|
أسْــرُ
العَـقْـل في
إحدى لمحاته الذكية، أفاض يورغن هابرماس، شيخ
الفلاسفة في العالم اليوم، في التأكيد على أن: العلم
ينير العقل ويبدِّد أوهامَه الكثيرة حول
العالم. وحين نتعلم شيئًا جديدًا عن أنفسنا
ككائنات في العالم يتغير مضمونُ فهمنا الذاتي.
وقد قلب كوپرنيكوس وداروِن صورةَ العالم التي
كانت تتمركز حول الأرض وحول الإنسان رأسًا
على عقب. يورغن
هابرماس (1929- ) حتى نفهم
المغزى من كلام هابرماس، يجب علينا التوقف
عند محطات علمية رئيسية غيرت الوعي الإنساني،
وهي: نظرية مركزية الشمس، ونظرية التطور،
وأخيرًا وليس آخرًا، اكتشاف الخريطة الجينية
للإنسان، بالتوازي والتزامن مع ما حقَّقه
عصرُ النهضة الأوروبية والتنوير، وصولاً إلى
مرحلة ما بعد الحداثة اليوم. وتحتل الثورة
التي قادها رجال عصر التنوير أو العقل مكان
القلب في هذه القضية المحورية. لقد عبَّر كانط
– قمة عصر التنوير وذروته الفكرية – أصدق
تعبير عن روح ذلك العصر في مقال بعنوان "جواب
عن سؤال: ما التنوير؟" نشره في العام 1784 في
مجلة شهرية ببرلين. في هذا المقال عرَّف كانط
التنوير بأنه هجرة
الإنسان حالةَ القصور التي يبقى وحده المسئول
عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن
استخدام العقل. والإنسان القاصر مسئول عن
قصوره لأن العلَّة في ذلك ليست في غياب "العقل"،
بل في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان
الشجاعة على ممارسته دون قيادة من الآخرين.
لتكن لك الشجاعة على استخدام عقلك بنفسك: ذلك
هو شعار التنوير. من هذه
الزاوية، يقال إن العقل مستقل. واستقلال
العقل يعني أنه عقل مستقل، واستقلال
العقل يعني أنه عقل ناقد. وهذا هو السبب في
تعريف التنوير للفلسفة بأنها "عادة النقد
المنظمة". وهذا التعريف لا يساير التعريف
التقليدي للفلسفة. وكان كانط أيضًا ذروة هذا
العصر "النقدي" بكتابه العلامة نقد
العقل الخالص. عمانوئيل
كانط (1724-1804) إن دينامية
العقل تعتمد على مجموعة مثلثة من المقومات
الهامة: 1.
أولها
حرية القبول والرفض (الشك): ذلك أن ما
يقدَّم للعقل من عناصر خبرية لا تكون مُلزِمة
للعقل الحر بأن يتناولها بإقامة علاقات
تفاعلية فيما بينها، بل هو يقبل ما يريد أن
يقبله ويرفض ما يريد أن يرفضه. 2.
كذلك
فإن من خصائص العقل أنه لا يعرف القول الفصل
أو الانتهاء إلى موقف حاسم نهائي: فما يتوصل
إليه من نتائج لا يستحيل إلى معتقدات مطلقة،
بل يظل مطروحًا للفحص والدراسة والتطوير
والتعديل والتغيير. 3.
وأيضًا
فإن دينامية العقل تقوم باستمرار بعمليتين
أساسيتين هما التحليل والتركيب: في
التحليل يرد العقلُ المركَّبات إلى عناصرها
الأولية؛ تليه عمليةُ تركيب مركَّبات جديدة
من العناصر المتوافرة. معنى ذلك أنه
إذا ما أُسِر العقلُ فإنه لا يُسمح له بالقيام
بهذه العمليات الثلاث الأساسية، بل يُقسَر
على تقبُّل ما يقدَّم له من قوالب اعتقادية
جاهزة لا تقبل التطوير أو التعديل أو التغيير.
والواقع أن طبيعة المعتقدات dogmas
هي طبيعة ساكنة static،
وليست طبيعية دينامية ثائرة. وما يُظَن أنه
دينامية ثائرة في نطاق المعتقدات إنما هو في
الواقع حربٌ وتطاحُن بين المعتقدات
بعضها ببعض، أو ما يُعرَف بـ"صراع المطلقات".
ذلك لأن المطلق، بحكم طبيعته، واحد، لا يقبل
التعدد؛ ومن هنا فإن تعدد المطلقات يُدخِلُ
بالضرورة في صراع. وحتى إذا انقسم المعتقد
الواحد إلى شيع وطوائف فإن ذلك لا يدخل في
نطاق التطور، بل يدخل في نطاق الانقسام. فليست
هناك، إذن، دينامية ثائرة داخلية في دخيلة
المعتقد نفسه تسمح له بأن يتطور ويتفتق عن
جديد غير مسبوق في عقيدته أو معتقده. فقد أدت ثورة
رجال الإصلاح الديني في أوروبا عصر النهضة،
أمثال مارتن لوثر وجان كالڤن وهولدرِخ
زڤينغلي وميشيل سيرڤيتوس وغيرهم، إلى
انقسام داخل العقيدة المسيحية الواحدة (الكاثوليكية
= "الجامعة")؛ ولم يعمل ذلك على تقدم
المسيحية، وإنما عمل على إضعافها فيما نشاهده
في أوروبا من تطاحن وحرب ضروس بين الكاثوليك
والپروتستانت.
وهذا على العكس
تمامًا مما حدث في نطاق العلوم في أوروبا عصر
النهضة أيضًا: فثمة دينامية ثائرة تعتمل في
نطاق العلوم والتكنولوجيا، فتؤدي إلى حدوث
تطورات حقيقية وإلى نشأة الجديد دائمًا الذي
لم يكن له وجود قبلئذٍ. وهنا يتضح أن
المنهج الاعتقادي dogmatic
يتصف بالاستمرارية "الستاتيكية" غير
المتطورة، بينما يتسم المنهج العلمي
بالتطورية المتغيرة؛ وبينما يأخذ المبدأ
الاعتقادي بالمبدأ الإطلاقي absoluteness
التقديسي، فإن المنهج العلمي يأخذ بالنسبية relativism
ويجعل محكَّ القيمة هو الفائدة أو العائد. وهناك قيم
اعتقادية تساعد على طغيان الاعتقاد على الفكر
وأسْر العقل وشلِّ حركته، منها "التابوهات"
taboos
(= المقدسات، اللامساسات، المحرَّمات).
والتابو قديم قدم المجتمعات البشرية، وإنْ
اتخذ أشكالاً متباينة مع تباين المجتمعات
واختلاف العصور. وما تزال قيم اللامساس
معتملةً في نفوس الكثيرين، تؤدي الخشيةُ من
انتهاك "حرمتها" إلى الحيلولة دون
التقدم[2]. لقد تأخر تطوير
علم الطب حتى القرن الرابع عشر بسبب تحريم
الكنيسة القيام بتشريح جثة الميت. فأول مَن
أقدم على تشريح جثة ميت هو طبيب إيطالي من
پادوڤا بإيطاليا، وذلك في العام 1315، لكنه
لم يجرؤ على فتح رأسه وتشريح دماغه خوفًا من
ارتكاب خطيئة مميتة والخروج على تعاليم الدين
المسيحي أو "مقدساته"[3].
وقد استمر هذا الوضع حتى العام 1405، حين ألغى
مجلس شيوخ البندقية سلطة محاكم التفتيش inquisition. ومما يُذكَر عن
محاكم التفتيش في هذا الصدد أنها انتقمت من
پييرو الآپانوي – أبرز المؤسِّسين للرشدية
اللاتينية في جامعة پادوڤا بإيطاليا عصر
النهضة – حتى بعد وفاته؛ إذ مات بطرس ومجلس
التفتيش يبحث في قضيته، وكان قصاصه حرق عظامه
عقابًا له! لذا ظل اسمه في ذاكرة العوام
مثقلاً بالمكائد الجهنمية المنسوبة إليه. ومن
المفارقات أيضًا أن توماس توركيمادا، أشهر
رؤساء محاكم التفتيش inquisitor
في إسبانيا، كان يبرِّر إحراق مئات "الزنادقة"
و"السحرة"[4]
على الخازوق بقوله: "نحن نحرقك في الدنيا
رحمةً بك، حتى ننقذك من النار الأبدية في
الآخرة." توماس
توركيمادا (1420-1498) وقد امتدت تهمة
الزندقة إلى"الإبداع" العلمي وقتئذٍ،
ذلك أنه كان ثورةً على الموجود والقائم
والمستقر وإحلال الجديد محلَّه. وأبرز نموذج
في التاريخ الحديث هو غاليليو غاليليي الذي
أيد نظرية كوپرنيكوس القائلة بدوران الأرض
حول الشمس؛ وهو ما يتعارض وتعاليم الكنيسة
الكاثوليكية التي أكدت ثبات الأرض،
باعتبارها مركز الكون، واعتبرت القول بعكس
ذلك "بدعة" و"ضلالة". فقد أصدر
غاليليو كتابه المعنون بـحوار حول النظامين
الرئيسيين للكون: النظام الپطليموسي والنظام
الكوپرنيكي في العام 1632، وأعلن في شجاعة:
"إن نظرية مركزية الأرض ليست سوى خيالات
ملفقة." النظام
الكوپرنيكي للكون: الشمس في
المركز، والكواكب في مدارات حولها، يليها فلك
النجوم الثابتة. وفي العام 1632،
مُنِعَ كتابُه وحُظِرَ نشرُه. وأدين غاليليو
بالفعل من قبل محاكم التفتيش، واستمر هذا
المنع حتى العام 1822، حيث أعيد نشرُه على نطاق
واسع.
وتكشف مأساة
غاليليو عن أمرين على غاية من الأهمية: الأمر
الأول هو أن غاليليو لم يتعرض للمساءلة
والمحاكمة لمجرد قوله بدوران الأرض حول
الشمس، أو حتى لخروجه على نسق فكري لعلاقات
بنية فلكية مستقرة تتبناها الكنيسة
الكاثوليكية، وهي "مركزية الأرض"، وإنما
لأنه أبدع منظومةً فلكيةً جديدة خلخلت البنية
الاجتماعية الطبقية السائدة والمستقرة آنذاك. غاليليو
يواجه تفتيش روما. وقد عبَّر
برتولد بريشت تعبيرًا رائعًا عن هذه الحقيقة
في المشهد العاشر من مسرحيته حياة غاليليو.
إذ يقول منشدو الجوقة في بعض المقاطع: لما
انتهى الرب القدير من خلق العالم الأمر الثاني
هو أن غاليليو كان أول مَن استخدم اللغة
العامية الإيطالية في الكتابة "العلمية".
ومعروف أنه كان يتميز بروعة أسلوبه: فقد صدر
أكثر من كتاب في الغرب يشيد ببلاغة غاليليو
ويبين أن اختياره العاميةَ وتحدِّيه اللغةَ
اللاتينية كان سببًا من الأسباب الرئيسية في
عدم الرجوع عن إدانته. لقد صدرت إدانة غاليليو
في العام 1633، حين أعلنت محكمة الكرسي المقدس،
بعد محاكمة دامت ستة شهور، أنه يُشتبه
إلى أقصى درجة في خروجه على الدين القويم [هرطقة] لأنه نادى بعقيدة كاذبة
مخالِفة للكتاب المقدس وآمَن بها، عقيدة
مؤداها أن الشمس هي مركز العالم، وأنها تتحرك
من الشرق إلى الغرب، وأن الأرض تتحرك وليست
مركز العالم. [...] فقد كانت
الكنيسة الكاثوليكية تقدِّس اللغة
اللاتينية، لغة الدين والعلم في العصور
الوسطى، وكانت تعتبر اللغات العامية أو
الشعبية "لهجات منحطة". وكان أول ما فعله
لوثر في عصر النهضة هو ترجمة الكتاب المقدس من
اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية
الدارجة، وذلك في غضون الأعوام 1522-1530، وكان
يعتبر أفضل قاموس في العالم هو قاموس
الأمَّهات في البيوت والأطفال في الشوارع
والرجل العادي في السوق. وهو القاموس الذي
استفاد منه في الترجمة، والذي أبدع من خلاله
غوته وشيللر وهُلدرلِن، من بعده، روائع الأدب
الألماني العالمي.
***
*** *** [1]
د. عصام عبد الله أستاذ الفلسفة
بجامعة عين شمس المصرية. [2]
من ذلك، مثلاً، ما يثار اليوم عن التدخل في
جينات الإنسان والهندسة الوراثية
والاستنساخ إلخ. [3]
لذا كان يضع فوق طاولة التشريح كرسيًّا
لراهب يتلو صلوات من أجل راحة نفس الشخص
الذي كان يشرِّحه! [4]
تعريف الزنديق والساحر كان: "كل منشق عن
الكنيسة الكاثوليكية أو رافض لها في
العقيدة أو السلوك أو المصالح." |
|
|