|
وطن الموسيقى
إدوارد سعيددانيال بارنباوم
الكتاب الأخير الذي صدر لإدوارد سعيد، هو حوارات حول الموسيقى جمعته بقائد الاوركسترا الإسرائيلي دانيال بارنباوم، الذي تربطه به صداقة كبيرة تعود إلى أكثر من عشر سنين، وهو بعنوان نظائر ومفارقات:Parallels and Paradoxes. Exploration in music and society، صدر عن منشورات Blooms bury في بريطانيا عام 2003. ولد دانيال بارنباوم في بيونس ايريس، وهاجر مع أسرته إلى إسرائيل. يقود اوركسترا شيكاغو الفيلهارمونية منذ عام 1991، وفرقة "ستاتسكا بيلي" في برلين منذ عام 1992، ويعيش حاليًا في ألمانيا. اللقاء بين الكاتب الفلسطيني وقائد الاوركسترا الإسرائيلي لم يقتصر على ولعهما بالموسيقى، بل امتد ليشمل موقفهما من قضية فلسطين، وضرورة النضال من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وقد أثمر هذا اللقاء أكثر من كتاب، إذ أسس الصديقان عام 1999 "اوركسترا الديوان الغربي-الشرقي" التي انطلقت فكرتها في فيمار في احتفالات الذكرى المئتين والخمسين لولادة غوته. وتضم الاوركسترا موسيقيين شبانًا من العالم العربي وإسرائيل، وقدمت عروضها في أكثر من مكان في العالم. ننشر ترجمة لجزء من الفصل الأول من الكتاب الذي حرره آرا غوزيليميان، الذي يعمل مديرًا ومستشارًا فنيًا لقاعة كارناغي في نيويورك. آرا غوزليميان: أبدأ بسؤال أوجهه لكل منكما: أين تشعر بأنك في وطنك؟ وهل تشعر أصلاً بأن لك وطنًا؟ أم تشعر بأنك في حالة حركة دائمة؟ دانيال بارينبويم: الكليشيه المستخدم والمبتذل هو: "أشعر أني في وطني حيثما أعزف الموسيقى". وأقول "المستخدم والمبتذل"، رغم أنها حقيقة، لأني والعديد من زملائي استخدمنا فعلاً هذا التعبير في مناسبات عندما لم نكن ندري كيف نجيب عن هذا السؤال بالتحديد، أو عندما كنا لا نريد أن نبدو فظين في أماكن مضيافة جدًا تجاهنا، ولكن لا نشعر فيها بأننا في وطننا. كل مكان أستطيع فيه أن أعزف البيانو – ومن المفضل أن يكون ذلك على آلة جيدة ومعقولة – وأينما أسافر مع فرق الاوركسترا التي أقودها، إما "اوركسترا شيكاغو السمفونية" أو فرقة "ستاتسكابيلي" من برلين، هذا هو المكان الذي أشعر فيه بأني في وطني.
أشعر بأني في بيتي ووطني (إلى حد ما) في القدس، لكني أعتقد أن هناك شيئًا من اللاواقع في ذلك. إنها فكرة شاعرية نشأت عليها. لقد انتقلنا للعيش في إسرائيل عندما كنت في العاشرة من العمر، وأقمنا في تل أبيب، وهي مدينة بلا تاريخ يذكر، مدينة عصرية للغاية، ليست ممتعة بشكل مميز، لكنها تعج وتصخب بالحياة. أما القدس فتعني، بالطبع، كل شيء لأناس متعددين ومختلفين، ولهذا السبب، ترافقت السياسة فيها بالإشكاليات بشكل دائم. وفي الخمسينات كان سكان تل أبيب يتطلعون إلى القدس لتعويض كل ما يفتقدونه في مدينتهم: الروحانية والفضول الفكري والثقافي. وكل هذه الأمور، وللأسف، تتلاشى حاليًا، كما يبدو، نظرًا لانعدام التسامح من بعض المتطرفين من سكان القدس. وما أعنيه هو أني أشعر بالإنتماء إلى "فكرة" القدس. في ما عدا ذلك، أشعر بأني في موطني عندما أكون برفقة قلة من أصدقائي المقربين. وهنا، يجب أن أقول إن إدوارد أصبح بالنسبة لي الصديق الذي أستطيع أن أشاركه أمورًا كثيرة، إنه الخليل. أشعر فعلاً بأني