|
شري أوروبندو واليوگا
المتكامل أعظم مفكِّري الهند
اليوم... لنرقى بالعالم إلى
الله في نور لا يموت، نبذة صغيرة
عن سيرة شري أوروبندو ولد شري أوروبندو –
اليوگاني (= المتحقق باليوگا)، الشاعر،
الفيلسوف، والمفكر الاجتماعي والسياسي – في
كلكتَّا في 15 آب 1872، ابنًا ثالثًا للدكتور
كرشنادهان گهوسه، الطبيب البنغالي شديد
الإعجاب بالثقافة الإنكليزية، كونه من أوائل
الهنود المتعلِّمين في إنكلترا. بذا حصل
الفتى گهوسه على اسمين: الأول بنغالي:
أوروبندو (= لوتس)، والثاني إنكليزي: أكرويد.
ومع أن جدَّه كاليپراساد گهوسه ظل على تمسكه
بالثقافة الهندية، فقد نهل أوروبندو الشاب في
البدء من معين الثقافة البريطانية فقط،
وترعرع، بناءً على إصرار والده، جاهلاً كلَّ
ما يتعلق بثقافة الهند وروحانيتها. صرف أوروبندو صباه
وشبابه في إنكلترا، دارسًا، وهو بعدُ في
السابعة من عمره، في مدرسة القديس بولس في
لندن، ثم التحق في العام 1889 بالـKings
College في كمبردج، حيث
ألمَّ باللغات اليونانية واللاتينية
والفرنسية وأصاب طرفًا من لغات أوروبية أخرى،
كالألمانية والإيطالية. وهناك أيضًا درس
تاريخ أوروبا وطوَّر موهبته الشعرية. وإبان
تلك الفترة، انضم إلى رابطة للطلاب الهنود،
متخليًا عن اسمه الإنكليزي. عاد أوروبندو إلى
الهند في العام 1893، فما لبث أن عُيِّن مدرسًا
للُّغتين الإنكليزية والفرنسية، فظل ثلاثة
عشر عامًا في خدمة ولاية بارودا في ميدان
التعليم الثانوي. وقد برز في تلك الفترة
أستاذًا في معرفة السنسكريتية التي توفَّر
على دراستها في عمق، وتعلَّم لغات هندية
أخرى، وانكب على التعمق في آداب الهند
وتراثها الثقافي والروحي وقضاياها السياسية. وفي العام 1906، ذهب
إلى البنغال ودخل حلبة السياسة جهرًا،
منضمًّا إلى الحركة السياسية للمقاومة
الهندية للحكم الاستعماري البريطاني وصار من
الأصوات البارزة في "الحزب القومي"
المطالب بالاستقلال التام للهند عن التاج
البريطاني. ولقد استطاع، عبر مقالاته في
دوريات مثل Bande Mataram
(= السلام عليك أيتها الأم، ويعني بها
الهند)، أن يغذي الشعور القومي الثوري لدى
مواطنيه بطرح قضايا من نحو الحكم الذاتي Swarāj
أو الاكتفاء الذاتي Swadeshi والمقاطعة
الاقتصادية. وخلافًا للمهاتما گاندي، كان يرى
ضرورة اللجوء إلى كلتا المقاومة المسلَّحة
والمقاومة السلبية passive
resistance لنيل الاستقلال.
وفي هذا كان مرنًا وپراغماتيًّا للغاية:
فكانت وسائل التغيير الاجتماعي تُعتمَد، في
نظره، على أساس الظروف المتغيرة، وليس بناءً
على مبدأ أخلاقي مطلق وجامد (إيديولوجيا). وقد اعتُقِل
أوروبندو في العام 1908 حين اشتُبِه في صلته
المزعومة بعملية تفجير فاشلة. ومع أن المحكمة
برأت ساحته، فقد مكث في سجن أليپور عامًا
كاملاً إبان التحقيق والمحاكمة، عاكفًا على
ممارسة اليوگا والعمل الأدبي والتأمل
الباطني. شري أوروبندو (1872-1950)
شابًّا. عاد أوروبندو بعد
الإفراج عنه إلى متابعة عمله الثوري حتى
العام 1910، حين غادر حلبة السياسة نهائيًّا
استجابةً لـ"أمر مفاجئ من فوق"، على حدِّ
قوله، وانسحب إلى الهند الفرنسية في
پونديشيري، حيث واصل ممارسة اليوگا ممارسةً
لا تعرف الكلل، وصرف الأربعين سنة الباقية من
عمره في صياغة رؤياه في التطور الروحي
والكوني ودور "اليوگا المتكامل" Integral
Yoga
في تعجيل هذا التطور، رافضًا أي انخراط مباشر
في الأحداث السياسية. شري أوروبندو قبيل
وفاته. مدخل إلى
اليوگا المتكامل 1 يكثر اللغو بين الحين
والآخر حول فتح الطبيعة conquest
of nature، لا بل يقال حتى
إنه علَّة وجود الإنسان أصلاً. فما المقصود
بالدقة بهذا المصطلح؟ – "فتح الطبيعة". لقد جعل العلمُ
الوضعي الحديث من فتح الطبيعة دينه وديدنه،
ونجح في بلوغ شيء من المقدرة على السيطرة وعلى
الغزو، لا بل بلغ مقدرة هائلة في بعض المجالات!
لكن هذه المقدرة، أيًّا كان مداها في ميدانها
الخاص، لم تمس الإنسان في أعماق وجوده ولم
تيسِّر أي تغيير حقيقي في كيانه أو في مصيره،
من حيث إن الجزء الأكثر حيويةً من الطبيعة هو
إقليم قوى الحياة – سلطان المرض والشيخوخة
والموت، الصراع، الجشع، الشهوة، وسائر
الغرائز البهيمية المعتملة في الإنسان –،
إقليم القوى المظلمة البدائية كلِّها، قوى
الجهل التي تشكِّل الأساس الحقيقي للطبيعة
وللعالم وللإنسان. ثم، عندما نرتقي إلى عالم
العقل Mind، نجد
إقليمًا قوامه مزيج حاذق من النور والظلمة،
يتقنَّع فيه الكذبُ بقناع الحقيقة، وتسري فيه
الأوهامُ كأنها حقائق، وتسود مفاهيم زائفة
على أنها مُثُل عليا! تلكم هي الطبيعة
الحالية للإنسان الظاهر – بنواته المثلَّثة:
عقل–حياة–جسم – التي ينبغي استئناسها
والفوز بها. إنها "الطبيعة الدنيا" التي
تكلَّم عليها الأقدمون والتي تستبقي
الإنسانَ في الأسفل، وتقدِّر عليه دهرما dharma (= واجبًا،
دورًا) أدنى من دوره الحقيقي في العالم وحياةً
يعتورها النقصُ – الحياة التي كانت وما تزال
المقدور البشري العادي حتى يومنا هذا. ما من
فعل بشري، مبالٍ أو غير مبال، في وسعه أن يحرك
عجلة الطبيعة هذه، ولا حتى قيد شعرة، خارج
الخط المرسوم سلفًا. فالطبيعة والمجتمع
البشري مبنيَّان بفعل قوى هذه الطبيعة
الدنيا، محكومان بها؛ ومهما تكن التدابير
التي في المستطاع اتِّخاذها في خصوص هذه
العوامل وتينك العناصر الظاهرة، لا يمكن
تغيير المخطط العام للحياة وشكلها الأساسي.
فلإخراج الأرض من مدارها الحالي – و"فتح
الطبيعة" بالمعنى الحقيقي للعبارة لا يعني
أقل من القدرة على ذلك! – وجعلها تدور على
مدار جديد، ينبغي إيجاد "نقطة ارتكاز"
خارج الأرض. إن شري أوروبندو لا
ينادي بالهرب من الحياة ولا بالاعتكاف في "لانهاية
سلبية خرساء"، كما أخذ عليه بعض الناشطين
السياسيين من معاصريه. فغاية الحياة، في
نظره، ليست إخماد الحياة! وهو كذلك لا يكتفي،
للسبب عينه، باستحسان قناعة المرء بعيشِ
حياته في الدورة العادية لـدهرماه غير
المُمْتَحَن بالنار: إذا كان الحل الأول
طريقًا مسدودًا، فإن الحل الثاني حلقة مفرغة،
وكلاهما لا يفضي إلى شيء مُجْدٍ. إن منطلق سادهنا sādhanā (=
الجهاد الروحي) شري أوروبندو هو التحقق بقدرة
مستعلية عن "الطبيعة العادية"، لكنها في
الوقت نفسه سيدتها حتمًا، واتخاذها نقطة
ارتكاز خارجها، كما أسلفنا. ذلك أن المطلوب،
أولاً، هو اكتشاف وعي جديد وتجلِّيه في
الإنسان؛ وعي يحقق، عبر ضغطه القاهر وسريان
قانونه، "انقلابًا" conversion جذريًّا
في طبيعة الإنسان. إن الأسورا Asura (=
الأبالسة) هم سادة البشرية في الوقت الحاضر،
إذا جازت الاستعارة، لأن الإنسان يبيح خلقه
على صورتهم منذ وقت طويل. فلطرد الأسورا ينبغي
على الآلهة، في قدرتها، أن تُصوَّر في الكائن
البشري وتقوم بدورها. ذلكم أمر مهول، متعذَّر
في نظر بعضهم، لكنه أبعد ما يكون عن السكونية quietism والسلبية. صحيح
أن شري أوروبندو قد اعتزل الدنيا، لكن خلوته
كانت عبارة عن اعتزال الميدان الخارجي
للنشاطات المادية واستطالاتها الظاهرة، ولم
تكن أبدًا اعتزالاً لقوى الحياة الحقيقية.
إنها "الخلوة" الضرورية لمن يجب عليه أن
يلج محراب ذاته لـ"فتح" صعيد جديد من
القدرة الخلاقة، بحيث يكفل دخوله مباشرة
عالمَ القوى الأساسية، أو الحقائق الجوهرية،
في القلب الملتهب للأشياء حيث تولد الوقائع
كلها وتتخذ صورتها الأولى. إنه كشفٌ مولِّد
لطاقة لا حدود لها واكتشافٌ لوسائل وضع هذه
الطاقة في خدمة الحياة الأرضية. 2 عندما صرح شري
أوروبندو: "إن يوگانا ليس من أجلنا، بل من
أجل الإنسانية"، تنفَّس عددٌ كبير من
الهنود – متغربين محدثين – الصعداء، إذ
تراءى لهم أن تلك النفس الكبيرة لم تكن، على
الرغم من كلِّ شيء، فانيةً عن العالم كلَّ
الفناء، وأن اسمها لم يكن اسمًا جديدًا يضاف
إلى السلسلة الطويلة من أسماء الـسنياسن sannyāsin
(= الزهَّاد) الذين أنجبتْهم الهند عبر القرون.
لقد حسبوا أن يوگاه يوگا حديث، مكرَّس لخدمة
الإنسانية، وإن هذه الخدمة، وإن لم تكن مجمل
روحانيته وجوهرها، فهي على أقل تقدير غايتها
وتمامها. لقد بدا يوگاه، في نظرهم، نوعًا من
الرياضة يستهدف اكتشاف قدرات غير مرئية معينة
وتطويعها بغرض جعل الحياة الإنسانية أرقى
بوسيلة أنجع من كلِّ ما يمكن أن تطمح إليه
المناهج العقلانية والعلمية وحدها. لقد رأى شري أوروبندو
أن قلب تعليمه نفسه يزوَّر بهذا التفسير
العادي لكلامه، ولذلك عدَّل عبارته فقال: "يوگانا
ليس من أجل الإنسانية، بل من أجل الألوهية."
