|
الرسالة الثانية من الإسلام
القرآن والتسيير (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) ومن الظالمين من يعتمد على العقل، في فهم حقائق الدين، كل الاعتماد. والقرآن قد جعل وكده تركيز فهم التسيير في العقول، بالطائفة المستفيضة من آياته، فإذا استقرت مدركات العقول في طوايا الصدور، ظهر أن ليس في القرآن حرف لا يدعو إلى وحدة الفاعل. فوحدة الفاعل هي أصل التوحيد، وقاعدته، وبتجويد وحدة الفاعل تتبع كل مستويات التوحيد الأخرى. وأمر التسيير هو وحدة الفاعل هذه. فلنستمع إلى طائفة من هذه الآيات (هو الذي يسيركم في البر، والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة، وفرحوا بها، جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموت من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله، مخلصين له الدين، لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق، يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة الدنيا، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون). هذا أوضح كلام في التسيير الإلهي للناس، وقد أشار إشارة لطيفة إلى علة الغفلة، وهي سعة الحيلة، فإننا إذا احتلنا في أمورنا، ونجعت حيلتنا في حل مشاكلنا، مد لنا هذا النجاح في أسباب الغفلة، فتوهمنا أنا أصحاب إرادة مختارة. والحيلة في البر أوسع منها في البحر، ولذلك قال: (هو الذي يسيركم في البر، والبحر). ثم ذهب يفصل أهوال البحر التي تظهر أمامها قلة حيلتنا وعندها (دعوا الله، مخلصين له الدين، لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين). فلما جاءت دعوتهم بلسان حالهم أنجاهم، تبارك وتعالى، ثم قص علينا ما كان من أمرهم فقال: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) - يعني لما خرجوا من أهوال البحر، ووطئوا البر، واستشعروا القدرة على الحيلة، رجعت إليهم غفلتهم، وادعوا إرادة واختيارا. وهو هنا يذكرنا بأن الذي يسيرنا في البر هو الذي يسيرنا في البحر، فيجب ألا نكون من الغافلين. وقوله تعالى: (إني توكلت على الله، ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على سراط مستقيم)، وقوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض، طوعا وكرها، وإليه يرجعون)، وقوله تعالى: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم؟ قل الله خالق كل شئ، وهو الواحد القهار)، وقوله تعالى: (تسبح له السموات السبع، والأرض، ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إنه كان حليما غفورا)، وقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) - أي خلقكم وخلق أعمالكم. وقوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض، ولا في أنفسكم، إلا في كتاب، من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور. الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد). وفي جميع هذه الآيات حكمة تربوية بالغة، يستفيد منها من استيقن أمر التسيير. التسيير ما هو؟ أول ما يجب توكيده هو أن الله لا يسير الناس إلى الخطيئة، وإنما يسيرهم إلى الصواب. قال تعالى عن لسان هود: (إني توكلت على الله، ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على سراط مستقيم)، ومعنى هذا أن الله مسير كل دابة على السراط المستقيم، وكل دابة مهتدية، حالاً، ومآلاً، ما دامت في طاعة الله، وليس من شيء في الوجود بمفلت عن هذه الطاعة، ولكن الله تبارك وتعالى يريد أن يكون المطيع مدركًا لهذه الطاعة، وبهذا وضع خطًا فاصلاً بين الهدى والضلال، ما دونه ضال، ومن فوقه مهتد، وهنا دخل اعتبار الإيمان والكفر. وليس الاختلاف بين الإيمان والكفر اختلاف نوع، وإنما هو اختلاف مقدار. فالمؤمن علمه أكثر من الكافر. أو قل أن المؤمن يطيع الله وهو عالم بذلك، والكافر يطيع الله وهو جاهل بذلك، والله تعالى يقول: (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء، وهو العزيز الحكيم) هو يعلم ذلك ولكنهم لا يعلمون، وهو يريد لهم أن يعلموا. و(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟). إن إرادة الله لا تعصى، ولكن الله يريد أن ينقل الخلائق من طاعة ما يريد، إلى طاعة ما يرضى، فإنه سبحانه وتعالى أراد شيئًا لم يرضه. فهو تعالى يقول: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم). فكأنه يقول، إن تكفروا فإنكم لم تكفروا مغالبة لله، وإنما كفرتم بإرادته، ولكنه لا يرضى لكم ما أراده لكم. والرضا هو الطرف الرفيع من الإرادة. أو هو قمة هرم قاعدته الإرادة، فالإرادة في مرتبة (الثنائية)، والرضا في مرتبة (الفردانية)، ففي الإرادة يدخل الكفر والإيمان، ولكن بالرضا لا يدخل إلا الإيمان. والأمر التكويني أعلى من الإرادة. فقمته رضا وقاعدته إرادة فهو هرم مكتمل، وتفصيل ذلك يجيء في آخر يس حيث يقول جل من قائل: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). والأمر التشريعي يمثل قمة هرم الأمر التكويني، حين تكون قاعدته إرادة، والله تعالى حين قال: (وإذا أردنا أن نهلك قرية، أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) إنما أراد بالأمر هنا الأمر التكويني في مستوى قاعدة هرمه، وهو إرادة. وحين قال: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا، والله أمرنا بها، قل إن الله لا يأمر بالفحشاء، أتقولون على الله ما لا تعلمون؟) إنما أراد الأمر التشريعي، ومعنى (إن الله لا يأمر بالفحشاء) إن الله لا يرسل رسلاً، ويؤيدهم بالمعجزات، ثم تكون شرائعهم داعية إلى الفحشاء (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم، والنبوة، ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كمنتم تدرسون. ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟). فالأمر التشريعي دعوة لإخراج الناس من إرادة الله إلى رضاه تعالى، ومن أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وقال فيها: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون). ومع أن الأمر التشريعي وحدة، إذا ما قورن بالإرادة، فإنه، لدى النظر الدقيق، ذو شكل هرمي أيضًا، قاعدته الشريعة الجماعية، وقمته الشريعة الفردية، وقمة هرم الأمر التشريعي هذه، تكون لقمة هرم الأمر التكويني قاعدة، وهذا الأخير قمته عند الله، حيث لا حيث. وإلى هذه القمة الدقيقة، الممعنة في الدقة، الإشارة بقوله تعالى: (إنا كل شئ خلقناه بقدر، وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) وهكذا يظهر بوضوح هرم الكائنات، قمته التنزل الأول إلى مرتبة الاسم، وهو مرتبة الشريعة الفردية وقاعدته التنزل الأخير إلى مرتبة الفعل، وهو مرتبة التعدد، في الأحياء والعناصر، وأسفل السافلين فيها هو الدخان، وهو بخار الماء ومنه خلقت الأشياء، والأحياء. قال تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها، وزينا السماء الدنيا بمصابيح، وحفظا، ذلك تقدير العزيز العليم). وأدنى من ذلك إلى قاعدة هرم الخليقة قوله تعالى عن هذا الدخان: (أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شئ حي، أفلا يؤمنون؟). وحين كانت قمة هذا الهرم عند الله فقد كانت القاعدة بعيدة عنه، وليس البعد هنا بعد مسافة، وإنما هو بعد درجة. فقمة هرم الخليقة، وهي مرتبة الشريعة الفردية، في عالم الملكوت. وقاعدة الهرم في عالم الملك، وعالم الملكوت مهيمن على عالم الملك، حتى أن عالم الملك بمثابة الظلال لعالم الملكوت، فعالم الملك هو عالم الظاهر، وعالم الملكوت هو عالم الباطن، أو قل عالم الملك هو العالم المحسوس، حيث التعدد، وعالم الملكوت هو عالم المعاني، حيث الوحدة. وليس معنى هذا أن ليس في عالم الملكوت محسوس، ولكن معناه أن محسوسه هو من اللطف بحيث لا يحس إلا بالحاسة السابعة. وسلطان العاشقين، ابن الفارض إنما عنى هذا اللطف اللطيف حين قال: ولطف الأواني في الحقيقة تابع للطف المعاني والمعاني بها تنمو ذلك بأن لكل معنى حسًا، ولكل حقيقة شريعة. فكل معنى من المعاني، أو حقيقة من الحقائق هي ذات شكل هرمي، له قمة وله قاعدة، وكلما دقت القمة دقت القاعدة تبعًا لذلك، أو قل، إن شئت، كلما دق المعنى دق الحس. قال تبارك وتعالى: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، وإليه ترجعون) فملكوت كل شيء هو فرديته. وإليه ترجعون توكيد لهذا الفهم، لأن الرجوع إلى الله إنما يكون بتقريب صفات العبد من صفات الرب. فكأن الخلائق مسيرة إلى فردياتها بجمعيتها، من التعدد في الوحدة، بفضل التوحيد. قوله تعالى: (والتين والزيتون. وطور سينين. وهذا البلد الأمين. لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير ممنون. فما يكذبك بعد بالدين. أليس الله بأحكم الحاكمين). لقد ذكرنا أن ظاهر القرآن عنى بآيات الآفاق، وباطنه عنى بآيات النفس البشرية. والكرامة عند الله للبشر، وليست للسموات ولا للأرض، بل إن النملة عند الله أكرم من الشمس، لأن النملة دخلت في سلسلة من الحياة والموت، لم تتشرف بها الشمس، وهي تتطلع إليها، وترجوها بشق النفس. ومن أجل ذلك فإنا لن نتحدث عن تفسير الظاهر في هذه الآيات، ومن أراده فليلتمسه في أي من كتب التفاسير، فهو مبذول. أقسم الله بنفسه حين أقسم بقوى النفس البشرية (يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به، والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا). وهذه النفس الواحدة التي خلقنا منها إنما هي نفسه تبارك وتعالى. و(التين) النفس، و(الزيتون) الروح، و(طور سينين) العقل، و(هذا البلد الأمين) القلب. وقد أسلفنا القول بأن العقل هو نتيجة لقاح النفس والروح، ونقول هنا أن العقل هو طليعة القلب، ورائده إلى المعرفة، وهو له بمثابة عكاز الأعمى، يتحسس به الطريق، أو قل، إن شئت، إن العقل يقوم من القلب مقام الحواس منه هو. وهو حين يقوى، ويستحصد، ويصبح يتلقى مداركه عن الحواس جميعها في كل لحظة، يصير الحاسة السادسة المرتقبة، ذلك بأن الحياة إنما بدأت بحاسة واحدة ثم تقدمت، في سحيق الآماد، إلى الحاسة الثانية، فالثالثة، فالرابعة، فالخامسة، وهي منطلقة في طريقها إلى الحاسة السادسة، ثم الحاسة السابعة، وتلك نهاية المطاف. ولا يكون الترقي بعدها إلا بتطوير هذه الحواس السبع نفسها، لا بزيادة في العدد عليها. فالحاسة السادسة إذن هي العقل، حين يستحصد، ويصبح قادرًا على أن يذوق، ويشم، ويلمس، ويرى، ويسمع، كل شيء، وفي لحظة واحدة. فإذا بلغ العقل هذا المبلغ، فإنه يعرف قدر نفسه، ويعلم أن مكانه خلف القلب لا أمامه، ويسمع، ويحاول أن يطيع، قول العارف الجنيد: (وقدم إماما كنت أنت أمامه). ولكن طاعة هذا الأمر هي أشق الأشياء عليه، وهي لا تتحقق إلا الفينة بعد الفينة، وفي قمة السلوك المجود. ولا يطول المكث فيها، إذ يرد الخطاب من خضر القلب، على موسى العقل (إنك لن تستطيع معي صبرا) ولكن هذه اللحظة القصيرة، التي يطيقها موسى كل فرد