في بيتي وموطني كلما كنت معه! أنا لست من الذين يهتمون كثيرًا باقتناء الأشياء. قطع الأثاث لا تهمني، ولا التذكارات من الماضي. وأنا لا أجمع القطع القيمة والثمينة – ولذلك فإن شعوري بالإنتماء إلى بيت وموطن هو فعليًا شعور بالانتقال، كما هي الحال مع كل شيء في الحياة. الموسيقى انتقال أيضًا. وأكون في قمة السعادة وأنا في حالة انسجام تام مع فكرة السيولة والمرونة. وأشعر بالتعاسة عندما لا أستطيع إطلاق سراح نفسي، عندما لا أستطيع الاستسلام كليًا لفكرة أن كل شيء يتغير ويتطور، وليس بالضرورة نحو الأفضل! إدوارد سعيد: الشعور بالحنين والشوق إلى الوطن كان من أولى ذكرياتي، ولطالما تمنيت أن أكون في مكان آخر. لكن مع مرور الوقت، صرت أشعر بأن فكرة الموطن والإنتماء إليه مبالغ فيها. هناك الكثير من العاطفية في فكرة "أرض الوطن" بشكل لا يروق لي البتة وفعليًا، التجوال هو ما أفضِّل فعله في الحياة، والسبب الذي يجعلني سعيدًا إلى هذه الدرجة في نيويورك أنها مدينة "حرباء" (متقلبة الألوان والأطوار). يمكنك أن تكون في أي مكان فيها من دون أن تكون منها. وأنا معجب بذلك من بعض النواحي.
عندما أسافر، خصوصًا عندما أعود إلى زيارة الأماكن التي ترعرعت فيها في الشرق الأوسط، أجد نفسي انغمر في شعور هائل بمقاومة العودة إلى هناك. على سبيل المثال، عندما عدت إلى القدس مع عائلتي عام 1992 وجدتها مكانًا مختلفًا تمامًا. لم أكن قد زرتها منذ خمسة وأربعين عامًا تقريبًا، ولم تعد قط المكان الذي أذكره، وبالطبع كانت فلسطين التي أمضيت فيها جزءًا من شبابي قد أصبحت إسرائيل. أنا لم أعش في الضفة الغربية، ولذلك فإن رام الله، وهي مكان رائع حيث احيا دانيال حفلة موسيقية في مبنى الكونسرفاتوار هناك قبل عام تقريبًا، هي في الحقيقة ليست وطنًا بالنسبة لي. أشعر فعلاً بأني في وطني في مكان مثل القاهرة حيث أمضيت معظم السنين التي أثَّرت في تكويني. وهناك شيء من الأزلية في القاهرة. إنها مدينة معقدة وممتعة عقليًا للغاية، وأخيرًا إن لهجتها المميزة هي التي تعجبني بعمق! أعتقد أن أحد الأمور المشتركة مع دانيال ولعنا بكل ما له علاقة بالسمع أكثر منه بالنظر. أسوة بدانيال، فإن الأشياء المادية في حد ذاتها لا تغويني، باستثناء أني أجمع بعض الأشياء. لديَّ مجموعة لا بأس بها من أقلام الحبر السائل لأسباب تتعلق بمهنة والدي. وكأحد أتباع كانط أكره الكومبيوتر. كما أجمع الغلايين والثياب، لكن هذا كل شيء. إقتناء الأشياء لا يدغدغ في ذاتي المشاعر نفسها كما في جامعي القطع الفنية أو البيوت أو السيارات. قرأت عن أشخاص لديهم خمسون سيارة. وهذا أمر لا أستوعبه البتة. ذكر دانيال – وقد أنهيت مذكراتي خارج المكان بفكرة مماثلة أعتبرها مهمة فعلاً – إن الشعور بالهوية مجموعة من التيارات، التيارات الجارية، أكثر منها بمكان محدد أو مجموعة ثوابت. ومن المؤكد أن ذلك ينطبق على تجربتي. دانيال: لا بد أن لفكرة "التيارات" هذه علاقة بالطريقة التي عشت فيها حياتك. لقد ولدت في القدس، التي كانت بريطانية آنذاك، وترعرعت في القاهرة التي كانت بريطانية في ذلك الحين، ثم أصبحت مصرية. وهاجرت إلى أميركا. إن نسبة عالية من اهتماماتك أوروبية، فالأمور التي تعنيك أكثر من غيرها – أي طريقة تفكيرك، وما تدرِّسه، وما تعرفه، ليس فقط في مجالات الأدب والفلسفة والتاريخ، بل والموسيقى – كل هذه الأمور أوروبية المنشأ. إذا كان المرء حيويًا في مهنة هي بالفعل أكثر من مجرد مهنة، بل نمط حياة، كما هي الحال بالنسبة لنا (لك ولي) – أي أكثر من مجرد دوام من التاسعة صباحًا إلى الخامسة بعد الظهر – تزول أهمية الجغرافيا. من المؤكد أنك عندما تقرأ غوته تشعر شعورًا غريبًا، كأنك ألماني، تمامًا كما أشعر وأنا أقود عزفًا لبتهوفن أو بروكنر. وكان هذا أحد دروس ورشة العمل التي نظمناها في فايمار. وعلى وجه التحديد، أرى أنه ليس فقط من الممكن أن يكون للمرء هويات متعددة، بل وأضيف أيضًا، إنه لأمر يحبَّذ الطموح إليه. فالإحساس بالإنتماء إلى ثقافات مختلفة ليس سوى إثراء الشخص المعني. آرا غوزليميان: دعونا نتكلم عن ورشة العمل في فايمار. في عام 1999 تعاونتما في مدينة فايمار الألمانية، والتي كانت آنذاك عاصمة أوروبا الثقافية، وهو شرف يُمنح سنويًا لمدينة مختلفة بالتناوب. وفي الذكرى الـ250 لميلاد غوته، وفي مدينة لها علاقة وثيقة به، جمعتم موسيقيين عربًا واسرائيليين، بالإضافة إلى عدد أقل، من الموسيقيين الألمان، للعزف معًا في فرقة اوركسترا. أود أن أسألكما: ما الهدف الذي كنتما تطمحان إلى تحقيقه، وفي النهاية ما الذي تشعرون أنكم حققتموه؟ ادوارد: لقد كانت إلى حد ما تجربة جريئة. كانت هنالك محاولات مشابهة في السابق – أعلم أن ألمانيا دعت موسيقيين من دول عربية وإسرائيل للعزف معًا في مخيمات للموسيقى، ولإحياء حفلات – لكن الجديد في تجربة فايمار كان، أولاً، في مستوى المشاركة على صعيد القيادة: فقد تضمَّنت دانيال ويو يو ما. ولا يمكنك أن تجدي موسيقيين أفضل منهما لقيادة مجموعة مثل هذه. وراوحت أعمار معظم المشاركين بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، رغم أني أذكر عازف فيولونسيل عمره أربع عشرة أو خمس عشرة سنة، وهو فتى كردي من سوريا. استغرق التحضير للحدث وقتًا طويلاً. وبالطبع، احتاج الموضوع لاختبار أداء أولئك الموسيقيين. ولم يكن مستغربًا، على الأقل في بعض الدول العربية، أن يُطرح التساؤل: هل ستسمح الحكومات للطلاب بالمشاركة؟! في النهاية، حضر الجميع، بمن فيهم مجموعة من سوريا، ومجموعة من الأردن، وواحدة من الأراضي الفلسطينية، وأخريات من إسرائيل ومصر ولبنان، وربما من دولة أو اثنتين أخريين. كان لدينا افتراض بأن هذا البرنامج ربما يكون طريقًا بديلاً لصنع السلام. فعملية السلام، كما قلت مرارًا وتكرارًا في السابق، لم تجن الثمار المرجوة. لكن، لا أعتقد أن إنقاذ عملية السلام كان هدفنا الرئيسي. من وجهة نظري، الفكرة كانت في أن نرى ماذا سيحدث إذا جمعنا هؤلاء الشباب ليعزفوا في فرقة اوركسترا في فايمار بروح غوته الذي كتب مجموعة هائلة من القصائد انطلاقًا من حماسته للإسلام. اكتشف غوته الإسلام من خلال مصادر عربية وفارسية – فقد أحضر له جندي ألماني، شارك في الحملات الإسبانية في بداية القرن التاسع عشر، صفحة من القرآن. وقد سُحر غوته بها. باشر دراسة اللغة العربية، لكنه لم يستمر طويلاً. ثم اكتشف الشعر الفارسي فألَّف تلك المجموعة الرائعة من القصائد حول "الآخر" فعليًا، فكان الديوان الغربي الشرقي Westostlicher