|
امنحني قلبك
قصص جويس كارول أوتس القصيرة
أفصحت دوريس ليسينغ، الروائية البريطانية الفائزة بنوبل الآداب في الشيخوخة المتقدِّمة، أنها وضعت فيما مضى اسمًا مستعارًا على روايتين أنجزتهما. استخدمت هوية جاين سوميرز لافتةً تُخرج إلى الواجهة الصعوبات التي يواجهها الكتَّاب المغمورون. والحال أن تلك الحركة الإخفائية حاولتها أيضًا الأميركية جويس كارول أوتس، لكن مرمى التستر الذي استخدمته مرة يتيمة، كان آخر. لم ترغب أوتس من طريق اختيار الغفلية، في إصدار البيانات الاعتراضية الموجَّهة. عزمت على الفرار من هويتها فحسب، بل ومن نفسها. لم تكن تلك المحاولة من طراز الخدع الواهية تاليًا، وإنما كانت سعيًا اتكلت عليه الكاتبة، على نحو بائس، لإلقاء الشخوص الخارجة من عقر خيالها، في ركن بعيد، على مسافة منها. كانت تجرِّب توفير خروج آمن، أن تتفادى أن يمسَّها مباشرة ذاك الجانب السوداوي المحبط الذي يطبق على حكاياتها وذاك التمعُّن في وجه الطبيعة الإنسانية المقيت. في غالب الأحيان تنطلق أوتس من شخص، من وضع، من حال مأزومة، من تجلٍّ أو مباغتة، لتجد بعدئذ تأطيرًا ملائمًا وظروفًا تدعمه، فيكتمل عندئذ هيكل المؤلف. في أعوام اليفاع، بدَّدت الروائية طاقة ذهنية ذهبية في الشك بالنفس وجلد الذات ومقت أحاسيس كان ثمة احتمال في أن تجيَّر، على ما سيظهر لاحقًا، في مكان أكثر انتاجية. والحال أن أوتس عندما تسأل عن الشخصية الأدبية التي تتماثل بها، تحيل على المربية في قصة هنري جيمس القصيرة لفتة البرغي. يمكن اختزال المربية في تلك الحكاية من باب خيالها المضطرب، يتهدَّدها ويفضي بها إلى شفا الهاوية، في حين تحوم الأشباح في جوارها، ويفور التوتر الجنسي تحت سطح مجتمع الحقبة الفيكتورية المراعي للياقات المنافقة. تبيَّن أن أوتس أصيبت هي الأخرى بعدوى الجنوح صوب ناس متعددي الطبقة في مئات القصص القصيرة، وفي ما يتخطى خمسين رواية نالت إحداها "ناشونال بوك اوارد"، فيما استبقيت ثلاث أخرى الى مراحل "بوليتزر" النهائية. نص أوتس متخم بالعنف ونابض ومتحرك، حيث لا مفرَّ من تلقف الفقر في الريف، والاستغلال الجنسي والطفولة الأنثوية المتضعضعة والمراهقة كذلك. لا تشذُّ مجموعة قصص أوتس القصيرة، امنحني قلبَك، الصادرة قبل حين بالإنكليزية، عن تلك الوجهة. ها هنا أيضًا رعب جارف، وإن بازغًا من مكان مألوف، بل مألوف جدًا، أي بين جدران المنازل، حيث نواة الأمان المرتجى نظريًا. كل قصة من ضمن العشر التي يتضمَّنها الكتاب تبثُّ ذاك المنطق، في حين يدفعنا عنوان حكايات لغز وتشويق الفرعي على الغلاف، صوب القصِّ البوليسي. غير أن ثمة القليل منه، في الملموس، بين دفتي تلك الثلة. هناك تيارات جارفة من الفزع المتصاعد والأفعال العنيفة. يسيطر الخبل على أكثر الناس امتثالية، في حين ترتكب جرائم يتعذَّر إبداء أي تسامح إزاءها. يستدين الكتاب عنوان القصة الاستهلالية امنحني قلبك. والحال أن تلك الحكاية سُكبت في قالب تبادل الرسائل. صاحبة الرسالة امرأة أغواها في الثالثة والعشرين، إبان المرحلة الجامعية، رجل يكبرها، اعتمد الغرف من كلام ملائم، على تزويق رفيع، من قبيل "يا عزيزتي، أنت تملكين قلبي، دومًا إلى الأبد". على مرِّ الوقت، في ما يبدو، تمكَّنت المرأة من القفز على لعنة الترميز، لتطلب من عشيقها السابق أن يعطيها قلبه، بالمعنى الحرفي، وليس الاستعاري هذه المرة. في امنحني قلبك، كما في مثيلاتها في المجموعة، يملك كل امرئ فؤادًا معدًّا للفقد. تكتب أوتس بلسان شخصيِّتها المحورية: لم أقصد للتحية الرسمية أن تظهر كإطراء. أتمنى أن تفهم ذلك. لست في صدد الكتابة بعد انقضاء هذا الكمِّ من الأعوام من أجل استعطاء خدمة غير منطقية منك (أتمنى ذلك) أو بغية أن أقدم الطلبات. أراسلك للاستفهام فحسب إذا كان ينبغي لي، في رأيك، الامتثال إلى الشكليات وأخذ عناء تقديم طلب رسمي، فأبلغ قدر المحظوظات، وأفوز بأكثر أعضائك قيمة، أي قلبك. أراسلك لكي تخبرني إذا كان يتعيَّن عليَّ أن أتوقع أن تسلِّمني ما هو ملكي، بعد انفضاض أعوام عدة. لا يقدر أحدهم داخل تلك القصص أن يغفل المعاصرة المتقدمة التي تفصح عنها التطورات، ناهيك بمنجزيها. هذا في حين تحضر لغة أوتس في تماس لافت مع القرن الحادي والعشرين، فتتصور كمًّا من الحوارات اللمَّاعة تنفخها إلى بطن حكاياتها، منسوجة بتأنٍّ واعد. يظهر امتياز أوتس في الكتابة عبر تسخير ضمير الغائب، فضلاً عن قابلية غير مألوفة للالتفات صوب البوح بحرارة، عندما تستدعي ضمير المتكلم. هذا فيما تتكل الحكايات القصيرة المخطوفة إلى صفحات قليلة على استحضار تدرُّجات الآباء الغائبين قسرًا أو أولئك المثيرين للخوف.
اختارت أوتس أن تتعامل مع ضمير المتكلم في المقام الأول، في الجزء الأوفر من المجموعة، غير أنها تعجز عن تسليم مفاتيح أسرارها بيسر، من دون عناء وتمزق وألم. يتورَّط رواة أوتس في حكاياتهم إلى مستوى العنق، إلى حدٍّ يتعذر في أعقابه تصديقهم. تأتي مجموعة امنحني قلبك بأسلوب كلاسيكي وواضح، فتتظهَّر تلك السرديات في جاذبية غامرة. لا ينبغي لنا بذل جهد استثنائي بهدف تصديق ادعاءات أحد يطلق المواقف في اللحظة الآنية. يسع القارئ في الوقت الضائع فحسب أن يدرك التآم المنطق المقترح على شائبة معينة، أو أن يفهم أن لمحاججة أوتس جنبات يتعذَّر القبول بها. في ظروف كثيرة تبلغ الخواتيم بعدًا جنائزيًا يتم بلوغه رويدًا، من دون الاضطرار إلى حشد أفكار مزعزعة. تلك سمة قصة انشطار/دماغ التفاضلية، وهنتها على السواء. تصف أوتس سيدة يثقلها تقهقر حال زوجها الصحية، غير أنها لا تلبث أن تختبر تأزمًا أفظع. تطلق الكاتبة نصها تحت سطوة الترقب المشوب بالقلق والافتقار إلى المعرفة والرغبة في تهميش اليقين طوعًا. تلاحق تلك المرأة في تململها وتكتب: ما إن تدخل المنزل من طريق الباب الخلفي حتى تلمح أو تظنُّ أنها تلمح حركة خاطفة كالطيف في الرواق خلف المطبخ، وتسمع