سيكولوجية القراءة

 

د. نزار عيون السود

 

مقدمة

القراءة ظاهرة اجتماعية - سيكولوجية معقدة، وقد كانت في الأساس موضوعًا من المواضيع التي تبحثها التربية، وقد ظلت المشاكل المتعلقة بالقراءة مدة طويلة من الزمان من اختصاص رجال التربية وحدهم. ورغم التقدم النسبي الكبير الذي أحرزته الدراسات التربوية لظاهرة القراءة، إلا أنها لم توف هذه الظاهرة حقها، ولم تحط بها من جميع الجوانب، ولهذا أخذت علوم أخرى كثيرة تبحث هذه الظاهرة المعقدة، وعلى رأسها العلوم النفسية مثل علم النفس اللغوي، وعلم النفس القرائي وغيرهما من فروع علم النفس.

لقد اجتذبت ظاهرة القراءة اهتمام الباحثين النفسيين والتربويين، فوضعوا لها النظريات المختلفة، وأشاروا إلى الصلة الوثيقة بين سيكولوجية القراءة ومسألة الاستيعاب، وطرحوا مجموعة من الأسئلة الجوهرية حول هذه الظاهرة، مثل:

-       هل يستوعب القارىء الواحد كل كتاب بصورة متماثلة؟

-       ما هي أسباب الاستيعاب الناقص أو غير الصحيح؟

-       ما هي حدود الإمكانات الفردية للاستيعاب؟

-       ما هي العوامل السيكولوجية الحافزة للقراءة؟

-       ما هي النماذج السيكولوجية للقراّء؟

-       ماهي العلاقة بيت التفكير والقراءة؟

وسنحاول فيما يلي التعرف على آراء العلماء والباحثين حول هذه المسائل.

ينظر العالم الروسي ل. أوشينسكي إلى الكلمة على أنها أداة التفكير الرئيسة، وواسطة نقل القيم الروحية للإنسانية من جيل إلى آخر، وأكد على الإمكانية المبدئية للفهم الفوري لمعاني الكلمة المجردة. ولهذا فهو يرى أن القراءة، واستيعاب المادة المقروءة، تعد عملية معرفية حتمية للنفس الإنسانية؛ ويرى أن مبادىء التعلم، كالوضوح والتتابع المنطقي واتساق المعنى وسهولة الفهم، هي مبادىء أساسية لابد منها عند وضع أي كتاب للقراءة[1].

وتطرق علماء آخرون إلى هذا الموضوع، ونظروا إليه من زوايا أخرى. فقد عالج الباحث آ. بوتيني - مؤسس الاتجاه السيكولوجي في علم اللغة في روسيا - مسائل الإبداع الشعري، ورأى أن عملية الفهم، أي الفعالية العقلية، هي العملية الرئيسة في استيعاب الصور الفنية الشعرية، ورأى الأهمية المعرفية للصورالفنية في أنها تحفّز حركة الفكر والسعي إلى الإحاطة بحلقة واسعة من الظواهر المرتبطة بها. أما المربية الروسية ن. كروبسكايا فقد طرحت مسألة هامة وهي ضرورة دراسة الاهتمامات المختلفة للقرّاء، وعالجت مسألة الفروق الفردية السيكولوجية في الاستيعاب، وأنماط التفكير المختلفة لدى القراّء كالنمط التجريدي والنمط الصوري وغيرهما. وأشارت إلى حقيقة رئيسة وهي أن الكتاب الواحد يقوّم تقويمًا مختلفًا باختلاف القارىء. واهتمت اهتمامًا كبيرًا بدور الأدب الروائي والفنون الأخرى في تلبية حاجات الناس الاجتماعية، وتنمية قدرة القارئ على التعبير عن أفكاره وعواطفه، وعلى التواصل مع الناس الآخرين[2].

1. نظريات سيكولوجية القراءة

ظهرت في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين مجموعة من النظريات التي تعالج مسألة سيكولوجية القراءة في روسيا وفي دول أخرى، وأهم هذه النظريات:

1. 1. نظرية بيختيريف الانعكاسية في القراءة:

تعالج نظرية بيختيريف الكتاب والقراءة عامة، من حيث هي مثير يسبب استجابات معينة في العضوية. ومن بين هذه الاستجابات التي تظهر أثناء القراءة: عمليات التركيز الخارجي والداخلي التي يقوم بها القارىء، والتقليصات الضعيفة للروابط الصوتية الدالة على وجود كلام داخلي - "نطق" ذهني للكلمات أثناء القراءة.

من بين عيوب هذه النظرية أنها خلت من أي تحليل للعمليات المرتبطة باستيعاب مضمون النص، وهو لا يتحقق إلا من خلال دراسة نظرية الفعالية التحليلية-التركيبية للدماغ التي صاغها سيتشنوف وبافلوف.

1. 2. نظرية روباكين:

لقد دعا روباكين إلى تأسيس فرع مستقل في علم النفس باسم "علم النفس المكتبي"، وذلك في كتابه ما هو علم النفس المكتبي ( لينينغراد، 1924). ونظريته في سيكولوجية القراءة عبارة عن تجميع انتقائي لنظريات متنوعة. فهو يستعرض بالتفصيل النظرية الانعكاسية للقراءة، ولا ينظر إلى الكلمة على أنها إشارة ذات معنى تعميمي معين، بل ينظر إليها كمثير للفعالية النفسية غير الموجهة. ويفسر هذه الفعالية النفسية في ضوء نظرية غومبولت-بوتيني بصفتها فعالية بلا حدود مقيدة للفهم.

وقد عمم روباكين هذه النظرية على جميع أنواع الكتب، ولم يقصرها على الكتب الروائية كما فعل بوتيني؛ وبالتالي توصل إلى نفي كامل لإمكانية الفهم المتماثل لأية أقوال شفوية أو مكتوبة. ومن هنا يستنتج روباكين "إن للكتاب الواحد أو الكلام الواحد مضامين مختلفة بقدر اختلاف قرائه". ومن أجل تفسير خصائص الاستيعاب الفردية، يلجأ روباكين إلى نظرية العالم الألماني ريشارد سيمون، وهي نظرية الذاكرة الخليوية، والتي ترى أنه يحدث في الدماغ تراكم لآثار المثيرات السابقة، التي يشكل احتياطيها الذاكرة الخليوية Mneme، وتعني احتياطي التصورات الحياتية أو مضمون شعور الشخصية. وهذا يعني أن إثراء الشعور لا يتم عن طريق التفاعل المباشر مع العالم المحيط فحسب، بل وعن طريق الكتاب أيضًا.

