الإيمان والعصاب النفسي

 

اعداد: نبيل سلامة

 

يقول اسحق السرياني في نسكيَّاته:

"صلِّ بلا ملل وتضرَّع بحرارة واطلب باجتهاد حتى تنال الحماية، واحذر أن تتراخى فيما بعد، واعلم أنك ستستحقها إذا أرغمتَ ذاتك على وضع همك لدى الله بايمان واستبدلتَ عنياتك الذاتية بعنايته."

"وعندما يرى أنك قد آمنت به بفكر طاهر أكثر من إيمانك بنفسك، وأنك أرغمت ذاتك على الرجاء به أكثر من رجائك بنفسك فسيظللك بتلك القوة، وتدرك عندئذ ادراكًا حسيًا أكيدًا ما قد حلَّ بك، أي بتلك القوة، وتدرِك عندئذ ادراكًا حسيًا أكيدًا ما حلَّ فيك، أي تلك القوة التي يحس بها كثيرون فيعبرون وسط النار دون وجل ويمشون على المياه دون خوف لأن الايمان يقوي حواس النفس ويجعلها تحس بوجود كائن غير منظور يحثها على عدم الاكتراث للمشاهد المخيفة والمشاهد التي لا تستطيع الحواس أن تتحملها."

"إذا آمنت بالرب القادر على حفظك فلا تهتم بل قل لنفسك: إن الذي سلَّمتُه ذاتي يكفيني في كل شيء، ولم أعد أنا المدبِّر لحياتي بل هو. وعندئذ تشاهد عجائب الله بالفعل وترى أنه قريب دومًا لإنقاذ الذين يخافونه، وأن عنايته دائمًا بحال غير منظورة يجب ألا تشك في وجود حارسِكَ الكائن معك بحجَّة أنه لا يُرَى بالأعين الجسدية مع العلم أنه يمكن أن يُعلَن للأعين الجسدية بغية تشجيعك."

"الإيمان لا يطلب أكثر من عقل بسيط ظاهر بعيد عن كل غش وعن كل بحث جَدَلي. بيت الإيمان يُبنَى بفكر الأطفال وقلب بسيط. الإيمان يسلك طريقًا يفوق الطبيعة. ما يؤذي الطبيعة لا تدعه المعرفة يقترب منها بل تبتعد عنه، أما الايمان فيفسِح له بالاقتراب وهو يقول: "تطأ الأسد والأفعى. تدوس الشبل والتنين".

"المعرفة يتبعها خوف أما الإيمان فرجاء، وبمقدار ما يسلك الإنسان في سُبُلِ المعرفة يُقيَّد بالخوف فلا يستطيع التحرر منه. أما السالِك في الايمان فيصير حرًّا وذا سيادَة، يتصرف في أمره بسلطة كابن الله."

"الإنسان الذي يعشَق هذا الايمان يتصرف بطبائع الخليقة كلها كإله لأن للإيمان سلطة إبداع خليقة جديدة كما يفعل الله."

"المعرفة تتحفظ من أوضاع الطبيعة ولا تجرؤ على تعدي حدودها، أما الإيمان فيتعداها بسلطة، ويقول: "إذا اجتزت في المياه فإنني معك، أو في الأنهار فلا تغمرك، وإذا سلكتَ في النار فلا تُلذَعُ ولا يلفحُكَ اللهيب"."

"إن طرق المعرفة حكمت العالَم خمسة آلاف سنة بقِيَ الإنسان خلالها غير قادر على رفع رأسه عن الأرض. لكن عندما أشرق إيماننا مجددًا حرَّرَنا من ظلمة العمل الأرضي وعبودية التشتُّت الباطِل. لكننا رغم عثورنا على البحر الساكن والكنز الذي لا ينفَد لا نزال نفتش عن الينابيع الذليلَة الوضيعة. مهما اغتنت المعرفة تبقى فقيرة، أما كنوز الإيمان فلا تسعها أرض ولا سماء."

"من يركز قلبه على رجاء الإيمان لا يحتاج إلى شيء. وإذا لم يمتلِك شيئًا فإنه بالإيمان ينال كل شيء: "كل شيء تطلبونه وأنتم تصلُّون بإيمان تنالونه"."

في المرتبة الأولى للمعرفة

"لاشك أن شجرة معرفة الخير والشر مغروسة في هذه المعرفة. وهي التي تفحص زلات الناس الصغيرة وأسبابها وضعفاتها وتعلِّم الإنسان كيف يمتحن الأقوال ويناقضها، وكيف يلجأ إلى الغش بمكائد وحيَل شريرة وغيرها من الطرق المهينة. وفي هذه المعرفة بالضبط، يكمن الانتفاخ والكبرياء لأنها تنسب كل شيء صالِحٍ إلى ذاتها وليس إلى الله."

في المرتبة الثانية للمعرفة

"هذه المعرفة تفتح الطرق أمام القلب فتهدي إلى الإيمان وتعدُّ زادًا للدهر الحقيقي. لكنها تبقى معرفة جسدية ومركَّبَة لأنها تُعتبَر طريقًا هاديًا ومرشدًا إلى الإيمان."

في المرتبة الثالِثَة للمعرفة وهي مرتبة الكاملين

"عندما ترتفع المعرفة عن الأرضيات وعن الاهتمام بأمورها، وترتفع ذاتها إلى فوق، عندئذ يبتلِعَها الإيمان ويحوِّلُها ثم يَلِدُها من جديد – كما كانت في البداية – فتصبح كلها روحًا. وعندئذ تستطيع التحليق إلى أمكنة اللامتجسِّمين وأن تلمس عمق البحر غير المدرَك لأنها تفهم بأي طريقة عجيبة إلهية تُدار الطبائع العقلية والحسية وتفحص الأسرار الخفية التي تدرَك بالذهن البسيط الشفاف فتستيقِظ الحواس الداخلية لعمل الروح حسب نظام الحياة الأزلية العديمة الفسَاد. لأنها قد قَبِلَت القيامة المدرَكَة من خلال ما هو هنا شهادة حقيقية لتجديد الكل."

خلاصَة

المعرفة الأولى تأتي بالتفتيش المستمر والتعلم والاجتهاد.

المعرفة الثانية تأتي بالسيرَة الصالِحَة وبإيمان الذهن.

المعرفة الثالِثَة فهي ميراث الايمان فقط.

إن الإيمان يُبطِل المعرفة ويضع حدًا لأعمالِها، وتصبِحُ الحواس غير ضرورية.

***

العصاب النفسي

نسمع يونغ:

"القطيعة بين الإيمان والمعرفة عَرَض من أعراض انشطار الواعية (عن الخافية أي اللاوعي) التي هي من خصائص الاضطراب العقلي في يومنا هذا. يبدو الأمر كما لو أن شخصين مختلِفَيْن يُدلِيَان بتصريحات حول موضوع واحد، كل من وجهة نظر نفسه. أو، كما لو أن شخصًا واحدًا له إطاران مختلفان لعقله يقوم بوضع خطوط عريضة لصورة خبرته. فلو استبدلنا بكلمة "شخص" بكلمتي "المجتمع الحديث" لاتَّضَحَ لنا أن الأخير يعاني من تفكُّك أو انفصام عقلي – أي اضطراب عصابي – بالنظر إلى هذا، لا يجدينا نفعًا أن ينجذِبَ أحد الطرفين عنيدًا إلى اليمين والآخَر إلى اليسار."

"إن هذا ما يحدث في كل نفس معصوبة، يا لشدَّة آلامها؟ يتعيَّنُ على الطبيب أن يقيم علاقة مع كلا نصفي شخصية المريض، لأنه من كليهما معًا لا من أحدهما على حساب الآخر، يستطيع أن يؤلف إنسانًا واحدًا تامًا."

وكذلك يقول:

"عندما يظهَر العصاب على بالِغ، تعود إلى الظهور شوارِدُ عالَم الطفولة. لكن، هذا لا يفسِّر لماذا لم تنمِّ الشوارد آثارًا مَرَضيَّة في الفترة البيتية. هذه الآثار لا تنمو إلا عندما يواجه الفرد وضعًا لا يستطيع التغلُّب عليه بالوسائل الواعية والجمود الناجِم عن نمو الشخصية يفتح سُكرًا للشوارِد الطفولية الكامنة، بطبيعة الحال، في كل شخص، لكنها لا تبدي عن فعالية مادام باستطاعة الشخصية الواعية أن تمضيَ في طريقها بدون عائق."

"عندما تصل الشوارد إلى مستوى معين من الشدة، تبدأ باختراق الواعية وخلق وضع من النزاع يدركه المريض نفسه، إذ يشطره إلى شخصيتين متنافرتين. غير أن هذا التفكك كان أُعِدَّ له من قبل زمن طويل في الخافية أي (اللاشعور)، عندما تقوم الطاقة المتدفقة من الخافية (اللاشعور) (لأنها طاقةٌ غير مستعمَلَة) بتقوية الصفات السلبية التي تتَّصِف بها الشخصية الخافية (اللاواعية)، وخصوصًا قَسَماتها الطفولية."

