|
مونتسكيو
و"بوصلة" التسامح شارل
دُه مونتسكيو هو مؤلِّف
الكتاب الشهير روح الشرائع الذي كان
رفاعة رافع الطهطاوي قد عرَّبه منذ فجر
النهضة العربية الحديثة؛ وهو أيضًا مؤلِّف
العمل الشهير الرسائل الفارسية الذي
تُرجِمَ إلى أغلب اللغات الحية، حيث قدَّم
صورةً للمجتمع الفرنسي، بكلِّ "غراباته"،
عبر ملاحظات مسافرَين فارسيَين دوَّناها عن
فرنسا في رسائل وجَّهاها للأهل وللأصدقاء. إن ريكا وأوزبك
– وهذان هما اسما المسافرَين – يعكسان في
عجبهما وتعجبهما أحاسيس مونتسكيو نفسه
وحيرته في باريس وصالوناتها الأدبية خلال
القرن الثامن عشر، قرن "التنوير"، وهو
القادم من إحدى المناطق الفرنسية البعيدة. مونتسكيو
(1689-1755) لقد كان
مونتسكيو المفكِّر الفرنسي الأول الذي تكلم،
بقدر كبير من الفهم ومن الحس العلمي، على
آليات عمل المجتمع الذي عاش فيه، كما وبكثير
من الجرأة أيضًا. لذلك لا أتردد في أن أصفه بـفيلسوف
الحرية، وبأن رهانه الأساسي كان على الإنسان
وحده الذي "يخرق" القوانين كلَّها ويبدل
باستمرار القوانين التي كان وضعها هو نفسه.
وهكذا رفض هذا الفيلسوف الكبير جميع أشكال
الفكر القائم على خنق الحريات. ومن هنا كان
موقفه الرافض للظلم وللظالم. لكنه، في
المقابل، وقف ضد أشكال التطرف والإسراف
والإفراط في أيِّ شيء. ومن هنا رأى بأن انحطاط
الإمبراطورية الرومانية نفسها كان مسبِّبه
الرئيس هو تناسي الرومانيين أنفسهم مبدأً
هامًّا في الحياة، وهو الاعتدال في
الاستهلاك، استهلاك أيِّ شيء. هذه الدروس
كلها استقاها البارون دُه مونتسكيو من عبقرية
الطبيعة ومن آليات القطاف التي عاشها وعايشها
في حياته الريفية في أثناء شبابه. وعلى هذا
الأساس، يستخدم المؤلِّف تعبير "القطاف"
في العنوان الفرعي لعمله. صحيح أن مونتسكيو قد
دخل التاريخ من بابه العريض على أساس أنه أحد
الآباء المؤسِّسين للذهنية الديموقراطية
الحديثة، وصحيح أن أصداء فكره قد عمَّت
واتسعت وأصبح لها أثرُها على التاريخ
الإنساني برمته، لكنه بقي، مع ذلك، مرتبطًا
بمنطقته غاستون، وهي منطقة مشهورة بكرمتها.
لذلك نرى بأن كلَّ شيء عنده "مستقيم"
استقامةَ صفوف الكروم. ومن منطقته أيضًا
احتفظ دائمًا بنوع من الفرح الفطري والميل
نحو السعادة التي يمكن للحياة أن تمنحها؛ وقد
ظل كذلك إلى أن أصيب في أواخر حياته بفقدان
البصر فقدانًا شبه تام. وقد كان
مونتسكيو، كما تدل سيرتُه، مرتبطًا إلى حدٍّ
كبير بالأرض، وكان مالكًا لمساحة كبيرة زرعها
بالكروم؛ كما جهد باستمرار من أجل شراء
مساحات جديدة وضمِّها لملكيته الخاصة. ومع
أنه لم يكن محبًّا للمال كقيمة في ذاته، إلا
أنه كان يرى فيه وسيلةً لامتلاك هامش أكبر من
الاستقلالية، التي لا بدَّ منها من أجل أن
يعمل العقلُ بصورة صحيحة. وكان يمكن
لمونتسكيو أن يحصل على جميع ألقاب الشرف
والجاه في منطقته قبل أن يبلغ سنَّ الثلاثين،
لكن الهم المعرفي كان أكبر عنده وأهم، هذا
إلى جانب "هم" محاولة فهم العالم وتقديم
بعض الإجابات في خصوص آليات عمله وكيفية جعل
هذه الآليات أكثر ثباتًا واستقرارًا بعامة،
وأكثر عدالة بخاصة. ويمكن لنا أن
نُجمِلَ الملامح الأساسية لصورة مونتسكيو في
تعدديتها أنه كان يهتم بكلِّ ما يحيط به
تقريبًا، كما تشهد لذلك الكتابات المتنوعة
التي كان يوجِّهها إلى أكاديمية العلوم في
مدينة بوردو، المدينة الرئيسة في المنطقة
التي كان يقيم فيها، حيث كانت تلك الكتابات
تطال مختلف المشارب العلمية والفكرية، وكانت
تلقى القبول العام لأنها صادرة عن شخصية
أثبتت صدقيَّتها منذ عمله الكبير الرسائل
الفارسية. وقد ساعد في هذا كلِّه الواقعُ
المجتمعي بفرنسا في تلك الفترة، أي في بدايات
القرن الثامن عشر، وبتحديد أكبر، بعد وفاة
الملك لويس الرابع عشر الذي عرف كيف يفرض، على
مدى سنوات طويلة، أسلوبه في الحكم. لكن الأمور
اهتزت كثيرًا بعد رحيله، وبدا أن هناك
تغييرًا في الأفق على صعيد الفكر وتعريف
الإنسان بدوره، بل وبدا أن هناك صفحة كاملة هي
في صدد أن تُطوى من أجل الشروع في كتابة صفحة
جديدة. لكن مونتسكيو
لم يكن في عداد الذين يريدون طيَّ صفحة الماضي
طيًّا كاملاً؛ أي أنه لم يكن مفكرًا "ثوريًّا"
بالمعنى الشائع للكلمة. لكن كتاباته كانت في
واقع الأمر تعبِّر عما كان يتفاعل داخل
مجتمعه من أفكار دفينة، ولذلك أقبل عليها
الناس لأنها كانت تستجيب لتطلعاتهم. وهنا تجدر
الإشارة إلى أن السذاجة التي ظهرت من خلال
ملاحظات المسافرَين الفارسيَين في الرسائل
الفارسية لم تكن مغفَّلة، بل كانت مؤسَّسة
على قدر كبير من التأمل والتفكير والتحليل
الاجتماعي والسياسي. فعبر ملاحظاتهم تلك
والنظرة إلى الأشياء والوقائع، تكلم
مونتسكيو على المؤسسات التي كانت تفرض
قوانينها وعاداتها، لكنه تكلم أيضًا على هذه
القوانين والعادات التي تضع بدورها مؤسساتها.
هكذا كان فهمُه لـ"روح الشرائع" فهمًا
"جدليًّا" قبل أن يكون هناك "جدل"
بالمعنى الراهن. وعلى أساس
التأمل العقلي القائم على العدل وعلى ترجيح
الحقيقة على كلِّ ما عداها، كتب مونتسكيو روح
الشرائع الذي لا يزال حتى اليوم مرجعًا
أساسًا في ميدان فهم التناقضات والانفعالات
والعوامل التي يتغذى منها العالمُ في لحظة
معينة. لكن السمة التي يؤكد عليها مونتسكيو
تتمثل في التبدل المستمر للقوانين التي
تحكم علاقات البشر فيما بينهم: فما هو صحيح و"نهائي"
اليوم قد يغدو خطأ في الغد؛ وبالتالي، ليس
هناك نموذج أوحد يمكن تطبيقه في جميع الحالات،
وكأن البشر يعيشون جميعًا على الدرجة نفسها
من التطور في اللحظة الزمنية نفسها. بل ويتحدث
مونتسكيو، في هذا الإطار، عن دور الطبيعة،
وخاصة المناخ، في صياغة عادات البشر
وتقاليدهم، وبالتالي قوانينهم. لكن يبقى التسامح
الصفة الأساسية التي يرى مونتسكيو أنه ينبغي
على البشر التحلِّي بها. الصفحة
الأولى من المجلد الثاني من روح الشرائع (طبعة
جنيڤ) الذي أضاف إليه المؤلف ملحقات عن
القوانين الرومانية الخاصة بالإرث والقوانين
الفرنسية وقوانين الإقطاع. إن التسامح
الذي نادى به مفكِّر القرن الثامن عشر يمكن أن
يكون بمثابة "بوصلة" يستهدي بها بشرُ
اليوم. وكان مونتسكيو قد كتب في أحد تأملاته
الفكرية: "عندما أتصرف حيال أمر ما أكون
مواطنًا، ولكن عندما أكتب أكون إنسانًا."
ثم يضيف: "أنا إنسان قبل أن أكون فرنسيًّا،
ذلك لأنني إنسان بقوة الضرورة، ولست فرنسيًّا
إلا بحكم المصادفة." وتتحدد فكرة
الحرية لدى مونتسكيو بالهامش الضيق الذي يسمح
به "التوازن" بين القوانين السائدة
والواجبات والحقوق. لكن المهم، في جميع
الحالات، هو المحافظة على التوازن الفكري
وإمكانية الإنسان أن يسيطر على سلوكه وطُرُق
تفكيره، وخاصة على محاكمته العقلية التي
تضمن له هامش الحرية المتاح. يقول مونتسكيو:
"أعتقد أني سأكون أسعد البشر لو استطعت
شفاء الناس من أحكامهم المسبَّقة." وفي المحصلة،
يمكن اعتبار مونتسكيو، قبل كلِّ شيء، رجلاً
حرًّا يطالب بإفساح المجال لكلِّ إنسان بأن
يتمتع بـ"هامش" حريته وبأن يتفتَّح بحسب
مقدراته وتلبيتها لإرادته وتطلعاته، مع أخذ
الأرض التي يعيش عليها والسماء التي يعيش
تحتها بعين الاعتبار. وإن تأكيد مونتسكيو على
هذه المحدِّدات يمثل في الواقع، بحسب الاعتدال
لديه ونسبية الأشياء في نظره، بحثَه في
كلِّ شيء، ولدى كلِّ إنسان أو مؤسَّسة أو
حكومة، عن نقطة التوازن: علينا أن نفهم أولاً،
ثم نقوِّم أحكامنا. ***
*** *** [1]
باحث وكاتب كويتي. إيميله: ayemh@yahoo.com.
|
|
|