إن نظرية روباكين في سيكولوجية القراءة تتناقض مع الحقائق العلمية الواقعية التي تقوم عليها، غير أن البذرة العقلانية في نظرية روباكين هي مبدأ صحيح معترف بصحته من قبل الجميع، وهو التنوع الفردي والفروق الفردية في الاستيعاب، والتأثير الكبير للمعارف والانطباعات الحياتية السابقة على استيعاب الفرد للكتاب وفهمه[3].

1. 3. نظرية فيغوتسكي:

في عام 1925 وضع عالم النفس الروسي البارز فيغوتسكي نظرية حول استيعاب الأدب الروائي. ينطلق فيغوتسكي من مقولة مفادها أن نفسية كل فرد مشروطة اجتماعيًا في جميع مظاهرها، بما في ذلك عواطفها ومشاعرها.

ينظر فيغوتسكي إلى الأدب والفن باعتباره فكرًا، مؤكدًا خلال ذلك على وظيفته الاجتماعية الخاصة. حيث أن الفن ينظم مجالاً خاصًا من نفسية الإنسان ككائن اجتماعي، وهو مجال العواطف. إن آلية تأثير العمل الأدبي تكمن في إثارة المشاعر والعواطف المتضاربة، حيث يحدث تبدل نوعي في المشاعر والعواطف فتتحول من عواطف فردية إلى عواطف جماعية واجتماعية.

إن فيغوتسكي ينظر إلى العمل الأدبي بصفته "منظومة من المثيرات المنظمة بصورة واعية مقصودة، بحيث تثير استجابات جمالية"[4]. وانطلاقًا من هذا الفهم لتأثير الفن والأدب، يختار فيغوتسكي التحليل الموضوعي للمؤلفات الأدبية كطريقة للبحث، ويكشف عن خصائص تأثير الشكل والمضمون اللذين تحقق بوساطتهما المؤلفات الأدبية والفنية تأثيرها الانفعالي.

لعل الجانب القوي من نظرية فيغوتسكي يكمن في إثبات ضرورة التحليل الموضوعي للمؤلفات الأدبية، لكن فيغوتسكي يقصر تأثير الفن والأدب على الجانب الانفعالي، وهذا يحدّ كثيرًا من وظيفة الفن والأدب الاجتماعية، حيث أنه لا يصح نفي الدور المعرفي للفن والأدب وتأثيره في تكوين الشعور[5].

1. 4. نظرية فالغاردس:

في الثلاثينات من القرن العشرين نشر الباحث كتابًا بعنوان لمحات في سيكولوجية القراءة (موسكو، لينينغراد، 1931)، عرض فيه نظريته في سيكولوجية القراءة. وينظر فالغاردس إلى القراءة باعتبارها عملية ذا طابع اجتماعي من ناحية وسيكولوجي فردي من ناحية أخرى.

2. اتجاهات تطور سيكولوجية القراءة

2. 1. في روسيا:

منذ أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن العشرين بدأت الدراسة النفسية لعملية القراءة في الجوانب التالية مثلاً: استيعاب الأطفال من ذوي المراحل العمرية المختلفة للكتاب، دراسة الفئات العمرية المختلفة، تحليل استيعاب مختلف أجناس الأدب الروائي، فهم واستيعاب الأجناس المختلفة. وقد أثبتت الدراسات التجريبية مجموعة من القوانين أو العوامل الموضوعية والذاتية التي تتحكم في سيكولوجية القراءة. ومن بين العوامل الموضوعية المحددة لعملية الفهم: خصائص العمل الأدبي، وبنيته التركيبية، ومقدار تفصيل الصور الأدبية وإيضاح تفاصيلها ودقائقها. أما العوامل الذاتية (وهي الأهم بالنسبة لاستيعاب الأطفال) فتتمثل في تطابق الصور والشخصيات الأدبية مع التصورات الحياتية الواقعية، ومع الجو الانفعالي للأطفال، ودرجة نمو مهارات الاستيعاب الضرورية عند القراّء.

وقد أظهرت نتائج دراسة أنجزتها الباحثة نيكيفوروفا، بعنوان وظيفة الأدب الاجتماعية بالاقتران مع وظيفتيه المعرفية والتربوية، أن استيعاب النص الروائي يرتكز إلى عملية معقدة من التحليل المتعدد الجوانب له. وأكدت الباحثة أن هذا التحليل، الذي يتم غالبًا بصورة لا شعورية، ليس فطريًا ولا ولاديًا، بل يتكون في مسار الدراسة أو المطالعة الحرة. وينتج عن هذا أن التطبيق غير الصحيح للتحليل يؤدي إلى تشويه منظومة الصور والشخصيات الأدبية، وبالتالي يؤدي إلى الفهم الخاطىء للمضمون الفكري للعمل الأدبي.

وبالاعتماد على منجزات علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس اللغوي، وعلم السيميولوجيا Semiologie، ونظرية المعلومات؛ تطورت مجموعة من الفروع العلمية المتصلة بالقراءة والقراء وأهمها سيكولوجية القراءة وسيكولوجية القارىء. ومن أهم هذه الاتجاهات:

-       تعميق التمييز السوسيولوجي والسيكولوجي لدراسات القرّاء.

-       تأكيد الشرطية التاريخية لمعرفة علم النفس القرائي كتكوين كامل مستقل في وعي الفرد والجمهور لعملية القراءة.

-       وضع المفاهيم اللازمة للتحليل النظري لمكونات وظواهر علم النفس القرائي.

-       الانتقال من الوصف التجريبي المجزأ لبعض خصائص القراّء وعمليات القراءة إلى طرح تصورات ذهنية ونظريات وفرضيات تفسيرية لآليات عملية القراءة.

ولكن لا توجد حتى الآن نظرية سيكولوجية كاملة للقراءة، وهذا يرجع إلى الطابع المشترك لموضوعها ومادتها بين عدد من العلوم.

وقد عقد مؤتمر علمي في موسكو، بعنوان سيكولوجية القارىء والقراءة والعمل المكتبي الببليوغرافي، حيث ظهرت مجموعة من التقارير والدراسات التي تعكس الميل إلى استخدام مفاهيم علم النفس الاجتماعي وطرائقه في الدراسات والأبحاث القرائية التجريبية، فقد قامت الباحثة ت. نيفسترويفا بدراسة تجريبية لسمعة الكاتب بصفتها عاملاً مؤثرًا في علم النفس القرائي على تقويم واستيعاب المؤلفات الأدبية. وقامت الباحثة غ. براغينا بوضع مواصفات لخصائص التواصل بين القراء في الصفوف العليا المدرسية. كما أجرت الباحثة غ. أولتروغيفا دراسة تجريبية استخدمت فيها منهج السوسيومتريا في دراسة العلاقات بين القراّء في الجماعات الطلابية. كما توصل الباحث آ. ميلر إلى نتيجة عن الإمكانات العلاجية للأدب الروائي، وذلك من خلال إظهار تبدل دافعية القراءة والإدراك الفني أثناء مرض القارىء. وكانت أبرز مسائل سيكولوجية القراءة وعلم النفس القرائي التي طرحت في المؤتمر هي:

-       المسائل النفسية-الاجتماعية للقراءة وعلم النفس القرائي.

-       سيكولوجية القارىء.

-       التحليل النفسي للنص ولعمليات القراءة.

-       المسائل النفسية-التربوية للقراءة عند الأطفال.

-       سيكولوجية العمل الببليوغرافي والمكتبي.

-       تعليم القراءة الدينامية كطريقة شمولية لتطوير فعالية القراءة[6].

2. 2. في أوروبا وأمريكا:

لقد أدى نمو الأهمية الاجتماعية للكلمة المطبوعة في عالمنا المعاصر إلى ظهور عدد كبير من البحوث والدراسات في بلدان أوروبا وفي أمريكا بشكل خاص. وخلال الثمانين سنة الأخيرة نشر في العالم أكثر من 40 ألف بحث علمي مكرس لقضايا القراءة، وعقدت عدة مؤتمرات دولية نظمتها (IRA الرابطة الدولية للقراءة).

وتعالج هذه الدراسات دوافع القراءة، واهتمامات القراّء، واتجاهات القراءة الأدبية للأجناس الأدبية المختلفة. وتركز هذه الدراسات بصورة خاصة على الجانب السيكولوجي للقراءة وللقارىء، دون ربطهما غالبًا بمضمونهما الاجتماعي، أي تنظر إلى القراءة كظاهرة نفسية، وإلى القارىء كنمط نفسي قرائي معين، وتبين موقفه من القراءة.

وفي عام 1974 صدرت في ألمانيا (الغربية) موسوعة خاصة مكرسة لسيكولوجية القراءة ومسائلها Lesen- Ein Handbuch [7]. وهي مرجع أساسي يعالج بشكل عميق أهم جوانب سيكولوجية القراءة ومسائلها، ومن أهم مميزاتها توفير أعداد كبيرة من المراجع والتوثيق الدقيق لها، وانتقاء أهم مسائل سيكولوجية القراءة مثل تصنيف القراءة والقراّء، وتربية ثقافة القراءة، ونشوء وتطور الدراسات القرائية.

لقد كان علماء التربية أول من اهتم بالقراءة كمسألة علمية، حيث بدأوا بدراسة سيكولوجية القراءة منذ أوائل القرن العشرين، غير أنهم ركزوا الاهتمام في البداية على دراسة الآليات الخارجية للقراءة سعيًا إلى تحديد العلاقة بين انتقال النظر على النص المطبوع، ومعرفة الكلمات والجمل وفهم المادة المقروءة؛ كما حاولوا تحديد تأثير طراز الخط وحجم الأحرف، وطريقة ربطها، وتوزيع النص على الصفحة ... الخ، على معرفة الكلمات وسرعة القراءة وعلى إدراك معنى النص المقروء. ويرى عالم النفس الأمريكي م . تينكر M.Tinker أن محصلة هذه المرحلة "السيكولوجية الأولى" من دراسة القراءة اقتصرت بصورة أساسية على اكتشاف ثلاثة عوامل مؤثرة في إدراك النص، وهي:

1.    إن الحرف الأولى من الكلمة أهم - من أجل فهم النص - من الأحرف الأخيرة أو المتوسطة.

2.    إن طول الكلمة هو أهم معيار لشكل الكلمة القواعدي وبالتالي لمعناها.

3.    إن مراعاة السياق يسهل إلى حد كبير إدراك المعنى الدقيق للكلمات المتعددة المعاني.

وجنبًا إلى جنب مع الدراسات السيكولوجية والتربوية للقراءة، سارت الدراسات السوسيولوجية، التي انتشرت منذ الثلاثينات في الولايات المتحدة ومن ثم في أوروبا. وكانت تجرى هذه الأبحاث بطلب من دور النشر، وهدفها دراسة سوق الكتاب ووضعيته وإمكان توسيعه، أي إظهار: أي الفئات الاجتماعية التي تقرأ بصورة دائمة ومكثفة، وما هي الكتب الأكثر طلبًا. وعلى سبيل المثال: بطلب من ريدردايجست تم إجراء أكثر من استفتاء لعينة واسعة من القراء حول عدد من المطبوعات والوسائل الإعلامية ومدى شعبيتها. وفي عام 1938، أجريت دراسة لجماهير قراء مجلة لايف الأمريكية في الولايات المتحدة بالاعتماد على استفتاء عينة واسعة من القراء. غير أن أغلب هذه الدراسات لم تهتم بدوافع القراءة واهتمامات القراء ونشوئها وتطورها[8].

ولكن، مع بداية الأربعينات، بدأت محاولات دراسة القراءة في سياق أعمق، وإظهار قوانينها النوعية بشكل أعمق. ففي الولايات المتحدة أجري عدد من الدراسات حول تأثير القراءة على المستوى التعليمي العام للفرد[9]، ودرست فيها لأول مرة دوافع القراّء، وحاجات التلاميذ والطلاب، وموقفهم من القراءة، وعلاقة القراءة بمختلف أشكال التعليم. كما قامت هذه الدراسات بتحليل تقاليد قراءة الأدب الروائي وأساليب التربية الأدبية[10].

وازدادت أعداد الأبحاث العلمية المرتبطة بدراسة إنتاج المطبوعات وتوزيعها ودراسة مضمونها، وتأثيره على الحكومة والفئات الاجتماعية المختلفة. وتمت دراسة تأثير الكتاب عامة على القارىء وحاجة القارىء إلى الكتاب، والعوامل المساعدة أو المعيقة للقراءة. وكانت جميع هذه الدراسات العلمية الجادة تنظر إلى الكتاب أو أي نص مطبوع بصفته منظومة من القيم والخصائص الفنية المؤثرة على اتساع تداوله وانتشاره بين مختلف فئات القراء. وفي هذه الفترة بالذات، تم تطبيق طريقة تحليل المضمون Content- Analysis في الدراسات والبحوث القرائية. وهذا ما سمح بوصف مضمون المطبوع بشكل صارم ودقيق. فقد قام الباحث الأمريكي س. هارفي Harvey، عام 1953، بتحليل مضمون أكثر الكتب رواجًا[11]، وفي عام 1956 قام الباحث م. آلبريتش Albrech بدراسة منظومة القيم في مضمون الإنتاج الأدبي الجماهيري[12]. وأجرى الباحثان ب. بيرلسون وب. سولتر Berlson B، Soltere P دراسات أساسية هامة باستخدام طريقة تحليل المضمون حول تحليل صورة الأمريكيين في الأدب الروائي[13]، كما درسا تأثير مضمون العمل الأدبي ومكوناته الأخرى على المواقف والاتجاهات القرائية المختلفة وعلى حاجات القراّء الجمالية.

ومنذ الستينات من القرن العشرين برزت الدراسات والأبحاث الطامحة إلى معرفة المواصفات النوعية للكتاب ولشخصية القارىء. وقد أظهرت هذه الدراسات أن الكتاب الواحد يتمتع بمجموعة من الخصائص المختلفة التي تتجلى تبعًا لموقف القارىء واهتماماته وثقافته. كما أظهرت تعايش حاجات قرائية مختلفة لدى القارىء الواحد، وقدرة القارىء على استيعاب العمل الأدبي بطرق مختلفة بتأثير عوامل مختلفة.

3. أهم مواضيع البحث في سيكولوجية القراءة

سنتناول في هذا القسم أهم الدراسات المتعلقة بسيكولوجية القراءة، وهي:

3. 1. دراسة مسألة تصنيف القراّء:

لقد غدت قضية تصنيف القراء في عصرنا الراهن إحدى القضايا الأساسية ضمن مجموعة العلوم التي تدرس القراءة بصفتها ظاهرة اجتماعية ونفسية-تربوية. وتكتسب هذه المسألة أهمية نظرية وتطبيقية، خاصة مع ازدياد القراء، ما دفع إلى ضرورة تحسين نوعية القراءة وزيادة فعالية تأثيرها الفكري والتربوي. لقد جرت محاولات تصنيف القراء في ثلاثة اتجاهات رئيسة: في علم الاجتماع، علم النفس الاجتماعي، وعلم النفس العام.

إن أي تصنيف مقترح يجب أن يلبي مطلبين رئيسين هما: الملاءمة والمردود. أما الملاءمة فتتجلى في التصنيفات والمخططات التي تتوفر فيها المعايير الضرورية والكافية لتقسيم القراء إلى جماعات-نماذج متمايزة فيما بينها، وتتطلب طرائق وأساليب مختلفة من العمل المكتبي مع القراء. وأما المردود فيتجلى في التصنيفات المقبولة من الناحية العملية في ظروف العمل المكتبي، وتوفر الإمكانية لوضع التوصيات المنهجية المطابقة لخصائص كل صنف من صنوف القراّء.

عند وضع تصنيف للقراء لا بد من مراعاة التغيرات الجارية في المجتمع، وأهمها:

1.    ارتفاع مستوى التعليم والثقافة.

2.    تغير طابع العمل نتيجة دخول الأتمتة والمكننة والمعلوماتية إلى كافة الأعمال.

3.    الانتشار الواسع لوسائل الإعلام الجماهيرية والمطبوعات وأنظمة المعلومات.

وبالإضافة إلى العوامل المذكورة، المساعدة على تكامل المجتمع الثقافي، ذات الطابع العام الشمولي، ثمة عوامل محلية تؤدي إلى التمايز الفئوي بالنسبة للقراءة، ويظهر تأثيرها ضمن الفئة الاجتماعية الواحدة، وهناك عوامل محلية مؤثرة في الجماعات والفئات كالمناخ المحلي ضمن جماعة العمل، ووجود أو غياب "القادة الثقافيين"، وتأثير الجماعات المرجعية بالإضافة إلى خاصيات القارىء الشخصية.

3. 2. مفهوم الصنف القرائي:

إن مفهوم الصنف أو الطراز أو النمط Type هو مفهوم مشتق من تفاعل عوامل نفسية واجتماعية عديدة، ويضم التأثيرات المتنوعة لخبرات القراء الماضية وحاضرهم ومستقبلهم. ويقدم مثل هذا المدخل التصنيفي typological إمكانية معالجة مواصفات القراء المضمونية (من حيث المضمون). ويمكن للقارىء الانتقال من نمط إلى آخر عند توفر الظروف الملائمة. ويقترح علماء النفس تصنيف القراء من خلال الخاصيات المشتركة للشخصية كالاتجاه، والمزاج، والطباع، والقدرات والمهارات، والدوافع، والاهتمامات. وسنتناول هذه الخاصيات بشيء من التفصيل لنتعرف على تأثيرها على القراءة.

1- المزاج: يعرّف المزاج في علم النفس بأنه ميل الفرد للقيام باستجابة معينة. وهو خاصية دينامية من خاصيات الفعالية النفسية للفرد، ويمارس تأثيرًا متنوعًا وحاسمًا على القراءة. ففي دينامية القراءة يظهر الأفراد وفق الأمزجة التالية:

A.  المزاج الصفراوي: ويمتاز الفرد في هذا المزاج بعادة قراءة الكتب، حيث ينكب على المطالعة وقراءة الكتب دون توقف أو انقطاع.

B.   المزاج الدموي: ويقرأ الفرد من هذا المزاج بسرعة وسلاسة، ولكن بسطحية، مع تخطي الأسطر وعدم التركيز.

C.   المزاج البلغمي أو اللمفاوي: ويقرأ الفرد من هذا المزاج ببطء، وبتتابع منطقي من البداية إلى النهاية، دون تخطي الأسطر.

ويرى الباحث ن. كارتاشوف أن المزاج يؤثر على ثبات الاهتمامات وعمقها. كما ترتبط بالمزاج بصورة جزئية، اختيارات القراء الشخصية لهذا الكاتب أو ذاك، ولخصائص الأسلوب الأدبي. غير أن تأثير المزاج، وإن ظهر في طريقة القراءة وأسلوبها الفردي، عديم الأثر من حيث نتائج الفعالية القرائية وثمارها[14].

2- الطباع: تعرّف الطباع بأنها "تلك الخاصيات التي تميز الفرد وتترك بصماتها على جميع مظاهره الخارجية وتعبر عن موقفه المميز من العالم ومن الناس المحيطين به". ويتجلى تأثير الطباع، عند قراءة الأدب الروائي، على موقفه من شخصيات العمل الأدبي، وعلى مستوى أعلى من الإدراك، وعلى موقفه من شخصية المؤلف. وتقوم جاذبية البطل الأدبي (وأحيانًا المؤلف)، بالنسبة للقارىء، على تشابه الطباع في بعض الأحيان، بينما تقوم في أحيان أخرى على مبدأ التعويض، حيث تجذب القارىء تلك الخاصيات التي تنقصه.

وفي مجال الطباع، علينا أن نبحث عن تلك الخاصيات الشخصية مثل القدرة على التقمص والتوحد (توحد الذات مع شخصية إنسان آخر) والمشاركة الوجدانية، والنفوذ إلى عالم الشخصية الأدبية الداخلي. إن هذه الخاصيات، ورغم ظهورها لاشعوريًا أثناء عملية الإدراك، يمكن أن تنتقل فيما بعد إلى العلاقات المتبادلة الواقعية مع الآخرين فتغنيها وتزيد من ثرائها. وتظهر المقارنة الواعية بين طباع القارىء وطباع البطل الروائي، حسب المعطيات العلمية، على مستوى رفيع من الوعي الذاتي، من خلال الطموح إلى معرفة الذات. وتظهر هذه الحالات بصورة خاصة في مرحلتي الشباب والمراهقة.

3- القدرات: القدرات في علم النفس هي مجمل خاصيات الشخصية التي تحدد التنفيذ الناجح لهذا العمل أو ذاك. ولا حاجة هنا لتحليل القدرات بصورة عامة، ومهمة سيكولوجية القراءة هنا هي دراسة القدرات القرائية. إن القدرات القرائية وثيقة الصلة بخصائص العمليات النفسية كالتخيل والتفكير، والذاكرة، والانفعالات وما شابه ذلك. وخلال عملية القراءة لا تبرز العمليات النفسية بصورة منعزلة بل تدخل في نسق الفعاليات العقلية كالمهارات والقدرات التي تتشكل بتأثير التعليم والتدريب والمطالعة الحرة. ويجب دراسة العمليات النفسية الحاضرة أثناء عملية القراءة في تنوع مظاهرها وعلاقاتها. وفي دراستنا للقدرات القرائية، والإدراك القرائي، لا بد لنا من التوقف عند مراحل القراءة الثلاث، وهي: مرحلة ما قبل القراءة، مرحلة القراءة، مرحلة ما بعد القراءة أو مرحلة التقويم. وهي تشكل حلقة واحدة متكاملة.

A.  مرحلة ما قبل القراءة: وتتجلى فيها فعالية الفرد الانتقائية، وتتكون أهداف القراءة التي تؤثر على طابع الطلب واتجاه البحث، وعلى اختيار الكتاب المناسب للقراءة. وتختتم هذه المرحلة باختيار الكتاب. وبمعرفتنا باتجاه الفرد القرائي يمكننا التنبؤ باختياره والتأثير عليه في الاتجاه المناسب للقارىء.

B.   مرحلة القراءة: وتتحقق فيها عملية القراءة والإدراك. وتتعلق بذلك العامل المكوّن للإدراك كالاتجاه نحو طابع معين من الإدراك. تقول الباحثة ل. جابيتسكايا: "كي تصبح القراءة فعلاً تواصليًا يجب أن يطابق اتجاه المؤلف اتجاهًا معينًا لدى القارىء"، وتميز بين الاتجاهات التالية: 1- الاتجاه الأساسي للقارىء المؤهل، 2- الاتجاه الترفيهي، 3- الاتجاه المهدىء، 4- الاتجاه التربوي . وقد أظهرت الدراسة النفسية للإدراك، التي أجرتها الباحثة بليايفا، أن الخصائص السيكولوجية الأساسية للإدراك (نمط الإدراك) ترتبط ارتباطًا وثيقًا باتجاه الفرد القرائي[15].

C.   مرحلة ما بعد القراءة: وتتم فيها عملية تقويم المادة المقروءة، ويتحقق التأثير اللاحق للكتاب المقروء، وتتحدد اتجاهات الاختيار المقبل لكتاب للمؤلف نفسه أو لموضوع مشابه، أي تبدأ عملية تشكل حلقة جديدة. وتتكون عملية التقويم في أثناء الإدراك وتصبح أكثر تحديدًا بعد الإدراك، وعند التأمل في المادة المقروءة.

ومهمة الباحث هنا هي تحليل مضمون كل مرحلة، وتحديد الروابط فيما بينها.

4- اتجاهات الفرد القرائية: يعرّف الاتجاه Attitude بأنه مكوّن لا شعوري للفعالية النفسية يتجلى في البنية الخاصة للشخصية في الاستعداد للاستجابة على نحو معين للمثيرات والأشياء التي تلبي حاجات الفرد. وسنتحدث بشكل أساسي عن بروز الاتجاه أثناء القراءة، ويمكن اعتبار الاتجاه علامة تكوينية في سيكولوجية القراءة لأن مفهوم الاتجاه هو مفهوم أساسي في الشخصية.

إن الاتجاه القرائي يضم دلائل عديدة تميز هذا النمط القرائي أو ذاك: كاتجاه اختيار الكتاب، واستراتيجية القراءة، والآليات اللاشعورية لاندماج المهارات العقلية الضرورية، وانتقائية الإدراك، وطابع الاستجابات والتقويمات الانفعالية. ويتجلى الاتجاه القرائي بوضوح في مرحلة ما قبل القراءة.

يتكون الاتجاه القرائي عند الفرد، وبخاصة مكوناته العليا المعقدة، بتأثير التربية والمعارف المستوعبة، والخبرة الاجتماعية، وكذلك بتأثير المعلومات الواردة من أجهزة الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيرية. ويتحدد اتجاه الفرد القرائي تبعًا لخصائص الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد، وتبعًا للأنشطة الغالبة المميزة لهذه الفئة، وما ينتج عن ذلك من الاتجاهات المهنية للقراءة، وبعض خياراتها الموضوعية. كما يتأثر الاتجاه القرائي بالفئة المرجعية التي ينسب الفرد نفسه إليها.

وتعد الحاجات من أهم مصادر فعالية الفرد، ولهذا فهي تشغل حيزًا أساسيًا بين العناصر البنيوية المكونة لاتجاه الفرد القرائي. لكن الحاجات والضرورة الموضوعية لا تشكل حافزًا مباشرًا لفعالية القراءة. ولابد لهذه العوامل الخارجية من أن تتحول إلى حوافز داخلية للذات. ولهذا فمن الخطأ اعتبار الحاجة إلى القراءة مجرد ضرورة موضوعية، ولا بد لها من أن تتحول إلى قناعة ذاتية داخلية.

يمكن للقراءة أن تلبي الحاجات الإنسانية المختلفة كالحاجات المعرفية والجمالية والأخلاقية، لكن تلبيتها لا تتم بصورة مباشرة، بل على أساس معالجة المعلومات الدلالية والكلامية الموجودة في المادة المقروءة.

5- دوافع القراءة: وهي من المسائل الهامة في علم النفس وفي سيكولوجية القراءة. وتضم مختلف أنواع البواعث الداخلية. غير أن أغلب علماء النفس ينظرون إلى الدوافع من حيث تناسبها وعلاقتها بالحاجات. أما بالنسبة لدوافع القراءة فهي "البواعث الداخلية للقارىء التي تبرز على شكل تصور محتمل عن هذه الخاصية أو تلك من خاصيات الكتاب، التي تلبي حاجات القارىء". إذن، فمن أجل تحديد دوافع القراءة عند شخص معين، يجب أن نعرف أنواع حاجاته والخاصيات التي يبحث عنها في هذا الكتاب أو ذاك، أي بعبارة أخرى، لا بد من معرفة "منظومة توقعاته" من هذا الكتاب.

إن الكشف عن دوافع القراءة أمر على درجة كبيرة من الأهمية عند دراستنا لسيكولوجية القراءة، لأنها تكشف عن موقف القارىء من الكتب التي تجلب له الحد الأقصى من الرضا. ويجب التمييز بين الدوافع اللاشعورية، والدوافع الشعورية (الأهداف). وتنعكس الدوافع اللاشعورية نفسيًا على شكل صيغة انفعالية لفعل القراءة، كالرضا الذي يحصل عليه القارىء عند قراءته لكتاب يتوافق مع دوافعه للقراءة. وقد اكتشفت الباحثة بليايفا، في دراستها لدوافع القراءة، أن دافعية القراءة متنوعة للغاية وهي تضم أكثر من 30 دافعًا قرائيًا مختلفًا.

عند تصنيفنا لدوافع القراءة تبرز أنواع متعددة: كالدوافع الجمالية، والدوافع المعرفية، والانفعالية، والدوافع الترفيهية، وإدراك الخبرات الحياتية وغيرها. والقراءة، كغيرها من الفعاليات المعقدة، متعددة الدوافع، وهي تلبي في آن واحد عدة دوافع فعالة، وتشكل بنى معقدة مختلفة لدى مختلف أنواع القراءة لكنها ثابتة لدى القارىء الواحد.

ومن بين العوامل الدافعة إلى القراءة يجدر بنا التوقف عند الحوافز الخارجية للقراءة Stimulus، وهي تمثل تأثير العوامل الخارجية المختلفة (وسائل الإعلام، نصائح الأصدقاء والزملاء، الإعلانات، الإخراج ... الخ). إن الدوافع تعكس المغزى الشخصي من القراءة، كما تعكس منظومة توقعات القارىء المتشكلة على أساس خبرته القرائية السابقة، ولهذا فهي موجهة إلى خاصيات الكتاب الداخلية ومضمونه. أما الحوافز فهي ترسم للقارىء اتجاه البحث والاختيار، وتعد مؤشرات وعلامات على إمكان إيجاد المطلوب في كتاب معين. ويجدر بنا التأكيد هنا على أن الحوافز تقود إلى فعالية القراءة في حال توفر الحاجات والدوافع المطابقة لها لدى القارىء. وكل قارىء، وحتى القارىء الأكثر تأهيلاً، يسترشد بحوافز معينة، ويستجيب لها بصورة انتقائية. ورغم أن الحوافز لا تعد من مكونات اتجاه الفرد، فمن الممكن إدخالها ضمن منظومة الأدلة المكونة لأنماط القراء.

6- الاهتمامات القرائية: لقد خضعت اهتمامات القراء للبحث والدراسة، وأجريت عليها الكثير من الدراسات أكثر من الدوافع والاتجاهات والمحاور الأخرى لسيكولوجية القراءة. وليس هناك تعريف واحد مقبول من غالبية الباحثين. ومن الباحثين الذين تطرقوا إلى تعريف الاهتمامات القرائية الباحثة بليايفا التي تنظر إلى الاهتمام باعتباره محصلة تفاعل دوافع القراءة مع عملية الإدراك[16]. وتنظر بعض الدراسات النفسية إلى الاهتمامات باعتبارها إحدى دوافع الفعالية القرائية. غير أن الاهتمام، خلافًا للدافع، لا يكشف عن معنى الفعالية ولا يسمح باكتشاف لماذا يقرأ الإنسان، بل يشير فقط إلى رغبته في القراءة.

إن الاهتمام بقراءة كتاب ذي مضمون معين ينشأ على أساس حاجات الإنسان. وقد وضع العالم الروسي الكبير ليونتيف نظرية بهذا الخصوص سماها نظرية نشوء الاهتمام، يقول فيها: "إن التقاء الحاجة بالموضوع هو عمل استثنائي، إنه عملية تشييء الحاجة واكسابها مضمونًا". ونتيجة لذلك، فقد يظهر اهتمام أولي عند القارىء، ينتقل عند تكرار هذا الاندماج بين الحاجة والموضوع إلى اهتمام شعوري ثابت نحو أدبيات معينة. وببلوغه هذا المستوى يغدو مكونًا مستقلاً لميل الفرد، يكسب فعاليته صبغة انفعالية إيجابية، وبذلك يرفع من مستواها الوظيفي[17].

إن الاهتمام يعطي في الغالب مجال المعرفة الذي يهتم به القارىء، لكنه لا يعطي القارىء إمكانية تحديد ما هي الكتب المناسبة له في هذا المجال المعرفي. وعند إدخالنا الاهتمامات القرائية في قوام مكونات الأنماط القرائية لابد من أن نأخذ في اعتبارنا ليس مضمون الاهتمامات فحسب، بل ومواصفاتها النوعية: من حيث العمق، والاتساع، والثبات؛ كما يجب النظر إلى الاهتمامات بالارتباط مع الجوانب الأخرى من ميول الفرد واتجاهاته.

3. 3. الدراسات التجريبية في تصنيف القراء:

ظهرت دراسات سيكولوجية تجريبية في تصنيف القراء تبعًا لمحاور سيكولوجية القراءة التي ورد ذكرها أعلاه في روسيا وأمريكا وأوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، وسنستعرض بإيجاز أهم هذه الدراسات:

أ- دراسة الباحثة الروسية بليايفا: قسمت الباحثة أنماط القراء إلى خمسة نماذج هي:

-       النموذج الأول: وهو نموذج الإدراك الجمالي المثالي، ويتميز بدوافعه الجمالية والتواصلية (التواصل الذهني مع الكاتب) والأخلاقية والقيمية والتوجيهية (معرفة الذات، معرفة الحياة، البحث عن المثل الأعلى، التربية الذاتية). أما اتجاهاته فتتمثل في قراءة الأدب الروائي كفعالية قرائية تغني الإنسان روحيًا، وإدراك المضمون الفكري الروائي للعمل الأدبي. واهتماماته متنوعة من حيث المواضيع ومنتقاة بعناية في الوقت نفسه، موجهة نحو الكتب الروائية العميقة الغنية من حيث المضمون. وتتمثل معايير تقويمه للكتاب بالاكتمال الفني، وعمق المضمون، والتعبيرية، والمغزى الفلسفي للصور الفنية الأدبية.

