|
نظام الاستثناء الشرق أوسطي
إسرائيل دولة ليست كغيرها من دول العالم المائتين، لا في واقعها، ولا في مفهومها لنفسها، ولا في موقعها الإستراتيجي والمعنوي والسياسي في النظام العالمي. فهي – واقعًا – دولة صغيرة الحجم، لكنْ يحرِّكها طموحٌ مجنون، عميقُ المنابع، قوي الدوافع، إلى الأمن المطلق. ويغذي هذا التوترُ نزوعًا توسعيًّا نهمًا يتخذ أشكالاً متعددة: شكل سياسة توسُّع إقليمي في الجوار العربي؛ وشكل تماهٍ مع القوة العالمية الأكبر التي تُجاور دول العالم جميعًا؛ وشكل مراكمة آخر صيحات الأسلحة التقليدية، مضافًا إليها أشد أسلحة الدمار الشامل فتكًا – وهذه كلها أشكال التوسعية الباحثة عن الأمن عبر السيطرة. وهي، إلى ذلك، ذات موقع مركزي في السياسات الدولية، لا تتفوق عليها إلا الولايات المتحدة في بلورة سياسة عالمية متنبِّهة لما يجري في كلِّ ركن من أركان الأرض، مهما نأى. وهي، في فكرتها عن نفسها، دولة "الشعب اليهودي"، "الفخور والمتفوق على غيره" (ديغول)، سياسيًّا وعقليًّا وأخلاقيًّا. وفي روابطها الدولية، تحظى إسرائيل بمعاملة تفضيلية من الغرب (عنصر "التكفير" غير خفي في ذلك، وعنصر الانحياز ضد/العداء لعالم الإسلام والعرب الحضاري غير غائب عنه). وهي كذلك محمية بجدران عقلية وقيمية غربية أعلى وأقوى من الجدار الذي تبنيه حكومة شارون في الضفة الغربية؛ بل إن جدار شارون ذاته محمي بذلك السياج القيمي والقانوني الغربي، الأمريكي خصوصًا، لكنْ الأوروبي كذلك. هناك الكثير مما هو مخيف ومقوِّض للأمن في دافع الأمن المطلق الذي يشكل روح إسرائيل – هذه الدولة المختلفة، بل الاستثنائية، التي قد تساعد دراستُها على فهم فكرة السلطة والقوة في عالمنا المعاصر أكثر مما تساعد دراسةُ أية دولة أخرى. فهي نقطة التقاء العنف المطلق والقيامي والشرعية المتعالية المضادة للقانون، من حيث هي قائمة على الاستثناء وغير قابلة للتعميم على غيرها، والتواطؤ الأخلاقي من قبل القطب الحضاري الغربي المهيمن. وهي، من جانب آخر، نقطة التقاء الحداثة الفكرية والتكنولوجية والموقع المتفوق للرابطة الدينية في تكوينها وكيانها. ولا تستطيع دولة إسرائيل ممارسة السياسة إلا من موقع اللاتوازن التام مع أيٍّ من أعدائها الفلسطينيين والعرب؛ وهي، في هذا أيضًا، التجلِّي المتطرف، لكن الأصفى، لارتكاز السياسة على احتكار القوة، لا على توازُن القوى. ويتأسَّس الاستثناء الإسرائيلي الواقعي على ثلاثة استثناءات مشرعة: توراتي، في صيغة "شعب الله المختار"؛ وحداثي، في صيغة دور اليهود المتميز في الحداثة؛ وأخلاقي، مستمَد من الهولوكوست. وتتكفل "صناعة الهولوكوست" (نورمان فينكلشتاين) بتثبيت إسرائيل في موقع الضحية المؤبَّدة ومنع انصرام الزمان على "المحرقة"، بما يجعل منها حدثًا تأسيسيًّا، فوق تاريخي، لا يقارَن بغيره: الحدث المطلق. في استثنائيتها التأسيسية، تشكل دولة إسرائيل النموذج الجليل الذي تقتدي به نماذج مبتذلة من الديكتاتوريات الشرق أوسطية. ويتوزع الابتذال والاستثنائية معًا بالقسطاس على الدول من الطراز العَلماني في "جمهوريات" المشرق العربي أو من الطراز التقليدي البترولي في الجزيرة العربية. ففي مقابل "شعب الله المختار"، لدينا الخصوصية العربية أو الإسلامية؛ وفي مقابل "العبقرية اليهودية"، لدينا الحاكم العبقري والاستثنائي؛ وفي مقابل الأمن الإسرائيلي المطلق، لدينا أبدية الحكام المطلقين. البنية ذاتها دائمًا، وإنْ كان سند الاستثناء "قوميًّا" في الجمهوريات، إسلاميًّا في البتروليات، زبونيًّا في الدويلات. وجميع هذه الدول تقوم على استعداد ثابت، مشفوع بأمثلة عملية، للقتل الجماعي واسع النطاق. وجميع نُخَبها تتمتع باستثناء حقوقي يضمن لها الحصانة من العقاب والاستفادة من نظام الزبونية الدولية. وتستفيد شعوبها جميعًا من ميزة ثقافية في الغرب، لكنها ميزة إيجابية في الحالة الإسرائيلية، ترفع كثيرًا عتبة الشعور بالامتعاض من خرق إسرائيل للقانون الدولي، وسلبية في الحالة العربية، تخفض كثيرًا من عتبة الاستعداد للوم العرب – وفي الحالين يبقى "نظام الاستثناء" هو القاعدة. الفارق المهم، بالطبع، أن المستثنى الإسرائيلي هو اليهودي الجمعي، وفقًا لما تصوغه الحكومات الإسرائيلية وإيديولوجيوها اليهود وغير اليهود في الغرب، فيما المستثنى في الوسط الشرق أوسطي العربي هو فرد أو أسرة أو عشيرة أو طائفة. وهناك درجة عالية من الصدقية في تمثيل إسرائيل وحكومته لليهودي الجمعي، بالنظر إلى كون الديموقراطية اليهودية حقيقة فعلية؛ أما طغاة الشرق الأوسط الآخرون فلا يكتفون بممارسة سلطة مطلقة على محكوميهم، بل يتعدونها إلى تثبيت سلطتهم بالاستناد إلى طوائف وقبائل وتفريق مجتمعاتهم إلى طوائف وقبائل لا تُحيل إلى أية هوية عليا (وطنية) ولا تستوعبها أية هيمنة (خلافًا لحال النظام المِلِّي القديم). الاستثناء الإسرائيلي يشتري الديموقراطية بالعنصرية، والاستثناء العربي يشتري الديكتاتورية بالزبونية الدولية والداخلية. فالدولة الزبون لغيرها لا تتعامل مع رعاياها إلا كـ"زبائن"! إن الاستثناء الشرق أوسطي من الديموقراطية مؤسَّس على الاستثنائية الشرق أوسطية التكوينية. فالديموقراطية والاستثناء لا يجتمعان في عالم واحد! ومن المدهش – ومما ستزيده الأيام إثارةً للدهشة – اجتماعُ تدنِّي مستوى حكام هذه المنطقة الفريد وخلو سجِّلهم من أي إنجاز [...] تنموي أو سياسي أو ثقافي ذي قيمة، من جهة، ودوام حكمهم واستقرارهم الفريد فيه، من جهة أخرى. ومن دون حاجة إلى "نظرية مؤامرة"، فجة بقدر ما هي شائعة، ومن دون رفض مسبق، شائع ولا يقل فجاجة، لدور التآمر في سوس شؤون هذه المنطقة الفريدة، فإنه يصعب فهم الاجتماع ذاك (بين تفاهة الحكام ونُخَب السلطة وبين تنعُّمهم المديد بالسلطان) من دون أخذ حظوتهم بتغطية دولية صريحة (أو أقل صراحة) بعين الاعتبار. ومفعول هذه "التغطية" هو تعطيل الديناميات الداخلية في المجتمعات المحكومة، ومنح الدول/السلطات درجة عالية من الاستقلال وتحريرها من الحاجة إلى الإنجاز والتمثيل والحرية، وبالنتيجة، بناء جدران أمنية عالية حول هذه الشعوب المستباحة، لا تختلف في شيء عن الجدار الإسرائيلي. فأكثر مما إسرائيل في قلب الشرق الأوسط، الشرق الأوسط إسرائيلي! إن دول الشرق الأوسط متشابهة كثيرًا من حيث كونُها مصنوعة من الطين نفسه: الاغتصاب والجريمة والأجنبية. ووظيفة الإيديولوجيات التي "أفرزتها" التكوينات الديكتاتورية المحلِّية أو الديكتاتورية العالمية المتحكمة في مصير المنطقة أو العنصرية الإسرائيلية هي إخفاء الأصل الواحد لهذه الدول. وهذه الإيديولوجيات عنصر أساسي في أية نظرية مفيدة في الشرق الأوسط بدرجة لا تقل عن بنى السلطة الديكتاتورية والفساد المطلق للسياسات المحلِّية والنخَب الحاكمة. فعبر تركيزها على جوهر شرق أوسطي مضاد للاستقرار والعقلانية والديموقراطية، ومدوَّن في الدين أو العرق أو اللغة، فإن هذه النظرية الأمريكية لا تكتفي بالتنصل من كلِّ مسؤولية عن الوضع المادي والسياسي والمعنوي البائس لشعوب المنطقة، بل هي بالفعل من نوع "لوم الضحايا" وتحميلهم مسؤولية بؤسهم، بل والنيل من جدارتهم الإنسانية والحضارية. وفي المقابل، عبر تركيزها على "العوامل الخارجية"، فإن نظرية الديكتاتوريات المحلِّية تشارك في التنصل من المسؤولية عن بؤس الوضع الشرق أوسطي الراهن وتسهم في التمديد لأنظمة الاستثناء القائمة. الخلاصة التي نريد الوصول إليها هي أن الشرق الأوسط وحدة تحليلية وسياسية مترابطة تقوم على التدويل والاستثناء. والأمل محدود في فهم سياستها وتكوينها غير المستقر وغوامض تاريخ هذه المنطقة أو الدفع نحو تغيير ديموقراطي فيها من دون بلورة نظرية في الوحدة الشرق أوسطية. إن "الشرق الأوسط" هو المفهوم الذي يتيح لنا تجاوُز نظرية العوامل الداخلية والخارجية أو الاكتفاء بجدلية شكلية ومفتعلة بينهما. وهذا بالضبط لأن الشرق الأوسط منطقة مدوَّلة تكوينيًّا، منطقة لا داخل فيها ولا خارج لها. ومن شأن بلورة نظرية تاريخية في الشرق الأوسط أن تقطع الطريق بالخصوص على إغراء إضفاء طابع ماهوي على أية "عوامل داخلية" وطابع تآمري على أية "عوامل خارجية". وهاتان النظريتان – النظرية الماهوية ونظرية المؤامرة – مترابطتان أكثر مما يحب أنصار هذه أو تلك أن يعتقدوا، وأكثر مما يتسع المقامُ لإثباته. قد يفيد أن نضيف، في ختام هذا المقال التخطيطي، أن نظرية في الشرق الأوسط تتضمن بالضرورة نظرية في "نظرية المؤامرة" التي يجعل نقادٌ غربيون كثر منها خاصية ماهوية للشرق أوسطيين، مغفِلين، في الوقت نفسه، أن "المؤامرة" عنصر تكويني للشرق الأوسط. *** *** *** عن السفير، 07/04/2004
|
|
|