|
ما بين الكلمات
تجري الأحداث في إفريقيا على الأرجح، في مدينةٍ كانت منقسمة لفترةٍ طويلة: يتدفّق سكّان شمال غلوريا على جنوب غلوريا. موكبٌ لا ينتهي من الكائنات البشرية يرجِعون خطوةً خطوة بحماية "الأمميّة المحايدة" التي تراقب مرور الدفق. عودة على إيقاع الشعارات: "سلامٌ واحتفال"، "أهلاً بالعائدين في فصول إعادة الإعمار"... لكن المظاهر خادعة غالبًا، والعودة تكون أحيانًا مجالاً مفخخًا. يجد القارئ نفسه غارقًا في نزولٍ طويل إلى جحيم "البلد الحقيقي"؛ حيث تحوّلت الكلمات فجأةً وراحت تعني، وفي اتجاهٍ واحد، الهدف أي "التشوّهات بدون طوطم"، هؤلاء الذين لا يستحقّون الهوية المختارة. وهناك، حيث تحوّلت كلّ كلمةٍ شعارًا، يتمّ الاختناق التدريجي على حساب أيّ هامشٍ للحريّة. وتأتي الكلمات الواثقة من حقّها في سياق وضوحها المبهِر والمشكوك فيه بحصّتها من الفظائع: لا يبقى إذًا سوى هذا الحزن العميق الخاص بالعظام البيضاء وبقايا العفونة الرمادية، المقفل عليها اليوم في أوعيةٍ شفّافة ومغلقة، موجودة ومرئية خلال زيارة متحف التاريخ، مع علاماتٍ صغيرة ملوّنة فوقها تحمل توصية: عدم اللمس. لأنّه يُعاد تدوير كل شيءٍ على هيئة صور. صورٌ خاضعةٌ للرقابة في اختيار إطاراتها والتعليق مسبقًا عليها. صورٌ، كلماتٌ، تذكاراتٌ، مقدّمة من الأزمنة الحديثة، وحيث يُصار إلى إبراز العذابات. "انتباه، العذاب يمرّ، انتبه إلى العذاب..."، هذا ما تكرّره الشفاه المجهولة في الرواية، لكن هذا العذاب ليس سوى استعراضًا لا نعرف عنه شيئًا... أيضًا، إذا كان هذا يحدث في جنوب غلوريا في إفريقيا وهميّة أم لا، فإن ذلك يحدث أيضًا - وخصوصًا - في أيّ مكانٍ آخر، حيث يعاني الإنسان تجربة تجريده من ملكيته. في هذه الأمكنة المجرّحة، هذه المدن المقسّمة، "مناطق النزاع هذه" كما يسمّونها، حيث تجد حياة العديد من العامة، التي تمرّ ما بين الخسارة والربح، وصفًا لها من خلال الكلمات المؤلّفة للمناسبة؛ لكنها لا تعكس سوى رؤية جانبية للعالم. كلمات مقولبة للتفكير الجاهز. كهذه الكلمات التي تتردّد دائمًا وأبدًا في الإعلام ويكرّرها النصّ بلا هوادة - "هذه الحرب التي ستمرّ على شاشة التلفزيون تحت اسم الصدام الإقليمي الداخلي" أو "هؤلاء الذين تسمّيهم الصحف مهجّرون منذ زمنٍ طويل" - كي لا نذكر سوى هذه الأمثلة - والتي لا يمكن إلا أن تكون صدى للـ "أضرار الجانبية" أو لـ"محور الشرّ" في عالمنا المعاصر... في متابعة لروايتَي البولكا ومصنع الاحتفالات (لو سوي، باريس، 1998 و2001)، يستمرّ كوسي ايفوي في إبراز عالمٍ فقد جوهره وكائناتٍ تعيش في غفلةٍ عن نفسها. وإذا كانت هذه الرواية هي كتابٌ حول العودة (والصداقة)، فهي أيضًا تأمّلٌ في اللغة والأخلاقيات وبطريقتها الخاصة، مؤلّفًا سياسيًا بالمعنى الأصليّ للكلمة. لأنّ مهمة الروائي ربّما تكون إعادة جعل العالم قابلاً للسكن عبر الكلمات. هكذا يخلّف هذا النصّ إحساسًا بالدوار: حنينٌ حارٌّ للحرية المشرّعة الأجنحة. *** *** *** الليموند ديبلوماتيك [1] SOLO D’UN REVENANT de Kossi Efoui (Seuil, Paris, 2008, 207 pages, 17 euros.
|
|
|