Diwan، وهو، في رأيي، فريد من نوعه في الثقافة الأوروبية. وتلك كانت الفكرة وراء هذه التجربة. إضافة إلى ذلك، وتحت هذا الغطاء أردنا أن نجمع الموسيقين في فايمار، وهي قريبة جدًا من بوشنفالد، معسكر الموت الفظيع. وفي الحقيقة، لقد تم اختيار مكان المعسكر عمدًا، وعن قصد، ليكون قريبًا من فايمار التي تحيط بها هالة رومنسية، وضعتها على رأس هرم الثقافة الألمانية: غوته، شيلر، فاغنر، ليست، باخ، جميعهم عاشوا فيها. ولم يستطع أحد أن يستوعب ذلك الجوار بين الروعة والرعب! كانت هناك بروفات (تمرينات) يومية للاوركسترا، في الصباح وبعد الظهر، تحت قيادة دانيال طبعًا. وكانت هناك بروفات لفرق الموسيقى الحُجرية، ودروس موسيقى، وكلها في آن واحد. هؤلاء الطلاب، الذين لم يروا بعضهم البعض من قبل، كانوا يلتقون في المساء في ليال عدة في الأسبوع. كنا نقوم بنقاشات بقيادتي حول الموسيقى والثقافة والسياسة وأي شيء يخطر على البال، لم يكن أي منا يشعر بأنه تحت أي ضغط للسكوت عن أي شيء. وبما أن المجموعات كانت مختلفة تمامًا، لم يكن هناك إمكان لإخفاء أي عدائية أو ود، كان العداء والود ظاهرين دائمًا. الشيء الوحيد الذي لم يحصل هو الصدام السياسي المباشر، حيث كان لدينا عُرف غير مكتوب حول ذلك على الأقل أثناء النقاشات المسائية. أذكر النقاش الأول بالتحديد، لأنه بلور كل التوترات التي كانت على بال الجميع. بدأ الحوار بسؤال أحدهم للمجموعة: ما شعور الناس حول كل هذا الموضوع؟ رفع أحد الفتية يده وقال: أشعر بالتمييز ضدي، لأني حاولت الانضمام إلى مجموعة من الشباب كانوا يعزفون عزفًا ارتجاليًا، لكنهم لم يدعوني أشاركهم. فسألته: ما الذي حدث بالضبط؟ ففسر لي عازف كمان لبناني الموقف: المشكلة أنه بعد انتهاء البرنامج اليومي، وفي المساء، حوالي الساعة الحادية عشرة، تجتمع مجموعة منا ونعزف موسيقى عربية ارتجالية. فاستدرت نحو الفتى الأول وطلبت منه أن يشرح لي المشكلة. فقال لي: أنا الباني، أنا من اسرائيل، لكن في الأصل من البانيا، وأنا يهودي، وهم قالوا لي أنت لا تستطيع أن تعزف الموسيقى العربية. فقط العرب قادرون على عزف الموسيقى العربية. كانت تلك لحظة استثنائية وفي غاية الأهمية. يا له من جدال معقد حول من يستطيع ومن لا يستطيع عزف الموسيقى العربية! كانت تلك مشكلة فعلاً. وبالطبع، طرح السؤال التالي نفسه: ما الذي يعطيكم الحق في عزف موسيقى بتهوفن؟ أنتم لستم ألمانًا. إذًا، هذا النقاش لن يؤدي إلى شيء. وكان هناك ضمن الحضور عازف فيولنسيل اسرائيلي بالإضافة إلى كونه جنديًا، وكان يواجه صعوبة في الحديث باللغة الإنكليزية، فطلب منه دانيال أن يتكلم العبرية. فقال ما مضمونه: أنا هنا لأعزف الموسيقى. ولا تهمني كل الأمور الأخرى التي تحاولون أنتم أن تفرضوها علينا بهذه النقاشات حول الثقافة. أنا هنا لأعزف الموسيقى، ولا يهمني أي شيء آخر، وأنا محرج لأنه، مَن يدري، ربما يرسلونني إلى لبنان، وسأضطر لمحاربة بعض الناس الموجودين هنا. قال له دانيال: إذا كنت تشعر بالإحراج إلى هذا الحد، لماذا لا تغادر؟ لا أحد يجبرك على البقاء. لكنه بقي في نهاية المطاف. إذًا، ساد الجو شيء من التردد في البداية. لكن، بعد مرور عشرة أيام أصبح الفتى، الذي ادَّعى أن العرب وحدهم يستطيعون عزف الموسيقى العربية، يعلِّم يو يو ما كيف يدوزن الفيولونسيل على السلَّم الموسيقي العربي. فقد اقتنع إذًا بأن الصينيين قادرون على عزف الموسيقى العربية. وبالتدريج اتسعت الدائرة، وإذ بالجميع يعزفون معًا سمفونية بتهوفن السابعة. وكان ذلك حدثًا في غاية الروعة. وكان من المدهش أيضًا مشاهدة دانيال، وهو يمرِّن هذه المجموعة الرافضة لتصبح مقبولة الشكل والمضمون. فالمشكلة لم تكن فقط في أن الإسرائيليين والعرب لا يحبون بعضهم البعض. كان هناك بعض العرب الذين لا يحبون عربًا آخرين، وإسرائيليون لا يحبون البتة إسرائيليين آخرين. وكان من المدهش مراقبة تلك المجموعة، وهي تتحول إلى اوركسترا حقيقية، رغم توترات الأسبوع الأول أو الأيام العشرة الأولى. وفي رأيي الشخصي، ما رأيناه لم يكن له أي معنى سياسي إضافي. هويات مختلفة حلت محل هويات أخرى. كانت هناك مجموعة إسرائيلية، ومجموعة روسية، ومجموعة سورية، ومجموعة لبنانية، ومجموعة فلسطينية، ومجموعة من فلسطينيي إسرائيل. وكلهم أصبحوا فجأة مجرد عازفي فيولونسيل وكمان، يعزفون المقطوعة نفسها في الاوركسترا نفسها مع القائد نفسه. لن أنسى أبدًا نظرة الاندهاش التي رأيتها في عيون بعض الموسيقيين الإسرائيليين أثناء المقطع الأول من سمفونية بتهوفن السابعة حيث يقوم عازف المزمار بعزف مكشوف على سلم "لا ماجور" الكبير. فاستداروا جميعًا لمتابعة طالب مصري يعزف على مزماره عزفًا مثاليًا على هذا السلَّم – الذي استطاع دانيال أن يستخرجه منه. فكان تحوُّل هؤلاء الفتية من حالة إلى أخرى حتميًا ولا محالة. دانيال: ما بدا خارقًا للعادة بالنسبة إليَّ كان مدى الجهل الموجود حيال "الآخر". الفتية الإسرائيليون ما كانوا ليتخيلوا أن هناك أناسًا في دمشق وعمان والقاهرة يتقنون فعلاً العزف على الكمان أو الفيولونسيل. وأعتقد أن الموسيقيين العرب كانوا يعرفون أن هناك حياة موسيقية في إسرائيل، لكنهم لا يعرفون الكثير عنها. وقال لي أحد الفتية السوريين إنه لم يقابل إسرائيليًا من قبل، وإن الاسرائيلي، بالنسبة إليه، يشكل مثالاً سلبيًا على ما قد يحصل من سوء لبلاده وللعالم العربي. والفتى ذاته وجد نفسه يشارك عازف فيولونسيل إسرائيليًا منصبًا موسيقيًا. وكانا يحاولان عزف النوتة نفسها، وأن يعزفا بالحيوية نفسها، وبحركة القوس نفسها وبالصوت نفسه، وبالتعبير نفسه كانا يحاولان أن يفعلا شيئًا ما معًا. بكل بساطة كانا يحاولان أن يفعلا شيئًا معًا، شيئًا كلاهما متحمس له. وفعلاً، بعد عزف تلك النوتة الواحدة، تغيرت نظرتهما إلى الآخر لا محالة، فقد عاشا تجربة مشتركة. وهذا، بالنسبة إليَّ أهم ما حدث في ذلك اللقاء. في عالم السياسة اليوم، وفي أوروبا خاصة – لا أريد أن أقول شيئًا عن السياسة الأميركية لأنني لا أعرف ما يكفي عنها – ما زال القادة يتصرفون كأنهم يحكمون العالم، بينما هم في الواقع لا يسيطرون على أي شيء تقريبًا. يبدو لي أن السياسيين غير مؤثرين البتة، وللتعويض عن ذلك يبالغون في اظهار الثقة بالنفس أمام الجمهور. من الواضح أن المال يستطيع شراء أشياء كثيرة، بما فيها القليل من الإرادة الطيبة أحيانًا، ولفترة قصيرة. لكن الحقيقة تبقى أنه إذا أردنا ايجاد حلول للصراعات يومًا ما، فسيكون ذلك من خلال الاحتكاك والتواصل بين الأطراف المتنازعين. والمنطقة التي نتكلم عنها – الشرق الأوسط – صغيرة جدًا. الاحتكاك حتمي. والامتحان الحقيقي لاحتمال الحل السلمي لن يكون متعلقًا فقط بالدولارات، وبحلول سياسية حول الحدود. الامتحان الحقيقي هو إلى أي مدى سيكون الاتصال المباشر مثمرًا على المدى البعيد. إني مقتنع بأنه من خلال الثقافة – من خلال الأدب – وما هو أفضل، من خلال الموسيقى، لأنها لا تتعامل مع الأفكار المحددة – إذا رعينا هذا النوع من الاحتكاك، سنساعد الناس في الشعور بأنهم أقرب بعضهم إلى البعض، وهذا كاف! ادوارد: إن أحد الأمور المذهلة في عملك هو أنك تعمل كمترجم وكعازف في آن واحد، كفنان يهمه التعبير عن ذات الآخرين ربما أكثر من التعبير عن ذاته. وهذا هو التحدي الحقيقي. والمثير للاهتمام لدى غوته – وكذلك في تجربتنا في فايمار – أن الفن، خصوصًا بالنسبة إلى غوته، كان في الأساس رحلة إلى "الآخر" وليس تركيزًا على الذات. وهذه النظرة لا تؤيدها اليوم إلا قلة. اليوم يتم التركيز أكثر على الهوية، على الحاجة إلى الجذور، على قيم ثقافة المرء وإحساسه بالإنتماء. أصبح من النادر توجيه النفس إلى الخارج، لتكون هناك رؤية أوسع. خلال عملك كعازف يا دانيال وخلال عملي كمترجم – مترجم للأدب والنقد الأدبي – يجب علينا أن نتقبل فكرة وضع هويتنا على الرف كي نستطيع استكشاف "الآخر". دانيال: كثيرًا ما أشعر اليوم – خصوصًا في عالم الموسيقى (خصوصًا وليس حصرًا) – بأن الخيارات مطروحة بشكل خاطىء. دعنا نعود إلى جوهر الموضوع، صوت الاوركسترا. كثيرًا ما تسمع: إنه لمن المؤسف أن فِرق الاوركسترا الفرنسية أضاعت الصوت الحاد للزّمخر bassoon الفرنسي. وذلك لأنهم يعزفون اليوم على الزّمخر الألماني. وفرق الاوركسترا الأميركية تستخدم في عزفها أحيانًا البوق trumpet والمترددة trombone الألمانية. وفرقة "فيلهارموني التشيكية" صوتها شبيه بفرقة "سيدني سمفوني" والخ. ما أسوأ العولمة، هذا ما يقوله الناس. وكأنه يجب أن تكون فرنسيًا كي تعزف صوتًا أنفيًا حادًا أو ألمانيًا كي تعزف صوتًا ألمانيًا. هذه هي البدايات الحقيقية لزوال التسامح الثقافي. فعلاً، هناك فرق بين التعاطف مع التراث الوطني والأفكار الخيالية حول الدولة–الأمة. لم يكن أي خلل في شعور الألمان عام 1920 بأن هناك شيئًا ثقافيًا ألمانيًا بحتًا في بتهوفن وبرامز. أستطيع أن أتفهم ذلك من دون إشكال. لكن قدرتي على التفهم تتلاشى عندما يدَّعون أن الآريين وحدهم يستطيعون فهم بتهوفن والتمتع به. وأعتقد أننا في الطريق إلى ذلك مجددًا. أما الولايات المتحدة فقد أثبتت عكس ذلك، لأن أبرز الموسيقيين الأميركيين لا يتعاملون مع الموسيقى على المستوى الثقافي. بكلمات أخرى، إن أي موسيقي ألماني عظيم سيكون لديه ردة فعل فطرية عميقة على بتهوفن وبرامز اللذين تربى عليهما. إنها مسألة تكاد تكون متوارثة ونابعة من الجذور، من الروح. ولن يكون هذا الشعور لديه لدى التعامل مع "البحر" لدوبوسي، حتى لو كان يؤديه بروعة. أما بالنسبة إلى الموسيقي الأميركي، فإن بتهوفن و"البحر" هما بالبعد أو القرب نفسه، وفقًا لموهبته أو معرفته. وربما لهذا السبب، لدى كل منا القدرة على أن نكون أشياء كثيرة. ترجمة: نائلة قلقيلي *** *** *** |
|
|