أحدهم يتنفَّس عميقًا أو ينقطع نفسه تمامًا. يتعيَّن عليها عندئذ أن تتخذ القرار بالمكوث وعدم الانسحاب من المنزل مذعورة وبسرعة خاطفة. ينبغي لها أن تتقدم لتنادي "جيرمي، هل هذا أنت؟". تختتم أوتس قصة انشطار/دماغ بالسؤال عينه، لكنها تطرحه في سياق مختلف، لأن الاستفهام يجيء في أعقاب التأكيد أن المرأة نفسها تخلَّت عن الوهن، وأنها لن تستسلم إلى حافز الخروج من المنزل، بل تتقدم بينما تكمُّ قرقعة كعبي جزمتها، لتنادي بصوت حازم: "جيريمي، هل هذا أنت؟". يروق أوتس أن تمدَّ النساء المتمرِّدات، والوحيدات أيضًا، اللواتي ترصدهن، بفرصة للهروب. غير أنها في قصة اختناق القصيرة تجعل فرار بطلتها إيلفا يتحقق من طريق المخدرات والصحبة الرديئة والدفع بقلب والدتها إلى التلوِّي قلقًا. إيلفا فتاة إضافية في وسط نساء المجموعة، تتراءى شديدة التعلُّق بوالدها إلى حدٍّ تعجز فيه عن رؤيته مخطئًا، في حين تسبغ على والدتها جميع أصناف الحنق. تصرف أوتس الانعطافات غير المكرورة فضلاً عن الفرضيات الملتبسة، وتلك موجودات تلفُّ قصة اختناق على وجه خاص، ذلك أن الحكاية وزِّعت بين ذكريات إيلفا المهشَّمة ومقاربة والدتها ليديا المتماسكة والساكنة. تميل الحيثيات إلى جعلنا نتعاطف مع الأستاذة ليديا التي تحظى بالاحترام، في مقابل إيلفا كعارضة جوَّالة مضطربة، موديل تحركه ريشة التشكيليين كيفما اتفق. جويس كارول أوتس قاصة أميركية متمرسة، وربما تكون متمرسة أكثر مما ينبغي، لأن حكاياتها المفتونة بالاغتصاب والعنف تغدو أحيانًا آلية أكثر منها حدسية. يكمن جزء من معضلة الكاتبة في مقاربة الثيمات في هذا المكان تحديدًا. في القصة تلو الأخرى، نجد سيدات بلا أطفال، يوصفن بالباردات المتحكمات، وأخريات كانت لهن فرصة الإنجاب وإنما أتين بنماذج رديئة لا تلبي الطموح. النساء في المجموعة مفرطات الأحاسيس، يجرِّبن أذى الآباء ويتُقن الى نيل القبول، في حين يتعرضن للاغتيال في تعابيره الشتى، وتنتهي بهن الحال أغراضًا هجسية أو مرتعًا لأنماط من الجنون. تنتهك كليَّة المرأة الجسدية في مجموعة امنحني قلبك بنتيجة الاغتصاب أو الحمل أو فقد العذرية أو إرضاع طفل حديث الولادة. تكتب صاحبة الرسالة في قصة امنحني قلبك: "دخلتَ جسدي لأخذ براءتي وشبابي وروحي الدفينة". لا يزال حنقها ملتهبًا إزاء الرجل الذي استباح تلك الحلقة من ذاكرتها التي ظنَّتها مضت. نعثر في داخل سرد أوتس المصرِّ، على إدراك هامشي للخطر، غير أنه يتبدى، في المقابل، في وسط الحكاية من خلال الخط الطباعي المائل. في وسع هذا التفصيل أن يجعل جملاً صيغت بمبالغة تحل مرعبة لتتخطى مستوى الكليشيه الشعبوي. تكتب أوتس: لم أنسَ أي شيء... في حين أنكَ، لسوء طالعك القاتل، نسيتَ كل شيء تقريبًا. تتكور كل حكاية في مجموعة امنحني قلبك على تشويق مرعب خاص، ينتهي في معظم الأحيان في مرحلة تصلح كبداية، أي قبل أن يكون لنا ترف الارتواء. *** *** *** النهار |
|
|