-       النموذج الثاني: وهو نموذج الإدراك من خلال الوقائع. ويتميز بدوافعه الأخلاقية والقيمية والتوجيهية، والمعرفية والانفعالية؛ أما اتجاهاته فتتمثل في استيعاب الكتاب المقروء كانعكاس وتعبير عن الوقائع الحياتية الملموسة، من أجل استخلاص العبر التربوية. وتتركز اهتماماته على كتب المآثر النضالية والأحداث التاريخية، وأبطال الحروب والنضال والقيم الإنسانية السامية. وأما إدراكه فهو غير مكتمل، يركز على مقاطع معينة، ولا يدرك بشكل كامل خصائص الشكل الفني، ولا يستوعب المضمون إلا بصورة مبسطة.

-       النموذج الثالث: وهو نموذج الإدراك العقلي المعرفي. يتميز بدوافعه المعرفية والعقلية والجمالية إلى حد ما، يسعى إلى تأكيد الذات؛ كما يتميز باتجاهات قرائية انتقائية، واستخلاص المعلومات الوقائعية، والفهم الجيد لموقف الكاتب وتقويمه السليم للوقائع. واهتماماته متنوعة من حيث المواضيع (سياسة، تاريخ، سير العظماء، ذكريات، رحلات... الخ).

-       النموذج الرابع: وهو نموذج الإدراك الانفعالي القائم على الانطباعات الانفعالية. ويتميز بدوافعه الأخلاقية والانفعالية، أما اتجاهاته فتتميز بالمعاناة والمشاركة الوجدانية. وتتركز اهتماماته على المؤلفات والأعمال المسرحية الميلودرامية. وحوافزه هي: العنوان، المظهر العام للكتاب، والاتصال المباشر بالكاتب. ويتميز إدراكه بأنه جزئي مقطعي، يستبدل مضمون الكتاب وشخصياته بالانطباعات الحياتية الذاتية، وباستجابات انفعالية قوية، مرتبطة بمعاناة القارىء الشخصية.

-       النموذج الخامس: وهو نموذج الإدراك السطحي لجميع مكونات الكتاب. دوافعه انفعالية، ترفيهية، واتجاهاته تتمثل في التتبع السطحي لموضوع الكتاب. أما اهتماماته فهي أدب المغامرات والروايات البوليسية، والمؤلفات الساخرة. وتتمثل حوافزه في اسم السلسلة والعنوان المثير للكتاب، وما كتب عنه في الصحف ونصائح الأصدقاء[18].

ب- دراسات الباحث النمساوي ر. بامبيرغر R. Bamberger:

صنف القراّء الأطفال والشباب إلى أربعة نماذج:

1.    النموذج الرومانسي: ويتواجد هذا النموذج بين الأطفال بكثرة، وهم الأطفال الذين يفضلون الحكايات وكتب المغامرات، وينبذون الأعمال الأدبية الواقعية والعقلانية والأخلاقية، أما في مرحلة المراهقة فيفضلون أدب الخيال العلمي.

2.    النموذج الواقعي: ويفضل القراّء من هذا النموذج الكتب التي تصور العالم المحيط والبيئة والعلاقات بين الناس، واهتمامهم ضعيف بالحكايات والمغامرات الخيالية، وينبذون الكتب مثل أليس في بلاد العجائب، وتتجلى خصائصهم هذه في مرحلة المراهقة على نحو خاص.

3.    النموذج العقلاني: يقبل القراّء من هذا النموذج بحماسة ورغبة على قراءة الكتب ذات الطابع المعرفي، معللين ذلك بالسعي للتثقيف الذاتي، ويبحثون عن تفسير أو تعليل لما يصوره الكتاب، ويحاولون في قراءتهم للمؤلفات الأدبية استخلاص الفائدة العملية. وينتشر هذا النموذج انتشارًا واسعًا في أوساط المراهقين والشباب.

4.    النموذج الجمالي: يندر وجود القراء من هذا النموذج بين جميع الفئات العمرية، ويشعر أصحابه بالرضا من الكلمة المؤثرة والإيقاع الجميل والقافية، وهم يحبون قراءة الشعر ويحفظونه، وينقلون من الكتب المقاطع والأشعار التي تحوز على إعجابهم، ويعيدون قراءة الكتب المعجبون بها عدة مرات[19].

كما قام العالم النمساوي بامبرغر بمحاولة هامة ومثمرة لتصنيف القراء تبعا لدوافع القراءة وأهدافها، ووضع الأنماط التالية للقراءة:

1.    القراءة السريعة: ويرتبط هذا النمط بالقدرة على فهم مدى أهمية الكتاب المقروء للقارىء.

2.    القراءة المعلوماتية: ويميز هذا النمط قراّء الصحف، والمسؤولين ورؤساء الدوائر والمؤسسات.

3.    القراءة الترفيهية: ويظهر هذا النمط عند قراءة الروايات والأعمال الأدبية، حيث يتمثل القارىء شخصيات العمل الروائي ويعيش أحداث الرواية.

4.    القراءة الحافظة في الذاكرة: وهدف هذا النمط السعي إلى الفهم الدقيق لمضمون الكتاب ومعناه الفلسفي.

5.    القراءة الانتقائية النفعية: حيث ينتقي القارىء ما هو مهم له من الكتاب لهدف معين، وهي تشمل في الوقت نفسه القراءة السريعة والنقدية والحافظة.

6.    القراءة التحليلية: وهي قراءة مصحوبة بقلم الرصاص ووريقة لكتابة الملاحظات، وتسعى إلى التأمل والتفكير اللاحقين في مضمون الكتاب.

7.    القراءة النقدية: ويفترض هذا النمط من القراءة التفكير والتقويم والمقارنة، ويؤدي دورًا كبيرًا في تكوين شخصية القارىء ومواقفه.

8.    القراءة المتفرغة: ويعني هذا النمط قراءة الأعمال الشعرية والأدبية الرفيعة مع تحليل شكلها ومضمونها.

9.    القراءة الإبداعية: وترتبط بالإدراك الفعال للمادة المقروءة واستيعابها بصورة إبداعية.

10.                       القراءة التصحيحية: وهي قراءة دقيقة، تركز على الأحرف والمقاطعات والكلمات والجمل، بهدف التصحيح[20].

جـ- دراسة عالم الاجتماع الألماني هاسيلوف Haseloff:

وضع هاسيلوف تصنيفًا للقراّء على أساس بحثه المنشور في كتابه الكتاب في حياة أطفالنا وشبابنا، واستخدم طريقة التحليل العاملي، محددًا أربعة أنواع من الدوافع، كل واحد منها يدفع إلى هذا النوع أو ذاك من تزجية أوقات الفراغ، بما في ذلك القراءة؛ وهذه الدوافع هي:

1.    تلبية الحاجة إلى معرفة العالم (نمط معرفي): يتردد الأطفال والشباب الذين يشعرون بهذه الحاجة إلى دور السينما ويستمعون إلى الراديو ويشاهدون البرامج التلفزيونية، ويقرأون الكتب.

2.    تلبية الحاجة إلى التواصل المتعدد الجوانب مع الناس (نمط منطوي): يقبل القراء الذين يشعرون بهذه الحاجة على القراءة بسرور، ويفضلونها على الراديو والتلفزيون.

3.    تلبية الحاجة إلى التواصل العاطفي مع الآخرين (نمط منفتح): ويفضل أصحاب هذه الحاجة الفعاليات النشيطة في تزجية أوقات الفراغ، ويحبون الرقص والسينما والرياضة ويفضلونها على القراءة.

4.    تلبية الحاجة إلى الفعالية العملية والتثقيف الذاتي (نمط واقعي): يسعى الشباب والأطفال من هذا النمط إلى قراءة الكتب التي تساعدهم في اكتشاف العالم المحيط ومعرفته[21].

4. مناهج البحث في سيكولوجية القراءة

وهي طرائق علم النفس ذاتها في دراسة سيكولوجية القراءة كالاستفتاء بواسطة الاستبانة، والاستفتاء عن طريق المقابلة، والاختبارات المختلفة؛ هذا بالإضافة إلى مناهج البحث التي وضعت خصيصًا لدراسة سيكولوجية القراءة، ومنها ما يعرف باسم الطرائق التجميعية، وهي مجموعة طرائق تستخدم في آن واحد مثل تحديد معامل فعالية القراءة بالطرق السوسيومترية. فقد قام المعهد الدولي لأدب الأطفال ودراسة قضايا القراءة في فيينا بدراسة القراءة عند أطفال العاشرة من العمر. وكان هدف البحث هو: تحديد انتشار القراءة بين أطفال العاشرة من العمر، وموقفهم من القراءة، وعادات القراءة لديهم (القراءة المسموعة، القراءة الصامتة)، من أجل تكوين تصور عن المستويات المختلفة للقراءة لدى أطفال العاشرة، ووضع الطرق الفعالة للتربية الأدبية. وقد استخدم المعهد في هذا البحث طريقة الاستبانة بالإضافة إلى مواصفات أطفال العينة التي وضعها المعلمون، بالإضافة إلى الاختبارات. كما وضع عالم النفس الأمريكي ف. تايلور طريقته المعروفة باسم الاختبار المغلق. وتمكن المعهد بواسطة هذه الطرق من تحديد سرعة القراءة لدى أطفال العينة، ودقة فهم النص عن طريق تقويم صحة أجوبة الأطفال على الأسئلة الواردة في الاختبار.

ومن بين الطرق المستخدمة أيضًا في دراسة سيكولوجية القراءة ما يعرف باسم الاستفتاءات الطولانية longitudinal التي تسمح بتتبع نمو الأطفال في ظروف بيئية متماثلة. وعند تحديد دوافع القراءة واهتمامات القراء يستخدم نوعان من المعلومات: أ- تثبيت المعلومات المنفصلة، مثل عدد الكتب المقروءة من نوع معين؛ ب - صياغة المعلومات الكلامية عن دوافع القراءة واهتماماتها وأغراضها. وهناك محاولات لزيادة الفعالية العلمية لطرائق بحث سيكولوجية القراءة، ومنها طريقة العالم الأمريكي ف. غري Gray W. أستاذ جامعة شيكاغو، فقد وضع مجموعة من المعايير والمؤشرات ذات الدلالة التي تكشف، في مجملها، عن المواصفات العميقة للقراءة، وتضع الأساس لدراسة حياة الكتاب الاجتماعية وتأثيره على القراء[22].

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] بورودينا ف. آ.، القضايا النظرية والمنهجية لفعالية القراءة وتصنيف القراء - "سيكولوجية القراءة وقضايا تصنيف القراء"، لينينغراد، 1984، ص 15. (باللغة الروسية)

[2] بافلوفا آ. س.، دوافع القراءة وتصنيف القراء – "سيكولوجية القراءة وقضايا تصنيف القراء"، لينينغراد، 1984، ص 65. (باللغة الروسية)

[3] روباكين ن. آ.، ما هو علم النفس المكتبي، لينينغراد، 1924، ص 53. (باللغة الروسية)

[4] فيغوتسكي ل. س.، سيكولوجية الفن، موسكو، 1968، ص 40. (باللغة الروسية)

[5] المصدر نفسه، ص 65.

[6] نيكيفوروفا و. ي.، سيكولوجية إدراك الأدب الروائي، موسكو، 1972، ص 152. (باللغة الروسية)

[7] Lesen- Ein Handbuch, Haburg, 1974, 665s.

[8] Reading in General Education. Washington, 1940, 460 p.

[9] المصدر نفسه، ص 464.

[10] المصدر نفسه، ص 45-76.

[11] Harvey S. The content  characteristics of best- selling novels, Public Opinion Quarterly, 1953, vol.17,N 4,p.712-786.

[12] Albrecht M.C. Does Literature reflect common values?, American Sociological Revue ,N.Y., 1965, VOL.21 ,N 6, P. 722-729.

[13] Berlson B. ,Soltere P. Majority and Minority Americans an analysis if magazine fiction, P.O.Q.,1946, vol. 10,N 2, p. 320-333.

[14] بليايفا ل. ي.، حول مسألة أنماط القراء – "قضايا سوسيولوجية وسيكولوجية القراءة"، موسكو، 1975، ص 143. (باللغة الروسية)

[15] المصدر نفسه، ص 157.

[16] المصدر نفسه، ص 177.

[17] ليونتيف آ. ن.، المؤلفات السيكولوجية المختارة، المجلد 2، موسكو، 1983، ص 202. (باللغة الروسية)

[18] بليايفا، مصدر سابق، ص 220.

[19] Bamberger R. Jugendlekture .Wien , 1968, 848 s.

[20] Bamberger R. Lese – Erziehung. Wien , 1971. 184 s.

[21] Haseloff O. W. Das Buch in Erleben unserer Jungendlichen. In: Jugend  und Buch IN Europa. Gutersloh.1967, s 33-70

[22] Gray W. S.Rogers B. Maturity in Reading, Chicago, 1956, 191 p

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود