|
الإسلام وحقوق الإنسان
الموضوعة التي نحن بصددها موضوعة إشكالية وشائكة، محفوفة باتهامات التكفير، إذ هل من المعقول غبّ أكثر من ألف وأربعمائة عام للهجرة، شهدت ما شهدت من شد وجذب، وعرفت تيارات فكرية وسياسية لاتعد، تمحورت في خلاصتها حول تاريخ الدولة الإسلامية، بما هو شأن بشري، وشكّلت المنظومة الدينية الإسلامية بقراءاتها المختلفة مظلتها الأيديولوجية؛ نقول هل من المعقول أن يأتي من يحاول أن يلفق أو يوفق بين الإسلام بما هو تسليم، وحقوق الإنسان بما هي شرعة دولية تتكىء على ميثاق الحقوق السياسية والمدنية، ثمّ لاحقًا على ميثاق حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، من غير أن يطاله - على الأقل - التشكيك في موضوعية طرحه، ومن ثمّ حياده!؟ بمعنى آخر، هل نسلّم بما قاله الكاتب نبيل فياض بأنّ ديموقراطية الإسلام وحرية الرأي فيه خرافة، أم ننظر إلى الأمر من زاوية أخرى، زاوية الواقع الموضوعي، الذي يرى في الإسلام محركًا لمليار ومئتي مليون على الأقل، وبالتالي نحاول أن نؤسس للعنوان الإشكالي، عن طريق نزع القداسة التي سحبت ظلها على تاريخ الدولة الإسلامية حتى لكأنّها جزء من المقدس الإسلامي، أي من النص القرآني الكريم، والسنّة النبوية الشريفة، أي من الإسلام كدين!؟ وإذن هل نذهب مع نبيل فياض إلى أنّ تحطيم الأصنام كان تحطيمًا للتعددية المكية، التي تقبل الآخر بدون تحفظ! وذلك لصالح إله واحد لايقبل بأي حال وجودًا لغيره!؟ أم نذهب إلى أنّ الله ضرورة، حتى، على المستوى الفلسفي/الديني/السياسي، لأنّه يؤسس للمطلق، وما دونه، حتمًا، سيكون آنئذ نسبيًا، وإلا فإن كل منّا سيحول نسبيته إلى مطلق، ما يؤسس للاستبداد على المستوى السياسي بحسب المفكر الياس مرقص، وفي أكثر من مكان في كتاباته!؟ ربما كان من الأولى أن نبدأ من حيث انتهينا، أي من المستوى الفلسفي، الذي يرى في الله ضرورة كمطلق، ليتحدد في ضوء هذا المطلق النسبي، فيكون كل ماعداه نسبيًا. ولا يذهب أحدنا إلى أنّ نسبيته مطلقة، وإذا كانت الفكرة هذه حديثة، ولا تصلح كتفسير لنشوء الأديان، فلاشك في أن الإنسان كان بحاجة إلى وضع تصور للكون، أوصله إلى فكرة الخالقين المتعددين، فالخالق الواحد؛ ووضعه على تخوم فكرتين هامتين في عالم يفتقد إلى التوازن على مستويات عدة؛ الأولى هي فكرة البعث كمعادل موضوعي للخلود غير المتاح عمليًا، وإذن فالإنسان سيبعث بعد الموت ليحاسب على جنى عمره من خير وشر، ما أسّس لموضوعة الرادع، وأراح الإنسان من خوفه من الموت كنهاية حتمية للحياة؛ والثانية هي فكرة الإرجاء التي تمّ التعبير عنها بالقول بأنّ الله يمهل ولكنه لا يهمل، وهي فكرة أخرى هامة وجوهرية في الفكر الإنساني تتمثّل في بحثه عن المعادل المُؤجّل للعدالة، فهي تنضوي على موضوعة عدالة متحققة ولو بعد حين، وعلى أنّ حق هذا الكائن الذي لم يتمكن من التحصّل عليه في الحياة الدنيا، ما هو إلا تحصيل حاصل في الحياة الآخرة، القائمة - أساسًا - على فكرة العدل. إنّ الإسلام، وهو يتشكل كدين، ثمّ كدولة امتدت من حدود الصين إلى الأندلس، وتسللت عن طريق التجارة إلى إندونيسيا، وجنوب الفليبين، وأفريقيا جنوب الصحراء، وأجزاء من أوروبا؛ يفرض علينا النزوع الثاني، على احترامنا لرأي الفياض، بمعنى أنّه يفرض علينا أن نتعامل معه كمحرك أساسي لأكثر من مليار ومئتي مليون إنسان، ولكن بعد نزع القداسة - التي سحبت ظلّها من الإسلام كدين - على تاريخ الدولة الإسلامية، فتعامل معها على أنها جزء من المقدس الديني، مع أنها شأن مغرق في الحياة الدنيوية. إننا إذا نجحنا في عملية الفصل - الميكانيكية - بين الإسلام كدين، وتاريخ الدولة الإسلامية، في سياقها بما قبل، فلا يُقزّم الجاهلي لصالحها، ولا ترْفَضُ فكرة التطور كسنة للحياة، بما يطرح علينا مسائل جديدة، تعيد للاجتهاد مكانته، وضرورته، ليقف إزاء النصّ المُقدّس والسنة والحديث غبّ أن يُغربلا، كضلع ثالث لا يكتمل الثالوث أو المُثلث إلاّ به؛ نقول إذا تأتّى لنا إنجاز صعب