من القاهرة إلى القيروان

 

محمد السمّاك

 

قبل يوم واحد من خطاب "المصالحة" الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما في جامعة القاهرة، كان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يلقي خطاب "معاتبة" في قصر قرطاج بتونس مفتتحًا "المؤتمر الدولي بشأن حوار الحضارات والتنوع الثقافي" الذي عقد في مدينة القيروان التاريخية. وقد دعا إلى هذا المؤتمر المتخصص كل من منظمات الأونسكو والأسيسكو والفرانكوفونية، وحضره ممثلون من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمات دولية وإسلامية عديدة أخرى.

المقارنة بين الخطابين الأميركي والإسلامي تلقي ضوءًا على ما يمكن اعتباره تدشين طريق جديد ذات اتجاهين: الأول باتجاه تصحيح العلاقات الإسلامية الأميركية، وبالتالي تصحيح العلاقات الإسلامية الغربية، والثاني باتجاه تحديد المواقع والمحطات التي يفترض أن يقوم عليها هذا التصحيح، إذا صَفَت النيات وتوافرت العزائم والإرادات.

في الأساس تبنّى المؤتمر في بيان القيروان ما شدّد الرئيس التونسي عليه وهو

الرفض القطعي للنزعة العنصرية التي تروّج لوجود أجناس "راقية" وأجناس "متخلفة"، ولثقافات "مبدعة" وثقافات "عقيمة"، ولدين "سلمي" ودين "عنفي". ذلك أن الرقي والتخلّف نسبيان، يرتبطان بعوامل تاريخية وسياسية واجتماعية واقتصادية لها صلة بواقع كل أمة وظروفها في مرحلة من المراحل، سرعان ما يزولان بزوال هذه الظروف المحيطة بها والأسباب الدافعة اليها. أما الأديان السماوية الثلاثة، فهي تشترك في قيم كونية يؤمن بها جميع البشر، كالدعوة إلى الحوار والاعتدال والتسامح، والحثّ على الإخاء والتضامن وفعل الخير.

وعلى أساس هذه القاعدة، تبنّى المؤتمر دعوة الرئيس التونسي

إلى تأسيس شراكة دولية للحوار والتعاون والسلم والتنمية، تكرس التواصل بين جميع الأمم في كل مكان، بقطع النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة.

وبدا خطاب الرئيس أوباما في جامعة القاهرة متناسقًا مع هذه الدعوة ومدركًا لها، فقد قال الرئيس الأميركي إن

أي نظام عالمي يعلي شعبًا أو مجموعة من البشر فوق غيرهم سوف يبوء بالفشل لا محالة، وبغض النظر عن أفكارنا حول أحداث الماضي فلا يجب أن نصبح أبدًا سجناء لأحداث قد مضت. إنما يجب معالجة مشكلاتنا بواسطة الشراكة كما يجب أن نحقق التقدم بصفة مشتركة.

وبالانطلاق من العام إلى الخاص، توقف الرئيس زين العابدين بن علي في خطابه أمام مؤتمر حوار الحضارات أمام

أسوأ ظاهرة يعاني منها الإسلام في الوقت الحاضر، وهي ظاهرة اتهام أي ثقافة أو حضارة أو دين بالتطرف والإرهاب، استنادًا إلى جرائم يرتكبها متطرفون أو إرهابيون، فيقع تعميم الحكم على أمة بعينها رغم كل ما حملته وتحمله هذه الأمة، في ماضيها وحاضرها، من ثقافة الاعتدال والإخاء والسلام. كما أنه من الإجحاف أن تعمد بعض وسائل الاعلام والاتصال في العالم إلى نشر أخبار تسيء إلى الأديان والثقافات الأخرى ورموزها، وتكرس صورة نمطية خاطئة لأمة بأسرها، بما من شأنه أن يصدم الضمائر ويغذي مشاعر الحقد والكراهية لدى المتطرفين في كلا الجانبين.

والواقع أن ربط الإسلام بالإرهاب كما حدث في عهد الإدارة السيئة الذكر للرئيس السابق جورج بوش، وتحويل الحرب على الإرهاب إلى حرب على الإسلام، كما حدث فعلاً (غزو العراق)، وضع الإسلام، رغمًا عن المسلمين، في حالة صدام مع الغرب. حتى أن ذلك كان تحقيقًا ذاتيًا لنبوءة دينية بشرت بها حركات الأصولية الدينية الإنجيلية التي كان الرئيس بوش ينتمي إليها.

وقد جاء الرئيس الأميركي الجديد إلى القاهرة ليقول كلامًا آخر سبق أن ردّده في اسطنبول أثناء زيارته لتركيا. وهو أنه لا حرب أميركية على الإسلام، ولن تكون هناك حرب أميركية على الإسلام، بل إنه ذهب إلى أبعد من نفي الحرب، إلى المطالبة بالشراكة مع الإسلام للقضاء على الإرهاب الذي أساء إلى الإسلام نفسه. فقد قال الرئيس أوباما:

نحن في أميركا سوف ندافع عن أنفسنا محترمين في ذلك سيادة الدول وحكم القانون. وسوف نقوم بذلك في إطار الشراكة بيننا وبين المجتمعات الإسلامية التي يحدق بها الخطر أيضًا، لأننا سنحقق مستوى أعلى من الأمن في وقت أقرب إذا نجحنا بصفة سريعة في عزل المتطرفين مع عدم التسامح معهم داخل المجتمعات الإسلامية.

وكان مؤتمر حوار الحضارات والتنوع الثقافي قد أقرّ في وثيقته في القيروان دعوة الرئيس التونسي إلى وجوب

أن يكون القانون الدولي المرجع الأساسي الذي تحتكم إليه المجموعة الدولية وتعتمد عليه في تأمين مقومات السلم والتعايش في العالم، وأن احترامه من الجميع شرط لازم لنجاح أي حوار جاد بين الحضارات والثقافات. كما أن الحرص على حماية المنظومة القانونية الدولية مما تتعرض له من تجاوزات وانتهاكات، والتعامل معها بصدق ونزاهة، من شأنه أن يجنب ازدواجية المعايير في تأويلها وتطبيقها، ويحدّ من مشاعر الإحباط والإحساس بالظلم، ويرسخ الثقة بالشرعية الدولية وبالمؤسسات الأممية.

والواقع أن انتهاك القانون الدولي، كما فعلت إدارة الرئيس جورج بوش على مدى الثماني سنوات الماضية، وانتهاك سيادة الدول، واللجوء إلى ازدواجية المعايير في التعامل معها، وخاصة بين اسرائيل والعالم الإسلامي (وتحديدًا بين اسرائيل والشعب الفلسطيني)؛ أدّى إلى اتساع هوة الكراهية المتبادلة نتيجة الاتهامات المتبادلة، والإدانات المتبادلة، والمواقف الاستعدائية المتبادلة.

ولقد جاء الرئيس أوباما ليطوي هذه الصفحة السوداء، أو على الأقل ليعلن عن رغبته في طيّها واستبدالها بصفحة جديدة تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. وفي ذلك قال

هناك بعض من الذين يسعون إلى تأجيج نيران الفرقة والانقسام والوقوف في وجه تحقيق التقدم، والذين يقولون إن الاختلاف فيما بيننا أمر محتم، وإن الحضارات سوف تصطدم حتمًا. وهناك الكثيرون الذين يتشككون ببساطة في إمكانية تحقيق التغيير الحقيقي؛ فالمخاوف كثيرة وانعدام الثقة كبير ولكننا لن نتقدم أبدًا إلى الأمام إذا اخترنا التقيد بالماضي. إن الفترة الزمنية التي نعيش فيها جميعًا مع بعضنا البعض في هذا العالم هي فترة قصيرة والسؤال المطروح علينا هو: هل سنركز اهتمامنا خلال هذه الفترة الزمنية على الأمور التي تفرق بيننا، أم سنلتزم بجهود مستديمة للوصول إلى موقف مشترك، وتركيز اهتمامنا على المستقبل الذي نسعى إليه من أجل أبنائنا واحترام كرامة جميع البشر؟

لقد كان واضحًا من هذا الموقف للرئيس الأميركي الجديد أنه على تناغم مع الوثيقة التي صدرت عن مؤتمر حوار الحضارات والتنوع الثقافي من دون تنسيق مسبق.

فمن القاهرة، مدينة الألف مسجد والأزهر الشريف (أكثر من ألف عام)، حيث ألقى الرئيس الاميركي أوباما خطابه التصالحي مع العالم الإسلامي، إلى القيروان، مدينة الثلاثمائة مسجد وجامع الصحابي الجليل عقبة بن نافع (أكثر من 1300 عام)، حيث عقد مؤتمر حوار الحضارات والتنوع الثقافي، بدأت ترتسم معالم الطريق الجديد. من هذه المعالم الاعتراف بالأخطاء، والتعهد بتصحيحها بهدف تحويل العداء المتبادل إلى شراكة لبناء مستقبل أفضل يحترم التنوع الديني والثقافي، ويحترم قبل ذلك وبعده حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وفي مقدمها حق الشعب الفلسطيني في وطنه.

*** *** ***

المستقبل، الاثنين 22 حزيران 2009، العدد 3341، رأي وفكر، صفحة 19.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود