|
«الشرّ» لفرانسوا مورياك:
بعدما نشر فرانسوا مورياك روايته الشر على صفحات مجلة غدًا (دومان) عام 1924، ظل طوال أكثر من إحدى عشرة سنة مترددًا غير راغب حقًا في نشرها في كتاب على حدة. بل إنه في عام 1926، أي بعد عامين من نشر الرواية في المجلة، وفي وقت كان كثر من رفاقه المقربين يطالبونه بنشر الرواية في كتاب، نراه ينتزع من هذه الرواية، فصولاً عدة اعتبرها جيدة، لينشرها معًا كنص متكامل تحت عنوان فابيان. لاحقًا، في العام 1935، حين اقتنع مورياك أخيرًا ونشر الشر اعتقد كثر أنها غير فابيان، فإذا بهم يفاجأون بأن العملين واحد. ولكن، بعد هذا، لماذا استنكف مورياك طوال أكثر من عقد من السنين عن نشر الشر على تلك الشاكلة؟ ولماذا اكتفى بفصول معينة نشرها في فابيان؟ على هذين السؤالين كان مورياك يتذرع دائمًا بالمستوى الفني قائلاً إن كل ما في الأمر أنه لم يجد نفسه راضيًا عن ذلك النص كما نشر في المرة الأولى. إذًا، ما باله بعد سنوات طويلة يرضى عن النص وينشره؟ لسنا ندري تمامًا، كما أن مورياك، في مذكراته التي أصدرها لاحقًا، لم يفسر الأمر كثيرًا. غير أن التخمينات لا ينبغي، مع هذا، أن تذهب بعيدًا. ومن هنا ربما كان من الأصح الاكتفاء بالذريعة المورياكية، في انتظار تفسيرات أخرى أكثر اقناعًا. ولربما يصح في الوقت نفسه أن نعثر على ارهاص بهذه التفسيرات في ثنايا النص الذي لم يكتبه مورياك عن نفسه، بل كتبه عنه فيليب سولرز، الكاتب المعاصر لنا، والذي كان، على رغم طليعيته وعلمانيته، يبدي فائق الإعجاب بكاتب لا بأس من أن نقول إنه كان نقيضه تمامًا، حتى في الاختبارات السياسية والحياتية. فسولرز يطرح في النص الذي كتبه عن مورياك سؤالاً بسيطًا في ظاهره هو: ما هو سرّ مورياك؟ ويجيب: سره هو، بالتأكيد، إيمانه الديني ولكن كذلك ضروب شغفه الأدبية، حيث أن الأسماء التي ترد دائمًا خلال الحديث عن مورياك وذوقه الأدبي هي باسكال، ريمبو، وبروست. ولعل أول ما يلفت نظرنا في هذا، هو أن أيًا من هؤلاء الثلاثة لا يشارك مورياك إيمانه، بل كلهم على نقيض منه تمامًا. ولعل في إمكاننا أن نجد تفسيرًا لهذا في ما يضيفه سولرز في هذا الإطار بالذات: ... احتفل مورياك بنص إني اتهم لزولا، وأسدى تحية صادقة الى غاندي معلنًا أسفه كون أي واحد من باباوات روما لم يضرب عن الطعام في لحظة ملائمة (...). إن ما كان يثير حنق مورياك لم يكن الشر في حد ذاته («فالشر هو الشر») بل المحاولات المنافقة التي تجري لجعله يبدو طبيعيًا، ضروريًا... ومن هذا المنظور كان المركيز دوساد يصدم مورياك، بأقل مما يصدمه أندريه جيد. فـ «ساد» كان، حسبما يصفه باسكال «ملحدًا له علاقة بالعناية الإلهية»، «يدنس ما يجهله» أما أندريه جيد فإنه ينكر ما يعرفه. في ضوء هذه المقدمة، قد نكون أكثر قدرة ليس فقط على قراءة رواية مورياك الشر بل كذلك على فهم مواقف صاحبها المترددة منها. غير أن هذا الكلام كله قد لا يستطيع ضمان أن يجد القارئ في نص هذه الرواية حبكة غنية. ذلك لأنها - إذا استثنينا أهميتها التاريخية وكذلك أهميتها بالنسبة الى كشفها عن بعض مواقف الكاتب - قد لا يكون ممكنًا اعتبارها من أعمال مورياك الكبرى. تدور رواية الشر من حول الشاب فابيان ديزيري، الذي كان في صباه ومراهقته شديد الورع والتقوى مؤمنًا بالدين وقيمه، في حمى أمه الورعة، حدث له ما إن شب عن الطوق أن وجد نفسه مندفعًا في شكل فجائي وغير متوقع في دروب الشر. وربما كان التفسير الوحيد لهذا الانقلاب لديه، نابعًا من مواقف شديدة الشخصية ومن طبع حمي في شكل مباغت، ليجد الشاب مبدلاً إيمانه بالروح والقيم الدينية، بإيمان بالجسد والملذات العابرة. أما الكيفية التي حدث بها هذا لديه، فلربما تكون على علاقة بالفتاة الشابة فاني (وهو ما يحدث عادة في الكثير من الميلودرامات التي كانت رائجة خلال الثلث الأول من