وأغلب الظن أن تغيير الجبهة هذا – هذا التحول
الظاهر – لا ترحب به بعضُ الأوساط التي حسبت
أن عليها أن تصرف النظر عن كلِّ أمل في رؤيته
يعمل من أجل بلاده أو من أجل العالم، وانتهى
بها الأمر إلى اعتباره من جديد، نهائيًّا،
ميتافيزيائيًّا "حالمًا"، معزولاً عن
الأمور المادية، وحتى عقيمًا عقم المطلق (برهمن
Brahman)
السرمدي. حتى ندنو أكثر من
المثال الذي يعمل شري أوروبندو في سبيل
تحقيقه، يمكن لنا أن نجمع بين المعادلتين
اللتين أعطاهما في صياغة واحدة بقولنا إن
رسالته تتلخص في إيجاد الألوهة والإفصاح
عنها في البشرية. فالخدمة التي يريد أن
يؤديها للإنسانية هي أن يجعل الألوهة تتجلَّى
فيها وتتجسد. غايته ليست "تحسينًا" وحسب،
بل هي تغيير كلِّي، تحول تام: تأليه الحياة
البشرية. هاهنا أيضًا ينبغي أن
نحترس من سوء فهم محتمَل: إن تحويل الحياة
البشرية لا يعني بالضرورة أن الإنسانية
برمتها سوف تصير سلالة من الآلهة أو الكائنات
الإلهية، بل يعني تطوير نمط إنساني جديد
وإظهاره على الأرض – مثلما أن الإنسان قد
تطور عن الحيوان إلى نمط علوي من الحيوانية،
دون أن يعني ذلك تطور المملكة الحيوانية
برمتها إلى كائنات بشرية. فيما يتعلق بإمكان
مثل هذا التطور – وشري أوروبندو لا يقول
بإمكانه وحسب، بل وبحتميَّته أيضًا –، ينبغي
أن نتذكر أن القوة التي سوف تحقق هذه النتيجة،
هذه القوة التي مافتئت تعمل، ليست قدرة بشرية
فردية، أيًّا كان مبلغ هذه القدرة، بل هي الألوهة
نفسها: إن قدرة الألوهة (شكتي shakti)
نفسها هي الدافعة في اتجاه بلوغ الغاية
المنشودة. ذلكم قلب السر
الحقيقي ومفتاح المسألة برمتها. إن قدوم
السلالة الإنسانية الفائقة أو الإلهية –
مهما بدت هذه الظاهرة معجزةً وخارقة – يمكن
له أن يصير أمرًا عمليًّا تطبيقيًّا، بالدقة
لأن الأداة البشرية هذه ليست هي التي تنهض له،
بل الألوهة نفسها، في قدرتها وحكمتها ومحبتها
اللانهائية. إن "نزول" الألوهة في
الطبيعة البشرية العادية من أجل تنقيتها
وتحويلها واستيطانها هو سر الـسادهنا
كلِّها في يوگا شري أوروبندو. على الـسادهك
sādhak (=
المريد) أن يبقى ساكنًا، صامتًا وحسب،
ممتلئًا توقًا هادئًا، منفتحًا، مستعدًّا
لاقتبال القوة الواحدة المتنزِّلة عليه. ليست
له حاجة إلى القيام بأشياء ببذل مجهود شخصي
مستقل، ولا ينبغي أن يسعى إلى ذلك، بل عليه أن
يجعلها، أو بالحري أن يدعها، تفعل فعلها في
الوعي الذي كرَّسه المعلِّم أو المرشد الإلهي
الداخلي. مناهج اليوگا أو الطرق الروحية
السابقة كلها كانت تستهدف عروجًا للوعي أو
تساميًا له إلى وعي الروح و"الفناء" فيه.
وحتى لو كان يُنظَر في نزول الوعي الإلهي بغية
إعداد مقامه النهائي في الطبيعة البشرية
الدينامية والپراغماتية، لم يكن هذا هو
المبحث الأساسي للجهود المبذولة وللتحقق.
فضلاً عن هذا، فإن النزول الذي نحن في صدده
الآن ليس نزول "وعي إلهي" – إذ إن ثمة
طيفًا واسعًا من أنماط الوعي الإلهي –، بل
نزول وعي الإله نفسه، مع قدرته (شكتي)،
من حيث إنها هي التي تعمل مباشرة على دفع
التحول التطوري في زماننا الراهن. ليس هاهنا مقام
الدخول في التفصيلات بخصوص المعنى الدقيق لـ"النزول"
وسيرورته وخطوط العمل المستعملة والنتائج
المتحصَّل عليها. إذ إنه يحدث حقًّا "نزول"
فعلي: يتخلل النورُ الإلهي العقلَ أولاً
ويبدأ فيه عمله التطهيري – مع أن القلب
الباطن هو دومًا الذي يتعرف أولاً إلى
الماهية الإلهية وينصاع راضيًا للفعل الإلهي
فيه. والعقل، أي العقل الأعلى Higher
Mind،
هو بالفعل قمة الوعي البشري العادي، ومن
طبيعته أن يتلقى الإشعاع النازل تلقيًا أسهل
وأيسر. ومن العقل يرشح النورُ إلى المناطق
الأكثف – مناطق الرغبات والنشاط الانفعالي،
مناطق حركة الحياة والدينامية الحيوية –،
إلى أن ينزل أخيرًا في المادة الغليظة نفسها،
في مادة البدن الكثيفة المظلمة، التي يجب هي
الأخرى أن تتنور وتتخذ صور النور الأسمى
ومظاهره الحقيقية. والإله، في "نعمته"
Grace
النازلة، هو عينه الباري، المهندس الكوني
الذي يبني، لبنةً لبنة، الصرحَ عديدَ المنازل
والطبقات الذي يشكِّل الطبيعةَ والحياةَ
البشريتين وفقًا لقالب الحقيقة الإلهية في
لعبها الكامل وتعبيرها الأسمى. لكن هذا يصعب
النظر فيه عن كثب حين ما يزال المرءُ سائرًا
على الدرب الروحي، حيث يكون قد اكتسب الخصال
الأولى الأساسية التي لا بدَّ لكلِّ مُسارَر initiate من أن يتحلَّى
بها. إن التحقق على الأرض
بحياة روحية أو إلهية هو، قبل كلِّ شيء، فعل
جمال، صنع رائعة فنية؛ ذلك أنه يبدو أن
الروحانية، من وجهة نظر الحقائق الباطنة، إنْ
لم تكن أسمى الفنون، فهي على الأقل أساس
الفنون جميعًا. فإذا كان الفن يعني التعبير عن
روح الأشياء، بما أن روح الأشياء الحق هي
العنصر الإلهي المنغرس فيها جميعًا، ينبغي
والحالة هذه منح الرياضة الروحية والوصال مع
الروح، مع الإله، المنزلةَ "الملكية" في
مراتب الفنون – ذلك أنها فن الحياة. صياغة
الحياة عملاً كاملاً من الجمال الخالص في
خطوطه، خلوًا من أيِّ نشاز في أنغامه
وإيقاعاته، مترعًا بالقوة، مشعًّا بالنور،
يتراقص جذلاً، – وبكلمة واحدة، تجسدًا
إلهيًّا – هو المثال الأسمى للروحانية. من
هذا المنظور، يمكن اعتبار الروحانية – تلك
التي يمارسها شري أوروبندو – ذروة الخلق
الفني. 3 إن يوگا شري أوروبندو
المتكامل ينسجم كلَّ الانسجام مع يوگا
الطبيعة نفسه. فللطبيعة يوگا تنتهجه ولا تحيد
عنه لأنه قانون كينونتها الأبْطَن. ومصطلح
"يوگا" يعني أساسًا تغيرًا أو تحولاً،
ارتقاءً وتوسعًا في الوعي، يتمان عبر الوصال
أو الاتحاد مع وعي أعلى وأوسع. إن تفتح الوعي في
الطبيعة هو بالضبط ما يُطلَق عليه اسمُ "تطور"
evolution.
إنه مبدأ وعي متسامٍ، ظل حتى الآن مغلَّفًا
ومكنونًا وراء الحجاب، يؤتى به ويُثبَّت في
الوعي الأرضي بوصفه عاملاً ديناميًّا في عمل
الطبيعة الظاهر. بذا فإن أول أطوار التطور هو
حالة المادة اللاواعية والعناصر الفيزيائية
التي لا حياة فيها من حيث الظاهر؛ والطور
الثاني طور الحياة نصف الواعية في النبات؛
والثالث هو طور الحياة الواعية في الحيوان؛
وأخيرًا الطور الرابع، الذي نحن فيه الآن،
طور الحياة الواعية ذاتَها المتجسدة في
الإنسان. لكن مسيرة التطور لم
تبلغ ذروةً نهائيةً مع الإنسان. فالطور
المقبل للتطور الذي تستهدفه الطبيعة وتعمل
على إظهاره وترسيخه، بحسب شري أوروبندو، هو
طور الحياة "فائقة الوعي" superconscious بالنسبة إلينا
اليوم، المتجسدة في نمط أعلى من الكائنات،
طور الإنسان الفائق Superman
أو الإنسان–الإله. وإن مبدأ الوعي الذي سوف
يعيِّن طبيعةَ هذا الكائن الجديد وبنيانه
النفسي مبدأ روحي يتعدى المبدأ العقلي الذي
يجسِّده إنسانُ اليوم، ويمكن له أن يُدعى
المبدأ العقلي الفائق Supramental
Principle أو
العرفان Gnosis
الإلهي. لقد ظل العقل حتى
الوقت الحاضر آخر حدٍّ للوعي المتطوِّر.
العقل، كما تفتَّح في الإنسان، هو أعلى أداة
ابتنتْها الطبيعة ونظَّمتْها يمكن للكائن
الواعي ذاتَه أن يعبِّر من خلالها عن نفسه.
لذا يقول البوذا ما مُفاده إن العقل هو الأعلى
بين المبادئ، لا بل إن العقل هو ما يكوِّن
المبادئ جميعًا: "العقل سابق على جميع
الدهرمات" (= النواميس، المبادئ). فوعي ما
يتعدى العقل لم يصرْ بعدُ عنصرًا مرئيًّا
وديناميًّا في الحياة على الأرض. الأولياء
والراؤون الكبار اختبروا منه لمحات أو نفذوا
إليه بدرجات متفاوتة وعلى أنحاء متنوعة؛ وهو،
من جانبه، قد ألقى بكشوفه على النشاطات
الخلاقة للشعراء والفنانين، وظهر في أجمل
وثْبات الأبطال ورجال العمل وأنبلها. بيد أن
أقصى ما تحقَّق حتى الآن، ذروة ما تم بلوغه في
هذا الاتجاه (ويمكن طرحُه مثالاً في الطرق
الروحية)، يُرغِم المرء على الانسحاب خارج
دورة التطور، على الاستغراق في الحالة
السكونية التي تتعداه تمامًا والتي تبقى، إذا
جاز التعبير، في أقصى الطرف المقابل: الروح في
ذاتها، آتمن Ātman، برهمن Brahman،
سَتشيتانندا Sachitānanda،
نرڤانا Nirvāna، الأحد بلا
ثانٍ، العدم فيما يتعدى الوجود[1]. إن أول تواصُل مع هذا
الواقع السكوني الفائق يتم عبر أعلى مناطق
العقل: يتوطد وصالٌ أكثر مباشرةً وحميميةً
عبر مرتبةٍ فوق العقل بدرجة واحدة: العقل
الفائق Overmind،
كما يسميه شري أوروبندو. العقل الفائق يحلُّ
ويفوق وعي الأنية ego الذي
يحدُّ الكائن بتشكُّله المتفرِّد، المشدود
ببنيان أو "غمد" خارجي ضيق يشكِّله
الفكرُ وحياة الجسم؛ وهو يفصح عن الذات وعن
الروح الكلِّي، عن الألوهة الكونية وآلافها
المؤلَّفة من القوى التي تنخلع كلَّ برهة في
آلاف مؤلِّفة من الصور والأشكال. هاهنا يبدو
وجودُ العالم "لعبة" (ليلا līlā) من الحُجُب، ما
تنفك تتغير، على وجه واقع يفوق في سعته الوصف،
كدائرة سرية للإيجاد والانعدام الدائمين: هي
الرؤيا الماحقة التي قُيِّض لأرجونا أن
ينالها من كرشنا في الـبهگڤدگيتا[2].
ومن جهة أخرى، فإن الخبرة الأصلية والأشد
التي ينطوي عليها هذا الوعي الكوني هي
النسبية القصوى والصفة الطارئة والزائلة
للفيض الكوني كلِّه؛ وهناك ضرورة تبدو منطقية
ولازمة للغاية من الوجهة النفسانية، ألا وهي
الفرار إلى تلك الماهية الأزلية، التي هي
العدم المطلق[3]. ذلكم كان أعلى
استهلاك في شهود الألوهة، الغاية الأسمى التي
سعت إلى بلوغها الخبرةُ الروحية الأنقى
والتوقُ الأعمق للوعي الإنساني. لكن العالم
أو الخلق أو الطبيعة آلت بذلك إلى اعتبارها
أساسًا حصيلة أڤديا avidyā (=
الجهل)، وأُعلِنَ أن الجهل والشقاء والعجز
والموت إنما هي سمة الأشياء الأرضية حصرًا.
النور المقيم فوق، فيما يتعداها، يمكن أن
ينشر لوقت محدود ضياءَه على ظلمتها القاتلة،
لكنه لا يستطيع أبدًا أن يزيلها ولا أن يغيِّر
ما فيها بالكلِّية. من هنا فإن الحياة في ملأ
النور، والوجود فيه، والاشتراك في طبيعته،
كان يعني العبور إلى الماوراء – ليس لأنه لم
تكن هناك طُرُق أو أنماط أخرى من الخبرة
والتوق الروحيين، بل لأن الخبرة التي نحن في
صددها الآن هيمنت على الخبرات الأخرى جميعًا،
إلى حدِّ أنها أغرقت كلَّ ما عداها في غياهب
الميتافيزياء البحتة. ليس من الضروري أن
يقود الوعيُ الوهمي الأصلي للعقل الفائق إلى
المعرفة السكونية البرهمية أو إلى شونْيَم
shuniam (=
العدم العقيم، السكوني) وحده. هناك، والحق
يقال، في تلك السيرورة الخاصة للوعي فجوة بين
الاثنين – بين مايا māyā
(= الوهم) وبرهمن (= الحق) –، وكأن
العبور من الأولى إلى الثاني محال دون القيام
بقفزة. أما في يوگا شري أوروبندو، فهذه الفجوة
مملوءة بالمبدأ العقلي الأرفع، غير الخاضع،
إذا جاز التعبير بالمصطلح الصوفي الإسلامي،
لمثنوية "الجمع" و"الفرق" في
معرفته، كما هو شأن العقل الأعلى والفطنة
العقلية العليا، بل التوحيدي الوجودي حتمًا،
حتى في أقصى مراتب الكثرة والتنوع[4]. العقل الأرفع Highest
Mind هو الوعي الذي هو
الحقيقة السكونية والدينامية في آن معًا،
الموجود بذاته والخلاق. في العقل الأرفع، يعي
الوعيُ البرهمي – ستشيتانندا Sachitānanda –
ذاته، لكنه دومًا متجلٍّ ومتجسِّد في القدرات
الأساسية للواقع وفي صور الحقيقة من أجل
إدامة لعبة الخلق. العقل الأرفع هو الصعيد
الذي يتفتح عليه الواحد عن الكثير ويبقى فيه
الكثير واحدًا، حيث ليس هو، في مآل الأمر، إلا
التجلِّيات المتنوعة للذات الأحد. وهو، إذ
يعرف ذلك، يفصح عن وجود "الأعيان الروحية"[5]،
الأسماء والصفات الإلهية للتفردات الممكنة
للوجود المتطور كافة. حين تتكلم الـأوپنشاد
على دربين – شمسية وقمرية – في الوعي الروحي،
فلعلَّها تشير إلى هذين الخطين: أولهما، عبر
الوعي الـ"ماياوي" (= الطبيعي) للعقل
الأعلى Higher Mind،
ينفذ إلى الغبطة السكونية "القمرية" في
العدم الوَجْدي؛ والثاني يعرج أعلى فأعلى إلى
الحالة "الشمسية"، التي هي بحر محيط، سعة
لانهائية من هذا النور وهذا الوَجْد، إنما
التي بوسعها أن تفصح عن نفسها وتتجسد في
الحقيقة–الوعي الخلاق (سوريا سڤتري sūria
savitrī). في العقل الأرفع،
توجد الأشياء في واقعها الروحي الكامل؛ وكل
منها يعي أنه الواقع الإلهي في ماهيته
المستعلية، في سعته الكونية، في فرديته
الروحية. فيه نجد تنوع الوجود المتجلِّي، من
غير أن يكون الفصلُ الذي تتمايز فيه الأشياء
بعضها بعضًا قد ظهر بعد[6].
الأنية ego،
مناط الفصل، تظهر في طور لاحق وأدنى من أطوار
انغلاق الوعي على ذاته involution.
فما نحن في صدده هنا هو العقدة غير المرئية
لبؤر تفرُّد الحقيقة الأزلية للوجود. وحيث
يلتقي العقل الأرفع والعقل الأعلى، يمكن رؤية
الآلهة العديدة[7]،
كلاًّ منها متميزًا في حقيقته وجماله وقدرته،
لكنها تكوِّن جميعًا الوعيَ الأسمى الواحد
الجامع اللانهائي، إنما في الوقت نفسه "الضابط
الكل" و"الكلِّي القدرة" Pantocrator
(بالمصطلح
المسيحي). عندما يعرج المرء حتى العقل الأرفع
يرى شيئًا إضافيًّا: يشاهد الوحدة تضم في
حناياها جميع التنوعات دون أن تفنيها، بل
تنبذ وتعطِّل وعي العقل الفوقي Supermind
الذي هو أصل الجهل. إن أول ظلٍّ من ظلال الوعي
الوهمي، الإمكانية الأصلية لحركة الجهل،
يظهر، فيُدخِل النورَ العقلي الأرفع في
المنطقة الواقعة بين النور والظلمة على مرتبة
العقل. إن حركة العقل الأرفع هي حركة النور
الذي لا ظلمة فيه، النور المباشر، غير
المترجرج، الثابت، المطلق. يتمثل دورُ القوة هنا
في احتواء الخطوط العديدة، لكنْ غير
المنفصلة، للحقيقة الجوهرية غير المتبدلة
والحفاظ عليها في وحدة مبدئها الأوحد.
ومسيرتها هي التقدم الحتمي لكلٍّ من هذه
الحقائق التي يتخلل كلٌّ منها الحقائقَ
الأخريات ويدعمها؛ ولهذا لا مجال في خلقها،
في "لعبتها" أو فعلها، لأيِّ امتحان أو
تعثُّر أو تلمُّس أو انحراف: ذلك أن كلَّ
حقيقة تقوم على الحقائق الأخرى جميعًا وعلى ذاك
Tat
(= هو) الذي يُناغِم فيما بينها ولا يفعل بوصفه
قوةً مناوئة، ولا حتى منافِسة لقدرات الوجود
الأخرى. أما في العقل الأعلى فتبدأ لعبة
الممكنات المتناوئة، فتنسحب اليقينيات
البسيطة، المباشرة، الموحِّدة والمطلقة
للوعي العقلي الأرفع، خطوةً، إذا جاز
التعبير، فتبدأ الأولى بالتحقق عبر تفاعل قوى
متفردة كلٍّ منها على حدة أولاً، ثم متضادة
ومتناقضة لاحقًا. في العقل الأعلى، توجد
مبطونةً وحدةٌ واعية، بيد أن المجال فسيح
لكلِّ قدرة، لكلِّ حقيقة، لكلِّ مظهر من
مظاهر هذه الوحدة، حتى يحقق ممكناته، وكأن
الأمر كافٍ له، فيما تُستعمَل القدراتُ
والحقائقُ والمظاهرُ الأخرى في إغنائه
الخاص، إلى أن يؤول الأمرُ في المناطق الأكثف
والأعتم تحت العقل الأعلى إلى النزاعات
الهوجاء والصراعات العمياء، وإلى الاصطفاء
الذي تحكمه المصادفة، على ما يبدو. الخلق أو
التجلِّي، في الأصل، يعني صيرورة قدرات
الكينونة الواعية إلى "لعبة" من
التنوعات الموحَّدة؛ لكن خطة الخلق التي
تنتهي في المادة تنفذ إلى المزيد من الأشكال
والقوى المظلمة، حتى يتم أخيرًا الكسوف
الظاهري لنور الوعي الإلهي الأسمى. إن الخلق النازل نحو
الجهل يصير انغلاقًا للروح في المادة، عبر
العقل والحياة على اختلاف قواها؛ فيما التطور
حركة مخالفة للحركة الأولى، رحلة عودة
للمادة إلى الروح، وهي جزء من سيرورة
التكشف والانعتاق التدريجيين للروح، العروج
والكشف عن الوعي المنغلق عبر سلسلة من
اختبارات الصحوة: المادة التي تصحو على
الحياة؛ فالحياة التي تصحو على العقل؛ فالعقل
الساعي إلى الصحو على شيء أعلى من العقل في
قدرة الروح الواعية. لقد كانت النتيجة
الظاهرة أو الفعلية لحركة الجهل – الانغلاق
– نفيًا متفاقمًا للروح؛ لكن غايتها
المستترة هي أخيرًا تجسيد الروح في المادة
للتعبير هاهنا، في الزمان والمكان الكونيين،
عن روائع الواقع خارج الزمن. إن ظهور الجسم المادي
على مسرح الحياة يجلب معه الموت حتمًا على ما
يبدو؛ ويلوح حتى أن قوامه هو الموت بعينه، من
أجل أن يتوطد الخلود في إطار الموت ومجاله هذا
– من أجل أن يتوطد الروح–الوعي الأزلي الذي
هو الحقيقة والواقع الأبْطَن في عالم الزمن،
كما وفيما يتعداه، ومن أجل أن يفصح الإلهُ عن
نفسه ويستولي على نفسه، لا على النحو الثابت
للوعي السكوني، مثلما يفعل الآن فيما وراء
اللعبة الكونية، بل ضمن اللعبة نفسها وفي
التحولات العديدة للوجود الأرضي. 4 إن سرَّ التطور هو
قوة صاعدة نحو انعتاق الوعي وتفتحه خارج قيود
لاوعيه الظاهري. الحركة على الدرجات الأولى
شديدة البطء والتدرُّج – وهو النهج البدائي
غير الواعي للطبيعة. أما في الإنسان فيكتسب
هذا النهجُ إمكانيةَ أن يصير واعيًا،
وبالتالي أسرع وأشد تركيزًا. تلكم في الواقع
هي وظيفة اليوگا نفسه: إتمام تطور الوعي
بتسريع نهج الطبيعة عبر إرادة الإنسان
الواعية ذاتها. لقد نما في الإنسان
جهازٌ خصيصًا ليصير الأداةَ الفعلية لهذا
النهج اليوگي المسرَّع. إن وعي الذات الذي
جئنا على ذكره، بوصفه الخاصية المميِّزة
للإنسان، ملَكةٌ من ملَكات هذا الجهاز. إنه نفس
psychê الإنسان،
كيانه النفسي. هذه النفس في الأصل هي شرارة
الوعي الإلهي التي "هبطت من المحلِّ الأرفع"
(ابن سينا) وانغلقت في المادة، والتي مافتئت
منذئذٍ تكدح للتحرر عبر مسيرة التطور المطردة.
ولقد بلغت في الإنسان نموًّا وقدرةً كافيين
للصعود، من وراء الحجاب، إلى السطح وللدنو
منه، بما يجعلها الآن قادرةً على قيادة وعيها
الخارجي وتشكيله أيضًا. وهي أيضًا القناة
التي يمكن للوعي الإلهي عبرها أن ينسكب في
المراتب الدنيا للطبيعة البشرية. إنها "الكيانُ
الذي لا يكبر الإبهامَ، القابعُ أبدًا في
باطن القلب"، على حدِّ تعبير الـأوپنشاد؛
وهي أيضًا أساس الفردية الحق والهوية الشخصية.
وهي، عند الفرد، علاوة على ما تقدم، انعكاس
ذاته الجوهرية، نفسه المتجسدة (جيڤتمن jīvatman)، والإفصاح عنها
في طبيعته المتطورة – الذات التي هي، بحكم
كونها مقتطَعةً أزلاً من ذات الإله، واحدة مع
الإله، دون أن تذوب فيه أو تفنى. بذا يكون
الكيان النفسي على صلة مباشرة، من جهة، مع
الإله ومع الوعي العلوي، ويكون، من جهة أخرى،
الداعم السري والضابط (بهارتا bhārata)
للوعي الأدنى، النواة التي يُبتنى حولها
ويُنظَّم الجسمُ والحياة والعقل. يتم عبور الخطوة
الحاسمة الأولى في اليوگا المتكامل عندما
يُستوعى الكيانُ النفسي، أو من منظور آخر،
عندما يتقدم الكيانُ النفسي على الكيان
الظاهر ويستولي عليه، فيبدأ بتخلل حركات
العقل والحياة والجسم والتأثير فيها
وتحريرها تدريجيًّا من الطواف العادي
للطبيعة الجاهلة. إن صحوة الحياة النفسية لا
تعني، كما قلنا، تعميقًا للوعي وتساميًا
وانعتاقًا له من ظلمة پركريتي prakriti
(= الهيولى المادية) ومحدوديتها، حبيسة الحالة
المثلَّثة الدنيا، فيما يقع وراء العالم وما
يتعداه وحسب، بل يعني أيضًا عطف الوعي العميق
والعلوي على نصف الكرة السفلي، وبالتالي
تنقية هذا الأخير وإشراقه وتجديده. وأخيرًا،
عندما يستكمل الكيانُ النفسي امتلاكَ زمام
أمره وقدرته، يمكن له أن يصير مركبةً للوعي
العقلي الأرفع المباشر، الذي يستطيع عندئذٍ
أن يفعل في حرية وفي إطلاق من أجل التحويل
التام للوعي الخارجي وتجلِّيه في جسم كامل
للحقيقة–الوعي، وبكلمة واحدة: "تأليهه" theosis. ذلكم هو السر إذن:
تحويل الطبيعة البشرية العادية، وليس
التخلِّي عنها أو إفناءها؛ "نفْسَنَتها"
أولاً، أي تحريكها وإحياؤها وإيجادها
بالتواصل والتوحد مع نور الكيان النفسي،
وثانيًا، عبر النفس، وعبر العقل والحياة
والجسم التي تحيا بالنفس وفيها، "رَوحَنَتها"
بفتح الممر للعبور إلى الوعي العقلي الأرفع
وتركه ينزل إلى الدنيا ليعمل ويتمِّم مفعوله. إن تحقق النفس، أو
الكيان الحق، في الإنسان المرتقي إلى الوعي
العقلي الأرفع – والمتقدم في الوقت نفسه
لامتلاك عقل متألِّه وحياة منوَّرة وجسم
ملطَّف (بوصف هذا الثلاثي الأداةَ والقناة
للتعبير عن الذات)، ولتجسيد الإرادة الإلهية
وخطَّتها في الوجود – هو الغاية التي تكدح
الطبيعة لتحقيقها الآن من نهجها التطوري.
ذلكم هو العمل المنوط بالإنسان لكي يتم، فيه
ومن خلاله، التسامي والتحول المطلوبان.
غير أنه ليس من
السهل، كما أنه ليس من الضروري، النظر
المفصَّل في الوقت الراهن في المظهر الخارجي
الذي يمكن لهذا الإنسان المتألِّه أن يتخذه
وفي نمط كيانه وحياته الخارجية، ولا كذلك
النظر في كيفية عمل الحياة الجماعية للبشرية
الجديدة وماذا سيكون عليه تكوينُ بنيانها
الاجتماعي. فما يجري إنما هو نهجٌ حي، نمو
عضوي يُصنَع عبر أفعال وردود أفعال العديد من
القوى والحالات، المعروفة والمجهولة؛
والصورة الدقيقة لما سوف يتم أخيرًا يصعب
التكهنُ بها على وجه اليقين. لكن القدرة
الفاعلة كلِّيةُ العلم؛ وهي تتخير، وتنبذ،
وتصحح، وتنقح، وتخلق، وتنسِّق بين العناصر
بالتوافق مع قانون الحقيقة والتناغم غير
القابل للانتهاك الذي يسود في مقام النور
نفسه: العقل الأرفع Highest Mind. جدير بالملاحظة أنه،
كما أن العقل ليس الدرجة الأخيرة على سلَّم
التطور، كذلك فإن اطِّراد التطور لن يتوقف مع
تجلِّي العقل الأرفع وتجسده. هناك أيضًا
مبادئ علوية أخرى تتعداه، وفي الوسع الافتراض
أنها تتريث ريثما تتجلَّى هي الأخرى وتتجسَّد
على الأرض. الخلق لم يبدأ في الزمن (أنادي anadi)
وليست له نهاية (أننتا ananta): إنه سيرورة
أبدية من التفتح التدريجي لأسرار اللانهاية.