التنقيب عن أغوار النفس

كما يشير في دراسة عن يونغ الأستاذ نهاد خياطة:

"العصاب في تعريف يونغ هو انقسام داخلي، أو حالة يكون فيها المرء في حرب مع نفسه، وكلما زادَت حدة الانقسام، ازدادَت حالة المريض سوءًا، وكلما خفت حدته، اتجه المريض نحو الشفاء، وما يدفع الناس إلى الحرب مع أنفسهم هو حدسهم أو معرفتهم أنهم يتكونون من شخصيتين إحداهما تضادُّ الأخرى. وقد يكون النزاع بين الإنسان الروحي والإنسان الحسي أو بين الإنسان البراني والإنسان الجواني أو بين الأنية والظل."

أسباب تشكُّل العصاب:

"يَرِدُّ يونغ تشكُّلَ العصاب إلى الأحادية المتمثلة في الإفراط في الموقف العقلي، والاعتماد على الإرادة الواعية اعتمادًا كليًا مما ينجم عنه إهمال للوظائف النفسية الأخرى كالحدس والشعور (العاطِفَة)."

"أما العصاب عند أدلر فيرجِع سببه إلى النزوع للسيطرة، والإخفاق في تحقيق مركز مرموق في العالَم."

"وعلى هذا النحو قام تفسير آدلِر على أساس أن يبيِّن للمريض أنه يرتب أعراضه ويستغل عصابه سعيًا للوصول إلى مكانَةٍ وهمية، وأن تحويلاته وتثبيتاته الأخرى لا يحمل لها سوى خدمته شهوته للسيطرة، وهو يمثل احتجاجًا مذكرًا على خضوعه الموهوم."

أعراض العصاب:

"إن أعراض العُصًاب فقدان الثقة بالنفس، والأنانية المفرِطَة، وهبوط المعنويات، وعدم القدرة على التكيف مع العالَم الخارجي لعدم قدرة المعصوب على التكيف مع عالَمِه الداخلي."

"ولعل هذا الانفصال بين الواعية والخافية إذا اتسع أكثر من قدرة الإنسان على التحمل أدى به إلى الفصام حتمًا، وهو المعروف باسم الشيزوفرينيا."

"والعصاب إذن يبدو وكأنه محاولة من الخافية (اللاشعور) لإقحام نفسها على الواعية أو الحيلولة دون أدائها الصحيح."

ضرورة العصاب:

"يحوي العصاب على نفس المريض، وعلى جزء أساسي منها على الأقل، فلو استطعنا، كما يدَّعي العقلاني، أن نقتلِعَ منه العُصاب مثلما نقتلع سنًا فاسدة، لم يكسَب شيئًا بل فَقَدَ شيئًا أساسيًا، أي أنه يفقد بمقدار ما يُحرَمُ المفكِّر من شكِّه، أو بمقدار ما يُحرَمُ الأخلاقي من إغرائه، أو بمقدار ما يُحرَم الشجاع من الخوف. أن تفقد العصاب هو أن تجد نفسك بلا هدف، وعندئذ تفقد الحياة هدفها، وحياة بلا هدف لا معنى لها. إن فَقْدَ العصاب ليس شفاءً، بل عملية بتر نظامية..."

"في العصاب تختبئ نتفة من شخصية مازالت بعد غير نظامية، شظية ثمينة من النفس، بدونها يُقضَى على الإنسان بالعزلة والمرارة وكل شيء آخر معادٍ للحياة. فالمطلوب تحمُّل العصاب لا التخلُّصَ منه."

"يجب ألا نحاول التخلص من العصاب، بل حري بنا أن نتعلم ماذا يريد منا، ما غرضه. يجب علينا أن نتعلم الشكر عليه حتى، وإلا تجاوزناه، وضاعَت فرصة الوصول إلى معرفة أنفسنا مثلما نحن في الحقيقة."

"لا يزول العصاب إلا عندما يزول الموقف الخاطئ الذي اتخذته الأنية."

