أوراق في الكائن نون*

 

يارا خالد البرازي

 

3. زياد الرحباني دارسًا لاتجاهات الريح

سبقني حسن م. يوسف في الإدلاء بدلو الانتظار، لكن آلاف الناس المغمورين تفوقوا عليه وعليّ، ونالوا درجات شرف في فلسفة الانتظار؛ إذ ينتظر بعضهم البيت، أو الحيط، أو حتى الباب. وينتظر آخرون السيارة، وآخرون النصر، وآخرون الشخص المناسب ليتزوجوه أو يحبوه ثم ليكرهوه.

ولكني لم أعتقد يومًا أن آلافًا مؤلفة تجلس بقرب آلة تسجيل، تقرقع المتة، أو تشرق الشاي يوميًا، تجلس فحسب لتستمع إلى زياد، في السيارة والمنزل، أو في أي مكان...
وحيدًا أو مع الأصحاب، وأحيانًا مع الأبناء.

وبدون طول سيرة، لم أعتقد يومًا أن أحدهم قد يجيب: عمري (26) وأنتظره منذ ذلك الحين!، أو (35) وأنتظره منذ (25)!

ضع أي رقم تريده.

وأخيرًا... عندما بان زياد، ولاح في الأفق، أصابته موجة تسو نامي الانتظار تلك، فعلق قائلاً: هذا وضع مرعب، مرعب. أنا خائف من محبة كل أولئك الناس.

فيما بعد، حضر زياد إلى موقع الحفل نهارًا (قبل الحفل بساعات)، وتفحص كل شيء. علق على هذه وتلك وذاك، واهتم بتفاصيل التفاصيل، بنوعية الصوت وجودة الأدوات المستعملة. لم يرض بنقل الحفل مباشرة لأن صوت النقل المباشر ليس رائعًا و كاملاً كما يريد. ثم فحص المنصة، وأمر بزيادة حجمها طولاً وعرضًا وارتفاعًا. واقترح تغيير مكان المنصة ذاتها، لكن الأمر لم يكن بيد أحد، ففي المكان الذي أراده يتربع منجنيق تاريخي ثقيل ثقيل، لا يغير مكانه إلا الذي لا يتغير.

وهكذا أعاق شيء حقيقي مرئي وثابت فقط تصورات زياد عن المسرح الممتاز.

وهنا فكرت... لهذا... لكل هذا... لكل هذا الاهتمام بأدق التفاصيل وأصغرها... في كل ما يفعله... في كل لحظة وكل هنيهة... هو زياد ذاك.

زياد الأسطورة في زمن الأساطيل والمساطيل.

زياد الإنسان الحقيقي الذي لم يغلبه الغول، لم يغلبه الفقر واليأس والدخان... والحرب والسخام، لم تقض عليه قلة الفرص أو انعدامها. زياد الذي شق طريقًا خاصًا به وحده بعيدًا عن ظاهرة أهله، وأثبت تفرده.

فاسأل نفسك اليوم يا عزيزي عاشق زياد: هل أنت حاضر الذهن في كل لحظة تمر عليك مثله؟ هل تحاول أن لا تضيع منك أي دقيقة كي تستثمرها في العمل مثله؟ هل تهتم بجميع تفاصيل حياتك وعملك مثله أم تتركها وتنتظر الحلال؟ هل أنت جاهز لانقضاض فيالق الزمن عليك في أي لحظة (ولا أقصد ماديًا)؟ هل تؤمن بنفسك كما يفعل هو؟ هل تعتقد أنك حالة فريدة كما يعتقد هو، وكما أنت حقًا، لأن كل إنسان فريد حتى لو كنا سبعة مليارات؟

هل ترى معي لماذا تحبه كل هذا الحب وتنتظره... لأن في رأسه الواعي كل ما لا يوجد، في اعتقادك، فيك.

لأنه مؤمن بقدراته ونفسه وأخطائه ومثالبه، وبأنها جميعها مجرد أجنحة يوجهها ذهنه الواعي، الحاضر، غير المغيب، الناقد، المتسائل، الباحث بالضرورة عن حلول، البعيد كل البعد عن الثبات والجمود والانتظار.

اسأل نفسك: هل ينتظر زياد أحدًا منذ خمسة وعشرين عامًا...

لا ولن يفعل. لأن كل ما يفعله الانتظار هو التغزل بالجمود وإنجاب المزيد والمزيد من الانتظارات الصغيرة.

الحالة تجذب مثيلها.

والحمار لا ينجب إلا حمارًا مع فائق احترامي للحمار لأن الإنسان يوصف بالحمار مرارًا دون مرارة لكنك لن تجد أبدًا حمارًا طبيعيًا يرضى بأن ينعت بالإنسان.

سيطر زياد على جميع المتغيرات قبل الحفل لتخرج الأمسية كتبر الذهب البراق من بين أصابعه وشفتيه.

ولكنه، في اعتقادي، بحاجة للتوجه لأكاديمية دراسة الأحوال الجوية قبل إقامة أي حفل مفتوح آخر. لأن نسائم دمشق، المتنوعة فيما قد تحمله لك... حملت معها أوراق نوتة زياد الموسيقية، أطاحت بها هنا وهناك، وراح المسكين يركض ورائها ليلملمها... ليكمل حفلته.

زياد يا عزيزي...

ادرس الأحوال الجوية وتقلبات الطقس إذا أردت مناشدة الكمال.

مع أني واثقة من فهمك بأن الكمال لله وحده.

السبت في السادس عشر من شهر آب اللهاب الذي وقع في العام الثامن بعد ألفية البشر المدونة الثالثة كما يعتقدون.

* * *

4. عين على الحقيقة

لا يختلف اثنان على أن "كارل ساغان"، عالم الفيزياء الكونية المرموق والسياسي في آن، هو إنسان، إنسان كامل الأنسنة. وحيث أنه لا يختلف أحد على هذه الحقائق، فعلينا إذًا أن نصدقه عندما يأتينا في روايته CONTACT قائلاً في وصف نجوم وسدم تلمع منذ الأزل: كان عليهم أن يرسلوا شاعرًا.

أي كان عليهم أن يرسلوا أحدًا قادرًا على الوصف الجياش بدلاً من عالم بارد اللغة... ليصف للبشرية صور السماوات في تكونها.

ويأتي فصيح بشاربين يقف عليهما نسر، وعلى زنار خصره الثخين (تحميه أحراز أمه من العين) مسدس ثقيل يخطف الأبصار ويذهب بالأنفاس، ويسأل: لماذا؟ (ببرود)... فأقول أنا بعد تفكير: لأن علماء الأشياء الكبيرة هم أسوأ من يلاعب عموم الناس شيش بيش. تسأل إحداهن أثناء علكها: ألا يمتلكون الوقت مثلنا ليلعبوا عشرة طاولة؟ كم يرهقون أنفسهم.

فيدور في خلدي أن عالم فيزياء كونية لن يرمي بحجري نرد لينتهيا ستة ستة في كل الأوقات كما هو متوقع... بل سيفشل ويضحك الناس عليه. فهو عالم فيزياء... وكونية... أيعقل أن لا يتقن فن الاحتمالات... مثلنا؟

المفارقة الكبيرة هنا هي أننا نعترف بوجود الاحتمالات في أحجار نردنا وننكر وجودها في حياتنا. لا احتمالات ولا حلول. لا شيء. طريق واحد... بلا رايات... كله نهايات.

يقودوننا كقطعان خراف أثقل الخزي ظهورها فلا ترى إلا أسافل الأقدام. وحشيشها إذا لم تكن حشيشتها التي ستنسيها الأقدام وتذكرها باللون الأخضر... التكاثر... وكل ما يلحق بهذه القائمة.

هذه ليست قائمة... هذه مسطحة... هذه أفقية.

حكمة هي وجود عيني الإنسان في أعلى رأسه.

لماذا لم يفكر أحد قبلي بهذا!!

وضعت الأعين في الأعلى حتما لترى أبعد وأكثر. لتخترق أفضل.

لم توضع في أسفل القدمين لترى أسفل السافلين.

لماذا نقصي الاحتمالات من أحلامنا؟؟

لماذا نختزل طرق العيش في طريق واحد؟؟

أول كلمة قوبل بها من أقام هي "اقرأ". اقرأ تعني اعرف واعلم وافهم وشاهد وتفكر... اكتشف ومزق الحجب حولك.

كل ما يحيط بنا من أشياء هي أستار تلمع لتزيغ النظر عن الحقائق.

لنفكر سويًّا في هذه الحقيقة البسيطة: نحن موجودون على ذرة غبار تدور حمل نجم متوسط الحجم في منتصف عمره. يدور حول نفسه على الأطراف القصية لمجرة حلزونية تحتوي على مئة مليار نجم آخر.

نعم. مئة مليار. وهذه المجرة هي مجرة بسيطة التركيب عمليًا لا تحتوي على الكثير من النجوم نسبة لمجرات أخرى مثل مجرة M 31، أو عنقود العذراء.

وإذا قمنا بتعداد كل ما نراه فقط، أي جزء صغير صغير من هذا الكون الرحب المترامي الأطراف (إذا كان له طرف)، نجد أن العدد هو مئة مليار مجرة... فقط.

فهل يعقل برب هذا الكون، وبكل أسمائه، أن تكون ذرة الغبار هذه هي المكان الوحيد المأهول بالسكان؟ أهذا هو الاحتمال الوحيد!!

شخصيًا أعتقد أنه منتهى الشوفينية أن يعتقد الإنسان أن المسافات الشاسعة الرهيبة التي تفصلنا عن أي نور في هذا الكون خلقت دون سبب، وأننا الوحيدون، فهو هدر هائل لفضاء بهذا الحجم.

هذا مجال تكاد أرقام الاحتمالات أمامه أن تنضب.

وأن تبور مساعي كل من يحاول التعتيم على شغف الإنسان وتوقه للمعرفة.

كل من عرف تعرف.

وكل من تعرف زهد.

وكل من زهد سما.

وكل من سما ملك مفاتيح اليقين... وباتت الاحتمالات لعبته... وبتنا نحن أحجار نرده.

أقترح أن نرفع جميعًا لافتات تقول: أعيدوا العيون إلى أماكنها في أعلى الرأس.

*** *** ***


 

horizontal rule

* الكائن نون ليس المرأة (باعتبار نون النسوة)، بل هي نون الإنسان، القطرة التي تسقط في دنّ الوجود عابرة بوابتي الولادة والموت.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود