قراءة في كتاب كريشنامورتي: شبكة الفكر*

 

نبيل سلامة

 

يذكِّرني هذا الحكيم الذي دُعِيَ باسم كريشنامورتي، خلال حياته الأرضية، بالشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، والحق أن التجربة الروحية لها تقاطعات واضحة عبر التاريخ خصوصًا بين كبار الحكماء والمتصوفة والروحانيين، وما يجعلني أتذكر الشيخ الأكبر عند قراءتي لكريشنامورتي أن هذا الأخير عندما يتكلم فإن كل كلمة ينطق بها لها معنى ودلالة؛ فهو لا يثرثر عبثًا، وإنما يتدفَّق ينبوع حكمة تنبثق من عمق أعماق كيانه. وعلى هذا النحو تصبح كلماته اهتزازات حيَّة، طاقة، وألونًا نستطيع تلمُّسها بقلوبنا وعيون قلوبنا، ونعمل على التمعن بها والتأمل فيها، لأننا لا نستطيع معرفتها من خلال عقولنا. وهذا ما يصرُّ عليه هذا الحكيم الكبير، ولذلك يطلب منا أن نلمسها بكامل كياننا، بعقلنا وقلبنا وعمق وجودنا.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الحكيم يذكِّرني بأحد آلهة الأولمب الاثني عشر، وهو إله الأدوات والآلات المعدنية الذي تقوم ورشة عمله في عمق بركان إتنا. لا شكَّ أن هذا الإله يعبِّر عن طاقة فاعلة في كياننا، وبلغة عالم النفس الكبير كارل يونغ فهو نمط بدئي Archetype يعمل في اللاشعور الجمعي، وبعبارة أخرى إن هذا الإله الذي يُدعَى هيفيستوس هو ذلك الخيميائي فينا الذي يحوِّل معدن نفوسنا الخسيسة إلى ذهب روحاني، إلى عنصر أبدي، وهذا ما سعى إليه كريشنامورتي طيلة حياته. وبدون شك لا ننسى خصوصية تجربته منذ سني طفولته الأولى وتعلُّمه على أيدي الثيوصوفيين الذين تبنوه صغيرًا وفقًا لعقيدتهم، وقاموا برعايته والاهتمام به خصوصًا من قِبَل رئيسة الجمعية آنذاك أنِّي بيزانت، وقاموا بتوجيهه وتربيته تربية روحية ونفسية وأخلاقية صارمة انعكست على مسار حياته كلها، وجدِّيته الصارمة نابعة من ذلك النظام الصارم الذي زجُّوه به منذ الصبا، لكنه لا يخلو مطلقًا من حسِّ الدعابة فها هو ذا يشبِّه الرجل والمرأة كل منهما بخطين متوازيين لسكة حديدية، حيث كل واحد منهما يسعى إلى تحقيق ذاته، ولكن هذين الخطين المتوازيين لا يلتقيان إلا في السرير!.

يشدِّد كريشنامورتي على الإدراك، ولكن أي إدراك يقصِد؟ يقول:

إنه إدراك غير ناتج عن الزمن أو الفكر وقادر على فهم الطبيعة الكلية للصراع الداخلي، وقادر بسبب ذلك الفهم على الخروج بنتيجة تُنهي الصراع، فالفكر هو الزمن. الفكر هو التجربة والمعرفة اللتان تتجمعان في الدماغ على شكل ذاكرة. وهذه الذاكرة من نتاج الزمن...

... كل هذا المنهج الخارجي – أي التجربة والتعلُّم – موجود داخليًا، فأنا لم أصبح، لكنني سأكون. لذلك فإن الفكر هو الزمن، ونحن لا نستطيع فصلهما أبدًا.

ماذا نستطيع أن نفهم مما يقوله عن الإدراك؟! إنها أشبه بحالة تُسمَّى باليونانية "النوس" أي "الذهن" ولكن بمعنى مختلف تمامًا عن كلمة العقل باليونانية، فالذهن بالنسبة للباحثين الأُرثوذكس بخلاف العقل، لا يعمل على أساس صياغة المفاهيم المجردة والدخول في جدل وصولاً إلى نتيجة من خلال الاستدلالات المنطقية، بل يفهم "الذهن" الحقيقة بوساطة الخبرة المباشرة والحدس، أو بما يسميه أحد نسَّاك الأُرثوذكس بـ"الإدراك البسيط". ربما أستطيع المجازفة هنا لأقول إن حالة الإدراك هي باختفاء الراصد، أي الأنا، وبهذا يصبح الذهن أشبه بمرآة تعكس مباشرة كل ما يمر أمامها وحولها وفيها، ليس ثمة أي تماه، وليس ثمة كثافة حسِّية تحجب الرؤية، وليس ثمة أنا يتماهى مع العقل أو الجسد أو الهوى، وإنما فقط إدراك مباشر دون تدخل أو إدانة..

وبعبارة أخرى يوضِّحها أوشو:

الرجل الحقيقي المتفهِّم يتصرَّف بطريقة كلية، ولكنه يتصرَّف في اللحظة الآنية وبوعي. إنه يشبِه المرآة. والرجل العادي غير الواعي يشبه فيلم الكاميرا الفوتوغرافية وليس المرآة. ما الفرق بين المرآة والفيلم؟ عندما يتم تظهير الفيلم يصبح غير ذي قيمة. إنه يحمل الآن صورة لا تتغيَّر. ولكن هذه الصورة ليسَت الحقيقة. لأن الحقيقة تنمو باستمرار. يمكنك أن تدخل إلى الحديقة وتأخذ صورة لشجرة ورد. ستكون الصورة نفسها غدًا أو بعد غد. ولكن إذا نظرت إلى شجرة الورد غدًا أو بعد غد فلن تكون نفس الشجرة. تساقطت ورود وتفتَّحَت ورود أخرى. وحصلت آلاف الأشياء.

يتابع كريشنامورتي قائلاً:

هل نستطيع مراقبة الألم – ولا يهم ما هو – من دون تسميات، ومن دون الاستعانة بالذاكرة؟ بمعنى التفكير بالشخص دون النظر إليه من خلال الذكرى. أي النظر إليه من دون تسميته، من دون زمن، ومن دون ذكريات، والنظر أيضًا إلى نفسك – إلى تلك الصورة التي كوَّنتَها عن نفسك، وإلى الصورة التي بنيتَها عن الآخَرين، النظر إليها، وكأنك تراها للمرة الأولى، كما تنظر إلى الوردة لأول مرة. تعلَّم أن تنظر...

هنا يضعنا هذا الحكيم الكبير أمام أحجية، كيفية النظر؟!، يسعفنا من هذا المأزق أوشو الذي نشعر بحضور حكيم كبير أيضًا في أعماقه وسط كل تناقضاته، فلنسمعه كيف يوضِّح لنا ما أراده كريشنامورتي أن يعلِّمَنا إياه:

يجب أن تجلس وتسمح للأمور أن تحصل لك. وعندما تنظر إلى غروب الشمس، لا يُتوقَّع منك القيام بأي شيء. أنت فقط تنظر. وعندما تنظر إلى زهرة، ماذا يُفترَض بك أن تفعل؟ النظر لا غير. في الواقع، أنت لا تبذل أي جهد، حتى عندما تنظر إلى الزهرة. عيناك مفتوحتان، والزهرة هناك. وعندما يختفي الناظر والمنظور، تولد لحظة تواصل عميقة ويولد الجمال. عند ذلك أنت لستَ المراقِب، والزهرة ليست المراقَبَة. الآن أنت هناك والزهرة هناك، وبطريقة ما تتداخل الحدود فيما بينكما. تدخل الزهرة إليك، وأنت تدخل إلى الزهرة ويولد التجلي.

نعود إلى كريشنامورتي إذ يقول:

عندما تهتم لمراقبة طفلك أو زوجك أو نباتاتك، الأشجار، الطيور. أنت ترصد دون إدانة، دون تماه، لذا فإن في رصد كهذا وصالاً تامًا: الراصد والمرصود يكونان في وصال تام. وهذا يحدث فعلاً حين تكون مهتمًا لشيء ما اهتمامًا بالغًا، عميقًا.

يوضِّح كريشنامورتي الأمر أكثر في كتابه الحرية الأولى والأخيرة حين يقول:

في لحظة التجربة ليس هناك من راصد ولا من مرصود: هناك الاختبار فقط، فأنت حينما تختبر تجربة عميقة أيًّا كان نوعها ماذا يحدث؟ هل تعي نفسك؟ إنك تذهل عن نفسك تمامًا، فقط بعد أن تنتهي التجربة هناك المجرِّب والمجرَّب موضوع التجربة. الراصد والمرصود وجهان لظاهرة واحدة، وبالتالي، لا يوجد سوى الاختبار.

والانتباه هو حالة لا إدانة فيها، ولا تسويغ، ولا تماهي. وبالتالي فَهْمٌ في تلك الحالَة من الانتباه الساكِن اليقِظ ليس ثمة من مجرِّب ولا من مجرَّب.

يقول كريشنامورتي:

معظم البشر بليدون، راكدون، ويفضِّلون مواصَلَة الحياة بشخصياتهم النمطية القديمة، بعاداتهم التفكيرية ذاتها، ويرفضون كل ما هو جديد لأنهم يعتقدون أن العيش مع المألوف أفضل بالنسبة لهم من المجهول فهو يمدُّهم بالأمان – كما يعتقدون – ولذا، يتابعون تكرار ما يقومون به ويعملون ويكافحون ضمن المحيط المألوف بالنسبة لهم.

صحيح أن كريشنامورتي عندما يتحدث عن الشخصية النمطية، فهو يقصِد مجموعة هائلة من الشخصيات التحتية، ولكن، كيف تتكون الشخصية النمطية أو أنماطنا التي نصير أسرى لها مدى العمر..؟!

إن الشخصية النمطية أو أنماطنا تتكون بفعل الذاكرة أولاً وأخيرًا، وذلك من خلال المعرفة التراكمية عبر الزمن، وهكذا نسمع كريشنامورتي يقول: "أدمغتنا مشروطة بهذا النمط الذي هو مراكمة المعرفة ومن ثم الفعل...". بعبارة أخرى، يصيغ كريشنامورتي كلامه قائلاً: نحن نحصل على المعرفة من خلال التجربة، مخزِّنين المعرفة بشكل ذاكرة، تستجيب الذاكرة من خلال الفكر، ومن الفكر ينتج الفعل، ومن الفعل والتفاعل تتعلم المزيد، تبدأ الدورة من جديد. هذا هو نمط حياتنا. وهذا الشكل من التعلم لن يحل مشاكلنا إطلاقًا لأنه مبني على التكرار.

وبالتالي، يشدِّد كريشنامورتي أنه لكسر النمط وتكراره لا بد من معرفة لاتراكمية، لازمنية، تضعنا في الآن، في الحاضِر، أي كما أنا، وما أنا عليه، وقبول غير مشروط لكل شيء!!

ولكن كيف يحصل ذلك؟

يقول كريشنامورتي:

إن الدماغ المبرمَج على الصراع هو من دون شك أسير ذلك النمط. ونتساءل عن إمكانية إيقاف هذا النمط مباشرة، وليس بشكل تدرجي. قد تعتقد أنك قادر على الخلاص منه بالهروب عبر إدمان المخدرات أو الكحول أو الجنس أو أشكال عديدة أخرى من الضوابط أو عبر استسلامك لشيء ما.

ولكن أول ما يجب عليك إدراكه هو أنه لا يوجد غد سيكولوجي. إن اكتشفتَ هذا حقًا، لا نظريًا، إنما بقلبك وعقلك، في أعمق أعماق وجودك فإنك ستكتشف أن الزمن ليس بوسعه حل المعضلة. ومجرد إدراك ذلك فهذا يعني أنك كسرتَ النمط وبدأتَ ترى شقوقًا وثغرات في النمط الذي فهمناه عن الوقت كوسيلة وكأداة لحل ألغاز هذا الدماغ المبرمَج والانفصال عنه. وعندما تفهم ذلك في قرارة نفسك بوضوح وتعرف أن مرور الوقت لن يحررك حتمًا فستبدأ بملاحظة التصدعات في السياج المحيط بالعقل.

أخيرًا، يركِّز كريشنامورتي على قطبين يتفاعلان في النفس البشرية فيما بينهما هما على شكل قاعدة مثلث يشكلان طرفا هذه القاعدة هما قطبا الرغبة والخوف، وهناك في الأعلى أي في ذروة المثلث وعمليًا في الرأس، فالرأس هو الذي يمسك بطرفي القطبين أي بعبارة أخرى الفكر أي الذاكرة أو الزمن، فالفكر هو حركة الزمن فينا. وأستطيع أن أجازف القول بأن "الفكر" هو الذي ينظِّم ويخلق النمط فينا من خلال استجابة الذاكرة له. وأستطيع القول إن الخوف في حقيقة أمره هو الشكل الآخر للرغبة أو إن شئتم الوجه الآخَر للرغبة. وبعبارة أخرى، هو الرغبة التي تنطوي وتلتف حولها الطاقة وترفض مغادرتها. إنه الرغبة بذاتي أنا، إنه انحباس للطاقة في محور الذات أي الأنا، أي الرغبة بالحفاظ عليها والإبقاء عليها بعيدًا عن كل أذية محتمَلَة أو أي مجهول كما سبق ونوَّه حكيمنا كريشنامورتي، وكلما بقِيَت الطاقة مجمَّدة أي أسيرة عندها كلما أصبح المرء عصابيًا، وهنا يصحُّ ما قاله أحد الحكماء بأن العصابي هو الأناني بامتياز. وكان على حق فرويد حين قال إن العصاب هو صراع بين رغبة تريد التحقق وبين رغبة مضادة لها تمنعها من التحقُّق. وربما الحالة المثلى التي نستطيع استنتاجها من خلال أحاديث كريشنامورتي تكمن في تحرير الطاقة من مثلث الرغبة والخوف والفكر، وبعبارة أخرى كسر النمط الذي يولِّد العصاب، وهكذا فعندما تتحرر الطاقة من هذا السجن المثلث، تنفتِح نحو الحب الذي ليس هو الرغبة وبالتالي ليس هو الخوف، وإنما حرية الانطلاق في المغامرة نحو المجهول، وهذا المجهول هو الموت، والموت حسب كريشنامورتي هو الانفكاك عن كل ارتباط، فمن الموت ينبثق الحب، هكذا يقول كريشنامورتي.

أخيرًا وليس آخرًا، فلنسمع جوزيف كامبل ماذا يقول: "هنالك قصة رائعة عن الربوبية، عن النفس، التي قالَت "أنا أكون" ومنذ أن قالَت "أنا أكون" أصبحَت خائفة. فلقد كانت وجودًا في الزمن" – في عرف كريشنامورتي الفكر هو الزمن -، وهذا يصحُّ إذا تابعنا قصة كامبل فهنا تبدأ صيرورة الفكر: "من أي شيء علي أن أخاف؟ أنا الشيء الوحيد الذي يوجد". وحالما قالت النفس ذلك شعرت بالوحشة وأرادت أن يكون هنالك كائن آخر. وهكذا أحسَّت بالرغبة. لقد انتفخَت وانقسمَت إلى اثنين. ذكر وأنثى ثم أنجبت العالَم. وهكذا كما لو أن الرغبة انبثقَت من الخوف، والخوف انبثق من الرغبة. فهما قطبان يتفاعلان وينجبان العالَم، فالخوف هو القطب السلبي والرغبة هي القطب الإيجابي، وهما وجهان لحقيقة واحدة يقف وراءها الفكر أي الدخول في حقل الزمن.

*** *** ***


 

horizontal rule

*  شبكة الفكر، جدو كريشنامورتي، ترجمة يارا البرازي، مراجعة أكرم أنطاكي، معابر للنشر، دمشق، 2011.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود