|
الحريَّة هي نقطة الابتداء في كلِّ شيء
لقاء مع يوسف سلامة
على خلاف عدد كبير من المفكرين العرب، ينشغل المفكر د. يوسف سلامة بأبحاثه وعمله كمفكر وأكاديمي، في منأى عن السِّجالات الإعلامية التي قد تتخذ طابعًا دعائيًّا، مفضلاً الخوض في حواراته مع تلاميذه. وهو يقول إنه سيضع قريبًا كتابًا حولها، مشيرًا إلى أنها لا تنفصل عن سياقه الفكري وبحثه طوال عقود، بحثٍ أثمر في ثلاثة مؤلَّفات، بدءًا بمنطق هوسِّرل، مرورًا بسَلب هيغل، وانتهاءً بطوباوية الإسلام. حسن سلمان * * *
حسن سلمان: دعني، بدايةً، أتساءل: ما سبب قلَّة نتاجك الفكري؟ ثم ما سبب ابتعادك – بخلاف أغلب المفكرين – عن المقابلات الإعلامية في شكل عام؟ وهل أنت في طور تقييم تجربتك الفكرية؟ يوسف سلامة: في خصوص نتاجي الفكري، أنا أحاول أن أركز على الإنتاج الفلسفي. ولدي كتابان كبيران استغرقاني عمرًا: الأول عن المنطق عند إدموند هُسِّرل[1]، والثاني عن السلب واليوتوپيا[2]، وهو دراسة في فكر هيغل وماركوزي؛ إضافة إلى كتاب ثالث عن الإسلام والتفكير الطوباوي[3]. والآن أحضِّر لكتاب يضم خلاصة تجربتي الفلسفية، آمل أن يصدر قريبًا.
أما فيما يتعلق بابتعادي عن المقابلات والأضواء، فربما يعود السبب إلى أنني صريح جدًّا، وقد لا تعجب صراحتي بعض المنابر الإعلامية، فتنصرف عني! ولكنني لست منزعجًا من ذلك. حول العَلمانية وعلاقتها بالحرية والديموقراطية ح.س.: دعني أنطلق من فهمك للعَلمانية ولموقع الإنسان فيها، حيث إنك، في محاضرة ألقيتَها مؤخرًا، تميل إلى تقسيم العَلمانية إلى أربعة أركان: يتلخص الأول في كيفية النظر إلى الإنسان وبقية الظواهر على أنها شؤون دينية، في حين يرتكز الثاني على العقلانية التي لا تزدهر إلا في وجود الحرية (الركن الثالث)، ثم الديموقراطية كركن رابع. والسؤال هو: ما الذي دعاك إلى اعتماد هذا التقسيم؟ وما هي المعايير التي اعتمدتَها في ذلك؟ وما علاقة هذه المفاهيم التي ذكرتَها بعضها ببعض؟ ومن ثم كيف ستُفضي في النهاية إلى إنتاج مفهوم "العَلمانية"؟ ي.س.: بدايةً، أنا أعتقد أن الإنسان حرية. وبهذا المعنى فإن الوجود حرية، لأنه لا معنى للوجود معزولاً عن الوجود الإنساني. كما أن الحرية هي نقطة الابتداء في كلِّ شيء. وربما لا يكون هناك تبرير واضح لماذا يكون الإنسان حرًّا. ولكن الحرية، برأيي، هي الشرط الضروري ليكون الإنسان إنسانًا: فما لم تكن هناك حرية لن يكون هناك إنسان، ولن يكون هناك وجود، لأن الوجود كلَّه هو من وضع الحرية. ومن هنا فإن للحرية هذه الأولوية المنطقية والوجودية على كلِّ ما عداها. ولما كانت هذه الحرية هي جوهر الفاعلية الإنسانية (أو جوهر الوجود الإنساني الذي يُعبِّر عن نفسه في الفعل)، فنحن لا نستطيع أن نتعرف إلى هذه الحرية خارج الفعل. ومن هنا فهذا – فعل الحرية – يجب أن يتعين في نمط اجتماعي وفي وجود اجتماعي محدَّد؛ وهذا النمط الاجتماعي هو الوجود السياسي، إن جاز التعبير. ولئن قيل منذ القدم إن الإنسان "حيوان سياسي" Animal politicus فهذا التعريف ليس