ومديد كهذا، فسنكون - حتمًا - أمام نظرة أخرى إلى الصراعات والتيارات الفكرية والاجتماعية والسياسية، التي مارت بها الدولة الإسلامية؛ أي أنّه سيتمّ التعامل مع هذا التاريخ كشأن دنيوي، وأنّه كتاريخ أي دولة له مظلته الأيديولوجية، وهي هنا تتمثّل في الإسلام. ولكن هذا ليس من صلب دراستنا. ولو تأملنا الآية التالية لتبيّن لنا، وبوضوح، أن الهداية إنما هي من الله، إذ يقول عزّ وجلّ: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" - 99، سورة يونس. لقد سمح المسلمون للنصارى واليهود والصابئة وسواهم بالعيش معهم بما يؤكّد على فكرة تومئ - من بعيد - إلى حجر الزاوية في حقوق الإنسان، أي إلى جنين ديموقراطي يسمح للآخرين بحقّ الاختلاف، ممّا يؤسّس لفكرة جوهرية على مستوى الفلسفة هي فكرة الحرية، التي تتمفصل تمفصلاً جوهريًا مع فكرة المسؤولية، ويجعل الاختلاف في العقائد أمرًا يُفْصَل فيه يوم القيامة: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" - 62، البقرة. وهذا يعني أنّ مسألة الإيمان والكفر إنما هي محض مسألة شخصية، أي أنّها ليست من قضايا النظام العام "لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" - 256، البقرة. ممّا يدفعنا بعيدًا عن المدرسة الجبرية، على الرغم من أنّ اقرارنا بأنّ الهداية إنما هي من الله بما هو خالق: "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" - 272، البقرة؛ إلى الإيمان والموافقة على القول بأنّ الإسلام يكفل للبشر حرية اختيار عقادئهم. ربّ قائل: ولكنّ القرآن الكريم بقضّه وقضيضه إنّما هو موضوع العلاقة بينه وبين السماء، وهذا قد لا يحتاج منّا أن ننصّب أنفسنا حماة عن فكرة تنزيل القرآن من غيرها، بل سنقول إن ما يهمنا من هذا الموضوع - على أهميته - هو أنّ النص الذي نحن بصدده يذهب إلى ما ذهبنا إليه من أفكار وموضوعات، وأنّها ليست الدلائل الوحيدة في النص القرآني؛ إذ ماذا نقول - على سبيل المثال لا الحصر - في الآية "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكّلت واليه أنيب" - 10، الشورى!؟ ثمّ ماذا عن السنة والحديث!؟ ماذا عن "صحيفة الموادعة" التي أبرمها الرسول ص مع اليهود، وماذا فعل بعبد الله بن أبيّ، الذي انخذل بثلث الجيش، ولم يخرج بهم مع المسلمين يوم أحد، أوليس هؤلاء هم المنافقون الذين قالت فيهم الآية "آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثم ازدادوا كفرًا"؛ فماذا فعل بهم الرسول ص؟! ألم يحسن إلى ابن أبيّ، وطالب بإحسان صحبته على أن يأتوه برأسه كما ارتأى بعضهم!؟ وحتى في موضوعة الارتداد: ترك الرسول ص رجلاً كان قد ارتدّ، وكان من كتبة الوحي، لم يتورع عن القول "لا يدري محمد إلا ما كتبته له". نقول قَبِل الشفاعة فيه إلى أن مات على فراشه - هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخاري! أما الموضوعة شديدة الحساسية والخصوصية، بآن واحد في الإسلام، فهي قضية المرأة، إذ تسيطر على هذه القضية النزعة الذكورية الانتقائية فـ "الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله..." - 34، سورة النساء. ونذهب في هذه القضية إلى أن "فضّل" هنا هي فعل تفضيل مؤسّس على الأحسن لا الأكثر تقوى، وهذه إحدى القراءات التي يقول بها علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، فالقرآن حمّال أوجه! لقد فضلّت هذه القراءات الانتقائية ما يلائم هواها في القوامة، أو في تعدّد الزوجات، إذ غابت الآية الكريمة "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كلّ الميل..." - 129، سورة النساء، لمصلحة الآية الكريمة "وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع..." - 3، سورة النساء، مع أنّ الآيتين من سورة واحدة هي سورة النساء، كما أنّ الآية الأولى تلي الأخيرة بآيات عدة. وبذلك فضّلت النظرة إلى المرأة على أنّها عورة، فحجبتها خلف الجدران، وأبعدتها عن الحياة العامة، ما يناقض صورة خديجة بنت خويلد - زوجة الرسول