مع خضره هي زنة الدهر الدهير، لأنها خارج الدهر. وهي مقام (ما زاغ البصر، وما طغى). وعندها يشاهد السالك من ليس يحويه الدهر. هذا مقام الشهود الذاتي بسقوط كل الوسائط، في تلك اللحظة يبلغ القلب مبلغ الحاسة السابعة وفيها يكون السالك وترًا. ثم لن يلبث العقل أن يدركه ضعفه، فيجهل قدر نفسه، ويتقدم على القلب، وعندها يصبح العابد شفعًا، ويحجب بأنوار العقل عن شهود الذات، ولا يشهد إلا تجلياتها في مرتبة الاسم، أو في مرتبة الصفة، أو في مرتبة الفعل، وأدناها مرتبة وحدة الفاعل، والسالك في مراتب حجب النور صاحب شرك خفي، وهو صاحب شريعة فردية، ومن ثم فهو في ملكوته. قوله تعالى في الآيات السوالف: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) إشارة إلى خلقه في عالم الملكوت، وهو قمة هرم الخليقة، وذلك في عالم الأمر؛ وقوله: (ثم رددناه أسفل سافلين) إشارة إلى خلقه في عالم الملك، وهو قاعدة هرم الخليقة، وذلك عالم الخلق (ألا له الخلق والأمر) وعالم الخلق هو أيضًا الذي أشار إليه بقوله: (إنا كل شئ خلقناه بقدر. وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر)؛ وقصة الخلق في أحسن تقويم، ثم الرد إلى أسفل سافلين، تحكيها هذه الآيات: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال، ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات، والأرض وأعلم ما تبدون، وما كنتم تكتمون؟. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس، أبى واستكبر، وكان من الكافرين. وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطان عنها، فأخرجهما مما كانا فيه، وقلنا اهبطوا، بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر، ومتاع إلى حين. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم. قلنا اهبطوا منها جميعا، فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون. والذين كفروا، وكذبوا بآياتنا، أولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون). خلق آدم في عالم الأمر كاملاً، وعالمًا، وحرًا، وكانت حريته منحة لم يدفع ثمنها، فامتحنه الله ليرى كيف يصنع فيها، فقال: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فتكونا من الظالمين) وكانت الشجرة التي نهي عنها هي نفسه، في الباطن، وزوجه في الظاهر، فلم يحسن التصرف في حريته فيؤثر أمر الله على أمر نفسه، وإنما اختار نفسه عن ربه، وفسق عن أمره، واتصل بزوجه، فصودرت حريته، إذ عجز عن حسن التصرف فيها، وهبط إلى حيث يلقى عقوبة المخالفة، وحيث يبدأ باسترداد حريته بدفع ثمنها، حتى تكون عزيزة عنده، فلا يفرط فيها مرة أخرى، لأن الحرية التي لا يدفع ثمنها لا تعرف قيمتها، ولا يدافع عنها. قال تبارك وتعالى يحذر حبيبه محمدا من حالة آدم: (فتعالى الله الملك الحق، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علما. ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي، ولم نجد له عزما). (ولقد عهدنا إلى آدم) يعني أخذنا عليه عهدًا بأن يحسن التصرف في حريته فيختار الله دائمًا. (فنسي ولم نجد له عزما) نسي عهدنا، وضعف عزمه عن التزام واجب الحرية، فتهالك أمام إغراء زوجه، ورغبة نفسه، فأساء استعمال حريته فصادرناها. و(كذلك نفعل بالمجرمين). وحين عصى آدم ربه عن نسيان، وعن ضعف عن مراغمة النفس، عصاه إبليس عن قصد مبيت، وعن استكبار، ولقد قص الله علينا من خبره فقال: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته، ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم، أجمعون. إلا إبليس، استكبر، وكان من الكافرين. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي، استكبرت أم كنت من العالين؟ قال أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين!. قال فاخرج منها، فإنك رجيم. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم. قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال فالحق والحق أقول. لأملأن جهنم منك، وممن تبعك منهم أجمعين). وقد كان إبليس عابدًا، ولكنه كان متكبرًا، فحجب بنفسه، عن ربه، ولم تنفعه عبادته. وكان إبليس عالمًا، ولكن علمه كان علم ظاهر، ولم يصحب بعلم باطن، ولذلك لم يكن تقيًا، ولا كان ذكيًا، فهو يقسم بعزة الله، (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين) والآية الأخيرة من دلائل علمه، إذ علم أن عباد الله المخلصين لا طاقة له بهم، ولكن علمه كما قلنا علم ظاهر بلا تقوى في الباطن. وأما آدم وحواء فقد قالا: (ربنا ظلما أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين). ومهما يكن من الأمر فإنهم جميعًا قد عصوا أمر ربهم، وصاروا بالمعصية غلاظًا، كثافًا غير منسجمين مع تلك البيئة اللطيفة، فهبط بهم وزنهم الكثيف، من سلم الترقي إلى الدرك، وهو ما سمي في آيات (والتين) أسفل سافلين، وكان ترتيبهم في الهبوط إبليس أولاً، متبوعًا بحواء، ثم آدم. وفي بيئتهم الجديدة احتوشتهم الشرور، من كل جانب، ولكنهم ما لبثوا أن تأقلموا، ونسوا ما كانوا فيه من كمال إلا قليلاً. واستجاب الله دعاء إبليس، فأنظره إلى يوم يبعثون. فلبث في أسفل سافلين، من غير ترق منه، لأنه لم يطلب الترقي، وإنما طلب الإنظار. واستجاب الله دعاء آدم وحواء، فلم يلبثا في أسفل سافلين إلا ريثما أدركتهما المغفرة التي طلباها في ساعة مخالفتهما أمر ربهما (إن رحمة الله قريب من المحسنين). وقد يظن ظان حين يقرأ في الآيات السوالف من سورة (والتين) قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير ممنون) أن الاستثناء هنا يعني أنهم لم يردوا إلى أسفل سافلين، وهذا خطأ. والحق أن هذه الآية وسابقتها تؤديان المعنى المؤدى بقوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها، كان على ربك حتما مقضيا. ثم ننجي الذين اتقوا، ونذر الظالمين فيها جثيا) فنجي، من أسفل سافلين، آدم وحواء وبدأ ترقيهما، بفعل المغفرة والرحمة، وترك إبليس، حيث لم يفكر في التغيير. قوله (فما يكذبك بعد بالدين؟) - الدين الجزاء، وهو المعاوضة، وهو القصاص، وفيه إشارة إلى قانون القصاص، الذي قلنا إن الإسلام بني على حقيقته، وشريعته، والإشارة ترمي إلى إرشادنا إلى أن الإنسان، إنما رد من مقام أحسن تقويم، إلى درك أسفل سافلين، بحكم قانون المعاوضة، جزاء وفاقًا. قوله: (أليس الله بأحكم الحاكمين) تزكية لقانون المعاوضة، وتذكير لنا بالحكمة المودعة فيه. المغفرة لآدم وحواء كيف غفر لآدم؟ إن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم فأطاعوا، وأمر إبليس أن يسجد لآدم فعصا، فأما الملائكة فقد أطاعوا الأمر التشريعي، وهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) وأما إبليس فقد عصا الأمر التشريعي، ولكنه بالمعصية، أطاع الأمر التكويني، وليس له من ذلك بد. والسجود يعني تسخير الملائكة لآدم، وتسخير إبليس، على تفاوت في التسخيرين. فتسخير الملائكة إعانة على الخير، وهداية إلى الحق، وتسخير إبليس دلالة على الشر، وإضلال عن الحق، وآدم متنازع بين الخير من أعلى، والشر من أسفل، وهو في الحالتين ساير إلى الله. (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) فالنعم الظاهرة هي العوافي، والنعم الباطنة هي المصائب - وكلها رحمة، وإن كانت النفوس تنفر من المصائب، وترتاح إلى العوافي، ولكن الله تبارك وتعالى يقول: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم، وأنتم لا تعلمون)، وكل المصيبة في نقص العلم. فإذا تصورت أول مخلوق بشري قائم على الخط الفاصل بين الحيوانية والإنسانية، وتصورته رأس سهم التطور، فقد تصورت آدم الخليفة في الأرض، وهو في مرحلة من مراحل تطوره من بدايات سحيقة، ولكنها مرحلة تحولية، دخلها بقفزة فريدة، نتجت عن استجماع فضائل شتى، اختزنها أثناء تطوره الطويل، المرير، من تلك البدايات السحيقة، وتلك القفزة هي المعبر عنها بقوله تعالى (ثم أنشأناه خلقا آخر) من الآيات الكريمات (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين). وهي بعينها المعبر عنها بقوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) من الآيتين الكريمتين (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته، ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدين) - (فإذا سويته) هذه، تشير، بإجمال معجز، إلى سلسلة التطور التي بدأت من بخار الماء، حيث كانت السموات والأرض سحابة واحدة، وإلى أن استعد المكان لنفخ الروح الإلهي فيه. ولقد قلنا إن الروح الإلهي هو (إرادة الحرية) التي توجت (إرادة الحياة) فارتفع بها الإنسان فجأة فوق الحيوانات العليا. ولم توجد إرادة الحرية فجأة بعد عدم، وإنما برزت بعد كمون طويل فهي بمثابة الزبدة التي مخضها العراك من لبن الحياة، ولقد تحدثنا عنها آنفًا وقلنا إنها دخلت في عراك مع إرادة الحياة، وإن العقل نتيجة هذا اللقاء. وإرادة الحياة نبتت من الأرض، وعوامل السماء فيها موجودة، ولكنها أضعف من عوامل الأرض. وإرادة الحرية نشأت من الأرض، ولكن عوامل السماء فيها قوية، فبها القامة البشرية قامت على الرجلين، وخصصتهما للمشي، وفرغت بذلك اليدين لمزاولة أعمال ذات صلة بالعقل أكبر، وكذلك استطاعت أن تدير رأسها، بسهولة، ويسر، على ما حولها، وما فوقها، فترى الشمس والقمر والنجوم، وأن تمشي سوية، تهتدي في مسالك الأرض، وفي طرائق السماء (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى، أم من يمشي سويا على سراط مستقيم؟). وآدم، في الوجود، متنازع بين الملائكة من أعلى، والأبالسة من أسفل، فهو برزخ الوجود كله، وهو في ذلك عقل الوجود أيضًا، والله تبارك وتعالى يعنيه حين قال، جل من قائل: (مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان): والبحران هنا هما: بحر الأرواح العلوية، التي أشرقت بالطاعة؛ وبحر الأرواح السفلية التي انكدرت بالمعصية. وعقل آدم، في آدم، متنازع بين (إرادة الحياة) وهي النفس، من أسفل، و(إرادة الحرية)، وهي الروح، من أعلى. وهو أيضًا برزخ، والله تعالى يعنيه، في الآيتين الكريمتين السالفتين، وهو معناهما الباطن، وآدم معناهما الظاهر. والنفس قانونها ابتغاء اللذة بكل سبيل، واجتناب الألم بكل سبيل أيضًا. ولذلك فهي تطيع الأمر التكويني، وتثقل عليها طاعة الأمر التشريعي، لأنه يضع لها الحدود، وهي في ذلك أشبهت إبليس. والروح قانونها الحرام والحلال، وهي تبتغي من النفس أن تستعصم عن اللذة العاجلة إذا كانت حرامًا، وذلك ابتغاء اللذة الآجلة الحلال، وفرارًا من الألم المترتب على تعاطي اللذة الحرام، سواء كان هذا الألم معجلاً أو مؤجلاً. ولذلك فهي ترتفع من طاعة الأمر التكويني، إلى طاعة الأمر التشريعي. وهي في ذلك أشبهت الملائكة. وآدم، في هذه المرحلة البدائية من تطوره، قيل له كل من هذا، ولا تأكل من هذا؛ أي قيل له هذا حرام وهذا حلال، فإن هو قوي على مراغمة النفس، وعصا أمرها بالسوء، واجتنب الحرام، فقد أحسن التصرف في حريته، واستحق أن يزاد له فيها، والله تعالى يقول: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟) وجزاء الإحسان مضاعف، وذلك محض فضل. اسمعه يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، وهم لا يظلمون). وقد تضاعف أضعافًا كثيرة، وقد تضاعف بغير حساب. اسمعه تبارك وتعالى يقول: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم) فههنا الحبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، فذلك سبعمائة ضعف، ثم قال، فوق ذلك: (والله يضاعف لمن يشاء) كأن يكون سبعة آلاف ضعف، أو سبعين ألف ضعف، فإذا قال (والله واسع عليم) فقد خرج عن العدد، إلى السعة المطلقة. وإن هو لم يقو على مراغمتها، وضعف أمام إغرائها، واسترسل في تحصيل شهوتها الحرام، فقد أساء التصرف في حريته، وعرضها، من ثم، للمصادرة. فإن كان سوء تصرفه هذا فيه اعتداء على حق من حقوق الجماعة، صودرت حريته وفق قانون المعاوضة في الشريعة، وآيته من كتاب الله قوله تبارك وتعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). وإن كان سوء تصرفه إنما يقع وباله على نفسه وحدها، دون غيرها من الأنفس، صودرت حريته وفق قانون المعاوضة في الحقيقة، وآيتاه من كتاب الله قوله تبارك وتعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). هذا ولا يظنن أحد أن قانون المعاوضة في الشريعة، دائمًا، كان في هذا الإحكام الذي وردت به التوراة، ثم أقره الإنجيل من بعدها، ثم جاء القرآن بتأييده وإقراره. ذلك بأنه قانون يتطور مع تطور المجتمع البشري، ويتأثر بمستوى دقة العقل البشري ومقدرته على مضاهاة قانون الحقيقة الذي هو أصله، والذي كان، ولا يزال، في منتهى الإحكام، وهو لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. والدقة التي هي حظ قانون المعاوضة في الحقيقة، والتي فاتت كثير من صورها على قانون المعاوضة في الشريعة، تجد ضبطها في أن القانونين يعملان معًا في مصادرة حرية من عجز عن الوفاء بحق الحرية، من غير أن تكون هناك عقوبتان على خطيئة واحدة، وفي مستوى واحد من مستويات العقاب. وأقرب قوانين المعاوضة في الشريعة دقة من قوانين المعاوضة في الحقيقة الحدود، وهي أربعة: الزنا والقذف والسرقة وقطع الطريق. وترجع إلى أصلين هما حفظ العرض، وحفظ المال، وهما أول قانونين نشآ في المجتمع البشري البدائي، وإليهما يرجع الفضل في جعل المجتمع ممكنًا. ويلي هذه الحدود حد السكر، ثم تجئ قوانين القصاص الأخرى في النفس بالنفس، والعين بالعين. ومعاوضة فعل الشر إنما تكون بوضع الألم في مقابلة اللذة من النفس، والمراد من ذلك وزن قواها حتى تعتدل، ولا تحيف، فتتهالك على اللذة بغير كتاب منير. كيف غفر لآدم؟ الجواب غفر له بإعطائه حق الخطأ. وهذا يعني أن حريته لم تصادر مصادرة أبدية فيقام عليه وصي إلى نهاية ذلك الأبد، كما فعل بإبليس، وإنما أذن له في استردادها، وبدأ بممارسة ما يطيق منها، فهو يعمل في ذلك بين الخطأ والصواب، فكلما أحسن التصرف في الحرية التي لديه أوتي مزيدًا منها، وإن بدرت منه إساءة في التصرف تحمل نتيجة سوء تصرفه بعقوبة معاوضة، ومقابلة للخطيئة، يراد بها إلى شحذ قوى نفسه، حتى تتأهل، أكثر من ذي قبل، لتحمل واجب الحرية في ذلك المستوى الذي بدر منها العجز عنه. ثم إن هذه العقوبة يتجلى فيها اللطف الإلهي كما يليق به، فهو يجازي بالحسنة عشر أمثالها، وقد يضاعفها حتى تخرج عن الحصر، وهو لا يجازي بالسيئة إلا مثلها، وقد يعفو عنها، وقد يبدلها حسنة، وقد يضاعفها، بعد ذلك، أضعافًا لا حد لها؛ فهو تبارك وتعالى يقول: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق آثاما، يضاعف له العذاب، يوم القيامة، ويخلد فيه مهانا. إلا من تاب، وآمن، وعمل عملا صالحا، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما) ولقد ألهم آدم كلمات فتلهمها، فكانت سببًا إلى التوبة، فالمغفرة: (فتلقى آدم من ربه كلمات، فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم)، ولقد كانت تلك الكلمات هي (ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا، وترحمنا، لنكونن من الخاسرين). هذه هي المغفرة لآدم بعد أن أصبح بشرًا عاقلاً، ولقد أنفق آدم دهرًا دهيرًا قبل أن يبلغ هذه المرتبة الرفيعة. قال تعالى في ذلك: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا. إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعا بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) - يعني قد أتى على آدم عهد سحيق، لم يكن فيه مكلفًا، ولا مسئولاً، لأنه لم يبلغ مبلغ العقل، ولقد تحدثنا عن هذا آنفًا، وقلنا إن الله سير الحياة، من لدن ظهورها بين الماء والطين، وإلى أن بلغت مبلغ العقل، تسييرًا شبه مباشر، وقانونها يومئذ هو قانون المعاوضة في الحقيقة، وآيتاه من كتاب الله، كما سبق بذلك التقرير، هما الآيتان الكريمتان: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وهو قانون يعمل دائمًا على تنمية الخير، ومحو الشر، وذلك بسوق الحياة إلى كنف الله الرحيم. هذا التسيير في مراقي القرب هو المغفرة لآدم، من لدن النطفة الأمشاج، وإلى أن أصبح بشرًا مكلفًا، فماذا كان آدم قبل هذا؟ وكيف غفر له؟ اسمع: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) فقبل أن يصبح آدم نطفة مختلطة بالطين - نطفة أمشاجا - قد كان ذرة من بخار الماء، الذي هو أصل الحياة، كما يخبرنا تبارك وتعالى: (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شئ حي، أفلا يؤمنون) وهذه الذرة هي أصل سلالة الطين. وإنما غفر له في هذه المرحلة بهذا التسيير المباشر، بالقهر الإرادي، الذي حفز الحياة إلى الله وأزعجها إلى قربه، فارتقت المراقي، وبلغت المبالغ. وقانون هذه الإرادة الإلهية، هو قانون المعاوضة في الحقيقة أيضًا. وهذه المغفرة لآدم في مستوياتها المختلفة هي بعينها التسيير، فالناس مسيرون، من مرتبة العناصر إلى مرتبة الحياة ومن مرتبة الحياة البدائية إلى مرتبة الحياة المتقدمة الراقية المعقدة، ومن هذه إلى مرتبة الحرية الجماعية بدخول العقل في المسرح، ومن مرتبة الحرية الجماعية، إلى مرتبة الحرية الفردية المطلقة، والتسيير يطرد في هذه إلى غير نهاية، لأنه سير إلى الله في إطلاقه. التسيير خير مطلق بدخول العقل في المسرح نشأ قانون المعاوضة في الشريعة، وهو قانون فج، إذا ما قيس إلى قانون المعاوضة في الحقيقة، ولكنه يدق، وينضبط، كلما قوي العقل واستحصد. وهو القانون الحادث، ويحكي الإرادة البشرية، المحدثة. وهو إنما يستهدف إتمام الانطباق على القانون القديم، الذي يحكي الإرادة الإلهية القديمة... وهيهات!! والإنسان مسير من البعد إلى القرب، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن التعدد إلى الجمعية، ومن الشر إلى الخير، ومن المحدود إلى المطلق، ومن القيد إلى الحرية. والتسيير، من بدايته، هو رحمة في صورة عدل، وهو أكبر من العدل - (فالرحمة فوق العدل) - وقد أسلفنا القول في ذلك. والتسيير حرية لأنه يقوم على ممارسة العمل بحرية (مدركة) في مستوى معين، فإذا أحسن المتصرف التصرف زيد له في حريته، فارتفع مستواه بالتجربة والمرانة، وإن لم يحسن التصرف تحمل مسئوليته بقانون حكيم يستهدف زيادة مقدرته على حسن التصرف. وهكذا، فكأن الإنسان مسير من التسيير إلى التخيير، لأن الإنسان مخير فيما يحسن التصرف فيه، مسير فيما لا يحسن التصرف فيه، من مستويات الفكر، والقول، والعمل. هناك حديث قدسي جرى من الله تعالى لنبيه داوود: (يا داؤود! إنك تريد، وأريد، وإنما يكون ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد) ولقد قرر الأمر من الوهلة الأولى حين قال، في صدر الحديث: (وإنما يكون ما أريد) فدل بذلك على أن إرادة الله هي النافذة. وحين قال: (فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد) دل على أن إرادة الإنسان تكون نافذة المفعول إن هو أراد الله. فإن قلت فهل هو يملك أن يريد الله؟ قلنا هو لا يملك من تلك الإرادة إلا ما ملكه الله تعالى إياه، فإنه سبحانه وتعالى يقول: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)، وهو يشاء لنا في كل لحظة أن نحيط بشئ من علمه، وإلى ذلك الإشارة بقوله (كل يوم هو في شأن) وشأنه هو إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه، وليس يومه أربعًا وعشرين ساعة، وإنما يومه وحدة زمنية التجلي، وقد تنقسم فيه الثانية إلى جزء من بليون جزء، حتى ليكاد الزمن أن يخرج عن الزمن، كل ذلك وفق ما أودع الله في المكان من قابلية التلقي، ولما كان القيد على قابلية التلقي لا يخضع إلا لحكمة المطلق، فهو قيد في حرية، وضيق في سعة، ومن أجل هذه الرحمة المطلقة فإننا أصبحنا نشعر بأننا نملك إرادة حرة، وهذا الشعور أوجب علينا أن نحسن التصرف في حرية إرادتنا هذه. وحسن التصرف في حرية الإرادة إنما يكون بأن نريد الله، ولا نريد سواه، فإن نحن قمنا بذلك عن يقين مكتمل: فكرًا، وقولاً، وعملاً، فإنه يمدنا بمزيد من حرية الإرادة، وإن نحن أسأنا التصرف في حرية الإرادة، فأردنا سواه، صادر حريتنا بما يعلمنا كيف نحسن التصرف في مستأنف أمرنا، وحسن تصرفنا منه منة، وسوء تصرفنا منه حكمة، وهدف الحكمة أن يستعد المكان لتلقي المنة، وكل ذلك إنما يجري في لطف تأت، لا ينزعج معه لنا خاطر، ولا يمحى معه لنا وجود. ونحن لا نختار أنفسنا عن الله إلا لجهلنا، وليس الجهل ضربة لازب علينا، وإنما نحن نخرج عنه إلى العلم كل لحظة. فإن قلت فلماذا لم نخلق علماء، فنكفى بذلك شر الجهل، وسوء التصرف في الحرية، وما يترتب على سوء التصرف من عقوبة؟ قلنا إن العقوبة هي ثمن الحرية، لأن الحرية مسئولية، والمسئولية التزام شخصي في تحمل نتيجة العمل، بين الخطأ والصواب. ولقد خلق الله خلقًا علماء لا يخطئون، ولكنهم ليسوا أحرارًا، ولقد نتج عن عدم حريتهم نقص كمالهم... أولئك هم الملائكة، فإن الله فضل عليهم البشر، وذلك لمكان خطئهم وصوابهم، أو قل لمكان طاقتهم على التعلم بعد جهل، وإلى ذلك الإشارة بحديث المعصوم (إن لم تخطئوا وتستغفروا فسيأت الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم)، فكأن الخطائين المستغفرين هم موضع نظر الله من الوجود، لأنهم سيصيرون إلى الحرية، والحرية المطلقة، وهي حظ الله العظيم. وكل مقيد مصيره إلى الحرية، والحرية المطلقة في ذلك، وكل جاهل مصيره إلى العلم، والعلم المطلق في ذلك أيضًا. والله تبارك وتعالى يقول: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)، ويقول: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وأنكم إلينا لا ترجعون). وملاقاة الله، والرجوع إليه، لا يكون بقطع المسافات، وإنما يكون بتقريب الصفات، من الصفات. ومن أجل ذلك قررنا أن التسيير خير مطلق، وهو في حقيقة أمره خير، في الحال، وخير، في المآل. وسيجيء وقت ينتهي فيه الجهل بفضل الله في التسيير، وإلى ذلك أشار المعصوم حين قال: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، ولعلمتم العلم الذي لا جهل بعده، وما علم ذلك أحد!! قالوا ولا أنت؟ قال ولا أنا!!)، قالوا ما كنا نظن الأنبياء تقصر عن شيء!! قال: (إن الله أجل وأعظم من أن ينال ما عنده أحد!!). وكلما قل الجهل، وزاد العلم، قل الشر، ورفعت العقوبة، عن المعاقبين، في تلك المنطقة التي وقعت تحت علمهم. فالعقاب ليس أصلاً في الدين، وإنما هو لازمة مرحلية، تصحب النشأة القاصرة، وتحفزها في مراقي التقدم، حتى تتعلم ما يغنيها عن الحاجة إلى العقاب، فيوضع عنها إصره، وتبرز نفس إلى مقام عزها. وما من نفس إلا خارجة من العذاب في النار، وداخلة الجنة، حين تستوفي كتابها في النار، وقد يطول هذا الكتاب، وقد يقصر، حسب حاجة كل نفس إلى التجربة، ولكن، لكل قدر أجل، وكل أجل إلى نفاد. والخطأ، كل الخطأ، ظن من ظن أن العقاب في النار لا ينتهي إطلاقًا، فجعل بذلك الشر أصلاً من أصول الوجود، وما هو بذاك. وحين يصبح العقاب سرمديًا يصبح انتقام نفس حاقدة، لا مكان فيها للحكمة، وعن ذلك تعالى الله علوًا كبيرًا. القضاء والقدر هناك ما يسمى سر القدر، وهو الطرف الرفيع من القضاء، ولقد وردت الإشارة إليه في قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر. وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر). فالقضاء هو هذا الأمر الواحد الذي خرج عن الزمان والمكان، كما تفيد عبارة (كلمح بالبصر)، والقدر هو تنفيذ القضاء وإبرازه في حيز الزمان والمكان، على مكث، وتلبث، وتطوير. والقضاء والقدر وردت الإشارة إليهما أيضًا في آية أخرى، وهي قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء، ويثبت، وعنده أم الكتاب). فقوله تعالى (يمحو الله ما يشاء، ويثبت) إشارة إلى القدر، وهي في ذلك إشارة إلى التطور، بتعاقب صور الكائنات - وقد أسلفنا الإشارة إلى أن الحياة تتقلب في الصور، ابتغاء أن تكون ثابتة في الصور كما هي ثابتة في الجوهر، وهيهات!!؛ وقوله (وعنده أم الكتاب) يعني القضاء، يعني سر القدر. وإليهما أيضًا الإشارة بقوله تعالى: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم). فقوله (وما ننزله إلا بقدر معلوم) تعني القدر، وقوله (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) تعني القضاء، تعني سر القدر أيضًا. فالقدر منطقة ثنائية، حيث الخير والشر، والعلم والجهل، ولكن القضاء منطقة وحدة، حيث يختفي الشر، ولا يبقى إلا الخير المطلق، عند الله، حيث لا عند. وهذا ما يسمى عند أصحابنا بسر القدر، وهو أمر لم يكن عندهم مما يصح البوح به، وذلك مراعاة لحكم الوقت، وتأدبًا بأدبه. وهناك سابقتان لكل مخلوق: سابقة في القضاء، وسابقة في القدر؛ فأما السابقة في القضاء فهي خير مطلق لكل الخلائق، وأما السابقة في القدر فهي إما خير، وإما شر، وأمرها مغطى على الناس، وقد تدل، على هذه السابقة، اللاحقة، وهي ما يكون عليه الإنسان في حياته اليومية من صلاح أو طلاح، وأمر اللاحقة غير مغطى على أصحاب البصائر، الذين يعرفون عيوب العمل بالشريعة، وإرسال الله الرسل، لكشف اللاحقة، بتفصيل الشريعة، وتغطيته تعالى السابقة في سر لوحه المحفوظ، ألزم عباده الحجة، وأوجب عليهم العمل بأوامر الشريعة، ونواهيها، (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). ولقد قال، جل من قائل، في ذلك: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم، ما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون). ما لهم بمشيئة الرحمن من علم، لأنها مغطية عنهم، وإنما لهم علم بشريعة الرحمن، وقد أمرتهم ألا يعبدوا إلا إياه، وقوله (إن هم إلا يخرصون): تعني إلا يكذبون، وذلك لأنهم لا يردون الأمور كلها لله، في أمور معاشهم، وفي كسب أرزاقهم، وما ردوها إليه في أمر عبادتهم إلا لقلة يقينهم بالآخرة، إذا ما قيست إلى الدنيا. وحين تطلع النفس على سر القدر، وتستيقن أن الله خير محض، تسكن إليه، وترضى به، وتستسلم وتنقاد، فتتحرر عندئذ من الخوف، وتحقق السلام مع نفسها، ومع الأحياء والأشياء، وتنقي خاطرها من الشر، وتعصم لسانها من الهجر، وتقبض يدها عن الفتك، ثم هي لا تلبث أن تحرز وحدة ذاتها، فتصير خيرًا محضًا، تنشر حلاوة الشمائل في غير تكلف، كما يتضوع الشذا من الزهرة المعطار. ههنا يسجد القلب، وإلى الأبد، بوصيد أول منازل العبودية. فيومئذ لا يكون العبد مسيرًا، وإنما هو مخير. ذلك بأن التسيير قد بلغ به منازل التشريف، فأسلمه إلى حرية الاختيار، فهو قد أطاع الله حتى أطاعه الله، معاوضة لفعله؛ فيكون حيًّا حياة الله، وعالمًا علم الله، ومريدًا إرادة الله، وقادرًا قدرة الله، ويكون الله. وليس لله تعالى صورة فيكونها، ولا نهاية فيبلغها، وإنما يصبح حظه من ذلك أن يكون مستمر التكوين، وذلك بتجديد حياة شعوره وحياة فكره، في كل لحظة، تخلقًا بقوله تعالى عن نفسه (كل يوم هو في شأن)، وإلى ذلك تهدف العبادة، وقد أوجزها المعصوم في وصيته حين قال: (تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على سراط مستقيم)، وقد قال تعالى: (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون). وفي حق هؤلاء قال تعالى: (لهم ما يشاءون عند ربهم، ذلك جزاء المحسنين)؛ فقوله (لهم ما يشاءون) يعني هم مخيرون، وقوله (عند ربهم) يعني مقام العبودية، لأنه لا يكون عند الرب إلا العبد، وقوله (ذلك جزاء المحسنين) يعني بالمحسنين من أحسنوا التصرف في الحرية الفردية المطلقة، وذلك باستعمالها في تحقيق العبودية لله، فإنه تعالى قد قال: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون). ههنا منطقة فرديات، والشرائع فيها شرائع فردية، والداعية فيها إلى الله، الله نفسه. يقوم فيها العبد في مواجهة الرب، وقد سقطت من بينهما الوسائط، ورفعت الحجب - حجب الظلمات وحجب الأنوار-. العبادة فيها عبودية، والعمل فيها ملاحظة السابقة، وضبط اللاحقة عليها، حتى يستقيم الوزن بالقسط، إذ محاولة العبد هنا أن يكون لربه كما هو له، وهذا معنى أمر الرب سبحانه حين قال: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)؛ فإذا كان حضور العبد مع الرب كحضور الرب مع العبد تمامًا فقد أقيم الوزن بالقسط.. وهيهات!! ولا بأس هنا من استطراد بسيط إلى القيمة العملية من العبادة، ذلك أن قيام العبد في مواجهة الرب، وقد سقطت من بينهما الوسائط، تعني اللقاء بين الحادث والقديم، وقد رفعت من بينهما الحجب، والحادث هنا العقل والقديم القلب، وهو ما يعبر عنه أيضًا بالعقل الباطن. وهذه الحجب هي جثث الرغبات المكبوتة على سطح العقل الباطن، بفعل الخوف الموروث، في سحيق الآماد، من لدن النشأة البشرية الأولى، وهي (الرين) الذي وردت الإشارة إليه في قوله تعالى (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). ولا يمكن أن يبلغ الفرد الحرية الفردية المطلقة وهو منقسم على نفسه، وبعضه حرب على بعض. بل لا بد له من إعادة الوحدة إلى بنيته، حتى يكون في سلام مع نفسه، قبل أن يحاول أن يكون في سلام مع الآخرين، فإن فاقد الشيء لا يعطيه. وهو إنما يكون في سلام مع نفسه حين لا يكون العقل الواعي في تضاد، وتعارض مع العقل الباطن، ويومئذ تتحقق سلامة القلب، وصفاء الفكر. وبعبارة أخرى، تتحقق حياة الفكر، وحياة الشعور، وتلك هي الحياة العليا. وتوحيد القوى المودعة في البنية إنما يتم بأن يفكر الإنسان كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، وهذا هو مطلب القرآن إلينا جميعًا، حين قال، عز من قائل: (يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). وإنما يفض التعارض القائم، بين العقل الواعي والعقل الباطن، عن طريق فهم التعارض القائم بين الفرد والجماعة، وبين الفرد والكون - وقد بينا فضل الإسلام في ذلك -، وهكذا يتضح أن ضرورة فهم علاقة الفرد بالجماعة، والفرد بالكون، فهمًا دقيقًا إنما تجئكن الحاجة العملية إلى المنهاج الذي به يتم تحقيق الحرية الفردية المطلقة، ولا يتم بمنهاج سواه. بقي شيء وهو أن هنالك خطأ يتورط فيه كثير من المفكرين، وذلك حين يظنون أن القول بالتسيير فيه سلبية، والحق غير ذلك، ذلك لأن تغطية ما سبق به القدر، وكشف ما جاءت به الشريعة، قد أوجبا على الإنسان العمل بأوامر الشريعة، ونواهيها، جهد الإتقان، والإحسان، ثم الرضا بعد ذلك بما عسى أن يكون مكتوبًا عند الله ومقدرًا، وذلك توكلا عليه، وثقة به - ولقد قال المعصوم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته). بل إني لا أعلم إيجابية تبلغ إيجابية من يعمل الواجب المباشر جهد الإتقان (لأن الله قد كتب الإحسان على كل شيء) ثم يرضى بالنتيجة مهما كانت من غير أن تذهب نفسه حسرات عند الخيبة، أو يستخفه الفرح عند النجاح، والله تبارك وتعالى يربينا، في ذلك ويؤدبنا، بقوله جل من قائل: (ما أصاب من مصيبة، في الأرض، ولا في أنفسكم، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور). الخلاصة وخلاصة الأمر، في علاقة الفرد بالكون، هي أن موضعه منه ليس موضع اللد والخصومة، ولا موضع المناجزة والمصاولة التي لا تهدأ حتى تبدأ من جديد، في صعيد جديد. إن الإنسان ثمرة الكون، وصفوته، وهو فيه ملك في مملكته، مكانه منها مكان السياسة الحكيمة، والإدارة القديرة والعدل الموزون. وقد تأذن رب الكون أن يجعل الإنسان خليفته عليه، فهو يعده لهذه الخلافة بالتربية والتعليم والإرشاد الحكيم. وقد خيل الجهل للإنسان أنه مقصود بالعداوة، في غير رحمة ولا هوادة، فأصبح يحارب في غير محترب، ويعادي في غير موجب للعداوة، وهو لن يبلغ مبلغ الخلافة إلا إذا شب عن العداوات، وعلم أنه أكبر من أن يعادي، ولم يصبح في قلبه مكان إلا للمحبة؛ فالله يحب جميع الخلائق: غازها، وسائلها، وحجرها، ومدرها، ونباتها، وحيوانها، وإنسانها، وملكها، وإبليسها؛ فإنه، تبارك وتعالى، إنما خلق الخلائق بالإرادة، والإرادة (ريدة) وهي المحبة، ولن يكون الإنسان خليفة الله على خليقته إلا إذا اتسع قلبه للحب المطلق لكل صورها وألوانها، وكان تصرفه فيها تصرف الحكيم، الذي يصلح ولا يفسد. ولا يعوق الحب في القلوب مثل الخوف، فالخوف هو الأب الشرعي لكل الآفات التي إيف بها السلوك البشري في جميع عصور التاريخ. ولا يصلح الإنسان للخلافة على الأرض، ولا للتصرف السليم في مملكته، وهو خائف. وليس هناك أسلوب، ولا نهج للتربية، يحرره من الخوف غير الإسلام؛ فبالإسلام يتم سلام الإنسان مع نفسه، ومع ربه، ومع جميع الأحياء، والأشياء. قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين). السلم يعني الإسلام، ويعني السلام، وهما بمعنى واحد (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) فيغري بينكم العداوة، والبغضاء. والإشارة إلى العداوة وردت في قوله تعالى (إنه لكم عدو مبين). *** *** *** |
|
|