خاطئًا إلا بعد أن نعدِّله قليلاً ونقول إن الإنسان "كائن سياسي" Homo politicus لأنه حر، أولاً وقبل كلِّ شيء. والإنسان، من حيث هو كائن سياسي، لا يستطيع أن يعبِّر عن هذه الكينونة الأصلية لوجوده، التي هي الحرية، إلا في مجتمع سياسي. و"المجتمع السياسي" هنا لا معنى له إلا من خلال بُعدين: الأول هو الديموقراطية: فالوجود الحر لا يمكن له أن يتعين في الحياة الاجتماعية إلا على هيئة نظام سياسي؛ وهذا النظام السياسي الذي تتعين الحريةُ فيه لا يمكن له أن يكون إلا الديموقراطية. ح.س.: في هذا السياق، دعنا نحدِّد مفهوم "الديموقراطية"، في ظل الفهم الملتبس لها عند بعضهم. ي.س.: ثمة تصورات كثيرة عن الديموقراطية. ولكن مهما تباعدت هذه التصورات فستبقى تعني أن الديموقراطية هي حكم الإنسان للإنسان انطلاقًا من الإنسان. وبهذا المعنى، لا يمكن للديموقراطية أن تعني "استبداد الإنسان بالإنسان بواسطة الإنسان"! فالديموقراطية، إذن، تعني شيئًا محددًا هنا، هو قدرة الجميع على أن يُوجِدوا على نحو معين تعبيرًا عن كينونتهم الحرة. وبهذا المعنى، يمكن للديموقراطية أن تشير إلى نوع من توزيع القوة المتساوي. و"القوة" نقصد بها هنا الفاعلية السياسية: فالديموقراطية، لكي تكون ديموقراطية حقيقية، يجب أن تنطلق من محاولة التوزيع المتساوي للقوة. وعندما يكوِّن المجتمع لنفسه هذا التصور عن الديموقراطية يكون عندئذٍ قد وصل إلى العقلانية rationalism. وفي هذه الحالة، يكون العقل الإنساني في خدمة الحرية وفي خدمة الإرادة الإنسانية، لكي يختار أنسب الطرق التي من شأنها أن تجعل الديموقراطية ممكنةً على المستوى الفردي والجماعي؛ أو لنقل إن العقل reason هو الذي يكتشف الحلول لإيجاد نوع من التواؤم بين فردية الفرد وبين جماعية الحياة الاجتماعية. والعقل هو أداتنا في حلِّ هذه المشكلات: فالعقل يكاد ألا يكون واضعًا لشيء جديد بقدر ما يكون مسؤولاً عن حلِّ مشكلات تثيرها الحرية من حيث هي كينونة الإنسان، وتخلقها الديموقراطية من حيث هي ممارسة اجتماعية راقية تعبِّر عن كينونة الإنسان الحر، بوصفه يحيا في الديموقراطية وفي قلبها. من هنا يصبح المجتمع بُعدًا رابعًا ضروريًّا، لا بوصفه غايةً في حدِّ ذاته، بل بوصفه محلاًّ، يُفترَض أن يكون مناسبًا، يسمح للإنسان بالتعبير عن نفسه أو بتعيين حريته في نظام سياسي يقوم العقل لصياغة صِيَغِه أو بنوده الأساسية، الأمر الذي يسمح بتكوين مجتمع قادر على أن يستجيب لمتطلبات الحرية ولمقتضيات الديموقراطية منها. هذه الشروط كلها تشكِّل ما أسميه بـ"العَلمانية". ح.س.: بهذا المعنى، أنت ترفض حصر مفهوم "العَلمانية" في مسألة فصل الدين عن الدولة... ي.س.: أنا لا أرفض مقولة أن العَلمانية تشترط فصل الدين عن الدولة، لكني أعتقد أن الأمر يتعدى ذلك إلى أبعاد أخرى. فإذا فصلنا الدين عن الدولة من غير أن يكون لدينا تصور عن الإنسان، فعندئذٍ لن يكون بوسعنا أن نقدم شيئًا مهمًّا للإنسانية. فالحرية الإنسانية مترامية الأطراف؛ بمعنى أن الحرية الإنسانية لا تخلق نظامًا سياسيًّا في الديموقراطية فقط، وإنما تخلق قيمًا روحية في الدين أيضًا. وهذا بُعد آخر من أبعاد الكينونة الإنسانية. طبعًا أنا لا أحصر الكينونة الإنسانية في هذين البُعدين فقط! ولكن مادمنا نتحدث في صدد العَلمانية، فلا بدَّ من أن ننتبه إلى هذين البعدين في وقت واحد. نعم، الحرية فاعلية تضع وتنتج في اتجاهات مختلفة. فإذا أبرزنا هنا هذين الجانبين (السياسي والروحي) فهذا لأن حديثنا عن العَلمانية يفترض ذلك. وإذا كان الإنسان يُنتج قيمًا سياسية، وكان العقل هو الذي يحل مشكلاتها ويصوغها ويمنحها التركيبات المناسبة للمجتمعات في أوقاتها المناسبة، فإن الحياة الدينية تتصف بنوع من "الثبات" أو الاستقرار لا يمكن للسياسة أن تتصف به في حال من الأحوال. فالسياسة نتاج لحوار المصالح وتصارُعها بين البشر؛ أما الدين فهو تعبير عن القيم الروحية التي تستهدف الوصول بالإنسان إلى نوع من الرضا والسكينة الداخلية. أي أن الدين يبحث عن الخلاص. وهذا "الخلاص"، بطبيعته، خلاص فردي شخصي، يستطيع كل مؤمن أن يحقِّقه على النحو الذي يعتقد أن وجدانه أو ضميره يرضى عنه. أما في الحياة السياسية، فليست المقاييس شخصية ولا فردية، ولا مجال هناك لاستعمال مقولة الخلاص. في الحياة السياسية هناك صراع ومصالح. ومن ثم فلا ينبغي أن نخلط مجالين مختلفين كلَّ الاختلاف: مجال السياسة هو مجال الدنيا (صراع الأفراد والمصالح)؛ أما المجال الروحي فهو مجال شخصي فردي وقيمي وتربوي. واحترامًا للدين ولمقتضياته الروحية، احترامًا لهذه القيم بمجموعها التي تنطوي على قدر كبير من الثبات، فمن الخير للدين ألا يدخل في السياسة، ومن الخير للسياسة أن لا تدخل في شؤون الدين. فما تدخَّل أحدهما في الآخر إلا أفسده! فيمكن للفقيه أن يكون فقيهًا في الإطار الروحي، وهذا خير له من أن يتحول إلى "فقيه سلطان" عندما يمتزج الدين بالسياسة؛ وخير للسياسي ألا يتدخل في شؤون الدين لأن هذا الحقل بعيد عنه ولا يمت إليه بصلة ولا سبب. الحرية، إذن، من حيث المبدأ، تضع حقلين متمايزين: حقلاً روحيًّا مستقرًّا نسبيًّا، وهو الحقل الديني أو حقل القيم الروحية؛ وحقلاً آخر مختلفًا كلَّ الاختلاف، هو الحقل السياسي الذي تقع في إطاره جملة النشاطات الدنيوية، وجملة الصراعات البشرية، وجملة الأهداف التي تتطلع إليها الجماعات الصغيرة دون الجماعات الكبيرة، وعالم التحالفات والصراعات والمصالح الذي لا يكف عن التغير ولا عن التبدل. إذًا العَلمانية، في النهاية، تقتضي وجود هذين الحقلين معًا. وما لم نستطع أن نكتشف هذين الحقلين أو نعزل واحدهما عن الآخر العزل المناسب فمن الصعب علينا كثيرًا أن نفكر بالتقدم في صورة جدية! ح.س.: لو بقينا في إطار العَلمانية، ربما يتساءل بعضهم: لماذا أخفق المثقفون العَلمانيون العرب حتى الآن في صياغة نموذج عَلماني خاص بالعالم العربي، في ظل وجود عدة نماذج عَلمانية في العالم؟ ي.س.: أعتقد أن مشكلة العَلمانية ليست مشكلة ثقافية، وطرْحُها على أنها كذلك يزيِّفها ويجعلها مشكلة وهمية لا أساس لها. المشكلة في العالم العربي هي مشكلة سياسية، وليست مشكلة ثقافة. هَبْ أننا وضعنا أحسن النماذج: مَن الذي سيطبِّقه أو سيقبله في مجتمع غير ديموقراطي؟ إنه السياسي. فالسياسي العربي مستبد بامتياز، لا يقبل رأيًا ولا مشاركة، ولا يقبل نصيحة من أحد – فكيف به أن يقبل الديموقراطية؟! من هنا، إذن، ليست المسألة مسألة نموذج ثقافي عَلماني؛ المسألة أن المجتمع العربي برمَّته مازال في كبوة وغير قادر على النهوض، وهو يحيا في حالة ركود منذ ألف عام! هذا الركود يجعله يعيد إنتاج التخلف، يعيد إنتاج الركود، ومن ثم يظل مشدودًا إلى الماضي. يتساءلون لماذا هناك أصولية؟ لأنه ليس هناك حاضر ببساطة! المجتمع العربي ليس له حاضر! هو يعيش في حاضر زائف. حاضر المجتمع العربي هو ماضيه! ومن هنا تأتي المشكلة الكبيرة. لذلك هذا الركود و"الاستنقاع" هو الذي يحتاج إلى كسر. ولسنا في حاجة إلى مجرد نموذج ثقافي عَلماني حتى يهتدي به المجتمع أو الساسة العرب. من هنا تمسُّ الحاجة إلى كسر هذا الركود والخروج منه، إلى كسر دائرة الماضي الذي يهيمن على الحاضر في قوة شديدة. إشكالية وجود فلاسفة عرب ح.س.: إذا سلَّمنا بقول بعض المفكرين العرب – ومنهم جورج طرابيشي – بعدم وجود فلاسفة عرب، على مَن تقع، برأيك، مهمة الخروج من الواقع المتردِّي الذي يعيشه المجتمع العربي؟ ي.س.: دعني أوضح أمرًا. ربما أختلف مع بعضهم حول تعريف "الفيلسوف"، لأنني أرى أن الفيلسوف ليس بالضرورة مَن يكتب الفلسفة على النسق الألماني أو الفرنسي؛ بمعنى أنه يمكن أن يكون هناك إنتاج فلسفي مختلف، يُكتَبُ بطريقة مختلفة، لأن الفلسفة بنت عصرها. فالفلاسفة الألمان والفرنسيون لم يكتبوا على النسق اليوناني، كما أن الفلاسفة المحدثون لم يكتبوا على نسق الفلسفة الألمانية أو الفرنسية. لذا لا أتوقع من متفلسف عربي أن يكتب إلا من إبداعه هو: يجب أن يبدع الشكل و/أو المضمون الخاص به. فالفلسفة، بمعنى ما من المعاني، تدخل في إطار الإنتاج الأدبي؛ وبالتالي، هناك شكل ومضمون. فالشكل أو الصورة (صورة الفلسفة) لا تنفك عن مضمونها، والمضمون لا ينفك عن صورته. ومن هنا فنحن محتاجون إلى أن نبدع أسلوبنا وتصوراتنا الخاصة بعملنا الفلسفي. ثم إني لا أقول إنه لا يوجد هناك فيلسوف عربي، لكني أقول إن بعض ما يُكتَبُ الآن يُشكِّل مقدمة ضرورية لصياغة فلسفة في وقت ما، ومن الظلم أن ننظر إلى ما نكتبه على أنه لاشيء؛ هو تأملات في العصر يحاول كثير منها أن يتخطى الإيديولوجيا. أنا أعلم أن الذين يُنكرون وجود فلسفة في الوقت الحاضر في العالم العربي يعتقدون أن كل ما يُكتَبُ هو إيديولوجيا؛ وفي رأيي، ليس كل ما يُكتَبُ هو إيديولوجيا. هناك جانب ما مما يُكتَبُ يحاول أن يفكر فلسفيًّا، أي يحاول أن يبحث في الحقيقة بما هي حقيقة، دون أن يكون مقتصرًا على الإيديولوجيا. بهذا المعنى، برأيي أن بعض ما يُكتَبُ يشكل مقدمة ضرورية لوجود الفيلسوف الذي يُفكر فيه الصديق جورج طرابيشي. ح.س.: إذًا ما مهمة الفيلسوف العربي في ظل غياب شرط الحرية؟ – كما تشير في عدد من مقالاتك. ي.س.: على اعتبار أني أرى أن هناك جهدًا فلسفيًّا وأعتقد أننا نتفلسف، فالفلسفة تحتاج، أولاً وقبل كلِّ شيء، إلى التحرر الباطني: بمعنى أن يُخلي الفيلسوف عقله من كلِّ قيد أو افتراض مسبق، لأن الفلسفة تفترض البحث عن الحقيقة؛ فإذا كان الذهن مملوءًا بالحقائق سلفًا فلا يمكن لهذا الذهن أن يتفلسف. فإذا حقَّق الفيلسوف هذا التحرر الباطني، يمكن له أن ينهض بمهمات أساسية لا يستطيع أن ينهض بها غيرُه في مجتمع اللاديموقراطية. المهمة الأولى هي الدفاع عن الحرية – وهي المهمة الأهم: بمعنى أن يطالب الفيلسوف بتحقيق الحرية في العالم الفعلي للبشر، وليس على المستوى الذهني فقط الذي هو متحقِّق له على الأقل. فالفيلسوف مهمته أن يقاتل من أجل تحرير البشر (تحرير أذهانهم) من الخرافات والأساطير التي تشكَّلت عبر مئات السنين وصارت عبارة عن عقبات بين الإنسان ونفسه، حيث صار الإنسان العربي لا يستطيع أن يصل إلى ذاته الحقيقية لأن مجموعة هائلة من الأساطير والخرافات تحول بينه وبين ذاته وتحاصره من كلِّ اتجاه. فإذًا الدعوة إلى الحرية هي المهمة الأولى. الدعوة إلى الديموقراطية والدفاع عنها هي المهمة الثانية. والدعوة إلى العقلانية، بمعنى أن يكون كل شيء محكومًا بالعقل، هي المهمة الثالثة. هذه المهمات الثلاث عاجلة، لا يمكن للفيلسوف أن يتغاضى عنها. وأعتقد أن مَن يتابع ما نكتبه يشعر بأننا لا نترك منبرًا إلا ونحاول أن ننتفع به ونوظِّفه لتحقيق هذه المهمات الثلاث (الحرية – الديموقراطية – العقلانية). وإذا قال أحد ما: "هذه أمور إيديولوجية"، نقول له: هي إيديولوجيا جزئية؛ ولكن حقيقة الإنسان التي يبحث عنها الفيلسوف قائمة في هذا التحرر الباطني الفعلي، في هذه الديموقراطية، وفي إطلاق حرية العقل، بحيث لا يكون ثمة حكم ولا مرجع يعلو على سلطة العقل. هذه هي المهمات هي العاجلة. لكن ربما تكون هناك مهمات فلسفية أخرى تحتاج إلى حديث آخر. حول "صراع الحضارات" في عالم ما بعد 11 أيلول ح.س.: دعني أنتقل للحديث عن إشكالية أخرى تبدو أكثر تعقيدًا وتنطوي حول مصطلح "صراع الحضارات" الذي بشَّر به صموئيل هنتنغتون. أنت لديك مقال في هذا الشأن تفنِّد فيه البنية المتناقضة للخطابين العربي والأمريكي في عالم ما بعد 11 أيلول... ي.س.: حقيقة هذه الأفكار التي ذكرتَها كتبتُها منذ سنوات؛ وقد حدث تطور في فكري من هذه الناحية. أنا أعتقد أنه لا يوجد "صراع حضارات" بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما هناك صراع مصالح. والحضارات أو الثقافات يمكن لها أن تُستعمَل في هذه الحالة كإيديولوجيات مُغلِّفة لهذا الصراع على المصالح. في عبارة أخرى، لا يهم الثقافة الغربية أن تكون الصين بوذية أو كونفوشيوسية أو ماركسية أو أن يكون العالم العربي إسلاميًّا، بل يهم كلَّ طرف من هذه الأطراف أن يصل إلى مصالحه مع الطرف الآخر. روسيا الآن، مثلاً، لم تعد شيوعية، وبالتالي، هي الآن من الناحية الثقافية أقرب إلى أوروبا وإلى الثقافة الغربية؛ ومع ذلك، فأوروبا تلجأ للاعتراف باستقلال كوسوڤو، على اعتبار أن هذا يُضعف النفوذ الروسي ويقتطع جزءًا من صربيا التي هي حليفة لروسيا. كما أن روسيا التي تفكر في مثلها الأعلى الأوروبي لا يمكن لها أن تُقبَل في الاتحاد الأوروبي بحال من الأحوال. لماذا؟ لأن المصالح مختلفة. إذًا لم يعد هناك صراع إيديولوجي بين أوروبا وروسيا، ولكن صراع المصالح مازال قائمًا. حتى بين روسيا والولايات المتحدة لم تعد هناك فوارق إيديولوجية؛ ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة تحاول أن تنشر الدرع الصاروخية في تشيكيا وپولونيا. فالصراع هنا سياسي واقتصادي، صراع على النفوذ والقوة، على الهيمنة والمصالح الاقتصادية. فالمسألة ليست مسألة "صراع حضارات" بقدر ما هي صراع مصالح وصراع على الهيمنة السياسية. لذلك يجب أن نعيد صياغة هذه المسائل ونضعها ضمن هذا الإطار. ربما كان هذا أفضل. ح.س.: لكنك تميل إلى إلغاء مصطلح يؤكد عليه عددٌ كبير من المفكرين! وربما هذا ما دعا بعض المفكرين الإسلاميين إلى طرح مصطلح بديل هو "حوار الحضارات"... ي.س.: أبدًا. في رأيي أن الحضارات تتعايش. العالم اليوم مختلف كليًّا عما كان عليه قبل ألف عام. آنذاك، كانت هناك حضارات تنشأ وتزدهر وتفنى دون أن تشعر بها الحضارات الأخرى! أما اليوم – وهذا من حسنات العولمة والثورة المعلوماتية – فقد أصبح العالم واحدًا. والحضارات الآن تتعايش بقدر ما يمكن لكلِّ حضارة أن تمتلك نفوذًا؛ وهي، بالتالي، ليست مضطرة إلى أن تلغي الحضارات الأخرى. وأشير هنا إلى أن "الحرب الكونية (الأمريكية) على الإرهاب" – الشعار الذي أطلقه [السيد جورج] بوش – ليست حربًا "مسيحية" أو "صليبية" (بالمعنى الثقافي للكلمة) على الإسلام أو العكس. ودليلنا على ذلك أنه قبل 11 سپتمبر لم يكن هناك شيء اسمه "إرهاب إسلامي"؛ وبالتالي، لم يكن الإسلام يمثل خصمًا للولايات المتحدة، بل بالعكس: ففي فترة الحرب الباردة وجدت أمريكا في الإسلام خير حليف لها ضد الشيوعية، فكانت تدعم الحكومات الإسلامية – أو التي ظاهرها إسلامي! – في إيران وتركيا والبلاد العربية؛ وفي الصراع داخل أفغانستان، شكَّل الإسلام والولايات المتحدة تحالفًا إستراتيجيًّا خطيرًا أدى إلى هزيمة السوڤييت. فليست المسألة مسألة صراع، بل هي مرتبطة، إلى حدٍّ ما، بنوع من توافُق المصالح وتبايُنها أيضًا. ح.س.: ربما بهذا المعنى نستطيع القول إن الثقافات تتعايش أيضًا؛ وبالتالي، فإن مقولة "صراع الثقافات" لا أساس لها. ما رأيك بذلك؟ ي.س.: تمامًا، لأنه ضمن المجتمع الواحد حتى هناك ثقافات مختلفة. ألمانيا، مثلاً، فيها الپروتستانتية والكاثوليكية، وهما متعايشتان؛ وفرنسا أيضًا تحوي الكاثوليكية واللادينية، وهما متعايشتان أيضًا؛ كما أن المجتمع العربي فيه المسيحية والإسلام والصابئة وغيرها، وهي جميعًا متعايشة. لكن المشكلة تأتي عندما تنظر ثقافة ما إلى نفسها على أنها "الثقافة المُثلى والنهائية"، وعندئذٍ تتحول إلى ثقافة عنصرية. فما لم تكن الثقافة عنصرية فالتعايش معها ممكن. ونستطيع القول إن الثقافة الأوروبية قد مرت بمراحل عنصرية؛ ولكنْ ليست الثقافة الغربية كلها ثقافة عنصرية. كما أننا، نحن العرب، مررنا أيضًا بمراحل من الثقافة العنصرية: تخيل أن دولاً عربية كانت تسمي غير العربي "أعجميًّا"، أي غير آدمي! – وهذا نوع من العنصرية. ومع ذلك، فنحن اليوم تجاوزنا هذه المرحلة وأصبحنا، على سبيل المثال، نستطيع أن نتحالف مع إيران التي شكلت، في وقت ما، النقيض التاريخي للمشروع العربي، على الأقل في عهد الدولة الأموية. ح.س.: بهذا المعنى أنت لست مع مفهوم "الغزو الثقافي" الذي مارسه العرب في مرحلة سابقة، وتمارسه الدول الغربية في العصر الحالي، كما يؤكد بعض المفكرين. ي.س.: هذا تحرك طبيعي للثقافة. الثقافة، بطبيعتها، تميل إلى الانتشار والخروج من بيئتها الضيقة؛ وجميع الأمم تمارس هذا بحسب قوتها وضعفها. أنا لا أسمي هذا "صراعًا" ولا أسميه "غزوًا"، وإنما أسميه نوعًا من بحث الثقافة عن "مجال حيوي" تستطيع فيه أن تعبِّر عن ذاتها أكثر فأكثر. يعني "الفتوحات" الإسلامية، ما هي؟ هي نشر للثقافة والديانة الإسلامية – وكان هذا أمر طبيعي الحدوث. في المقابل، اليوم، أنا عندما أتأثر بالثقافة الغربية عن طريق الكتاب أو الإنترنت أو أية وسيلة أخرى، فهذا أمر طبيعي؛ ومن العبث أن نغلق الأبواب أمام هذه التأثيرات. فمن هذه التأثيرات يظهر الجديد؛ يعني الأمم عندما يؤثر بعضها في بعض وتتفاعل يظهر الجديد. أما لو كانت كل أمَّة تعيش في مستنقع وتنغلق على نفسها فعندئذٍ ستنهار الإنسانية وتنقرض. والعرب عندما نشروا الإسلام في بقاع الأرض دخلت شعوب متعددة الإسلام، فأغنتْه وأغنتْ الثقافة العربية. ولذلك نحن لا نقول: "الثقافة العربية"، بل نقول: "الحضارة العربية الإسلامية"، لأن ابن سينا والفارابي وغيرهما ليسوا عربًا، ومع ذلك، أغنوا الثقافة العربية، والمترجمون الذين ترجموا الثقافة اليونانية إلى الثقافة العربية كلهم سريان، إلخ. أي أن تفاعُل الثقافات والأمم هو الذي ينتج جديدًا. ونحن اليوم، لأننا لا نتفاعل بالقدر الكافي، نشعر بأننا مضطهدون في هذا "الغزو الثقافي"؛ لكن لو كنا منتجين للثقافة لكان لنا رأيٌ آخر. من هنا، إذا أردتَ التصدي لما يسمِّيه بعضهم "غزوًا ثقافيًّا"، فليس هناك من حلٍّ إلا أن تنتج ثقافة وتطرحها على الآخرين لكي يقرؤوها وينتفعوا ويتأثروا بها. أما أن تكون غير قادر على الإنتاج، ولا تريد لغيرك أن ينتج، فهذا من التناقض بمكان! إن أية عملية إنتاج تفترض الانتشار. يعني الكاتب لماذا يكتب؟ ليُقرأ. وكلما كان عدد قرائه أكبر دلَّ ذلك على أن أثره أوسع. فالثقافة، بطبيعتها، فيها ميل للانتشار وميل إلى أن تعيِّن نفسها في أكبر عدد ممكن من الوقائع والأماكن. حول مفهوم الحداثة وسماتها ح.س.: سأنتقل إلى الإشكالية الأخيرة – "الحداثة" – التي تلقى قبولاً لدى عدد كبير من المفكرين، فيما يسعى دعاةُ "القَدامة" إلى محاربتها، على اعتبار أنها تمثل انهيارًا للدين والقيم. والسؤال هو: ما هو تعريفك لـ"الحداثة" كمفهوم؟ متى نشأت؟ ما سبب نشوئها؟ وما سمات حضارة الحداثة؟ ي.س.: سأجيب في عجالة عن سؤالك الذي يحتاج حوارًا مستقلاً. الحداثة هي الثقافة التي تقول إن الإنسان هو سيد العالم، بذاته وبحريته وعقله؛ وهو من ثم واضع للقيم التي يتقيد بها أو يرفضها. فالحداثة، إذن، أن يكون العالم إنسانيًّا، بكلِّ ما في الكلمة من معنى، وأن يكون مصدر السلطة الوحيد هو الإنسان. بذا فإن الحداثة خلعت جميع الآلهة عن عروشها ونصَّبت إلهًا واحدًا على العالم هو الإنسان! نشأت فكرة الحداثة في العالم الأوروبي ابتداءً من عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر عندما حُدَّ من سلطان البابوات والكنيسة السياسي، فبدأت بذرة العَلمانية أو "جرثومتها" عندما طالب مارتن لوثر بحقِّ الملوك في الاستقلال عن البابوات. ولكن الحداثة بلغت ذروتها في نقطتَي تحوُّل رئيسيتين: الأولى، نقطة التحول في العلم، وذلك عندما ولد المذهب التجريبي مع بيكون في القرنين السادس والسابع عشر؛ أما نقطة التحول الثانية – وربما كانت الأهم – هي اكتشاف الإنسان في الفلسفة الديكارتية، عندما قرر ديكارت في القرن السابع عشر أن "العقل هو أعدَل الأشياء قِسمَة بين الناس"، وأن الفارق الوحيد بين البشر هو استعمالهم لهذا العقل، أي الفارق المنهجي. ومن هنا طوَّر منهجًا فلسفيًّا سمح له بالتقدم إلى ابتكار الفيزياء الرياضية التي شكلت قاعدة العلم الحديث والتي سمحت بالانطلاق إلى شتى أنواع العلم (ميكانيكا نيوتن ثم نسبية أينشتاين). ح.س.: ما سمات حضارة الحداثة؟ ي.س.: الفردية – الخصوصية – الحرية: اختيار القيم أو رفضها في حرية تامة، دون الاحتكام إلا إلى معيار واحد هو الإنسان – هذه وُجِدَتْ ونَمَتْ بالتدريج، إلى أن أصبح اليوم مجتمع الحداثة الأوروبي والأمريكي فيه فردية وخصوصية وحق في اختيار الإنسان صناعةَ القيم كما يراها مناسبة واختياره نمط العيش على النحو الذي يريد – وذلك كله في إطار المؤسسات التي أبدعتْها الحداثة: مؤسسات الديموقراطية، من ناحية، والمؤسسات العلمية، من ناحية أخرى. ح.س.: ما رأيك في لجوء بعض المفكرين إلى التراث لتوظيفه في معركة الحداثة ضد دعاة القَدامة؟ ي.س.: أعتقد أن الحداثة هي الحداثة؛ ولا نستطيع إلا أن نبتدئ من نقد ما هو قائم، أي من نقد الماضي الماثل في الحاضر، دون أن نزيِّفه. أيُّ اكتشافٍ للحداثة في التراث هو تزييف للتراث وللحداثة في آنٍ واحد! ولذلك فإن الطريق المستقيم يبدأ بنقد الحاضر، الذي هو في صميمه ماضٍ، وبمحاولة لاكتساح هذه العقبات القائمة في وجه التقدم والعقلانية والحرية والديموقراطية والعَلمانية، وذلك في سبيل إنتاج إنسان من نوع جديد. *** *** ***
التقى به: حسن سلمان [1] يوسف سلامة، المنطق عند إدموند هسرل، دار حوران، السلسلة الفلسفية 1، دمشق، 2002؛ يوسف سليم سلامة، الفينومينولوجيا: المنطق عند إدموند هسرل، دار التنوير، بيروت، 2007. [2] يوسف سلامة، من السلب إلى اليوتوپيا: دراسة في هيغل وماركيوز، دار حوران، السلسلة الفلسفية 4، دمشق، 2006. [3] يوسف سلامة، الإسلام والتفكير الطوباوي، دار كنعان، دمشق، 1991.
|
|
|