القرن العشرين، وظلت رائجة بعد ذلك في أنواع معينة من الروايات والأفلام التي تعتبر المرأة مصدرًا للشر!). وفاني كانت تشكل وسواسًا لفابيان منذ طفولته، حيث كان يعيش أيامه وهو يهجس بوجهها ونظراتها. ولاحقًا حين ارتبط فابيان بفاني، وجد نفسه ممزقًا بشكل حقيقي بين شغفه والاشمئزاز الذي تثيره لديه علاقته الجسدية بهذه الأنثى، إذ يكتشف أن هذه العلاقة ليست ناتجة من حب حقيقي بل من شهوة جسدية. وهكذا باتت هذه العلاقة تمثل بالنسبة إليه الشر الذي بدل حياته. غير أن هذا لا يعني أنه لم يقاوم. فهو - في الحقيقة - ما أن حدث له ذات يوم أن التقى بالصبية الحسناء كولومب، ابنة زوج عشيقته، حتى وقع في هواها وأدرك أنها تمثل الحب الطاهر الذي يتطلع إليه كي ينقذه مما هو فيه من انغماس في الشر. غير أن والد فاني سرعان ما يأخذها بعيدًا حارمًا فابيان من هذا الخلاص، في الوقت نفسه الذي تحاول فيه فاني أن تضع حدًا لحياتها بالانتحار. هنا يجد فابيان نفسه وسط مأساته وقد زادت حجمًا وعمقًا. فهو ليس الآن محرومًا من الحب فقط، بل من الخلاص أيضًا. ويفاقم هذا أنه يعتبر نفسه مسؤولاً أيضًا عن الشر الذي أصاب فاني. غير أن شيئًا لا يبدو واضحًا بالنسبة إليه. فالالتباس هنا يهيمن على كل شيء ولا سيما على وضعية فابيان، فهو الآن يعشق أنثى غائبة عنه تمامًا، لكنه في المقابل يحمل اشتهاء دائمًا، لكنه اشتهاء معيب - من نظره - تجاه امرأة باتت ترفضه. وكل هذا يجعله يعيش وسط دوامة أزمة خانقة. فتكون النتيجة أنه يقع فريسة لمرض كاد يفتك به أيضًا. لكنه بعد حين، إذ يعود إلى الحياة والعافية في المنطقة الريفية التي التجأ إليها كي يرتاح بعض الشيء مما يعاني، يشعر أنه لم يفق على الحياة وحدها، بل أفاق على النعمى أيضًا. وبالتالي لم يعد «الشر» بالنسبة اليه سوى ذلك «التطويب الغامض» الذي منح له من جانب العناية الإلهية هذه المرة، كي يعيش توبته، بفضل ذلك الجانب الغامض من العالم والناس الذين يعيشون فيه. وهذا ما يجعل هذه الرواية، في نهاية الأمر، رواية توبة حقيقية. غير أنه من الصعب - بحسب دارسي مورياك المتعمقين - النظر إليها كما ينظر القارئ إلى روايات كاثوليكية من توقيع جورج برناتوس أو جان جيروود، أو حتى بول كلوديل، من أولئك الذين عرفوا بشكل أفضل وأعمق، كيف يقدمون روايات كاثوليكية حقيقية. مورياك، حتى وإن كان إيمانه عميقًا كإيمان هؤلاء، فإن ربطه الأدب بالنعمى يبقى سطحيًا لا يبلغ حتى مستوى ما تبلغه روايات غراهام غرين. ولعل الشر هنا يكمن في أن دينية روايات مورياك تأتي من الخارج، من العقل لا من الروح، وبالتالي من «الرغبة في كتابة رواية دينية» لا من «الحاجة الملحّة لكتابتها». ولعل مورياك أدرك هذا بعمقه وقسوته حين فضل أن يرفض نشر الشر أول الأمر. مهما يكن من أمر، فإن الشر، حتى وإن كانت تعتبر ثانوية الأهمية في أعمال فرانسوا مورياك (1885 - 1970)، تبدو فائقة الأهمية بالنسبة إلى دراسة وعيه الفكري، وربما أيضًا بالنسبة إلى ما فيها من مفاتيح، فكرية وجمالية قد تساعد على فهم عالمه الأدبي الكبير، والذي كان - في زمنه - من النتاجات الأساس في الرواية الفرنسية، إلى درجة جعلته يفوز عام 1952 بجائزة نوبل للآداب. ومورياك، الذي عرف بصداقته الطويلة للجنرال شارل ديغول ودفاعه عنه في كل مواقفه، كتب للمسرح وللشعر وروايات وقصصًا قصيرة، كما كتب عددًا كبيرًا جدًا من المقالات الصحافية. أما رواياته فكان من بين أشهرها: اللحم والدم، قبلة الأبرص، صحراء الحب، وكر الأفاعي، تيريز ديكيرو، دروب البحر، نهاية الليل، وغيرها. وكان فرانسوا والد الكاتب والصحافي كلود مورياك، وكذلك جد الممثلة والكاتبة آن فيازمسكي، التي كانت متزوجة من السينمائي جان - لوك غودار، وبطلة أفلامه قبل أن تنصرف إلى كتابة الرواية. *** *** *** الحياة، الإثنين، 03 أغسطس، 2009.
|
|
|