إنما يمكن القول بأن الخلق مع العقل الأرفع
ينخرط في نظام مختلف للوجود. قبله، كان المجال
مجال الجهل؛ وبعده سوف يأتي ملكوت النور
والمعرفة. لقد ظل الموت حتى الآن المبدأ
القائد للحياة على الأرض؛ ولسوف يُستبدل به
وعيُ الخلود. لقد تحقق التطور عبر الصراعات
والآلام؛ ولسوف يصير اعتبارًا منه تفتحًا
عفويًّا متناغمًا حرًّا. أما الزمن الذي قد
يستغرقه الطورُ الحالي للتطور حتى يتم، بما
أن الدفع والقوة النوعيين متجلِّيان وواصلان
إلى السطح، ففي الوسع الافتراض، على هذا
الأساس، أن المسألة صارت من واقع الحال، وأنه
يجب تناوُلها كما لو كان ينبغي حلُّها الآن
– وإلا فلا. قلنا إن التطور في
الإنسان – والأداة في ذلك هي وعي الذات أو وعي
الكيان النفسي – صار قابلاً لنهج مركَّز أسرع
هو نهج اليوگا. وكلما نمت الأداةُ وراكَمتْ من
القدرة وتشبَّعتْ من النفَس الإلهي، تسارَع
النهجُ وصار أشد تركيزًا. والواقع أن التطور،
منذ البدء، محلٌّ لتسارع متدرِّج. فالأطوار
البدائية (طور المادة الميتة، طور لعبة القوى
الكيميائية وحدها، على سبيل المثال) دامت مدة
طويلة للغاية، استغرقت ملايين ملايين السنين
لبلوغ نقطة صار فيها تجلِّي الحياة أمرًا
ممكنًا. لكن طور الحياة البدائية الذي تلاه
والذي تجلَّى في عالم النبات، على كونه دام
ملايين عديدة من السنين، كان أقصر من سابقه؛
وقد انتهى بمجيء أول شكل حيواني. ولقد كان عمر
الحياة الحيوانية أقصر بكثير من عمر حياة
النباتات. واليوم تبيِّن الدراساتُ
الپاليونتولوجية أن عمر الإنسان عدة ملايين
من السنين؛ ولقد آن الأوانُ لكي يتحول إلى
كائن من مرتبة أعلى. ومع ذلك، إذا فكرنا
في حجم العمل المطلوب، لأمكن لنا القول إن
الأبدية هاهنا أمامنا، وإنه لا يحق لنا أن
نساوم على قرن أو حتى على ألف سنة أخرى سعيًا
لبلوغ مثل هذه الغاية. ذلك أن الأمر ليس أقل من
تتويج آلاف مؤلَّفة من سني السعي والبدء
بتشييد مستقبل يضيع في لانهاية الزمن. لكنْ –
نكرِّر – بما أن العمل هو عمل الإله نفسه،
وبما أن اليوگا يقدِّم نهج عمل مركَّز
ومستبطَن يُنجِز في دقيقة واحدة ما يستغرق
إنجازُه سنواتٍ ضمن الصيرورة الطبيعية
للأشياء، في إمكاننا أن نتوقع أن يتم العمل في
مستقبل قريب نسبيًّا. والحق أن هذا مثال حاضر
هاهنا على الأرض، على مرتبة الوجود المادية،
الآن في هذه الدنيا، في هذا الجسد بعينه، وليس
في "الآخرة" أو في مكان آخر. كم من الوقت
على وجه الدقة ينبغي أن ننتظر؟ هذا يتوقف على
عوامل كثيرة، لكن عشرات السنين ليست شيئًا في
حساب الزمن. أما عن سعة التحقيق وانتشاره،
فليس الأمر بذي أهمية؛ إذ ليست الكمية ما يهم،
بل الجوهر. فحتى لو لم توجد إلا نواة صغيرة
من البشر فحسب تسعى، من شأن هذه أن تكفي، على
الأقل للبدء، شريطة أن تكون نقية ومؤهلة
فعلاً لذلك[9]. أما البرهان على كلِّ
ما سبق، والضمانة أننا لا نعدو وراء وهم أو
سراب، فلا جواب عليه سوى ما قاله عالم النفس
الكبير كارل غ. يونغ من أن "المسألة ليست
مسألة معتقد، بل مسألة خبرة" وأن "المرء
الذي يتذوقها يمتلك كنزًا نفيسًا من شيء
يُمِدُّه بينبوع من الحياة والمعنى والجمال،
ويخلع على العالم وعلى البشرية بهاءً جديدًا.
لديه الإيمان والسلام"[10]
– وهذا حسبه! *** *** ** مراجع مؤلَّفات لشري
أوروبندو -
Sri Aurobindo
Birth centenary Library, 30
vols., -
Sri Aurobindo, Letters
on Yoga, 3 vols., -
Sri Aurobindo, The
Hour of God, 4th ed., -
Sri Aurobindo, The
Supramental Manifestation upon Earth, 2nd edition, مؤلَّفات عن شري
أوروبندو -
Bruteau, Béatrice, Worthy
Is the World: The Hindu Philosophy of Sri Aurobindo, -
Chatterjee, Tulsidas, Sri
Aurobindoʼs Integral Yoga, 2nd edition, -
Iyengar, K.R. Srinivasa
(Ed.), Sri Aurobindo: A Centenary Tribute, -
McDermott, Robert A.
(Ed.), Six Pillars: An Introduction to the Major Works of Sri Aurobindo,
Chambersburg, Pa., 1974. -
Monod-Herzen, Gabriel, Le Yoga et les
yoga : Essai psychologique, Monaco, 1978. -
OʼConnor, June, The
Quest for Political and Spiritual Liberation: A Study in the Thought of Sri
Aurobindo Ghose, -
Satprem, Sri
Aurobindo, or the Adventure of Consciousness, [1]
سَتشيتانندا (أو سَت Sat
– تشيت Chit
– آنندا Ānanda):
الحق الأسمى في الهندوسية بوصفه وجودًا–وعيًا–غبطة
واجب الوجود بذاته. [2]
قال أرجونا مستغرقًا في الرؤيا:
"لو أن ضياء ألف شمس تفجرتْ معًا سَطَعَ
في السماء لما دنا من بهاء الربِّ القوي." [3]
"غيب الغيب" بمصطلح ابن عربي. [4]
العقل الأرفع ليس "جامعًا"
وحسب. يقول شري أوروبندو في هذا الخصوص: "العقل
الأرفع Highest
Mind
جامع في أدنى أفلاك ذاته، حيث
ينبغي له أن يهيِّئ مبادئ العقل الأعلى Higher Mind.
الجمع ضروري فقط عندما يتم التحليل ويجري
تشريح الأشياء وتقطيعها إربًا إربًا (تحليل)؛
عندئذٍ ينبغي جمع شملها. أما العقل الأرفع
فهو توحيدي لم يجزِّئ قط؛ فلا حاجة له لأن
يجمع الأجزاء أو القطع المتناثرة؛ لقد ضمَّ
دومًا الواعيات العديدة معًا في الوعي
الواحد." [5]
"العين الثابتة" من مصطلحات مذهب ابن
عربي الصوفي؛ ويقابلها "النمط البدئي"
archetype
في المذهب الهرمسي والأفلاطونية المحدثة. [6]
لعل أقرب مصطلح مقابل في مذهب ابن عربي
للعقل الأرفع هو "حقيقة الحقائق". [7]
الأسماء والصفات الإلهية في
الإسلام الصوفي. [8]
عن كتاب شري أوروبندو ساعة
الله، ص 86-88. [9]
"حتى اليسير اليسير من ذاك يطلقنا من
غلط كبير"، على حدِّ ما جاء في النص. [10]
C.G.
Jung, Psychology and Religion, |
|
|