكرر بعيدًا عني، وبغفلة مني. هكذا وبطريقة ما، أشعر أن الأحداث تحدث رغمًا عني، وأنني لا أشكل إلا دمية بائسة في كون مترامي الأطراف وزمن لا ينتهي تتابع لحظاته. وهكذا أجد أن حكايتي قد سُرِدَت، وأن حكواتيًا لعينًا يدسُّ بأذنيَّ جملة أحداثها. الأحداث التي يريد من خلالها أن يمتِّع سامعيه، يدسُّ بأذنيَّ جميع تلك التفاهات. أتخيل دائمًا أن ثمة حكواتيًا كريهًا في مقهى رطب ومعتم وبارد، يلوك كلماته بفم أدرد ولسان جاف ودبق، يعبث بجرس الألفاظ، ويهتك من ثم موسيقى حياتي، ليحيلها إلى فوضى كريهة. اللعنة، كيف يمكن لهذه الأشياء أن تحدث دون أن يشعر بها أحد؟ كيف يتسنى لذلك العجوز المنحرف والتافه أن يلعب بمصيري؟ من أين يأتي كل ليلة بزمرة صعاليكه الذين يملاء بهم مقهاه النتن؟ الصعاليك الذين لا يشبعون من المرويات الملطخة بالدم والموت والقبور. اللعنة على الكلمات الحزينة وهي تمنح جسدها الفتي إلى ذلك الفم الأدرد المثير للتقزز. اللعنة على أيامي الغابرة، جميع أيامي التي مضت، فقط لأنها سمحت لذلك العجوز الشاذ أن يصنع منها لفافة تبغ رخيص يدخنها وهو يهمس بأذنيَّ مجموعة الأحداث التي عليَّ أن ألعبها أمام صعاليكه. قبل كل صباح أقرر أن لا أستيقظ متسائلاً: "ما فائدة الاستيقاظ؟"، ثم أقرر أن أسترسل بالنوم، هكذا وببساطة، ولم لا؟ ما المانع؟ قبل كل صباح أقول ذلك، أحزم أمري وأقتنع بأنني سأنجز هذه المرَّة وعدي، وأخيرًا سأمتنع عن الاستيقاظ، صدقوني أنني أقول ذلك يوميًا. لكن ما الفائدة من وراء قراراتي التي أتخذها، إذا كان ذلك الشاذ الخرف يتمكن في النهاية من عملية السرد. يجمع لعاب فمه المخلوط ببقايا دخان سجائره الرخيصة ويبتلع معه أيامي الماضية، ثم وبلا مبالاة تامة يوجه أنظاره لصعاليكه مصطنعًا ابتسامته الماكرة، و... (هب) أنهض أنا خائفًا فزعًا ومهرولاً صوب الحمَّام لأقذف من داخل فمي المر مجموع ما تكلس داخله من أحداث اليوم السابق. وفي الحقيقة يجب عليَّ أن أعترف بأنني مجبر على دخول ذلك المقهى النتن، وسواء استيقظت من نومي العميق أم لم أفعل. طبعًا لست وحدي الموبوء بهذا المرض، بل أنتم أيضًا معي تمارسون هذه المهزلة الرخيصة. هذا ما يجب أن نتعاون من أجل الاعتراف به. لماذا لا نقر بأننا لسنا أكثر من طفيليات حيوانية تتكاثر بشكل مقرف وتنهك الكوكب الذي تتطفل عليه بنزقها وجنونها وجرائمها؟ هل نحن أكثر من ذلك؟ هل نحن أكثر من طفيليات يتلاعب بها حكواتي بائس وهو يسرد لمجموعة صعاليكه أحداثًا تافهة؟ هل يمكن لكلمة أن تختصر ما نحن عليه غير كلمة (عَفَن)؟ هل يمكن لظاهرة أن توجز ما كنا عليه وما صرنا إليه وما نحن ذاهبون باتجاهه، غير ظاهرة (التطفل)؟ يا إلهي... لكم تتعبني هذه التفاصيل، وكم مرَّة تمنيت أن أنهي هذه الاعترافات ولا أعود مطلقًا إلى الكتابة عنها، غير أن المرض الذي تمارسني الكتابة من خلاله، لا يعدو أن يكون دخولاً آخر لذات المقهى الكريه. ما الفائدة؟ هذا ما أحاول أن أقوله منذ البداية، ما الفائدة من كل شيء، إذا كانت الأمور تجري وفق هذا السياق الحتمي. ما الفائدة من الموت؟ من الولادة، الحب، الهرب، الكسل، الحكايات، التاريخ، النساء... حتى النساء... جميع النساء، وبضمنهن المراهقات وهنَّ يتحفزن لممارسة رعشتهن الأولى؟ ما الفائدة، إذا كان كل ذلك عبارة عن كلمات يلوكها فم أدرد ويخرجها مشفوعة ببخر فمه الذي لا يطاق؟ على كل حال لنخرج من سرد ما يتعلق بحياتي الخاصة وإيهاماتي وخرافاتي وكوابيس، ولندخل في المدونات، المدونات التي وجدتها متروكة بشكل أو بآخر على قارعة حياتي، هنا وهناك، قديمًا وحديثًا، في الأحلام كما في اليقضة، وشيئًا فشيئًا تجمعت الحروف وتشكلت الكلمات وتكونت الجمل وامتلأت الأوراق، وصار عندي مدونات لا أستطيع إنكارها ولا الاعتراف بها. ضجيج الهوامش هل كان يجب عليَّ حقًا التعليق على هذه المدونات؟ هل كان عملاً حكيمًا أنني اخترت التحول إلى هامش على متنها العصي على الفك والتبسيط. المدونات بعيدة جدًا، ربما أنها موغلة بالقدم، وهي بالتأكيد متخمة بالسخافات والأكاذيب والدجل، وأنا إلى الآن غير مسؤول عنها. حتى أمل، وعلى الرغم من إصرارها، في الكثير من الأحيان، على تهمة التهرب التي تلصقها بي، كثيرًا ما يتزعزع موقفها وترتبك لوهلة، عندما تجدني حائرًا أتصفح هذه الأوراق التائهة، وأحاول أن أمتنع عن تبنيها وإيواء يُتْمَها المحزن. حسن، إذا كنت إلى الآن غير مسؤول عن سخافة هذه المدونات، فهل من الحكمة وضع بصماتي عليها، لاسيما وأن هذه البصمات لن تكون أكثر من هامش بائس ومشين. ثم ماذا تستطيع هوامشي أن تفعل إزاء ضياع أبدي؟ كيف يمكن لها أن تعالج مرضًا أدمن قيحه وتحالف مع صديده؟ لكن، ومن جهة أخرى، هل يتسنى لي الامتناع عن كتابة الهوامش؟ خاصة مع تذكر حقيقة غاية في الأهمية، حقيقة تقول بأن كل ما أنا عليه وما سأصير إليه لن يستطيع أبدًا الصعود بي لأبعد من سماء وضيعة يتشكل سقفها من خط نحيف جدًا يفصل بين متن الحتمية وهامش الإرادة والحرية. يخيل إلي دائمًا أن حياتي، وأي حياة أخرى، هي في الحقيقة مجرد هامش بليد على متن الحتمية المجهول وغير المعروف والمبهم إلى أبعد الحدود. وهذا الرأي يتأكد عندي كلما تذكرت أننا مسخَّرون، من حيث نريد أو لا نريد، لتفسير هذا المتن وتأويله والإشادة به. وحقًا، أليست الفلسفات والنبوءات والثورات والأخلاق هي مجرد محاولات لاستطلاع ما فوق خط الهامش أو تفسيره أو محاولة التشبه به وتمجيده؟ أليست الأديان عبارة عن حكاية تدور حبكتها على المخبوء خلف الخط الذي يفصل بين المرئي وغير المرئي من حياتنا؟ في أيامي الأولى في الجامعة كنت مأخوذًا بفتاة باذخة الجمال والفتنة، وكنت – لفرط جمالها – لا أفكر أبدًا بالتقرب إليها. وفي أحد الأيام وبشكل مفاجئ تقربت هي مني، حدثتني طويلاً وتوددت إلي بشكل لافت. حتى أنها دندنت قريبًا من أذني أغنية من أغاني فيروز... اقتربت من أذني وغنت: "يا عاقد الحاجبين... فوق الجبين اللجين... إن كنت تطلب قتلي... قتلتني مرتين". مع ذلك لم أقتنع بأنها أعجبت بي، وربما شككت بنواياها، وخفت أن تكون مدفوعة لأن تفعل ذلك أو أنها بصدد إثارت غيرة أحدهم. لهذه الأسباب تعللت بضيق الوقت وهربت من أمامها بشكل مفاجئ وسريع، وحتى قبل أن تنتهي حصصي الدراسية. في اليوم التالي وعندما وقع نظرها علي ابتسمت بشكل غريب، ومبهم. حتى أن ابتسامتها فاضت بالكثير من الحزن والإشفاق والمحبة، وعندما وَجَدَت بأنني تجنبت الاقتراب منها اقتربت هي مني وقالت: - لماذا سحبته خلفك يوم أمس وبكل هذه القسوة؟ لا، لا... أنت لم تكن قاسيًا فحسب بل ومتوحشًا في تعاملك معه. لقد كنت تمسك بشعره وتجره خلفك وهو يستغيث بي من بعيد ما جعلني أوشك على البكاء، البكاء عليكما معًا... - أنا؟... فعلت ماذا؟... ماذا تقصدين؟ أنا لم أفهم!! - سحبت نفسك يوم أمس، كنت متوحشًا مع نفسك. لا تتجاهل، ولا تتغابى. أنت بالذات أكثر من يعرف ماذا أقصد. الطفل في داخلك، هذا الذي كان يريد أن يغازلني ويتودد إلي، هذا الذي رقص بكل عفوية ومرح عندما سمع أغنية فيروز التي غنيتها لك البارحة، لماذا خفت من رقصته؟ لماذا أرعبك إلى هذه الدرجة؟ لماذا هربت وسحبته خلفك بهذا الشكل القاسي؟ ثم لماذا أنت مصر على دفنه داخل إعماق غائرة من ذاتك؟ - ما أزال أجهل عن أي شيء تتحدثين؟ - أسمع يا عزيزي، في داخل كل منا طفل أو مراهق متمرد، وهذا المراهق لا يجوز حبسه دائمًا، يجب علينا بين الوقت والآخر أن نتركه يمارس بعضًا من صبيانياته، وإلا انفجر داخلنا في لحظة غضب وحولنا لأشلاء بلا ملامح. هذا الذي اكتشفته تلك الفاتنة هو بشكل ما هامش أيضًا. وهذا صحيح جدًا فالهوامش مختلفة وهي بعد ذلك بمستويات متعددة ومتباينة. إذن، فقد كتبت التعليقات التي توضح موقفي من المدونات، موقفي الذي كان موجهًا في الأساس إلى أمل، أمل التي رفضت بشدة أن تكون المدونات لغيري، وهذا التعليق أو مجموعة الهوامش ستؤكد لها حتمًا الفرق بين أفكاري، المتماسكة والواضحة، وبين مجموعة التهويمات التي انعقدت داخل ثرثرة تلك الأوراق التي لا يُفهم منها شيء. وهذا بحد ذاته كفيل، كما أحسب، بأن يفصل، وبمسافة كافية، بيني وبين كاتب تلك المدونات. لكن ما لا أفهمه هو أن هوامشي، التي أردتها أن تكون مفارقة للأفكار السائحة على متون المدونات، جاءت بشكل أو بآخر مؤكدة في بعض الأحيان وشارحة في أحيان أخرى لذلك المتن. وإن كان أسلوبي بقي أكثر براءة وعفوية. لكن، وعلى كل حال، هذا التماهي يؤكد بالنسبة لي إيماني بأن الهوامش لا يمكن لها أن تتمرد على المتون، ولا أن تنفلت من سطوتها وسلطانها، والسبب أنها بشكل أو بآخر نتاج مباشر لها. المتون تخلق الهوامش بإمكانيات محددة وموجهة. وهكذا، ولهذا السبب، لا يستطيع أي هامش ومهما كان مغامرًا وطائشاً أن يتحدث عن مواضيع لا تمت إلى متنه بصلة. وإذا حدث ذلك فإن أي مدقق أو مصحح لن يتردد بإلغاء مثل هذا الهامش المتمرد. وهكذا وكما ترون معي فإن أي تمرد يقوم به الهامش ويتجاوز به حدود التمرد المسموح بها سيعني أو يساوي عملية إعدام له، إلغاء من الوجود. ربما لهذا السبب انضبطت هوامشي عند حدود المعقول وانسجمت مع متنها الذي فضَّلت أنا أن تثور عليه أو تثبت أن لا علاقة لي به. ستقولون في النهاية، وبعد أن تطَّلعون على متن المدونات وهوامشي عليها، بأن لا فرق بين الاثنين، وأن الأمر برمته، لا يخرج عن إطار الدوران بفكرة واحدة، أو بعض أفكار، لكن بإيجاز مرة وبإسهاب مرة أخرى. أنا متأكد بأن حكمكم لن يتجاوز هذه الكلمات، فهذا هو حكم أمل نفسه وهو مُلَخَّص موقفها من موضوع المدونات. أمل التي بشَّرتها بالهوامش، وأخبرتها بأنني أنجزت الدليل الفاضح الذي يكشف أنني لا أفكر مثل كاتب المدونات، لم تتلكأ لحظة واحدة وهي تؤكد بأن الهوامش تُثبت علاقتي بالمتن ولا تنفيها. قالت ذلك وهي تعيد إليَّ هوامشي ببرود مزعج. حتى أنها خرجت من دون أن تعطيني فرصة التعقيب، خرجت وتركتني مصدومًا وحانقًا. حسنًا ستقولون إن هذه المرأة أكثر واقعية مني، وإنها تفكر بشكل متماسك، ستحسدوني على زوجة تملك استقلالية كافية تحميها من الغرق بأمواج خيالاتي وخرافاتي، ستضحكون وأنتم تكتشفون بأنها متن مستقل، وليست هامشًا بائسًا يغرق تحت خرافاتي... وربما يذهب البعض بينكم أبعد من ذلك، سيقول هذا البعض بأنني أنا الهامش البائس. أنا تموز المبعد في ظلامات عشتار وجحيمها المظلم تحت الأرض السابعة. وليكن، هذه الأحكام لا تزعجني، بل هي تخدم الفكرة التي أريد الوصول إليها في نهاية المطاف. الفكرة التي تقول بأن هوامشي لا علاقة لها بمتن المدونات. قد لا أستطيع إيصال هذه الفكرة. ربما تنتصر أمل في نهاية المطاف، وقد تكسبكم إلى جانبها، وهذا أيضًا لا يزعجني، بل هو يؤكد تميزي ويمنحني الفرصة لإرضاء غروري. لا يُقَدَّر لأي وعي أن يشق خندق الشك بينه وبين متنه. لا يُقَدَّر لكل إنسان أن يفصل بين ما هو عليه وما يراد له أن يكونه. هذه ميزة يختص بها الأنبياء وحدهم، بل ليس جميع الأنبياء، إنما فقط المشردون والمنبوذون منهم. فهؤلاء وحدهم من يستطيعون تمييز سلطة المتن، وحدهم القادرون على إنجاز تمردهم وشن ثورتهم عليه. وللحقيقة، قد لا يستطيع جميع أفراد هذا الصنف من البشر إنجاز مثل هذه الثورة، قد يكتفي بعضهم بتشخيص الخط الفاصل بين عالميهم، وقد يتوقف بعضهم الآخر عند كتابة هامشه الخاص، وتوثيق اعتراضاته على متنه بل وكشف زيفه وكذبه. لكن يبقى هنالك أفراد قادرون على عبور خندق الشك، واحتلال كامل مساحة المتن، بل وإعادة كتابته بشكل أكثر واقعية وصدق. من المؤكد أن بعضًا من هؤلاء يغرق في خندقه، أو هناك، في مساحة الفراغ المملوئة بالضياع واليتم والانهيار. لكن هذا لا يجعل من محاولة عبور خندق الشك أو بحره عملاً تافهًا أو مغامرًا أكثر مما يجب. الآن أنا لا أعرف ماذا فعلت تحديدًا، هل أكَّدت شكوكم وشكوك أمل أم نفيتها، بل أنا حتى لا أعرف إن كنت سأرضخ أنا الآخر وأقتنع أخيرًا بأن المدونات مدوناتي أم سأصمد رافضًا هذه التهمة... أنا لا أعرف، إن كنت سأعرف على وجه اليقين حقيقة هذه الأوراق، وهل أنها أوراقي أنا أم أنها أوراق ملعونة كُتبت هناك في المكان الذي يجلس فيه عجوز أدرد يلوك أيامي بفمه الكريه، ويسرد على سامعيه خطوط الحتمية التي ستنضبط على وفقها سيرة حياتي، أردت ذلك أم لم أرد. *** *** *** * فصل من رواية بالعنوان نفسه.
|
|
|