"نحن لا نشفي العصاب بل هو يشفينا، قد يحرِّض الإنسان، لكن المرض محاولة من الطبيعة لشفاء الإنسان أيضًا، فمن المرض نفسه قد نتعلم الشيء الكثير لكي نستعيد عافيتنا، وما قد ينبذه المعصوب جانبًا على أنه لا قيمة له على الإطلاق قد يحتوي على التبر الحقيقي الذي ما كان لنا أن نجده في مكان آخر."

منظور يونغ للعصاب من وجهة النظر الإيروسية:

"العصاب في كل الأزمنة مرتبط ارتباطًا صميمًا بمشاكل العصر. إنه يمثل على العموم محاولة الفرد المكدَّرَة لكي يحل في داخله المسألة العامة. العصاب هو الانقسام الوجودي في ذات المرء، الباعِث على الانقسام عند معظم الناس أن الواعية ترغب أن تبقى أمينة لهدفها الأخلاقي في حين أن الخافية (اللاوعي) تنزع نحو هدفها اللاأخلاقي الذي تجتهِد الواعية في نفيه. الأفراد الذين يتألمون من عصاب من هذا النوع هم أفراد يتمنون أن يكونوا أكثر انضباطًا وأكثر تكيفًا مما هم في الحقيقة. وعلى هذا النحو فالطبيعة العاهرة تكون مكبوتة عند الإنسان الفضيل." (إذًا علينا بقدر الإمكان تجنُّب الأطراف القصوى التي تبعث الريب دائمًا بمناقضاتها).

"إننا نجد على نحوٍ منتظَم في حياة المعصوب عندما نتتبع باهتمام خطوة خطوة تاريخ عصابه لحظة حرجة تنبجس خلالها مشكلة لا يتقبلها بل يتجنبها. غير أن هذا التجنب هو رجع طبيعي وشامل ككل الدوافع النفسانية التي تكيفه وأعني بها الكسل وقانون أقل الجهد والجبن والخوف والجهل واللاوعي. فعندما يكون ثمة شيء ما مزعج وصعب وخطِر فإن المرء يتردد على العموم ولا يتدخَّل إن وجد إلى ذلك سبيلاً."

"لقد حاوَلَت أعمال فرويد في الاتجاه الذي أخذته أن تبرهِنَ بأن العامِلَ العشقي أو بتحديد العامل الجنسي يحوز دلالة راجحة في نشوء الصراع الممرض، فتبعًا لهذه النظرية يتعلق الأمر في العصاب بتصادم بين نزوع الواعية والرغبة اللاأخلاقية المناقضة اللاواعية أو الخافية، فالرغبة الخافية هي طفولية تشكل أمنية صادقة عما قبل تاريخ العمر الأول للفرد وقد استمرت عائشة بعده وهي لا تؤطر بأي حال من الأحوال مع الحاضِر لذلك فإن الفرد يكبتها لأسباب أخلاقية راهنة. فالعصابي يحس في حياته نفس الطفل الذي لا يطيق التقييدات التي يغيب عن ذهنه معناها والتي يرى فيها لذلك تقييدات اعتباطية. فمن الصحيح أنه يسعى حقًا إلى تبني الأخلاق السائدة غير أن هذا يقوده نحو انقسام وبشكل ما نحو حرب أهلية مع نفسه ذلك أنه يريد في الوقت عينه أن يتحرر من جهة وينضبط من جهة أخرى وهذا هو تحديدًا الصراع الباطني الذي نسميه العصاب. فلو كان هذا الصراع واعيًا واضحًا وفي كل مكوناته فقد لا ينجم عنه بلا شك أعراض عصابية لأن هذه الأخيرة لا ترى النور إلا عندما يتوصل الفرد إلى رؤية الجانب الآخر من كيانه وإلحاح المشاكل التي يستتبعها. ويبدو أن بهذا الشرط فقط يتكون العرَض الذي هو بمثابة تعبير عن الجانب المجهول من النفس الإنسانية والعَرَض بالتالي هو – تبعًا لفرويد – التحقيق غير المباشَر للأماني الخافية (اللاواعية) التي تدخل فيما لو كانت واعية في صراع عنيف مع القناعات الأخلاقية للمعصوب. هذا الجانب العاتم من النفس هو الذي يفلت من جهود التقصي الواعي الذي يقوم به المعصوب ذلك أن المريض لا يستطيع التفاوض مع ظله (أي الجانب العاتم من النفس)٭ هو الذي يفلت من جهود التقصي الواعي الذي يقوم به المعصوب ذلك أن المريض لا يستطيع التفاوض مع ظله المجهول ولا يستطيع تحسينه ولا التكيف معه ولا حتى التنازل عنه لأنه في الواقع لا يملك السيطرة على جمحاته الغريزية الخافية (اللاواعية) فحيث أنها كُبِتَت فهي مطرودة من مراتبية النفس الواعية وأصبحت مركبات مستقلة. وحده التحليل يستطيع عبر المقاومات الماكرة التي تتجلى خلاله أن يدفعها إلى التوبة."

أخيرًا، يصِل يونغ إلى النتيجة التالية:

"أعراض العصاب لا تتوقف عند كونها نتائج لأسباب وُجِدَت ذات يوم سواء كانت "جنسية طفولية" أو "غريزة قوة طفولية" فهي تشكل في الوقت عينه محاولات للتوصل في الحياة إلى تركيب جديد – ويجب أن نضيف بقولنا، قبل استعادة النفَس، محاولات مجهِضَة ولكنها مع ذلك محاولات تحتوي نواة من القيمة والمعنى. إن الأمر عمومًا يتعلَّق ببذور أُجهِضَت بسبب نكبة من الظروف الخارجية والداخلية على السواء."

"أنا أعرف حالات عديدة حيث كان الفرد يَدينُ لعصابه بكل النفع الذي برهنَ عليه، وبكل القِيَم التي كانت تسوِّغ الحياة في نظره لأن العصاب قد وضع حاجزًا في اللحظات الحاسمة للحماقات التي كان سيرتكبها وأجبره على اتباع خط سلوك يلزمه على تنمية الإمكانات الثمينة لكيانه، ولقد كانت هذه البذور لتختنِق لولا أن العصاب بمخالبه الفولاذية قد وضعه بالقوة في المكان الذي كان يجب أن يشغله."

"إن مسألة الأضداد بما هي مبادئ ملازِمَة للطبيعَة البشرية تشكِّل مرحلة جديدة في السيرورة التدريجية للمعرفة. المسألة هي عمومًا مسألة العمر الناضِج. فمعالَجَة مريض لا تبدأ بلاشك البته باعتبارنا هذه المسألة نقطة الانطلاق وخاصة لدى الشباب، إن أعصِبَة الشباب والمراهقة ناجمة عمومًا عن الاصطدام الذي يجهل قوى الواقع تتحطم إزاء موقف طفولي ناقص. هذا الموقف يتصف من وجهة النظر السببية بتعلق غير سوي يستشعره المريض نحو أهله الواقعيين أو الوهميين ويؤدي من وجهة النظر الغائية إلى تلفيقات متفاوتة أي إلى قصدٍ وإرادات غير متكيفة. في مثل هذه الحالات فإن وجهتي نظر فرويد وآدلر متلائمتان تمامًا."

"ولكن ثمة كثير من الأعصبة التي لا تنمو إلا في العمر الناضج أو التي تكتسب إذذاك من الحدة مثلاً ما يجعل المريض عاجزًا عن ممارسة مهنته."

في الطريق إلى الشفاء:

"لئن كان العصاب ناشئًا عن الأحادية المقضية إلى انقسام النفس المؤلفة من الضدين: الواعية والخافية (اللاوعي)، فلقد تعيَّنَ أن يكون الشفاء في اجتماعهما، وهذا ما ترمي إليه الأديان عمومًا، وأديان وفلسفات الشرق على وجه الخصوص."

"هنا نأتي إلى الطريق الذي سلكه الشرق منذ القديم. من الواضح أن الإنسان الصيني مدين بعثوره على هذا الطريق (الطريق الوَسَط) إلى أنه لم يستطع قد أن يقسر الأضداد في الطبيعة البشرية على أن ينفصل بعضها عن بعض، بحيث تفقد كل صلة شعورية فيما بينها، وإنما توفر للصيني مثل هذه الواعية الشمولية كما هو الحال في تكوين النفس البدائية. ومع ذلك لم يستطيع تجنب تصادم الأضداد، مما حداه إلى إيجاد هذه الطريقة من الحياة التي يستطيع بها أن يتحرر من الأضداد، وهي ما يسميها الهندوس نيرفندفا Nirvandava."

ثم يتساءل يونغ: "ماذا فعل هؤلاء حتى بلغوا النمو الذي حرَّرَهم من (تصادم الأضداد)؟"

"إلى حد ما استطعت رؤيته أنهم لم يفعلوا شيئًا wu weu (الفعل بالامتناع عن الفعل) بل تركوا الأشياء تحدث."

الفعل بالامتناع عن الفعل، أن يترك المرء نفسه على سجيتها، كما علَّم ذلك المعلم إكهارت، قد أصبح عندي مفتاح الباب الذي يؤدي إلى الطريق، يجب أن نكون قادرين على ترك الأشياء تحدث في النفس الواعية أبدًا تتدخل وتساعد وتصحح ولا تترك أبدًا لسياقات النفس أن يجري نموها البسيط في سلام. وقد يكون الأمر من البساطة بمكان لو لم تكن البساطة أصعب الأشياء جميعًا.

لئن كان العصاب ناشئًا عن انفصال الأضداد بعضها عن بعض إلى حد الإفراط الذي يخل بالتوازن النفسي، فلقد كان اتحاد الأضداد فيما بينها هو الكفيل بالشفاء، وإعادة التوازن إلى النفس المعصوبة بالتالي.

في هذا الصدد يقول يونغ:

"إن اتحاد الأضداد على صعيد أعلى من الوعي ليس شيئًا عقليًا، ولا مسألة إرادة، بل هو سياق نمو نفسي يعبِّر عن نفسه بالرمز. وغالبًا ما تظهر هذه الرموز في هيئة "مندلة"٭٭.

*** *** ***

المراجع:

·        نسكيات، تأليف: إسحق السرياني.

·        التنقيب في أغوار النفس، تأليف: كارل غوستاف يونغ.

·        الدين في منظور يونغ، إعداد وعرض: نهاد خياطة.

·        الإنسان ورموزه: سيكولوجيا العقل الباطن، تأليف: م.ل. فون فرانز، ترجمة: عبد الكريم ناصيف.

·        النفس الخافية، تأليف: كارل يونغ، ترجمة: سامي علام.


 

horizontal rule

٭ ليس الظل هو كامل شخصية الإنسان اللاشعورية. إنه يمثل صفات وخصائص الأنا المجهولة أو المعروفة بعض الشيء – أي تلك الجوانب التي غالبًا ما تخص النطاق الشخصي والتي يمكن أن تنتقل إلى ساحة الشعور أيضًا. والظل يتضمَّن عمومًا قِيَمًا يحتاج إليها الوعي لكنها تكون موجودة بصيغة تجعل من الصعب دمجها في حياة المرء. فمثلاً حين يكون المرء انبساطيًا يتجه نحو الأشياء والحياة الخارجية، فإن الظل يبدو مختلفًا تمامًا. كما يوجد في الجانب الظليل من النفس قوة دافِعَة من النزوات والعواطف لا يمكن للمنطق السيطرة عليها. (عن: كتاب الإنسان ورموزه: سيكولوجيا العقل الباطن، م.ل.فون فرانز، ترجمة: عبد الكريم ناصيف، الجزء الثالث: عملية التفرد: من فقرة "إدراك الظل").

٭٭ المندلة كلمة سنسكريتية معناها الدائرة السحرية، وفي سيكولوجية يونغ ترمز المندلة إلى المركز أو الهدف أو النفس بما هي كلٌّ نفسي. وهي تمثيل ذاتي لسياق التمركز النفسي، وإحداث لمركز جديد للشخصية، وهذا يعبر عنه رمزيًا بالدائرة أو المربع أو الرباعي، كما يعبر عنه بالأشكال المتساوقة للعدد 4 وأضعافه. والمندلة في اليوغا اللامية والتانترية، أداة للتأمل، ومقام الآلهة ومكان ولادتهم. والمندلة المضطربة كل شكل ينحرف عن الدائرة أو المربع أو الصليب المتساوي الأضلاع، أو الشكل الذي يكون عدده الأساسي عددًا غير العدد 4 أو أضعافه... وقد كانت المنادل ممثلة على نطاق واسع في العصور الوسطى، والمسيحية منها ترجع إلى أوائل هذه العصور، وكانت تمثل المسيح في المركز مع الإنجيليين الأربعة أو رموزهم على الجهات الأصلية الأربع. ولابد أن يكون هذا المفهوم قديمًا جدًا، لأن المصريين كانوا يمثلون حورص وأبناءه الأربعة على نفس النحو... وتتخذ المندلة، في أغلب الأحوال، شكل زهرة، أو صليب، أو دولاب، يصحبه ميل واضح إلى العدد 4 أساسًا لبنيتها. (عن كتاب الدين في منظور يونغ، إعداد وعرض: نهاد خياطة)

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود