لماذا مرمريتا؟
تداعيات حول ورشة عمل "اللاَّعنف، الثقافة، التربية"

 

ديمتري أڤييرينوس

 

إذا لم يقيَّض لنبتة أن تعيش بحسب طبيعتها فإنها تذوي. كذلك الإنسان.
– هنري ديڤيد ثورو، في العصيان المدني

 

أمام الخواء الذي لا يني ينحفر، أمام المآزق التي تقودنا إليها الإيديولوجيات الحديثة أو الأصوليات من شتى الأصناف، أمام نقصان الرجاء في عالمنا، لا بدَّ من التذكير بأن الرجاء ممكن وبأن بناء عالم أفضل ليس من قبيل اليوطوپيا – لكن هاهنا بالضبط مناط مسؤوليتنا. وهذا يمر بالتذكير، في مجتمعنا المُعَلْمَن بعينه، بأهمية مرجعية متعالية قادرة على توجيه خياراتنا وأعمالنا نحو المزيد من الحرية والتضامن.
– إيمانويل فوخس

 

هي ورشة العمل "اللاعنفية" الثانية التي ينظِّمها فريق معابر في بلدة مرمريتا السورية الجميلة، بعد ورشة 2007 "ضبط النفس أساسًا للعمل اللاعنفي". في الورشة الأولى، قرَّ رأيُنا على الاعتماد على "مواردنا البشرية" الذاتية، فقُيِّض لي شخصيًّا أن أكون المُحاضر والميسِّر facilitator والمدرب الرئيسي فيها، من غير أي تأهيل مسبق على هذا النوع من النشاط (أترك للمشاركين آنذاك تقييم مدى نجاحي في مهمتي). وقد تضمنت الورشة الأولى عدة مَحاور، منها الفلسفي النظري ومنها العملي التطبيقي، نال كل منها حقَّه من الحوار والنقاش بين المشاركين:

  1. استقصاءَ الجذور النفسية للعنف الداخلي، مع أمثلة فردية وجمعية، وكيفية "تسديده" نحو وجهات بنَّاءة معزِّزة للحياة؛

  2. عصفًا دماغيًّا حول الأفكار النمطية المسبقة عن اللاعنف الشائعة في مجتمعنا وحول كيفية الرد عليها ومقارعتها الحجة بالحجة؛

  3. حديثًا شاملاً لأستاذنا ندره اليازجي بعنوان "مركزية الأنا أصل العنف"، تضمن استقصاءً لثقافة التسامح والحوار، بالإضافة إلى التمييز بين ثنويات مفاهيمية، من نحو: العقيدة والمبدأ، الخلاف والاختلاف، التعصب والانفتاح، إلخ، تلاه حوار معه؛

  4. دراسةً لأحد نماذج العمل المباشر اللاعنفي: الإضراب عن الطعام، غاياته، التأهيل الفكري والنفسي والبدني عليه، والإعداد اللوجستي للقيام له؛ و

  5. بضعةَ تمارين عملية على تطويق العنف الداخلي وتسديده من خلال التنفس العميق والاسترخاء واستحضار "الشاهد الداخلي" في العمل.

وشعوري بهذه التجربة اليوم – ولا أحسب أن أي واحد من فريقنا الصغير يخالفني الرأي – أنها ستبقى، ككلِّ تجربة أولى، نقطة علاَّم في مسيرتنا اللاعنفية المشتركة.

* * *

أما في ورشتنا الثانية فقد استضفنا جان ماري مولِّر، صديقنا الفيلسوف والمناضل اللاعنفي "الكوكبي" (الوصف لشيخنا اللاعنفي زهير الدبعي من نابلس)، محاضرًا أساسيًّا؛ كما تكلمت زوجته، السيدة هيلين روسييه، على خبرتها الغنية في الحل اللاعنفي التفاوضي للنزاعات في المدرسة عن طريق الوساطة mediation؛ فيما حدثنا صديقنا د. محمد العمار، تلميذ شيخنا اللاعنفي جودت سعيد، عن "اللاعنف إسلاميًّا"، منقبًا في القرآن الكريم عن إرهاصات اللاعنف ومقرظًا دولة الإسلام في يثرب، منطلِقًا من اعتباره تجربة النبي العربي رائدةً في اللاعنف وفي إيجاد الحلول "اللاعنفية" للنزاعات بين أهالي المدينة المنورة.