ص - مثلاً، أو خولة بنت الأزور. فالأولى كانت تاجرة تجالس الرجال في مصلحتها، والثانية كانت مقاتلة كالرجال، أو ربما أشدّ. ومن هنا - ربما - اكتسبت الدراسات التي أنجزها نصر حامد أبو زيد أهمية كبيرة، فبحسبه تنسخ الآية الأولى الآية الثانية لأنّها تنزلت بعدها بمدة، إذ من المستحيل أن يتناقض النص القرآني، وهو المتنزل من مصدر إلهي! إننا نرى بأنّ الرجل اشتغل من داخل النص، واجتهد كمسلم في زمن أغلق البعض فيه باب الاجتهاد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر أنّه اجتهد. ولكن البعض الذين أغلقوا باب الاجتهاد، وكفّروا الرجل، وسمحوا لأنفسهم ما حرموه على غيرهم، أفتوا بطلاق زوجته، وأكرهوه على المغادرة إلى أوروبا، بيد أنّهم كانوا ذوي قراءات أخرى خاطئة في اعتقادنا. أمّا ما يؤكّد رأينا - بحسبنا - فهو أنّه سبق للأئمة وسائر المسلمين العمل بمبدأ الناسخ والمنسوخ، إذ كان بعضهم قد أقدم على الصلاة وهم سكارى، فأخطؤوا فيها، فتنزلّت الآية الكريمة "ولاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى..." - 43، سورة النساء، وعُمل بها، إذ امتنع المسلمون عمّا نهت عنه، إلى أن تنزلت الآية الكريمة "إن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه"، فأبطلت العمل بالآية الأولى. إن ما أتينا عليه - بحسب البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان، ص 12 - حقوق شرّعها الله عزّ وجلّ، فليس من حق بشر أن يعطلّها، أو يعتدي عليها، ولا تسقط حصانتها الذاتية، لا بإرادة الفرد تنازلاً عنها، ولا بإرادة المجتمع ممثّلاً في ما يقيمه من مؤسسات أيًّا كانت طبيعتها، وكيفما كانت السلطات التي تخوّلها، ما يضعنا على طريق: 1. مجتمعٌ الناس فيه سواء لا امتياز ولا تمييز. 2. مجتمع المساواة فيه أساس التمتع بالحقوق. 3. مجتمع حرية الإنسان فيه مرادفة لمعنى حياته. 4. مجتمع يتساوى فيه الحاكم والرعية أمام شريعة من وضع الخالق - سبحانه -. 5. مجتمع السلطة فيه أمانة في عنق الحاكم دون امتياز أو تمييز. 6. مجتمع تقرر فيه السياسات التي تنظم شؤون الأمة بالشورى. 7. مجتمع تتوافر فيه الفرص المتكافئة، فيتحمل كل فرد فيه المسؤوليات بحسب قدرته وكفاءته. 8. مجتمع يقف فيه الحاكم والمحكوم على قدم المساواة أمام القضاء. 9. مجتمع كلّ فرد فيه هو ضمير مجتمعه. 10. مجتمع يرفض كلّ ألوان الطغيان، ويضمن لكل فرد الأمن والحرية والكرامة والعدالة - من البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان، ص 12- 15. وبذلك فان الإسلام ينادي بحق الإنسان في الحياة، وحقه في الحرية والمساواة والعدالة، إلى جانب حقه في محاكمة عادلة أو حمايته من تعسف السلطة، وحمايته من التعذيب، من غير أن ينسى حقه في حماية عرضه وسمعته، كما يعطيه حق اللجوء إلى حيث يأمن في نطاق دار الإسلام، هذا إضافة إلى حقوق الأقليات وحق المشاركة في الحياة العامة، وحرية التفكير والاعتقاد والتعبير، والحرية الدينية، والحقوق الاقتصادية، بما فيها حق حماية الملكية، وحقوق الزوجة والتربية وحماية الخصوصيات، وحق الحرية في الارتحال "البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان، مؤسسة فوزية وجمال البنا، بتصرف، ص 16-33". لقد أتينا على الحقوق الواردة في هذا البيان من باب التعداد دون الغوص فيها لضيق في الوقت والفسحة المتاحة، لكنها تحاول أن تدلل بأنّ الإسلام حرية، والحرية أساس في الديموقراطية، وهو بالتالي مسؤولية، وقد لا تعادل مواده الشرعة الدولية، لكنها - في أهدافها، كما هو واضح - تعاضدها، وتصلح أساسًا للبناء عليها. إننا، في سعينا لتلمس حقوق الإنسان في الإسلام، لم نكن نسعى للرد على أحد، ولا للنيل من آراء أحد. أما مسألة نزع القداسة التي سحبت ذيلها من الإسلام على تاريخ الدولة الإسلامية فقد نأتي عليها في مكان آخر، ومناسبة أخرى. بقي أن نقول إن ما "اقترفناه" هو محض وجهة نظر، وهي كأية وجهة نظر تحتمل الخطأ تمامًا كما تحتمل الصواب. *** *** ***
|
|
|