كلَّمنا جان ماري، في محاضرة أولى، على "المبادئ الفلسفية" للاَّعنف، تلاها نقاش غني ضمن مجموعات حول المفاهيم التي طرحها، ما أجمعنا عليه منها وما اختلفنا فيه، بالإضافة إلى نقاط ظلت غير محسومة؛ وفي محاضرة ثانية، على "إستراتيجية العمل اللاعنفي"، أثارت نقاشًا واعتراضاتٍ حادةً من عدد من المشاركين، نظرًا لشعورهم بالفصل الحاسم فيها بين اللاعنف كخيار فلسفي، وجودي وحياتي، وبينه كمنهجية في العمل السياسي (فليُراجَع تقييم الورشة والانطباعات بعدها).

استوقفني هذا الخلاف الفكري بين بعضنا وبين ضيفنا الكبير، فدفعني إلى الاسترسال في تداعيات حول التحديات التي تواجه اليوم المقاربة اللاعنفية للنزاعات البشرية، محاولاً تتبع تحليل مولِّر وإبداء ملاحظاتي الشخصية عليه، ثم توسيع مجال النقاش. (أشكر الصديقة لنا عبد الرحمن التي أتاح لي الحوارُ معها بلورةَ بعض النقاط.)

* * *

إن أكبر تحدٍّ يواجه الناشطين اللاَّعنفيين اليوم، فيما أرى، هو الفهم المعمق لفلسفة اللاعنف ("اللاعنف الوجودي"، على حدِّ تعبير وليد صليبي). فمادمنا نفهم اللاعنف بوصفه "إستراتيجية" تُستعمَل پراغماتيًّا "عند الطلب" وحسب، فإننا نخفق في إحداث مفعول حقيقي مؤثر طويل الأمد. قد يُحرَز نجاحٌ هنا وثمة، ما في ذلك ريب، لكنه لن يدوم طويلاً. المشكلة هي في اختزال اللاعنف الفلسفي في الممارسة إلى مجرد وسيلة لحل النزاع conflict resolution، لا بل لـ"إدارته" conflict management! من هنا لا قيمة للتشديد على حل النزاع بالوسائل اللاعنفية مادمنا لا نضع نصب أعيننا أصلاً اجتثاث جذور النزاع المدمر من نفوسنا. ومن هنا أيضًا يجب على اللاعنف أن يصير، أيضًا وقبل كلِّ شيء، طريقة حياة. علينا أن نباشر استبدال ثقافة اللاعنف بثقافة العنف التي تسيطر اليوم على مظاهر حياتنا كلها.

العنف يقتات بالانفعالات السلبية: الغضب، الحقد، التكبر، التمييز، الإقصاء، الأنانية المنتفخة، إلخ؛ في حين يقتات اللاعنف بالمواقف الإيجابية: المحبة، التفهم، القبول، الاحترام، الرحمة، الإيثار، إلخ. لكن السلبية من السيطرة علينا بحيث إنها تستدرجنا إلى مستنقع العنف أكثر فأكثر. علينا أن نعمل باتجاه فهم ثقافة اللاعنف واستيعابها؛ وهذا لن يتم من غير عمل دائب ومعمق على النفس، شدَّد عليه صديقنا الأستاذ كاجو كاجو في "ملاحظاته" على ورشة العمل، مثلما شدَّدنا عليه في ورشة العام الماضي، وسوف نشدِّد عليه في ورشاتنا القادمة.

اللاعنف، كطريقة حياة، لا ينفصل عن الروحانية وتحقيق السلام الداخلي، يل يصب فيهما: كيف يكون عنيفًا مَن اكتشف وحدته في الجوهر مع الكائنات كلها؟! إنه يعرف، بالخبرة المباشرة، أن الإنسان إذا عَنَفَ بالحجر حتى فهو يعنَف بنفسه. الروحاني الحقيقي هو مَن يعي "العنف" الكامن فيه ويعرف كيف يحول طاقته المدمرة إلى طاقة خلق وإبداع. اللاعنف اسم آخر للمحبة الشاملة، كما أكد غاندي؛ أو لنقل، بالأدق، إنه تطبيقها في نطاق العلاقة مع الآخر – الآخر الإنساني والآخر الطبيعي. وفي هذا ضمانة كافية لئلا يقع اللاعنف في فخ التفتيش عن السلام الداخلي خارج العالم ونزاعاته الذي تخوف منه مولِّر.

إمكانية العنف الكامنة في الإنسان إرث من ماضيه الحيواني. لكن "عنف" الحيوان (و"عنف" الطبيعة إجمالاً) عنف صحي، بنَّاء في صميمه، لأنه منسجم حتمًا مع قانون أساسي في الطبيعة: كل شيء يغذي كل شيء ويتغذى به (الانفجارات البركانية، مثلاً، هي التي تكفل تزويد التربة بالمعادن الضرورية لاستمرار خصوبتها). مشكلة الإنسان أن ميراثه "الحيواني" خارج عن حتمية القانون الطبيعي، داخل في نطاق اختياره الحر الناتج عن معجزة الطبيعة: وعيه وعيَه (الحيوان يعي، لكنه لا يعي أنه يعي – ماعدا الحيوانات الراقية التي نجد لديها بوادر الوعي الذاتي). طاقة الحيوان متساوقة مع كتلته البيولوجية، لذا فإن "عنفه" يكون بمقدار محسوب، وحيد الاتجاه، مقيد بغريزته، يكفل استمرارَه كنوع واستمرارَ الأنواع الأخرى. أما الإنسان فهو مستودَع طاقة لانهائية، لكنها "مضغوطة" في كتلة بيولوجية ضئيلة جدًّا. ومن هنا عدم قدرته، في حالة بشري ذي نضج نفسي متدنٍّ، على احتوائها وتحويلها إلى طاقة خلاقة للبناء، بما يجعلها، إذا تعرضتْ لمزيد من الضغط، تتفجر تفجرًا مَرَضيًّا يخرج عن نطاق سيطرته الواعية. وهاهنا دور العمل الداخلي على النفس.

هذه التحدي ليس جديدًا، بل هو من النوع الذي واجهه غاندي في النصف الأول من القرن المنصرم. لقد اهتم المهاتما، أولاً، لتحرير الهند من الاستعمار، ثم انصرف إلى العمل على استبدال ثقافة اللاعنف بثقافة العنف السائدة في الهند لاعتبارات طائفية واقتصادية. غير أن رفاقه وزملاءه، بعد النجاح النسبي للجزء الأول من برنامجه، قرروا أن بقاء غاندي "الحي"، بكل الاعتبارات والمقتضيات الأخلاقية التي يلتزمها التزامًا مطلقًا، سينغص عليهم حياتهم، بينما بالوسع استثمار غاندي "الشهيد" استثمارًا مجديًا. وهكذا سرعان ما اغتيل المهاتما على يد متعصب هندوسي واعتنقت الهند ثقافة العنف من جديد. لقد أراد المهاتما للهند أن تصير منارةً تهدي بقية العالم إلى درب اللاعنف، لكن الهنود تخلوا عن هذه الرؤيا بعد الاستقلال وتبنوا ثقافة العنف وسارعوا إلى اقتناء السلاح النووي لـ"ردع أعداء الهند"، فدفعوا بپاكستان، بدوره، إلى اتخاذ هذا الخيار. ومعلوم أن يوم استقلال الهند (15 آب 1947) – وهو عينه يوم تقسيمها! – كان مأساةً بنظر غاندي، حتى إنه اعتكف حِدادًا ولم يشارك في الاحتفالات.

* * *

ونسأل اليوم: ما هي القضايا الأساسية التي تتصدى لها اليوم حركةُ السلام العالمية؟ وهل هذه القضايا تخصنا جميعًا كبشر أم تختص بها جماعة اجتماعية–اقتصادية أو إثنية بعينها؟ لقد صار العالم شديد الأنانية، شديد التمركز على الذات، جَشِعًا وعنيفًا؛ ونحن نسهم في ذلك، فرديًّا وجماعيًّا، بقسطنا المتواضع في المجتمعات التي نعيش فيها، بينما يسهم آخرون بقسط أوفر على صعيد الأمم الكبرى. إن الاعتقاد الساذج بأن أمريكا أو روسيا، أو أية دولة صغيرة منخرطة في صراع حتى، يمكن لها أن تنجو بمفردها، بينما تدمر بقية العالم نفسها، لهو اعتقاد أحمق أيضًا. فمصيرنا واحد على كوكبنا الأزرق الوادع، وإذا اتفق للواحد منا أن يزول فهو الزوال لنا جميعًا! القوميات ضيقتْ على الناس آفاقهم، بحيث باتوا يتغاضون عن رؤية العالم ككل. من هنا لا بدَّ من إنذارهم بأن نجاتنا كنوع بشري مرتبطة بنجاة العالم، وبأن اهتمامنا لما يحدث في دارفور أو التيبت يجب ألا يقل عن اهتمامنا لما يحدث في بلدنا (هذا إن كنا مهتمين لما يحدث في بلدنا أصلاً!).

من هنا فإن "التواصل اللاعنفي" nonviolent communication (بوصفه سيرورةً ووعيًا في آنٍ معًا)، الذي يؤسِّس له آرون غاندي وسواه، يتصل اتصالاً وثيقًا بفلسفة اللاعنف الغاندية، وهو جزء لا يتجزأ من ثقافة اللاعنف. لا يجوز لنا أن نستعمل لغة الغلو والتطرف ونتوقع من الناس، في الآن نفسه، أن يقتنعوا بفعالية اللاعنف في حلِّ النزاعات. اللغة التي نستعملها تؤثر حتمًا في فعالية نشاطنا. لذا يطلب منا آرون غاندي، حفيد المهاتما، أن "نكون التغيير الذي نتمنى رؤيته في العالم"، على حدِّ تعبيره. أول شيء مطلوب من الناشط اللاعنفي هو أن يفهم أنْ ليس في النضال اللاعنفي "أعداء"، ليس هناك شيء من قبيل "نحن... وهُم". نحن جميعًا واحد، وجميعنا في حاجة إلى التغيير. من هنا لا طاقة لنا على إقناع أيٍّ كان بأن يتغير إذا لم نُبدِ، من جانبنا أيضًا، تغييرًا جذريًّا في موقفنا. على سبيل المثال، لا نستطيع أن نقنع غيرنا بأن لا يعامل الآخرين كأعداء إذا كنا لا نزال نعامل بعض الناس كأعداء. ليس في اللاعنف من "عدو"، بل خصم في النزاع، كما أكد مولِّر. علينا أن نحيا ما نريد للآخرين أن يتعلَّموه؛ فالناس يتعلمون مما نفعل أكثر بكثير مما يتعلمون مما نقول.

حين سئل آرون غاندي عما يقدِّمه مفهوم "التواصل اللاعنفي" للأفراد والقادة الذين يودون إحداث تغيير في مجتمعاتهم سلميًّا، قال ما مُفاده إن التواصل اللاعنفي أداة واحدة في جملة أدوات مطلوبة لترميم المجتمع:

نحن في حاجة للنظر إلى اللاعنف كجملة من الأدوات لن تكون فعالة ما لم نستعملها جميعًا لتلبية الحاجات في إصلاح الأذى الواقع.

وحين سئل عن الأمل الذي يعد به "مركز التواصل اللاعنفي" NVCC الناشطين وصنَّاعَ القرار والقادةَ المرتبطين به، من حيث هم في بعض من أعنف مناطق العالم وأشدها فقرًا ويريدون، في الآن نفسه، إحداث تغيير سلمي في بلادهم، أجاب:

أعتقد أن تعلُّمهم فن التواصل اللاعنفي قد يعود عليهم بالنفع، لكن عليهم أيضًا أن يتعلموا بقية الفلسفة ويضعوها موضع التطبيق في كلِّيتها. [...] لذا فنحن في حاجة، إلى جانب اللغة، إلى تغيير مواقفنا وسلوكنا لنعكس المزيد من الرحمة والتفهم وننظر إلى كلِّ شيء من وجهة نظر كيف يعود ما أعمله بالخير على جميع المعنيين، وليس عليَّ وعلى "شركتي" فحسب. نحن في حاجة إلى إيجاد مجتمع يعمل فيه كل واحد لخير الجميع، وليس لخير القلة فقط.

* * *

مرارًا ما يلتبس النضال الاجتماعي والسياسي في العالم بمجرد الاحتجاج، أو الانخراط في المعارَضة حتى، على الصعيدين الوطني والشامل. صحيح أن للنشاط النضالي والاحتجاج مكانهما في ثقافة اللاعنف، لكنْ يجب استعمالهما لإحداث تحول في وعي الناس، وليس لتحريضهم. فالكثير من "النضال" المزعوم اليوم استفزازي، واللغة المستعمَلة فيه تعكس الكثير من الغضب وقلة احترام الآخر. وهذا، لاعنفيًّا، لا يجوز السماح به لأن اللاعنف يستهدف، أول ما يستهدف، إيقاظ ضمير الخصم، لا المزيد من استعدائه.

من زاوية الرؤية هذه أيضًا كان التحفظ على عدد من مراحل "الإستراتيجية" التي طرحها مولِّر. فقد ذكر بين المراحل "استلام السلطة" و"الثورة الدائمة" (النقطتين 14 و15 من الإستراتيجية)، بينما رأى بعضنا أن استلام السلطة تختص به أحزاب ذات برامج سياسية محددة، تتبع الإستراتيجية اللاعنفية (والأصح هنا أن نقول "التكتيك غير العنيف") للوصول إلى السلطة وتنفيذ تلك البرامج، وليس بالضرورة طلبًا للعدالة وإعلاءً للحق. هناك، أصلاً، فارق كبير، من حيث الروحية المحرِّكة، بين العمل اللاعنفي الذي يرفض العنف جذريًّا وبين "تكتيك" يقتنع أصحابه، من منطلق پراغماتي، بجدوى عدم اللجوء إلى العنف لتحقيق أهداف بعينها. ولهذا شهدت التجارب اللاعنفية حالات شطط كثيرة – ومنها تجربة الهند، على عظمتها وأهميتها.

اتكاء جان ماري في تحليله على تجارب الدول الاشتراكية السابقة يثير كذلك الكثير من الأسئلة: هل كان لمعارضة الشعب اللاعنفية دور حاسم في سقوط جدار برلين ووضع حدٍّ للحرب الباردة؟ سؤال أعقد من أن يجاب عنه بنعم أو بلا. جان ماري أجاب بنعم جازمة، وقد بدا تحليله متماسكًا؛ لكنه لم يأخذ في الحسبان عوامل أخرى كثيرة في المعادلة. الأكيد أن البيروقراطية الشيوعية في الثمانينيات كانت من الترهل، بعد عقود طويلة من الفساد الناخر، بحيث تداعت أمام أول ضغط شعبي جدي؛ لكننا لا نستطيع أن نخمن ما كان ليحدث لو أن المعارضة الپولونية أو التشيكية قاومت النظام التوتاليتاري لاعنفيًّا وهو في أوج قوته؟ (فلنتذكر "ربيع پراغ"!) هل تلقى المناضلون الپولون والتشيك دعمًا من الغرب؟ هناك مَن يذهب هذا المذهب، وهو ليس بمستبعَد تمامًا. هل كانت أهداف زعمائهم "نظيفة" دومًا، مجردة من كلِّ طموح شخصي؟ إذا صح هذا على ميشنك، مثلاً، الذي مازال يناضل بالكلمة (وهو رئيس تحرير أهم صحيفة حرة معارِضة في پولونيا)، أتراه يصح على سواه؟ خيارات پولونيا السياسية اليوم ليبرالية "أطلسية" بنسبة 90%، وليست أوروبية حتى. فهل نطبق هنا قول المعلم الناصري: "من ثمارهم تعرفونهم"؟ هذه أسئلة ستبقى إجاباتها معلَّقة، في الأفق المنظور على الأقل.

* * *

على كلِّ حال، ليس في اتباع الإستراتيجية اللاعنفية للمقاومة، في حدِّ ذاته، أية ضمانة أكيدة للتوصل إلى نتائج ملموسة، وذلك لأن نجاح النضال أو إخفاقه يتعلق بالظروف والمصالح الداخلية والإقليمية والدولية، بالمناضلين أنفسهم، وبالمناضَل ضدهم. لكن المهم فيها، إنسانيًّا وأخلاقيًّا، أنها، على افتراض "نظافتها"، تسمو بإنسانية متبعها، وإنْ أخفق، بحيث تكون حياتُه شهادةً حيةً للحق على الظلم.

قوة اللاعنفي الحقيقي في أنه إنسان مثالي عملي، بمعنى أنه يسعى في أن تكون حياته وسلوكه نموذجًا حيًّا يُتأسى به للمُثُل التي يطالب بتطبيقها في الواقع. أقول "يسعى"، لأن اللاعنفيين الكبار حتى لم يرتقوا دومًا إلى مستوى مُثُلهم العليا. غير أن اللاعنفي الحقيقي يجب أن يبقى مثالاً روحيًّا لا يكترث بالسلطة في حدِّ ذاتها، فلا يتمرغ في مستنقعات التسييس، وهو غير "السياسة" politics (من كلمة polis اليونانية التي تعني "المدينة") بمعنى الالتزام الأخلاقي بالمُواطنة والحس المدني العالي الذي نحن في أشد الحاجة إليه، ولاسيما في بلادنا. لقد أصاب مولِّر كبد الحقيقة حين قال إن التحدي الحقيقي الذي يواجهه اللاعنفي هو ممارسة سياسية من نوع آخر، "توفق بين الاقتضاء الروحي والعمل السياسي".

* * *

فيما يتعلق بِسمات النضال اللاعنفي الفعلي، من حيث الرؤيا والقيم والإستراتيجية المعمول بها، فإن لكلِّ وضع مقاربة مخصوصة. لذا لا يُعقل تعميمُ إستراتيجية نموذجية واحدة تصلح للحالات كلها. لقد بين مولِّر أن غاندي كان يدرس المشكلة دومًا، من زواياها كلها، واضعًا نفسه أحيانًا مكان الخصم، وبعد أن يحيط علمًا بالمشكلة يبدأ بمراسلة الخصم في محاولة للتوصل إلى تفاهُم معه. تكون المراسلة شخصية أولاً، ثم تصير علنية. فإذا لم يفلح في إقناع الخصم يقول له ما مُفاده: بما أننا بلغنا مأزقًا لا يسمح لنا بالتفاهم فلا مناص لي من اللجوء إلى حملات شعبية لإكراهك على تغيير موقفك. غير أنه كان يفعل ذلك بأدب جم، من غير أن ينوي إحراج الخصم بأيِّ شكل من الأشكال (شدد مولِّر على ذلك عند تناوُله للاَّعنف فلسفيًّا). ذات مرة، في جنوب أفريقيا، علَّق غاندي حملةً على الفصل العنصري apartheid كان خطَّط لها لأن عمال السكك الحديدية أعلنوا إضرابًا، قائلاً إن من الخطل الضغط على الحكومة في أثناء انشغالها بمعالجة نكبة وطنية؛ لكنه حالما انتهى الإضراب عاد وأطلق حملته.

هل هناك بلاد أقل عنفًا من غيرها، وأميَل، بالتالي، إلى الروحانية والمسالَمة؟ لا أستطيع أن أجزم بذلك. العنف الذي شهدتْه الهند لدى تقسيمها كان مروعًا (حوالى 400000 قتيل، أكثر من 12 مليون نازح)، على الرغم من أن غاندي كان يومذاك حيًّا يرزق، فلم يستطع إيقاف موجة العنف الرهيبة إلا بشق النفس، وذلك بإعلان صيامه حتى الموت. ما يخفف من غلواء العنف في الهند اليوم ليس "روحانيتها"، ليس "مسالَمتها"، بل خيارُها الديموقراطي العَلماني الذي يتيح، على علاَّته الأكيدة وفساده المخيف، للتنوع الإثني والديني والسياسي المذهل في البلاد أن يعبِّر عن نفسه من غير قمع.

البلد الوحيد في أوروبا الذي لم يشهد عنفًا جماعيًّا يُذكَر منذ قرنين هو سويسرا. ولعل هذا يعود، جزئيًّا، إلى مناخها الجبلي الذي تقل فيه نسبة الأكسجين في الهواء (مما ينعكس على الجهاز العصبي هدوءًا واسترخاءً)، بالإضافة إلى أنه بلد فقير بالموارد الطبيعية، الأمر الذي يحوِّل عنه أطماع جيرانه. ثم إن النظام السياسي السويسري، المتسم باللامركزية (ما اسم رئيس الكونفدرالية؟ لا أحد غير المتابعين يعرفه، لأن النظام قائم على تداول السلطة كل ستة شهور بين "الكانتونات" الـ23) وبحقَّي الاستفتاء والمبادرة الشعبية المكفولين منذ القرن التاسع عشر، ناهيكم عن خيار سويسرا الحيادي والإنساني (هنري دونان، المؤسس الرئيسي للصليب الأحمر، سويسري) الذي احتُرمَ إبان الحربين العالميتين – هذه الخيارات السياسية والمدنية تعزز مناخًا اجتماعيًّا نابذًا للعنف.

من هنا أهمية اتخاذ أية "إستراتيجية لاعنفية" حَرية بهذه الصفة الخيارَ الديموقراطي التعددي، العَلماني، الهادف إلى التأسيس لدولة القانون التي تكفل لمواطنيها حقوقهم السياسية والثقافية. فما لم تضع الحركة اللاعنفية هذا الخيار ضمن أولوياتها المطلقة فلا شيء يحول دون تحول سلطة الدولة من جديد إلى سلطة قمع للحريات. ولقد أحسن مولِّر القول إذ شدَّد على أن التنظيم اللاعنفي، إنْ وُجِد، يجب أن يجسد سلفًا القيم والخيارات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يريد لمجتمعه أن يتبناها؛ وهذا ما يشفع لرأيه حول "استلام السلطة"، مع ضرورة النظر في كلِّ حالة بعينها على حدة.

* * *

بعد كلِّ ما قيل، يبقى أن نراجع أنفسنا مراجعة جذرية، لنستفيد من الدروس والعِبَر والأخطاء والملاحظات، فيكون أداؤنا أفضل في المرات المقبلة. أعرف يقينًا أننا زرعنا بذورًا، ولعل بعضها بدأ ينمو؛ لكن الثمار ليست من اختصاصنا. كان غاندي يقول إن المرء حين يغالي في الاهتمام لنتائج عمله فإنه لن يتمكن أبدًا من القيام لما يقوم به لأن باله عندئذٍ يكون مشغولاً بالنتيجة. لذا نفضل من جانبنا عدم التركيز المفرط على أهمية ما نفعل، بل نمضي في القيام لما نستطيع القيام له، آملين أنه سيُحدِث، على بساطته، فرقًا في حياة الناس، ولاسيما جيل الشباب، الذي ننوي أن نتوجه إليه بالمزيد من العمل في برنامجنا المقبل.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود